(اللاذقية)، "ممرضاتٌ قضين أكثر من عشرين عاماً مثلي في العمل الخدمي، كيف يمكن الاستغناء عنهن في ظلّ واقع القطاع الصحي السوري الذي يحتاج فعلاً لهؤلاء؟". هذا ما تقوله الممرضة في مشفى طرطوس الوطني أمل محمد، معلّقةً على قرار الإدارة السورية الجديدة، فصلها، هي التي قضت عشرين عاماً في قسم الإسعاف والأطفال وموظفين/ات آخرين، في حين تقول الصحافية المستقلة ناريمان نصار لـحكاية ما انحكت:"لا أحد يعرف ما يجري، وما هي الأسس التي يتم بموجبها فصل أو إبقاء موظفين. سقط النظام منذ شهرين تقريبا. كيف يمكن تقييم أداء مليون ونصف موظف خلال شهرٍ واحد؟ فالمؤسّسات التي لديها 50 ألف موظفاً مثلاً، تحتاج كحد أدنى لستة شهور لتقييم أداء موظفيها. إن كنت تريد فصل موظفين بسبب الفائض، لا بأس، لكن ألا يحتاج هؤلاء إلى عمل آخر؟"
تؤكّد أمل، الممرضة المفصولة أيضاً، أنه "نعم، هناك بعض الموظفين الذين يستحقون الفصل لأنهم لا يداومون، أو تعيّنوا بطرق ملتوية، أو أنهم قدموا من مؤسساتٍ أخرى لأسباب مختلفة. في مشفى طرطوس تفاجأنا بوجود أكثر من خمسين حلاقاً مسجلين في قيود العاملين". هذه التأكيدات دفعتني للقيام بهذا التحقيق الذي يسلّط الضوء على قرارات الحكومة السورية المؤقتة فصل عددٍ كبيرٍ من الموظفين الحكوميين.
بعد شهر فقط!
في حوارٍ مع وزير المالية في الحكومة السورية المؤقتة، محمد أبا زيد، بعد شهرٍ من سقوط النظام السوري، أكّد شطب أكثر من ٣٠٠ ألف موظّف حكومي. فيما عملت الوزارات المعنية على ترجمة الشطب إلى واقع، وفصلت عدداً كبيراً من موظفيها متذرعةً بالفائض الموجود لديها.
في الوقت نفسه، أصدرت وزارة التنمية الإدارية في الحكومة المؤقتة تعميماً يطالب العاملين في الجهات العامة، المفصولين سابقاً من قبل نظام الأسد، بسبب مشاركتهم في الثورة السورية، بالتسجيل على رابط إلكتروني تمهيداً لإعادتهم إلى عملهم. ولا يعرف بالضبط عدد هؤلاء الموظفين المفصولين.
تزامنتْ قضية فصل الموظفين مع إعلان الحكومة الجديدة اعتماد مبدأ "السوق الحر"، وحلّ الجمارك والشرطة وعددٍ من هيئات الدولة السابقة. وساهم غموض التصريحات السياسية المتعلّقة بشكل الدولة القادمة في إذكاء القلق الشعبي لدى قطاعٍ واسع من الناس، المرتبطين مع مؤسسات الدولة السابقة.
تعكس هذه الخطوات سياسة الحكومة الجديدة المستعجلة في إعادة هيكلة المؤسسات العامة، وهي خطوةٌ قد تُعتبر ضرورية في ظلّ الظروف السورية بعد رحيل الأسد، لكنها تأتي مع تحدياتٍ جسيمة، وتواجه انتقاداتٍ شديدة، بسبب الآثار السلبية التي تتركها هذه القرارات على المواطنين، وازدياد مشاعر الإحباط والاستياء في المجتمع. هو ما ظهر جلياً في اتساع رقعة الاحتجاجات على هذه القرارات في البلاد، المستمرة حتى الآن، والتي ربما ساهمت بطريقةٍ أو بأخرى في خلق بيئةٍ مساعدةٍ لما حصل في الساحل السوري أخيراً.
تزامنتْ قضية فصل الموظفين مع إعلان الحكومة الجديدة اعتماد مبدأ "السوق الحر"، وحلّ الجمارك والشرطة وعددٍ من هيئات الدولة السابقة.
كُتب هذا التحقيق قبل الهجمات المنسّقة، التي شنتها مجموعاتٌ مسلحة، مرتبطةٌ بنظام الأسد المخلوع، على قوى الأمن التابعة للإدارة الجديدة، وتبعتها عمليات تمشيط، ومجازر طالت المدنيين/ات، نفّذتْها عناصر وُصفت بغير المنضبطة، تابعة للإدارة الجديدة، تلاها إعلان الرئيس المؤقت أحمد الشرع عن فتح تحقيق بشأنها.
وحتى قبل هذه الكارثة الوطنية، التي أودت بأكثر من ألف سوري/ة من عناصر الأمن والمدنيين/ات (وفق آخر إحصائية)، تعالتْ أصواتٌ تحذّر من إمكانية استغلال الجهات المحلية والإقليمية، المتضرّرة من سقوط نظام الأسد، لحاجة المدنيين/ات المتضرّرين من قرارات الفصل من الجيش والأمن والمؤسّسات الحكومية سابقاً، وكسبهم إلى جانبها.
احتجاجات واعتصامات في أنحاء سوريا
على إثر هذه القرارات التي شملت مختلف مؤسسات الدولة السورية السابقة شهدت البلاد اعتصامات ومظاهرات للموظفين والموظفات طالبوا فيها بالعدول عن قرارات الفصل التعسفية.
ففي 9 كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥ شهدت مديرية الصحة في طرطوس اعتصاماً كبيراً للعاملين فيها واعتصاماً آخر لموظفي "المؤسسة السورية للتجارة" على أثر فصل آلاف الموظفين. لاحقاً تراجعت السلطات الجديدة عن قرار فصل موظفي الصحة إلى ما بعد تشكيل لجان تقييم الموظفين.
وفي محافظة درعا نفّذ المئات من موظفي الصحة يوم 10 كانون الثاني/ يناير 2025 وقفةً احتجاجية أمام مديرية الصحة، رفضاً لقرار شطب أسماء أكثر من 700 موظفٍ من المديرية، مطالبين الحكومة بإعادة النظر في هذا القرار، معتبرين القرارات "تجنّياً على الموظفين". وفي اليوم التالي شهدت السويداء احتجاجات على فصل 67 عاملاً وعاملة من معمل الأحذية.
فصل الموظفين في السويداء .. مكافحة الفساد أم انتقام من الماضي؟
25 شباط 2025
في 13 كانون الثاني/ يناير 2025 نفّذ عشرات الموظّفات والموظّفين في مدينة حلب اعتصاماً رفعوا خلاله مطلبهم الرئيسي بأنْ تتراجع سلطة تصريف الأعمال المؤقتة عن قرارها بالتسريح التعسّفي لعددٍ من العمّال والموظَّفين، وأن يعود هؤلاء إلى عملهم.
ورفع المعتصمون/ات لافتاتٍ كتبوا عليها "لا للفصل التعسفيّ" و"لقمة الشعب خطٌّ أحمر" و"ثبّتونا بدل أن تسرّحونا". وفي الإجمال تطابقت المطالب الاحتجاجية بمطالبة الحكومة بالتراجع عن قرارات الفصل والشطب وتفعيل لجانٍ مختصةٍ لدراسة أوضاع الموظفين والتزامهم وتقرير الحاجة إليهم، وضمان مراعاة حقوقهم حسب التشريعات العاملة حتى الآن، خصوصاً في ظلّ وجود خبراتٍ كبيرة في قطاعات الدولة السابقة.
يقول الممرض، أحمد إبراهيم، من مستشفى طرطوس الوطني (الباسل سابقاً): جرى منحي، مع آخرين، إجازةً مدفوعة الأجر لثلاثة أشهر، تحت حجة تقليص عدد الموظفين في المستشفى لـ "توفير النفقات". لم أستطع فهم؛ كيف يمكن تقليص عدد الممرضين في وقت تزايدت فيه الحاجة إلى الرعاية الصحية، خاصةً في الظروف الراهنة؟ كنت أعمل بجد وأحصل على تقييماتٍ إيجابية، لكن القرار كان سياسياً أكثر من كونه إدارياً فيما يبدو".
سعاد شاهين، فنية في مختبر الدم في مشفى بانياس الوطني، تقول إنّ فصلها جاء اعتباطياً، فالمخبر يحتاج على الأقل إلى عشرة موظفين يداومون يومياً، إذ قيل لي: "هناك (إعادة هيكلة) في القطاع"، لكنني لم أجد تفسيراً واضحاً لذلك. أعمل في هذا المجال منذ أكثر من خمس سنوات ولدي خبرة كبيرة فأنا خريجة معهدٍ طبي، وكان من المفترض أن تتمّ الاستفادة من خبرتي بدلاً من استبعادي".
فصل "ذوي الشهداء والمسرّحين من الجيش السابق المعيّنين في وظائف حكوميّةٍ مدنية"
في أوّل أعمالها الإدارية فصلت الحكومة المؤقتة "ذوي الشهداء والمسرّحين من الجيش السابق المعيّنين في وظائف حكوميّةٍ مدنية" من عقودهم ووظائفهم. وهذه التسمية كما يشرح المهندس أحمد علوش من موظفي كلية الهندسة في جامعة تشرين، وأخ "شهيد"، تعود: "لكل الأفراد الذين قضوا نحبهم في سياق الحرب السورية في جانب النظام المنهار، أما المسرّحون فهم ممن أدّى الخدمة الإلزامية لأكثر من ست سنوات بدل الوقت المقرّر، وهو سنتان كحدٍّ أقصى، وجرى تعيينهم عبر مسابقة توظيفٍ مركزية تعويضاً لهم عن تلك السنوات. أغلب هؤلاء ينتمي إلى الطبقات الفقيرة ومن مختلف المكوّنات السورية. عمد النظام، في إطار الحفاظ على كتلته الموالية، على تعيين قسمٍ كبير من ذوي الضحايا أو أقاربهم من الدرجة الأولى (الأب أو الأم أو الأخ أو الزوجة أو الأبناء) في وظائف في الدولة السورية برواتب هزيلة لم تتجاوز العشرين دولار، ومن دون الحديث عن أية مؤهلاتٍ وظيفية في الغالب".
يكمل علوش: "يدور الحديث هنا عن آلاف الوظائف في مواقع متدنيةٍ عموماً، مثل النقاط الطبية في الأرياف والمشافي في المدن ومديريات التربية والاقتصاد. كذلك، كانت الدرجة الوظيفية لهؤلاء غالباً هي الدرجة الثانية (شهادة ثانوية) وما دون. غيّرت الحكومة الجديدة تسمية (شهداء) إلى (قتلى الحرب)، (على حد كلامه ولم نتمكن من توثيق هذا الكلام رسمياً) تبعتْها حملةٌ غير رسمية لإزالة صور الشهداء من الفضاء العام للقرى والمدن الموالية سابقاً".
تتساءل ندى سليمان موظفة مفصولة، وزوجة "شهيد"، ترفض تسمية زوجها بغير ذلك: "زوجي وآلافٌ غيره كانوا من مؤسسة الجيش الوطني ولم يكونوا مرتزقة عند فلان أو علان، تطوّعوا في جهازٍ رسميّ تابع للدولة السورية ولم يتطوّعوا دفاعاً عن بشار الأسد. الفقر الذي عشناه ونعيشه حتى الآن دفع زوجي وآلافاً غيره إلى التوجه للجيش. هل نحاسب اليوم على إيماننا بوطننا؟ كيف سأعيش أنا وأطفالي الثلاثة الصغار؟". تشير ندى هنا إلى تلقيها سابقاً مساعدات من الدولة ،عبارة عن سلّة غذائية كلّ بضعة أشهر، تتضمّن مواداً غذائية جافة "ساعدتها في تدبير أمورها".
في وقتٍ لاحق تفاعلت مسألة اعتبار ضحايا الحرب شهداءً، لما في ذلك من التزاماتٍ حكومية مشرعنة في الدستور السوري، ونقلها الشيخ "حكمت الهجري" من السويداء لتكون قضية رأيٍ عام، حيث اعتبرت السلطة الجديدة ضحاياها شهداء، وفق قوله.
في عمليات التسريح، جرت الاستعانة بالمدراء الإداريين في بعض المؤسسات، وفي أخرى جرى تشكيل لجان من الموظفين القياديين داخل المؤسسة نفسها.
وفي اللاذقية احتشد عشرات العاملين المفصولين من وزارة العدل في ساحة القصر العدليّ الجديد، محتجين على قرار فصلهم، حيث أصدرت وزارة العدل، يوم 8 يناير/ ديسمبر كانون الثاني 2025 القرار رقم 12، القاضي بإنهاء عقود 183 عاملاً في عدلية اللاذقية. وشمل القرار 163 موظفاً تم تعيينهم وفق "مسابقة المسرحين"، بالإضافة إلى 19 موظفاً معيّنين بعقود خاصة بذوي الشهداء.
يقول المستخدَم "محمد" (لا يرغب بذكر اسمه كاملاً) إنه يعمل في ديوان المحكمة منذ عشر سنوات على الأقل بموجب عقدٍ سنويّ يتجدّد تلقائياً، وبراتب لا يتجاوز العشرين دولاراً، هو مصدر دخله الوحيد له ولعائلته. يضيف محمد أنه، بعد تسريحه من الخدمة الإلزامية نجح في مسابقة "المسرّحين" وداوم في المحكمة. ورد اسمه ضمن قوائم المفصولين مع منحه تعويضاً يعادل أجر ثلاثة أشهر، استناداً إلى الأجور المعتمدة في كانون الأول 2024، واعتبر القرار نافذاً من تاريخ صدوره.
يرى محمد أنّ أسباب فصله ترجع لكونه خدم في الجيش السوري المنحلّ ولا علاقة له بالكفاءة. يتابع: "مَن يقررون القوائم هم من المحكمة، بالتعاون مع لجان غير مؤهلة من الإدارة الجديدة لا نعرف عنها شيئاً". إلى ذلك، يشتبه محمد بوجود نزعاتٍ طائفية لدى من يقومون بإجراء التقييمات. يذكر محمد أنّ أحد المسرّحين من "أهل البلد"، أُعيد للعمل بعد فصله مثله، وفق كلامه. يقول إنّ هذا يؤكد عدم وجود أيّة معايير واضحة في التقييم والفصل.
الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري
09 كانون الثاني 2025
ما سبق ذكره، يؤكّده المحامي مرهف عكاشة من مدينة اللاذقية: "مَن جرى فصلهم في اللاذقية هم من موظفي العقود السنوية (المسرّحون من الجيش السابق وذوو الشهداء) وعقودهم مع الجهاز القضائيّ نظاميةٌ وقانونية ودستورية. لكنّ ما قامت به الحكومة الحالية المؤقتة أساساً هو فصل المسرحين وذوي الشهداء فقط، وبالتالي جاء قراراً انتقامياً أكثر منه لمصلحة العمل، أو لعدم الحاجة أو الفائض، مع التأكيد أن القصر العدلي بحاجتهم وليسوا زيادةً على العمال أو الموظفين نظراً لتراكمٍ كبيرٍ للأعمال القضائية على مدار العقود الماضية بسبب البيروقراطية وأسباب أخرى".
ويرى أنه "ليس من صلاحية الحكومة الحالية المؤقتة، كونها حكومة تسيير أعمال وليست منتخبة، أن تفصل أي موظف، مع العلم أنّ بإمكان الوزارة، لو كانت وزارةً في حكومةٍ رسميةٍ ومنتخبة، عدم التجديد لهؤلاء العمال".
يجري فصل أصحاب العقود السنوية من المسّرحين من الجيش في مختلف المؤسسات في سوريا. ويصل عدد هؤلاء ضمن شريحة الموظفين الكلية إلى حدود مئة ألف شخص، حسب تقديراتٍ أولية حسابية عملنا عليها.
يقول أحمد الحسين، وهو مسرّح من الجيش السوريّ السابق في العام 2018، وتمّ تعيينه في مديرية صحة اللاذقية في العام التالي: "قضيت سبع سنوات في الخدمة العسكرية الإجبارية قبل أن أنهي تعليمي الجامعي في الاقتصاد. تعيّنا بعد عامٍ من التسريح بمسابقةٍ في وظيفةٍ في الفئة الثانية راتبها لا يتجاوز العشرين دولاراً. مع ذلك فوجئنا بقرارات الفصل الأخيرة بحجة عدم قانونية المسابقة بحدّ ذاتها. أنا اليوم من دون عمل مثل كثيرين غيري ولا أعرف حقيقةً ماذا يمكن أن أفعل ولا ما هو مستقبلي".
رواتب منتسبي الجيش السابق والمتقاعدين
في تصرّفٍ مشابه، تجاهلت الحكومة المؤقتة دفع رواتب الضباط والعسكريين المتقاعدين. وبرّر العميد المتقاعد عبد الغني الجبان، رئيس الرابطة المركزية للمحاربين القدماء، هذا التأخير في تصريحٍ لصحيفة الثورة في 22 كانون الثاني "إن مسألة رواتب الضباط المتقاعدين في طريقها إلى الحل، وقد تأخرت بسبب عدم وجود سيولةٍ نقديةٍ كافية، وربما سيكون الحل غالباً في بداية الشهر القادم".
يقول الضابط المتقاعد، العقيد سليمان مصري، إنّ "تسريح عشرات الألوف من الموظفين وقطع رواتب عشرات الآلاف من العسكريين المتقاعدين والحاليين سيؤدي إلى خلق قنابل موقوتةٍ في المجتمع".
يشار هنا إلى أنّه كان لدى الجيش السوري 130 ألف عنصراً في العام 2020، وفقاً لتقرير التوازن العسكري الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الذي قال إن الجيش "استُنزف بشكلٍ كبير بسبب الحرب الطويلة، وتحول إلى جسمٍ غير منظم على طراز الميليشيات، يركّز على الأمن الداخلي. يضاف إلى هؤلاء عددٌ مماثل من المجندين في الخدمة الإجبارية".
في ظل أحاديث عن عدم دفع رواتب العسكريين والضباط، الذين شاركوا في الحرب السورية أو تقاعدوا بعد 2011، يدعو المصري "العسكريين المتقاعدين إلى التوحد والتجمع في مكانٍ محدّدٍ في كل محافظة وفي وقتٍ واحد". ويعتبر أنّ "رواتبنا ليست منّةً من أحد بل هي أموالنا التي دفعناها للتأمينات الاجتماعية على مدى أكثر من ثلاثين عاماً ولا يحق لأحدٍ أن يحرمنا إياها. ثم أننا كنا نخدم في جيشٍ نظاميّ تحت راية دولةٍ معترفٍ بها دولياً ولم نكن قطاع طرق".
في ذات السياق، أفاد الجبّان، رئيس الرابطة المركزية للمحاربين القدماء، أنّ رواتب العسكريين المسرّحين بعد 2011 في طريقها إلى الحل أيضاً، مستدركاً بـ: "إلا لمن تلطخت أيديهم بالدم". وأوضح أن "مسألة الرواتب مسألة وقت ولن يضيع حق أيّ مواطنٍ في سوريا، وسيتم طرح مشكلة الطبابة والأدوية للعسكريين وإبلاغنا بالقرارات في حينها". كما وعد الجبّان أنه سيكثّف اجتماعاته مع القيادة التي وعدته بكل خير تجاه رابطة المحاربين القدماء في الأيام القريبة القادمة.
آليات التقييم والفصل العشوائية
يشرح المهندس علاء حسن، رئيس دائرة سابق في مديرية الزراعة في اللاذقية، آليات تقييم الموظفين ثم رفع الأسماء للوزارة المعنيّة بالقول: "مع حضور شخصٍ من الإدارة الجديدة يحمل اسم أبو فلان بالغالب، يجتمع مع مدير المؤسسة أو الشركة وتجري قراءة أسماء الموظفين ويوكل إلى المدير القديم مهمة التقييم ويتحمّل مسؤولية تقييمه للموظفين/ات وتحديد ما إذا كان يمكن الاستغناء عن بعضهم. وتشمل عملية التقييم هذه جميع الموظفين/ات من المثبّتين والموظفين بعقود والمعيّنين بموجب مسابقاتٍ مركزية أو فرعية والعمال وذوي الشهداء والمسرّحين".
في عمليات التسريح، جرت الاستعانة بالمدراء الإداريين في بعض المؤسسات، وفي أخرى جرى تشكيل لجان من الموظفين القياديين داخل المؤسسة نفسها. يحتجّ المهندس علاء على عدم وجود معايير واضحة في هذه العملية، وكونها خاضعة لرأي المدير الذي قد يكون ببساطة "من فلول النظام السابق وله يدٌ في الفساد بأشكاله". كما أنّ معايير تعيين هؤلاء المدراء كانت كيفية وخاضعة للوساطات والتقارير الأمنية والسياسية. وما يثير دهشة علاء هو "كيف يمكن أن تكون تقييمات هؤلاء صحيحة إذا كانوا فاسدين بالأصل، والنظام الجديد يتعاون معهم بكل ثقة؟".
من دمشق، تضيف ناريمان نصار، خريجة كلية التربية في جامعة دمشق وصُحفيّة مستقلة: "لا أحد يعرف ما يجري، وما هي الأسس التي يتم بموجبها فصل أو إبقاء موظفين. الناس حالياً في وضع صعب جداً. والحل تأجيل هذا القرار وعدم فصل أي موظف لمدة عام. خلال هذه العام، يكون قد تنشط الاقتصاد ودخلت إلى البلد استثماراتٌ وشركات، وصار فيها وظائف". استطعنا توثيق حالات، فُصل فيها موظفون من ذوي الخبرات الكبيرة في مؤسسات الاستشعار عن بعد والصحة والصناعة.
لماذا الفصل حسب اﻹدارة الجديدة؟
تأتي عمليات الفصل المتسعة في وقتٍ تعاني فيه البلاد من تحدياتٍ اقتصاديةٍ كبيرة. ترى الحكومة الحالية أنّ أعداد العاملين المسجلين في الجهات العامة أكبر بكثير من الأعداد الفعلية على أرض الواقع، وأنّ هناك لوائح اسمية تثبت وجود مئات وآلاف الوظائف الوهمية.
تحدّث وزير المالية في الحكومة المؤقتة، محمد أبا زيد، في مقابلة مع قناة الجزيرة عن "حالات كبيرة من الفساد في العمل الوظيفي طاولتْ تعييناتٍ ومراكز استنزفت القطاع العام بتعييناتٍ إسمية على خلفيات الوساطة والمحسوبيات، فقد كشفت الإحصاءات الأولية عن آلاف المسجلين في مؤسسات الدولة لقاء استجرار الرواتب من دون عملٍ مقابل، وعن ازدواجيةٍ أو أكثر في التوظيف".
يرى الأستاذ الدكتور ذو الفقار عبود، من كلية الاقتصاد بجامعة اللاذقية أنّ "انخفاض إنتاجية القوى العاملة في القطاع العام نتيجة سياسة التوظيف الاجتماعي خلق بطالةً مقنّعة زادت حالة الشلل الإنتاجي، وتوقُّف عجلة التنمية. وإذا كانت نسبة البطالة في سوريا تتجاوز 37%، فإن نسبة البطالة المقنّعة قد تصل في القطاع الإداري إلى 85%.
تعالتْ أصواتٌ تحذّر من إمكانية استغلال الجهات المحلية والإقليمية، المتضرّرة من سقوط نظام الأسد، لحاجة المدنيين/ات المتضرّرين من قرارات الفصل من الجيش والأمن والمؤسّسات الحكومية سابقاً، وكسبهم إلى جانبها.
هذه السياسات التوظيفية أدت إلى عجز القطاع العام عن تقديم الخدمات للمواطن، ما يعني فشل وعجز الخطط الاقتصادية المطروحة لتحسين الوضع المعيشي".
في أيار 2024 توقَّع تقريرٌ للبنك الدولي استمرار انكماش الاقتصاد السوري بنسبة 1.5%، مقابل 1.2% في 2023، مشيراً إلى أن أكثر من ربع السوريين/ات يعيشون في فقر مدقع، في الوقت الذي أعلنت فيه مها عبدالرحمن، معاونة حاكم مصرف سوريا المركزي السابقة، ارتفاع معدل التضخم بنسبة 122%، مُرجعةً ذلك إلى العقوبات الغربية، وضعف الإنتاج، وعجز الميزان التجاري، وحالة التمويل بالعجز التي تلجأ إليها الحكومة.
يشير الدكتور عبود إلى أنّ بعض الاقتصاديين يدافع عن سياسة التوظيف الاجتماعي في القطاع العام على "أنها بديلٌ لسياسة الضمان الاجتماعي ، حيث أن توظيف عددٍ إضافي من العاملين بأجور منخفضة هو أفضل من بقائهم عاطلين عن العمل، كما أن هذه السياسة تنشط الاستهلاك وتبعد هؤلاء عن العمل ضمن أنشطة الاقتصاد الخفيّ غير الشرعية".
حكومة تصريف أعمال لا تسريح عمّال
يكمل وزير المالية أبا زيد في تصريحاتٍ نقلتها قناة «الجزيرة» إن "الحكومة تواجه تحدياتٍ اقتصادية كبيرة، ولا تملك عصاً سحرية لحلّ مشكلات سوريا الاقتصادية" وهي تصريحاتٌ تتشابه مع تصريحات مسؤولين في النظام السابق.
وقال أبا زيد في ذات المقابلة أن الحكومة ستزيد الرواتب بنسبة 400% للموظفين ثم تراجع لاحقاً عن التصريح بعد تفاعل قضية فصل الموظفين واقتصار الزيادة على من سيبقون على رأس عملهم، ثم تراجعت الحكومة تالياً عن الزيادة مع اقتصارها على من هم على رأس عملهم دون المتقاعدين. وتشير آخر الأخبار الواردة من دمشق إلى أنّ الزيادة التي كانت مقرّرة في بداية كانون الثاني، ثم تأُجّلت إلى بداية شهر شباط، تأجلت مرة أخرى إلى وقتٍ غير معلوم.
ومع توجّه الحكومة الحالية لخصخصة الكثير من شركات القطاع العام، يبدو أنّ مشهد فصل موظفين سيكبر أكثر مع مرور الوقت، فقد نُقل عن باسل عبد الحنان ، وزير الاقتصاد في حكومة تسيير الأعمال، في تصريح له: "سنعرض المنشآت الحكومية للاستثمار أو الخصخصة أو التشارك مع القطاع الخاص- سنعرض الشركات على القطاع الخاص بالتدريج ضمن مزايدات- طرح الشركات للخصخصة مفتوحٌ للجميع سواءٌ أكانت شركاتٍ محلية أو أجنبية"!
قوى الأمر الواقع في سوريا: ثلاثة نماذج لإدارة الاقتصاد تصبّ في نظامٍ واحد
17 آذار 2025
تأتي هذه التصريحات كما يقول الدكتور عبود في وقتٍ "يعاني فيه السوريون من أسوأ واقعٍ معيشيّ منذ بداية الحرب في البلاد قبل نحو 13 عاماً حيث يعيش نحو 90% منهم تحت خط الفقر منذ العام 2021 بحسب تقارير أممية. وقدّر تقريرٌ لبرنامج الأغذية العالمي، في أيار 2024 أعداد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في سوريا بـ 12.9 مليون شخص، بما في ذلك 3.1 ملايين آخرين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد".
في تطوّرٍ لاحقٍ لقضية فصل الموظفين، حدث اعتصام قام به عمالٌ وعاملاتٌ مفصولون في محافظة طرطوس في تاريخ التاسع من شباط/ فبراير الجاري، وحصلت فيه اشتباكاتٌ بالأيدي وتهديداتٌ بين مؤيدي الحكومة الجديدة وهؤلاء المفصولين المعتصمين.
يشير هذا التطوّر إلى خطورةٍ متزايدةٍ ومتصاعدة على السلم الأهلي في سوريا. في رسالةٍ تلقيناها من موظفٍ مفصولٍ من شركة الكهرباء في طرطوس شارك في ذلك الاعتصام، كتب يقول: "لا أحد ضد الفائض. يجب أن يُفصل غير الملتزم، ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك. هناك الكثير من الكلام في الشارع عن أن كثيراً من المدراء الماليين، ممن يرفعون الأسماء للسادة الوزراء للبتّ في أمر فصلهم، يطلبون من أصحابها المال حتى لا يتم رفع أسمائهم. طبعاً الأسماء التي كانوا يستفيدون منها، أو المحسوبة عليهم، محفوظةٌ في درج أو يتم وضع خطٍّ أحمر عليها، ممنوع الاقتراب. أتمنى التدقيق في الأسماء والجداول المرفوعة من قبل الكثير من المدراء الفاسدين وعدم تسرع السادة الوزراء في التوقيع عليها.. عاشت سوريا خاليةً من الفساد والمفسدين".