في سيارات الشرطة الألمانية

أيُّ ثمنٍ جسدي وقانوني للتضامن مع غزة في برلين؟


08 نيسان 2025

نادين الجودي

سورية مقيمة في برلين، درست علم الاجتماع، وتعمل مترجمة للغتين العربية والألمانية، وتكتب في قسم شتات على موقع الجمهورية. نت. تعمل في الأثناء مسؤولة تواصل في مؤسسة إعلامية ألمانية.

هذا المقال هو خامس مقالات ملف «غزة: لحظة أوروبا اليمينية»، الذي ستُنشر مواده يومَي الخميس والجمعة على مدار الأسابيع الأربعة القادمة، وهو من إعداد وتحرير ياسمين ضاهر وقاسم البصري، ومن إنتاج شبكة فبراير، وساهمت فيه الجمهورية.نت وموقع حكاية ما انحكت. يمكن قراءة مقدّمة الملف على هذا الرابط.

                                                                                 ***

ع.أ شابٌّ غزّاوي يقول إنّه معتادٌ على الهرب كلّما رأى شرطيّاً أمامه، وإن هذه ردّة فعل لا إراديّة تعوْدُ أسبابها لتاريخٍ من مطاردة الشرطة له منذ أن كان في الأردن. وحتّى في طفولته في ألمانيا، فقد تعرّض للاحتجاز أكثر من مرّة. يبدو أن ما يشعر به هذا الشاب الغزّاوي ليس أمراً خاصاً به لوحده، فقد أخبرني م.ح، الشابّ الفلسطيني اللبناني الأمر ذاته. يقول إنّ الشرطة في كلّ البلدان التي مرّ بها كانت مستعدّة للإمساك به لأنّه فلسطيني، لذا تُشكّل حالة الهروب من الشرطة أو جعلها تطارد أحدهم أو حتى مقاومة عنفها في بعض الأحوال جزءاً من الهويّة الفلسطينيّة؛ «عيبٌ أن تبقى واقفاً ليمسك بك شرطي، هل أنت شوال؟… الشرطيُّ اللبناني يقرأ فلسطينيّتي في وجهي فيطاردني بطبيعة الحال، وأهرب بطبيعة الحال. الآن بات الشرطي الألماني يفعل الشيء ذاته. وجهي يستفزّهم».

ك.ف هي امرأةٌ ألمانيّة معتنقة للإسلام ومحجّبة، أوقفتها شرطة برلين أثناء مرورها في شارعٍ جانبيّ في حيّ نويكولن البرليني عقب إحدى المظاهرات المُفاجئة بتهمة «رمي الحجارة». قالت لنا إنّ التّضامن يُعاقب عليه بالاعتقال٬ أي إنّ الأشخاص المُدافعين عن الشّخص المستهدف يتمّ اعتقالهم معه٬ وأخبرتنا أنّ الشّرطة تكرّرُ احتجاز الأشخاص نفسهم٬ خاصّةً الذين يبدون عاطفةً شديدةً في المظاهرة أو في احتجازٍ سابق٬ ممّا يعطي هذه الاحتجازات المتكرّرة «طابعاً انتقاميّاً» بحسب رأيها. وتوضح قصدها: النّاس الذين يبدون عاطفةً أكبر في الاحتجاجات والمعنيّون بغزة بشكلٍ مباشر؛ أي العرب عموماً٬ والفلسطينيون-ات بشكلٍ خاص٬ والغزّاويون-ات أكثر من غيرهم، هم الفئة الأكثر تعرّضاً لاستهداف الشرطة الألمانية.

أسئلة شخصية حول صعود اليمين في ألمانيا

11 آذار 2025
هل أعتبر نفسي ألمانيًا بعد مرور أكثر من عقد على عيشي في هذه البلاد وحملي جنسيته؟ والأهم: هل يعتبرني الألمانُ ألمانيًا؟ ما الذي يعنيه أن يكون المرء ألمانيًا؟ ألم يكن...

وتخبرنا أيضاً أنّ عامل المعرفة القانونية يلعب دوراً أكبر من عامل اللّغة، وتشرح ذلك بالقول إنه عندما يعرف الشّخص حقوقه والخطوات المترتّبة على الاحتجاز فإنّه يشعر بخوفٍ أقلّ٬ ويتصرّف بحكمةٍ أكبر٬ حتى لو لم يكن يتكلّم الألمانيّة. كمثالٍ على ذلك، تروي لنا ما دار بينها وبين شرطي في سيارة الشرطة. سألتْ أحد العناصر متقصّدةً استفزازه: «مَن من زملائك جزءٌ من مجموعات 'التشات' النازيّة التي تمّ الكشف عنها في جهاز الشرطة؟». ردّ الشرطي على ك.ف، غاضباً، بأنها توجه له إهانةً عبر سؤالها هذا، فردّت عليه بأن هذا السؤال «مشروعٌ٬ و ليس فيه إهانة، بل هو حقيقةٌ مُثبَتة».

تقول ك.ف إنّ هذا الحوار أغضب الشرطي، لكنّه لم يستطع توجيه تهمةٍ لها بـ«إهانة السلطات»، لأنّها «استخدمت الكلمات الصحيحة لاستفزازه»٬ لكنّها لو صاغت كلماتها قائلةً: «أنت وزملاؤك نازيّون»٬ غالباً ما كانت ستتعرّض للضرب ولعواقب قانونيّة.

                                                                                             ***

كليمينس آرتست هو بروفيسور في مجال القانون العام ومؤسّس لمركز أبحاث في مجال الأمن العام والخاص، يكتب وجهة نظره القانونيّة حول التعامل مع المظاهرات الدّاعمة لفلسطين في ألمانيا. يقول آرتست إنّ البند الأول من المادّة الثامنة من القانون الأساسي يحمي حقّ المواطنين-ات الألمان بالتجمُّع، وتوسِّعُ القوانين الخاصّة بالولايات هذا الحقّ ليشملَ فئات أكبر، حيث ورد في المادّة 26 من دستور ولاية برلين أن حقّ التّجمّع يشمل كلّ الناس، بينما تعطي ولاية بايرن حقّ التّجمّع لسكّان الولاية فقط. يحقُّ للشرطة، وللدوائر الحكومية المسؤولة عن التجمُّع، تفتيش هويّات كلّ المتجمّعين، وهو ما يتناقض مع حق حماية البيانات الشخصيّة المنصوص عليه في المادة الثامنة نفسها وفي المادّة الثانية-البند الأوّل من القانون الأساسي.

الـشتاتسريزون الألماني (المصلحة الوطنيّة فوق القانون)

يشكّل مصطلح المصلحة الوطنيّة (Staatsräson) حجر الأساس في السرديّة الألمانيّة للتعامل مع ما يرتبط بإسرائيل، والذي صار في الخطاب الألماني العام مرادفاً لحماية أمن إسرائيل. لكنّ المصطلح في حدّ ذاته، حسب كلمنيس آرتست، ليس له قيمة قانونية حقيقيّة، في حين أن حقّ التّجمّع والتّظاهر كممارسة ديمقراطيّة له قيمة قانونيّة ودستوريّة أعلى بكثير. يضيف كليمنس: «لا يندرج مصطلح المصلحة الوطنية ضمن القائمة التي تُعرِّف المصلحة العامّة لألمانيا، والتي يستدعي خرقها أو تعريضها للخطر منعَ المظاهرات، أي أنّه يُستخدَم فقط كذريعة».

في مقابلةٍ أجريناها معها، تتفق الحقوقيّة وعضوة حزب ميرا 25 ميلاني شفايتسر مع كلام كليمنس، وتقول: «مفهوم المصلحة الوطنيّة هو مصطلح سياسي وليس قانونياً أو دستورياً، لكنّه بات فوق القانون، وأصبح يشكّل بوصلةً يتمّ التعامل على أساسها مع كلّ الحركات الدّاعمة لفلسطين في ألمانيا، رغم أنّ تعريفه واسع وقابل للتّأويل».

يرى آرتست أنّ منع التجمّعات بحدّ ذاته كطريقة وقائيّة لمنع حدوث انتهاكات وأعمال عنفٍ وشغب، بدلاً من المنع الجزئي لانتهاكات محدّدة وقت حصولها، ما هو إلّا سوءُ إدارة وتنظيم، وتقصيرٌ في حماية حق التجمّع المُدرج في القانون الأساسي، ومحرّضٌ أكبر على التّظاهر العنيف.

على عكس الاستخدام الإعلامي الخاطئ والمتكرّر لفكرة «المظاهرات غير المرخّصة»٬ يؤكّد آرتست عدم وجوب استصدار ترخيص قبل المظاهرة قانونياً، وأن هنالك فقط إمكانيّة لفضّها أو منعها أثناء حدوثها وليس قبل حدوثها. قانونيّاً يجب تسجيل المظاهرات أو التّجمّعات قبل حدوثها في الدّائرة المسؤولة، وليس ترخيصها. أمّا في حال حدوث التجمّع بشكلٍ مفاجئ وغير مخطّط له، فيتم تسجيله أثناء حدوثه، لعدم المقدرة على تسجيله مسبقاً. حماية «الأمن العام» من الأسباب الشائعة لفضّ التجمعات أو المظاهرات بحسب الكاتب، وهو شيءٌ لا أصل قانونياً له، لا في قانون العقوبات ولا في تشريع «حق التجمّع» المطروح في المادّة الثامنة من القانون الأساسي، أي أنّ ما يُسمّى «الأمن العامّ» öffentliche Sicherheit لا يندرج ضمن ما يُسبّب خطراً أثناء التجمعات الاحتجاجية.

يؤكد الكاتب أن هناك حقّاً مشروعاً بالتّظاهر ضدّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة حتّى بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، وأن هناك ضعفاً واضحاً في ثقافة إدارة الحوارات المتصلة بالنزاعات في المساحات العامّة في ألمانيا، يتمثّل في سياقنا بالتعامل الإشكالي مع المظاهرات الداعمة لفلسطين. كما أنّه يرى أنّ هنالك عدم ارتياحٍ شعبيّ حيال الخطاب السياسي العام حول الشأن الإسرائيلي، انعكس في ضآلة المشاركة في التجمّع الدّاعم لإسرائيل في 22 أكتوبر من العام الماضي.

                                                                                            ***

بالعودة إلى ك.ف، قالت إنها كانت تمشي رفقة صديقها حين باغتتهم الشّرطة من الخلف ورمتهم أرضاً بعنفٍ شديدٍ٬ بالرّغم من عدم مناداتهم لتوقيفهم٬ وهذا بحدّ ذاته غير قانوني٬ لأنّ الشّرطة «مُلزَمةٌ بموجب القانون بمناداة الشخص الذي تنوي القبض عليه لتنبّهه بضرورة أن يبقى ساكناً» بحسب ما شرحته لنا الحقوقية ميلاني شفايتسر.

«السياسيون-ات الذين يحاربون حزب البديل من أجل ألمانيا على أنّه حزبٌ يميني متطرّف، يدعمون بسياساتهم الخارجيّة والداخليّة حكومةً إسرائيلية يمينيّة ومتطرّفة أكثر منه بمراحل على كلّ المستويات. هذا ما يجعل التطبيع مع العنصريّة، خاصّة المتمثّلة في كراهية العرب والمسلمين، وتبرير عنف الشّرطة الخارق للقانون مع هذه الفئة تحديداً، وعلى مدى أكثر من عام، شيئاً سهلاً وعاديّاً»، تقول المحامية ميلاني شفايتسر.

كانت ك.ف «تصرخ لجمع شهودٍ على ما يحصل معها»، بينما كان الشرطي يُمسِك بها بشكلٍ يمنع عنها التّنفّس، وتقول إنها تملك تسجيلاً مصوراً يُثبت ذلك، تمّ تسجيله من أحد الأشخاص الذين تجمّعوا أثناء اعتقالها. نزعت الشرطة حجاب ك.ف أثناء عمليّة الاحتجاز٬ وأوقفت بالتزامن مع ذلك شاباً كان متواجداً على مقربةٍ من الحادثة لأنه نزل من منزله صدفةً لشراء الدّخان٬ بالإضافة إلى شابٍّ وفتاةٍ آخرَين، أحدهم بسبب محاولته الدّفاع عن ك.ف، وأخذوهم جميعاً إلى سيّارة دوريّات كبيرة٬ وهي مختلفة عن باص المحتجزين-ات المجهّز بالزّنازين٬ والذي سيشرح لنا عنه في السطور القادمة ر.م، أحد الشهود الذين التقيناهم لإعداد هذا التقرير.

طالبت ك.ف باكيةً باستعادة حجابها٬ لكنّ الشرطة واجهت طلبها بالسّخرية٬ واتّهموها «بالتّواري خلف حجابها لإخفاء إجرامها»، كما اتّهموها بـ«الإرهاب»، وأصبحوا ينادونها «رامية الحجارة». عندما حاولت الفتاة الأخرى الدّفاع عن حقّ ك.ف باسترجاع حجابها٬ ركلها أحد العناصر. تستذكر ك.ف العبارات التي وجهها لها عناصر الشرطة: «اخرسي، لا تتصنّعي البكاء من أجل الحجاب. هذا الحجاب هو محاولة للتقنّع». سألها أحد العناصر إن كان عليه أن يُلبِسها حجابها بنفسه، وعندما استمرّت بالبكاء والمطالبة بالحجاب، وضع لها شرطيٌّ قبّعة كنزتها على رأسها لكي تكفّ عن إحداث الجَلَبة.

البحث عن وجهٍ للاجئين السوريين في ألمانيا في ظلّ صعود اليمين

21 شباط 2025
يعيش السوريون في ألمانيا حالة شتات أكثر منهم جالية. وبينما تنتشر أخبار أشرارهم بسرعةٍ فائقة على شاشاتِ الإعلام الألماني، لا تظهر وجوه أخيارهم على الشاشات نفسها إلّا ما ندر. هذا...

كان جميع العناصر رجالاً٬ وكانوا يصرخون في وجه الموقوفين-ات ويمارسون ضدّهم تعنيفاً لفظيّاً طوال الوقت٬ كما كانوا يوجّهون لهم تهم «الإرهاب والتخريب». في السيارة كان هناك محتجزٌ يجثو على الأرض طوال الوقت، بينما يضع أحد العناصر قدمه على ظهره لمنعه من الحركة. لم يصادروا من ك.ف الحاجيات التي كانت معها، وبقيت حقيبتها على ظهرها بينما كانت جالسةً ويداها مقيدتان، وكان ثِقَلُ الحقيبة التي ما  تزال على ظهرها٬ والمتدلية بالتالي على يَدَيها المقيَّدَتين إلى الخلف شديد الإيلام٬ لكنّها استطاعت الوصول بأصابعها إلى جوّالها الموجود في حقيبتها٬ مما جعلها تتساءل عمّا كانوا سيفعلونه «لو كانت فعلاً بالخطورة والإرهاب الذي يتّهمونها به؟ أو لو كانت مسلّحةً ووصلت بأصابعها إلى سلاحها بدلاً من هاتفها المحمول؟ ثمّ لماذا لمْ يجرّدوها من أشيائها أو يفتّشوها طالما أنهم يتّهمونها بالإرهاب؟».

سيتبيّن للشابة ك.ف فيما بعد، ومن خلال صديقٍ لها يعمل صحفياً، أنّ الدّوريّة التي ألقت القبض عليها مختصّة بمكافحة الإرهاب فعلاً٬ وقد سبق أن قاموا بالقبض على أفرادٍ من حركة RAF اليساريّة المتطرّفة. بعد مضيّ وقتٍ طويلٍ والسّيارة تتحرّك بطريقةٍ عشوائيّة ودون وجهةٍ محددة٬ توقّفت السيارة لتدخل شرطيّةٌ حتى تساعد ك.ف على ارتداء الحجاب. أخبرتها الشّرطيّة أنّها ستحلّ وثاق إحدى يديها لترتدي حجابها٬ «لكنّها لن تتردّد بطرحها أرضاً إذا أبدت حركةً خاطئة».

عند نقل ك.ف ومَن معها إلى الباصات الكبيرة ذات الزنازين٬ كان هناك طفلٌ يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنةً ويجلس في زنزانةٍ داخل السيارة. رغم أنّ الوقت كان متأخّراً٬ ورغم امتلاء جميع الزنازين بالرجال المعتقلين حتى لم يبق سوى زنزانة منفردة واحدة جلست فيها ك.ف، إلا أنها شعرت بالأمان في داخلها، وتفسّر ذلك بأنها «لم تعد تجلس مع عناصر الشرطة في سيارتهم».

لم يبق إلّا مكانٌ واحدٌ للفتاة الأخرى المحتجزة في الزنزانة الجماعية مع باقي الرجال، لذا أبقوها في سيّارة الشرطة، وكانت ك.ف على يقينٍ بأنّ جلوس هذه الفتاة لوحدها في سيارة الشرطة كان مُقلقاً لها أكثر من وضعها في الزنزانة الجماعية مع الرجال المحتجزين، وهذا ما ستؤكده لنا الفتاة نفسها عندما قابلناها لاحقاً.

يُمنع على المساجين تبادل الكلام داخل زنازين السيارة، لكنهم لا يُقيّدون، وغالباً ما يتم تقييدهم إلى المقعد٬ لكنّ الشرطة لم تتّخذ هذا الإجراء مع ك.ف، التي ظلت محتفظةً حتى بجوالها. أخيراً فتّشوا حقيبتها وأبدوا «الريبة» كما تصف لنا عندما وجدوا كوفيةً بداخلها، والتقطوا لها صوراً ودوّنوا بياناتها. أخبرتنا ك.ف أنّه لا يتمّ إخبار المحتجزين-ات بتهمتهم إلّا بعد الإفراج عنهم أو عن طريق البريد لاحقاً٬ وهذا ما أعاد تأكيده معظم الأشخاص الذين حصلنا على شهاداتهم.

كانت تهمة ك.ف «مقاومة الشّرطة بتحريك الجّزء العلوي من جسدها»، وما زالت تجهل سبب هجومهم عليها بالأساس، وهذه حالةٌ متكرّرةٌ٬ فكثيراً ما تكون التّهمة «مقاومة الشّرطة»، لكن يبقى سبب مهاجمة الشرطة، التي ترتّبت عليها هذه المقاومة، مجهولاً.

تأخذنا السّطور السابقة إلى مبدأ أساسي يقوم عليه القانون الألماني، خاصة فيما يخص عمل الشرطة، وهو مبدأ التّناسب والتّدرّج (Verhältnismäßigkeit)، إذ لا لوائح بالممنوعات والمسموحات تُحدِّدُ آليات تنفيذ الشّرطة لمهمّاتها، بل يتطلّب عملهم محاكمةً ذاتيّةً لكبح الأذى ونشر النظام بأقلّ الإجراءات عنفاً، وذلك بحسب ما يتطلّبه كلّ موقفٍ على حدة. فكيف تطبّق الشرّطة هذا المبدأ في السّياق الدّاعم لفلسطين في ألمانيا؟

التّناسب والتّدرّج في السّياق الدّاعم لفلسطين في ألمانيا

«العصيان المدني في حالات كهذه ليست حجّةً لعنف وانتهاكات قانونيّة من قبل الشرطة، المخبّئين خلف ستارة تنظيم المظاهرة والسيطرة على عنف المتظاهرين-ات». هذه جملة لرئيس وزراء ولاية فيستفاليا هيربرت رويل، قالها مرّةً على إثر مظاهرة لوتسيرات (Lützerath) البيئيّة التي حصلت فيها تجاوزات وأعمال عنف متبادلة بين الشرطة والمتظاهرين-ات، ونجم عنها إصاباتٌ من الطّرفين، مع التذكير بأنّ الشرطة دائماً صاحبة المركز الأقوى، وغالباً ما يكون عنفها أكبر حجماً في حالات كهذه.

في حوار مع المحامي والخبير في شؤون الشرطة توماس فيلتيس حول الواقعة نفسها على قناة wdr في الشّهر الأول من عام 2023، قال التالي: «حدود الشرطة تتمثّل في تناسب قسوة الإجراءات التي تستخدمها مع الهدف من هذه الإجراءات، والانتهاك الذي تحاول التّصدي له. عندما يتمّ اختراق سلسلة من العناصر الواقفين أمام مكان على شكل درع بشريّ من قبل متظاهرين-ات، يحقّ للشّرطة منع ذلك، وباستخدام العصي إذا اضطّر الأمر، لكن لا يحقّ لهم التسبّب بإصابات خطيرة باستخدامهم للعصا على الوجه أو منطقة الكلى مثلاً».

من المثير للاهتمام ذكر المحامي للوجه والكلى تحديداً، بينما أخبرني شابٌّ تحت السن القانوني ممّن تعرّضوا للاحتجاز مراراً في سياق المظاهرات الدّاعمة لفلسطين، أنّه تعرض للضرب على وجهه وعلى منطقة الكلْيتين بطريقةٍ مبرحة، لكنّ سؤالاً يُطرح هنا حول ما إذا كانت هاتان المنطقتان تشكّلان «كوداً» عند الشّرطة يشير إلى درجة مرتفعة من العنف.

يقول المحامي في الحوار نفسه: «في حال رمى متظاهرٌ حجراً، فيجب أن تكون مهمّة الشرطة الأساسية الإمساك به وعزله عن باقي المتظاهرين. ولكن ما رأيته في تسجيلات الفيديو كردّة فعلٍ على رمي الحجر بدا لي طريقةً لتخويف المتظاهرين، وحثّهم على ترك المكان خوفاً من عنف الشّرطة، وهذا بحدّ ذاته غير قانوني». تعيدني هذه الجّملة إلى الشّاهدة (ك.ف)، أو رامية الحجارة كما أطلق عليها عناصر الشّرطة، والتي لم يتوافق القبض عليها مع أيٍّ من تلك التوصيات التي ذكرها فيليتس.

وعندما سُئل فيليتس عن الجهة صاحبة المرجعيّة في تحديد مبدأ التناسب، أجاب أنّ «العنصر نفسه يحدّد ذلك، لأنّه تعلّم ذلك في أكاديميّة الشرطة، وعليه سؤال نفسه: ما هو سبب وهدف عمليّة الشرطة هذه؟ ولأي مدى يمكنني أن أذهب لأحقّق هذا الهدف؟».

يضيف فيلتيس: «المتظاهرون-ات الذين يتقدّمون بشكاوى ضدّ الشّرطة بسبب تعرّضهم للعنف، أو الحالات التي يتمّ تسجيلها في المشفى، متوقّعٌ أن يجري ضدّها إجراءات بتهمة مقاومة الشرطة. هنالك حالات لا تنتهي من هذا القبيل: هناك ادّعاء بمقاومة الشرطة، وادّعاء يقابله بأنّ الشرطة تخطّت حدوداً وقامت بالتعنيف قبل حدوث المقاومة، وفي كثيرٍ من الحالات تكون الكاميرات المثبّتة على بِدَل الشرطة مطفأة أو خارج الخدمة، أو تمّ مسح محتواها دون قصد، فنقف أمام شهادتين متضادّتين، وقلّما يكون هنالك أدلّة كافية». ويقترح المحامي وضع مراقبين-ات مستقلّين-ات لمراقبة المظاهرة وكتابة تقارير عنها، أو وضع كاميرا طائرة (Drone) تسجّل أحداث المظاهرة من الأعلى.

                                                                                           ***

م.ل هي الفتاة الثّانية التي كانت متواجدةً مع ك.ف في السّيارة، والتي تمّ القبض عليها في الشارع نفسه، وهي ألمانيّة من أصول مهاجرة. عندما اقتادوهم إلى السيارة كانت هنالك مجموعة من الصحفيين الذين يريدون تصوير اقتياد الموقوفين-ات إلى السيارات٬ لذا أبطأت الشرطة من حركتها ليتمكن الصحفيون من التصوير. في اليوم التالي ظهرت صورهم في مجلة بيلد تحت عنوان: «معرض العار: الشرطة البرلينية تُلقي القبض على كارهي اليهود».    

هناك يقين عند الشّرطة بعدم إمكانيّة محاسبتهم قانونيّاً، إذ أنّ عناصر الشّرطة البرلينيّة ليسوا مُلزَمين بتركيب كاميرات على بدلاتهم ضمن قانون الولاية الخاص بتنظيم أمور الشّرطة، ناهيك عن انعدام احتماليّة إثبات التّهمة على الشّرطي بحدّ ذاته أمام القضاء بسبب قلّة الأدلّة.

أعادت م.ل حكاية التّجربة بالتفاصيل ذاتها التي روتها ك.ف٬ ولم تكن تعرف سبب عدم نقلها إلى زنزانةٍ داخل باص المعتقلين مثل الآخرين٬ وعندما أخبرناها نحن بالسبب الذي سمعناه من ك.ف بدتْ عليها آثار الصدمة، وأكدت أنّها كانت «ستفضّل الجلوس مع المحتجزين الرّجال على أن تبقى وحدها بين العناصر الذين كانوا يستمرّون بالصّراخ عليها حتى عندما كانت تجلس بينهم وحيدة»، وتضيف بأنهم «جعلوها تنتظر طويلاً حتى أحضروا لها الماء بعد أن طلبته». أعادت م.ل على مسمعنا حديثاً دار بين عنصرين من الشّرطة عندما بقيت وحدها معهم: «يمكننا تركها هنا وحدها لتتعفّن»، فردّ الآخر: «لا، لن نفعل ذلك قط… أو ربّما سنفعل!».

لماذا لم يتظاهر طلاب الجامعات الغربية تضامناً مع السوريين؟

01 آذار 2025
خلال العدوان على غزة، خاضت الحكومة الإسرائيلية حرباً إعلامية ضد الناشطين/ات في الدول الغربية، محاولة التقليل من شأن جرائم الحرب التي ارتكبها جيشها، بعقد مقارنات مع جرائم نظام الأسد في...

تمّ إطلاق سراح م.ل بعد إطلاق سراح جميع الذين احتُجزوا معها، ولم تُفتّش الشرطة الأغراض التي كانت بحوزتها، ولم يصلها بريدٌ بالتهمة المُوجّهة لها حتى الآن.

أكّدت ميلاني شفايتسر في مقابلتنا أنّها كحقوقيّة تشهد على أنّ الشّرطة تخرق مبدأ التناسب والتّدرّج في السّياق الفلسطيني بشكلٍ منهجي وغوغائي، وذلك ليس فقط ضمن المظاهرات. هناك لجوء فوري للضّرب والسّحل رغم عدم الحاجة إلى ذلك، حتى طريقة الضّرب يجب أن تكون متناسبة مع الموقف وخطورته، وهي لا تفهم كمحامية ضرورة استخدام الكفوف المعدنيّة أثناء الضّرب في هكذا سياق. هناك يقين عند الشّرطة بعدم إمكانيّة محاسبتهم قانونيّاً، إذ أنّ عناصر الشّرطة البرلينيّة ليسوا مُلزَمين بتركيب كاميرات على بدلاتهم ضمن قانون الولاية الخاص بتنظيم أمور الشّرطة، ناهيك عن انعدام احتماليّة إثبات التّهمة على الشّرطي بحدّ ذاته أمام القضاء بسبب قلّة الأدلّة. كما أنّ كلّ شخص يتعرّض للعنف من قبل الشرطة، ويلجأ إلى القانون للاعتراض عليه، تُفتح ضدّه قضيّة مضادّة بتهمة مقاومة الشّرطة في الغالب، والتي قد تصل عقوبة الإدانة بها بحسب شفايتسر إلى السجن لثلاث سنوات، خاصّةً إذا كان للشّخص سوابق في قضايا مماثلة٬ مما سيكون خطيراً على مستقبل الشّخص في ألمانيا إذا لم يكن يحمل الجّنسية الألمانيّة.

ر.م هو شابّ سوري احتجزته الشرطة ستّ مرّات٬ وينطبق عليه ما قالته ك.ف عن تكرار الشرطة توقيف بعض الأشخاص بسبب تعرّفها على مواصفاتهم. أُصيب ر.م مرّةً بنوبة هلع أثناء الاحتجاز، لكنّ الشرطة تجاهلته ساعةً كاملة، إلى أن أتت شرطيّة لتعطيه ماءً وتفتح باب الزّنزانة. في أحد مرات الاعتقال سمع شرطيّاً يقول لزميله إنّه «أصبح بإمكانهم 'كبّ' أحد المحتجزين لأنّهم انتهوا منه».

لم يتعرّض ر.م للضرب أثناء اعتقالاته المتكررة، واقتصر الأمر على «نكزٍ في الخاصرة أثناء عملية الاعتقال» كما يروي، وأضاف أنّ الضرب المبرح يكون عادةً «من نصيب الأشخاص الذين يبدون مقاومةً». يصف لنا ر.م السيارات التي كان يُعتقل داخلها: «في كل سيّارة احتجاز 11 جاروراً للاحتفاظ بمُتعلّقات المحتجزين-ات٬ لأن السيارة تتسع لـ 11 محتجز-ة. هنالك كاميرات في كل زنزانة، وكذلك في مدخل باص الاعتقال الذي يدعى Mannschaftswagen، ويمكن ترجمة اسمه للعربية بـ«عربة الفريق»، والتي تضمّ  زنازين منفردة وثنائية ورباعية، وفي كل زنزانةٍ نافذةٌ تُفتح من الخارج فقط، أي من قِبل الشرطة».

في كلّ تجارب اعتقال ر.م كانت الكلبشة شديدة الإيلام، ويؤكّد لنا هو الآخر أنّ التّهمة لا تُذكر أثناء الاعتقال، بل يُعطى الشخص ورقةً مُحبّرةً شبه غير مقروءة ومطبوعة على ورقٍ رقيقٍ من الورقة الأصلية التي تحتفظ بها الشرطة.

مما عاينه أثناء اعتقالاته المتكررة، أن معاملة الشرطة تزداد سوءاً تجاه الأشخاص غير المجيدين للألمانية٬ حتّى أنّ ر.م عرض في بعض الأحيان ممارسة دور المترجم لمتحجزين آخرين، ولكن لم يُسمح له في أيٍّ من المرات. كما يخبرنا من تجربته أنّ «الشرطي الألماني ذي المظهر الأوروبي كان أكثر عنفاً معه من الشرطي من أصولٍ مهاجرة٬ وأن الشّرطيّات النّساء كنّ شديدات القسوة». ومما قاله أيضاً إن الشرطة تعطي المُحتجزين-ات أرقاماً يُنادَون بها٬ أو أنّهم يُنادون أحياناً بالتّهمة التي احتُجزوا لأجلها٬ مثل: «رامية الحجر، أو رامي الزجاجات»٬ تماماً مثلما حصل مع ك.ف.

لم يُقاوم ر.م الشرطة جسديّاً في أيّ مرةٍ من مرّات اعتقاله بحسب ادعائه٬ ومع ذلك كانت التهم الموجهة له بعد التوقيف دائماً تتضمّن «المقاومة الجسديّة».

من خلال الشهود الذين تحدثنا إليهم-ن وصلنا إلى شابّ صغير في السّادسة عشرة من عمره. أخبرني أنّه لم يعد يحصي المرّات التي تمّ احتجازه فيها٬ فهذا يحصل تقريباً في كلّ مظاهرةٍ يُشارك فيها، حتّى أنّهم احتجزوه من أمام منزله مرّةً، حيث كانوا بانتظاره. تختلف تجارب الاحتجاز بين مرّةٍ وأخرى٬ فهنالك مرّات لم يضربوه فيها٬ ومرّاتٍ ضربوه بشكلٍ مبرح  على وجهه وكليتيه باستخدام الكفوف المعدنيّة. دائماً تتم كلبشته بشكلٍ شديد الإيلام٬ وهو الشّاهد الوحيد الذي أخبرني أنّهم استمرّوا بضربه داخل السّيارة بعنفٍ شديد٬ وأجبروه على التوقيع على مستندٍ لم يكن يعرف ما هو٬ رغم أنّ محاميته نبّهت عليه ألّا يفعل. أخذوه مرّة واحدة إلى المركز٬ ما عدا ذلك كانوا يقومون «بدورةٍ» بالسّيارة ويعيدون إخراجه. التّهم الموجّهة له هي مقاومة أو ضرب الشّرطة٬ مع التّنويه على أنّ طول ووزن الشابّ أقلّ من معظم اليافعين في مرحلته العمرية.

«القضاء سيكون في صفّنا في جميع الحالات»؛ هكذا أجاب شرطيٌّ هدّدته المحامية ميلاني شفايتسر برفع قضيّة ضدّه بعد أن قام بضرب أحد المتظاهرين أمامها، ولعل هذه الإجابة تُلخّص الحكاية كلها، ليس منذ السابع من أكتوبر، ولكن منذ بدء منع تجمّعات إحياء ذكرى النكبة في عام 2023 وحتى اليوم.

لم يذهب إلى المشفى يوماً٬ لإثبات الأذى الجّسدي الذي يلحق به٬ كأن يتقشّر جلد يده وساعده بسبب الجرّ على الأرض، وأن يتمّ ضربه حتّى تسيل الدّماء من وجهه.

صديقٌ له كان متواجداً معه أثناء حديثنا٬ وهو أيضاً شابّ غزّاوي بعمر 19 سنة، أخبرني أنّهم ضربوه في السّيارة بشدّة حتّى صار الدم ينزف من معدته، فخضع لعمليّةٍ جراحيّة بعدها٬ وفي المشفى لم يتم تدوين أن الشّرطة هي من تسبّب بذلك.

هل من صلاحيّاتٍ جديدة أوسع للشّرطة الألمانيّة في السّياق الدّاعم لفلسطين؟

تعطينا شفايتسر مثالاً إحصائيّاً شديد الأهميّة عن الشّرخ القانوني في عمل الشرطة ضمن السياق الداعم لفلسطين؛ فقد سجلت الشرطة 3200 تهمة جنائيّة مرتبطة بالموضوع الفلسطيني منذ السّابع من أكتوبر من العام الماضي، وتمّت معالجة أكثر من 80 بالمئة من هذه التهم الجنائيّة، ونتج عنها 363 دعوى قضائيّة، أي 14 بالمئة فقط كان لها أساس قانوني، وتمّ إصدار حكم قضائي مُدين في 20 حالة فقط، أي في 0.6 بالمئة من أصل كلّ التّهم المسجّلة. 94.4 بالمئة من مخالفات الشرطة كانت غير مبنية على أسس قانونية بحسب شفايتسر. تُعلّق: «هذا الرّقم يمثّل لنا بُعدَ الشّرطة عن القانون في ملاحقتها للناس، وتجريمها لهم بأعدادٍ غير منطقيّة دون ارتكاب مخالفات قانونيّة بشكلٍ حقيقي، ولكني أرى بأن الدوافع عنصرية».

في مقابلة أجريناها مع ع.أ، وهو شاب فلسطيني من غزة، أكد على أن الشّخص المستهدف بالتوقيف من قبل الشرطة لا يتعرض للاعتقال لوحده، بل كل من يتدخّل أو يعترض أو يتضامن، وأخبرني عن تجربة اعتقالٍ تعرّض لها: «وُضِعتُ مع مصوّرٍ سوريّ وشابّ غزّاوي في زنزانة، ووُضع يهوديّ يحمل الجنسية الأميركيّة من حركة Jewish Voice for Peace في زنزانةٍ منفصلة رغم اعتقاله معنا. وأصبحت الشرطة تتحدّث معه وتجيب على أسئلته، بينما تجاهلونا نحن الثّلاثة تماماً ولم يصادروا لنا أغراضنا، حتّى أننا استطعنا استخدام هواتفنا داخل الزنزانة».

صورة التقطها ع.أ من داخل سيارة الشرطة، ويبدو فيها أن موقوفاً قبله قد وضع ملصقاً بعد اعتقاله من قبل الشرطة

بعد أربع ساعاتٍ من الانتظار جاء محامي إلى السيارة ليتحدّث مع الشرطة، وعلى إثر ذلك تحرّكوا إلى مركز الشرطة. في المركز تمّ نعت ع.أ بـ«Nigger» واحتُجز هناك لساعات طويلة، وعند الإفراج عنه وجدوه يصلّي، فتركوه يكمل صلاته ثمّ أخرجوه.

وتحدّثنا أيضاً إلى شخص ألماني غير ثنائي الجّنس اعتُقِل من إحدى المظاهرات، فقام بتنبيه الشرطة إلى عدم مناداته بصيغة المؤنّث، فاعتذروا وسألوه كيف يفضل أن يخاطبوه وأبدوا حيرةً واستغراباً، وعندما علموا اسمه العبري ازدادوا ارتباكاً. كانوا شديدي اللطف، وأحضروا لهذا الشخص الماء فور طلبه.

سجلت الشرطة البرلينية 3200 تهمة جنائيّة مرتبطة بالموضوع الفلسطيني منذ السّابع من أكتوبر من العام الماضي، وتمّت معالجة أكثر من 80 بالمئة من هذه التهم الجنائيّة، ونتج عنها 363 دعوى قضائيّة، أي 14 بالمئة فقط كان لها أساس قانوني، وتمّ إصدار حكم قضائي مُدين في 20 حالة فقط، أي في 0.6 بالمئة من أصل كلّ التّهم المسجّلة. 94.4 بالمئة من مخالفات الشرطة كانت غير مبنية على أسس قانونية.

عندما سألهم عن سبب اختيارهم لهذه المهنة، بدؤوا معه حديثاً «لطيفاً» كما وصفه، وأخبره أحدهم أنّه اختار المهنة بناءً على موقفٍ حصل معه في مهنته السّابقة شعرَ فيه بالتّفرقة والظّلم. فيما أخبرته شرطيّةٌ أنّ التنوع في المهمّات، والرياضة، هما العاملان اللذان يجعلانها تحبّ مهنتها. وعندما أعادوا عليه السؤال رفض الإجابة، وأخبرهم برفضه إعطائهم أيّ معلوماتٍ عنه. «هكذا قلب موازين السّلطة في تلك اللحظة، حيث كان هو من يطرح الأسئلة ويرفض الإجابة عن أسئلتهم» بحسب وصفه.

كانت هذه الحالة الوحيدة التي وصفت الكلبشات بغير المؤلمة من بين عشرة مشاركين-ات في المقابلات.

دولة القانون غادرت أرض القانون

التعامل مع الحرب الإسرائيلية على غزّة أمنيّاً وإعلاميّاً، وفي الخطاب العامّ المتمثّل بفعاليّات وتجمّعات ثقافيّة وفنيّة، غادر أرض القانون برأي شفايتسر، ولا يتم تنظيمه وفقاً للحقوق الأساسّية بالتجمّع وحريّة الرأي وحفظ الكرامة الإنسانيّة، بل تُسيّرهُ عقيدة سياسية موحّدة قائمة على المصلحة الوطنيّة الرّديفة لحماية مصالح إسرائيل٬ ويتمّ فرضها من الأعلى.

تشرح شفايتسر: «هنالك حالة تطبيع مع خرق القانون يقوم بها السياسيون-ات في مراكز حكمهم-ن في أعلى الهرم التّشريعي، ما يجعل خرق القانون من قبل المؤسّسات التّنفيذيّة، مثل الشّرطة، مُمنهجاً عندما يتعلّق الموضوع بفلسطين. السياسيون-ات الذين يحاربون حزب البديل من أجل ألمانيا على أنّه حزبٌ يميني متطرّف، يدعمون بسياساتهم الخارجيّة والداخليّة حكومةً إسرائيلية يمينيّة ومتطرّفة أكثر منه بمراحل على كلّ المستويات. هذا ما يجعل التطبيع مع العنصريّة، خاصّة المتمثّلة في كراهية العرب والمسلمين، وتبرير عنف الشّرطة الخارق للقانون مع هذه الفئة تحديداً، وعلى مدى أكثر من عام، شيئاً سهلاً وعاديّاً».

عن عنف الشرطة الألمانية المفرط.. وباب العدالة الموصد أمام متظاهري/ات فلسطين

06 آذار 2025
يتناول هذا التقرير الذي أعده سمير عابد (اسم مستعار) المفارقة بين تباهي الحكومة الألمانية بتحقيق العدالة للسوريين/ات في حين تقمع شرطتُها المتظاهرين/ات الفلسطينيين، وذلك من خلال قصة الناشطة رهام التي...

أثناء الاعتصام أمام البرلمان الألماني في نيسان (أبريل) 2024، والذي تمّ فضّه بعنفٍ شديد، أخبرتني ميلاني شفايتسر أنّ الشرطة منعت التحدّث باللغة العربيّة داخل مبنى البرلمان وخارجه، وحين سألتْ الشّرطة عن القرار الخطّي المتعلق بذلك وإلى أيّ أساس قانوني يستند، أخبرها شرطيّ أنّه يستند إلى أوامر رئيسه في العمل. تعلّق: «أي أنّ خرق الشرطة للقانون يجري في أكبر معقل للسّياسيين-ات الألمان».

تعطي ميلاني أمثلةً أخرى على خرق القانون: «عندما تصرّح وزيرة الثّقافة خلال مهرجان برليناليه أنّها كانت تصفّق للمخرج الإسرائيلي وليس للمخرج الفلسطيني، فإنّها تتخطّى على الملأ مبدأ المساواة الذي تقوم عليه المادّة الثالثة من القانون الأساسي. وعندما يصدر أمرٌ بفضّ الاعتصام أمام جامعة هومبولدت من قبل مديرة مجلس البحث العلمي، فهذا خرقٌ واضحٌ للصّلاحيات القانونيّة. كلّ هذه الخروقات القانونيّة تحصل بناءً على خرقها من قبل الأمثلة العليا في الدّولة، أي السّياسيّون-ات في قمّة الهرم السّياسي. هذا ما يفسّر، برأي ميلاني، حالة الفوضى القانونيّة في سلك الشّرطة المُثقَل أصلاً بالعنصرية والفضائح اليمينيّة».

كونغرس فلسطين (Palästina Kongress) مثالٌ حيّ على تجمّع فلسطيني شهدت شفايتسر على عملية منعه. تشرح لنا: «لم يكن هنالك قاعدة قانونيّة يمنعونه على أساسها، فشكّلوا تضييقاً أمنيّاً عليه يكاد يكون مافيويّاً. طوّقت الشّرطة المكان وهدّد عناصرها صاحب الصالة المخصّصة عادةً للأفراح بأنّهم لن يمنحوه ترخيصات للقيام بالفعاليّات بعد الآن، فأصيب بشبه انهيار لتهديده بأكل عيشه، وأوشك على إلغاء الفعالية قبيل انطلاقها، لكنه لم يفعل ذلك. وأثناء الفعاليّة اقتحمت الشّرطة المكان بعنف وأطفأت الكهرباء منعاً للبث المباشر لمجريات الفعالية، بعد أن دفعوا باب غرفة الكهرباء بأقدامهم، رغم أنّه كان باستطاعتهم طلب توقيف البثّ المباشر أو طلب الدخول إلى غرفة الكهرباء دون تحطيم الباب. هذا يعيدنا لمبدأ التّناسب والتّدرج الذي ضُرب فيه عرض الحائط مرّة جديدة».

من خلال الشهادات والأمثلة التي يستعرضها هذا التقرير، فإنّ هنالك ميلاً واضحاً لإعادة احتجاز الأشخاص الذين سبق أن تمّ احتجازهم، كما أنّ الفئة المتضرّرة في السياق الفلسطيني هي غالباً فئة هشّة من الناحية القانونية، بسبب عدم امتلاك الكثيرين-ات منهم للجنسية الألمانية، وفي حال صدور حكم قضائي يتجاوز 3 شهور من الحبس ضدّ أحدهم، فإنّ إجراءات تمديد الإقامة والتقديم على الجنسيّة الألمانيّة تصبح مُعطّلةً أو مُقيّدة.

«القضاء سيكون في صفّنا في جميع الحالات»؛ هكذا أجاب شرطيٌّ هدّدته شفايتسر برفع قضيّة ضدّه بعد أن قام بضرب أحد المتظاهرين، ولعل هذه الإجابة تُلخّص الحكاية كلها، ليس منذ السابع من أكتوبر، ولكن منذ بدء منع تجمّعات إحياء ذكرى النكبة في عام 2023 وحتى اليوم.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد