"العودة إلى طرطوس لا تشبه العودة إلى سوريا"


"عدتُ إلى طرطوس والعودة إليها لا تشبه العودة إلى سوريا، هي عودةٌ إلى مكانٍ لم تهجّرك منه السلطة فقط، بل ولعبَ المجتمع دوره في نفيك". هذا ما يكتبه الموسيقيّ والباحث محمد أبو حجر في هذه الشهادة عن زيارته إلى مدينته طرطوس بعد سقوط الأبد السوري.

14 نيسان 2025

محمد أبو حجر

موسيقي سوري وباحث في الاقتصاد السياسي

في الساعات التي سبقت سقوط نظام الأسد، اجتاحت أوساطَ السوريين سعادةٌ حذرة مع امتداد رقعة الأخضر نحو دمشق، رافقتْها بعض أشكالِ القلق الواضحِ لدى "أحرار الساحل" كما نحبّ أن نطلق على أنفسنا، باحثين عن نوعٍ من السلوان في كلمات الساروت حين تذكّر وجودنا في مرّاتٍ يتيمة.

كان التخوّف الأكبر، أن يستعصي النظام في مناطقنا، ولهذا كتبتُ كلماتٍ مرتبكةً لصديقٍ لي في ريف حلب الغربيّ أقول فيها: فيما لو أسّس النظام لنفسه في الساحل دويلةً صغيرةً على شاكلة إدلب، فعليكم أن تنقلوا سجلّي المدنيّ إلى قراكم. مستحضراً شخصية مصطفى من رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، تاركاً خلفي طرطوس حتى يفيض النهر، فهي مدينة كانت عصيةً على الفعل الثوري رغم كلّ محاولاتنا، مدينةٌ تركتُها هارباً من ملاحقات فرع أمن الدولة في منتصف عام 2012، متنهّداً بعمق حين رأيت الحدود ورائي.

وقبل سقوط الأسد، كنتُ قد فقدت الأمل بالعودة تماماً، وبدأت أشعر بالقليل من الحسد عقب زيارة أحدهم إلى المدينة التي طردتني شوارعها قبل أجهزة أمنها. شاءت الأقدار أن يكون أوّل تواصُلٍ مصوّرٍ مع سوريا صبيحة سقوط النظام من قلب مدينة طرطوس، حيث نقل لي صديقٌ عبر كاميرا هاتفه مشاهد حيّةً لفتيةٍ صغار، يعتلون عواميد الإنارة ممزّقين صور الهارب بينما يُسحل تمثال والده في شوارع المدينة، يعتليه أطفالٌ لم يعاصروا زمنَه. راودني سؤالٌ ملح: من أين ضجّت المدينة بكلّ هؤلاء؟ فعندما تركتُها كان رافضو حكم الأسد قلّةً معزولة.

عدتُ إلى طرطوس والعودة إليها لا تشبه العودة إلى سوريا، هي عودةٌ إلى مكان لم تهجّرك منه السلطة فقط، بل ولعبَ المجتمع دوره في نفيك.

اختفى البرزخ الزمنيّ الذي فصلني عن المدينة، وقفتُ مستغرباً وجود من يهلّل لسقوط الأسد وكأنّي لم أغبْ عن المدينة ثلاثة عشر عاماً، كانت كفيلةً بأن تخلق جيلاً طوّر رفضه الخاص لنظام الأسد. وعلى عكس توقعاتي كلها، فقد رافقني ذلك الاستغراب والإحساسُ بعدم انقطاع الوصل طيلة فترة زيارتي إلى طرطوس التي استعجلتُ حدوثها خوفاً من استعصائها مرّة أخرى. عدتُ إلى طرطوس والعودة إليها لا تشبه العودة إلى سوريا، هي عودةٌ إلى مكان لم تهجّرك منه السلطة فقط، بل ولعبَ المجتمع دوره في نفيك. كنت قد اتخذت قرار زيارة سوريا فوراً بعيد سقوط نظام الأسد، خشية من أني لو انتظرت قليلاً لاستعصت الزيارة. وبرغم اشتياقي، فإنّ لحظات ما قبل ركوب الطائرة المتجهة نحو بيروت كانت مليئةً بالخوف والارتياب؛ فماذا لو قضيتُ نحبي برصاصةٍ طائشة؟ هل سأذهب بقدميَّ إلى بلدٍ تسيطر عليه مجموعاتٌ مسلّحةٌ إسلامية، وفي جعبتي أغنيةٌ تنتقد الفهم السائد للدين، قد تُترجم فوراً على أنها كفرٌ بواح؟ هل من الخطر أن أعود إلى حارتي وجلُّها من العلويين، وقد أساء بعضهم معاملتي بعد أن علم الجميع باعتقالي قبل ثلاثة عشرَ عاماً؟ أم أقضي الوقت في منزل جدتي على أطراف المدينة القديمة، حيث الغالبية السُّنية في حيٍّ قدّم العديد من الشهداء والمعتقلين للثورة، وكان بيئةً آمنةً لمن تخلّفوا عن الخدمة العسكرية؟

بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ

08 نيسان 2025
أثارت موجاتُ المجازر في الساحل، التي استهدفت العلوييّن بشكلٍ خاص، ردّ فعلٍ قويّ من الناشطين/ات والجماعات، الذين وثّقوا الأحداث، وأعربوا عن تضامنهم وجمعوا الدعم المادي، ونددوا بالتضليل وانتهاكات حقوق الإنسان.

رافقني الخوف طيلة مدّة الرحلة من برلين حتى دمشق. في بيروت تضخّم الخوف نتيجة تعامل رجال الأمن في المطار. على حدود جديدة يابوس التي وصلتها في المساء، أخبرني الموظّف بأنّ في سجلّي نشاطاً سياسياً، لم يخبرني المزيد. ورغم محاولاتي لتحفيزه على الحديث عن ثورة الحرية، "عاشت سوريا حرة أبية" قلت له بحماس، فإنّه لم يتجاوب مع حماسي الشديد، ليس كما كنت أشتهي على أيّة حال، "هو بيروقراطيٌّ في نهاية الأمر" قلت لنفسي.

بلغ الخوف حدّه الأقصى عندما انعطف سائق سيارة الأجرة التي كانت تقلني نحو دمشق باتجاه طريق المطار بينما كانت وجهتي جرمانا. أيقنتُ بأني سأتحوّل إلى مخطوفٍ يُطالَب أهله بفدية للإفراج عنه. والمنفى إذ يطول، يكثّف كلّ علاقتك بالوطن عبر شاشةٍ صغيرة، جُلّ ما تنقله من أخبار سوريا هو قتلٌ واختطافٌ ومجازر. لم يهنأ قلبي إلا عند رؤية مسلحي "رجال الكرامة" بشواربهم العريضة وقبعاتٍ بيضاء دائرية تغطّي معظم رؤوسهم.

شاءت الأقدار مجدّداً أن يقذفني التاكسي أمام محل خمورٍ يضجّ بزواره في وقت متأخّر من الليل، وقفت أحملقُ فيه بكلّ ارتيابي، وبعينين تملؤهما الدهشة، هل أول ما أراه في "سوريا القاعدة" هو محلّ خمور؟ رحت أنفخ الدخان من سيجارتي حتى جاء عامر ليصطحبني إلى منزله. أوّل كلماته كانت: "لا يبدو عليك أيّ أثرٍ أوروبي". "هذا ما كنت أتمناه"، أومأتُ إليه.

في صبيحة اليوم الثاني، سارت بي الحافلة في شوارع دمشق، تساءلتُ محاولاً إخفاء اغترابي عن أعين الآخرين، هل كانت دمشق دوماً بهذه الشناعة؟ هل كانت دوماً مكتظةً بالمشرّدين أم أنهم نتاج حربٍ طاحنة؟ كان كراج البولمانات فارغاً وحزيناً، على عكس ما أذكره. على باب المحطة، طلب مني عنصر أمنٍ يرتدي لثاماً بأن يفحص حقيبتي، وفور انتهائه ساعدني على إعادة ترتيب أمتعتي القليلة، شكرته قائلاً: لم يسبق أن ساعدني رجل أمنٍ في سوريا على ضبّ أمتعتي. فور مغادرة الحافلة، تبدو الأحياء المدمّرة على امتداد الطريق، ولعلّ تحديقي بها دفع الراكب في المقعد المجاور لبدء حديثٍ حول الأمور العامة لم ينتهِ إلا في طرطوس. بدأ حديثه بشتم النظام "الهارب" (سأعلم لاحقاً أنّ للنظام في المدينة ثلاثة توصيفات، بينما يفضّل مؤيّدو نظام الأسد تسمية النظام بالهارب، يفضّل بقايا أنصار الثورة والمعارضين القدامى تسميته بالساقط، بينما يستخدم المكوّعون نعت "البائد" في تبنٍّ تام لخطابية السلطة الجديدة). وعندما شعر بالارتياح لحديثه معي، بدأ يحدّثني بصوتٍ منخفضٍ قليلاً، بأنّ المعارضة ليست في موقعٍ بريءٍ تماماً، ومثالٌ عليه ارتكابُها  لمجازر عدرا العمالية حيث يعيش، وما فعلتْه المعارضةُ بالعلويين حين وضعتْهم في الأقفاص. وفي فترة وجودي في المدينة، سأعلم أنّ جرائم جيش الإسلام بحقّ العلويين في عدرا العمالية تؤسّس لسرديةٍ مفصلية في فهم العلويين لأحداث الثورة السورية كلّها، إذ حدّثني كثر منهم عن إحساسهم بالغبن، بأنّ مجرمي النظام سيُحاكمون، بينما انتصر مرتكبو الجرائم في عدرا العمالية، وقتلةُ نضال جنود!.

أمام المكان الذي اعتُقلتُ فيه

وصلتُ بعد الظهيرة بقليل لأجد مدينةً شبه خالية. حملتني قدماي مباشرةً إلى مبنى الأمن السياسيّ أو "البيت الأبيض" كما كنّا نطلق عليه، ربما لاقترابه من محطة الوصول. كان خالياً وتبدو عليه أثار الحريق. ندهتُ بصوتٍ عالٍ، فخرج فتيةٌ يافعين يبدو أنّهم من إدلب. وقبل بدء الحديث، طلب مني أكبرهم سناً، وهو لا يتجاوز العشرين من عمره، وبعدائيّةٍ واضحة، أن أطفئ سيجارتي. كان انكساراً معنوياً تمكّنتُ من تجاوزه سريعاً، رغبةً مني بالاحتفاء بعودتي. أخبرته بأنني وصلتُ لتوّي بعد تهجيرٍ دام 13 عاماً، وبرغبتي بزيارة الزنزانة التي قضيت فيها وقتاً في قبو ذلك المبنى. قال صديقه ممازحاً: "ما رأيك أن نضعك فيها لسنتين أُخريين"!

يا لهذه السماجة، لاحظ ارتباكي، فابتسم قائلاً: إذهب لزيارة أهلك أولاً.

على باب المحطة، طلب مني عنصر أمنٍ يرتدي لثاماً بأن يفحص حقيبتي، وفور انتهائه ساعدني على إعادة ترتيب أمتعتي القليلة، شكرته قائلاً: لم يسبق أن ساعدني رجل أمنٍ في سوريا على ضبّ أمتعتي.

كان وصولي إلى طرطوس باهتاً خالياً من المشاعر، وكأني لم أغادر لأطول من رحلة عمل. في المنفى، كنت قد رفعتُ من شأن المدينة حدّ التقديس، "الحنين هو تكرارٌ للذكرى وقد صُفيّت من الشوائب". كنت، طيلةَ سنواتي مبعداً، قد راكمتُ رهاناً كبيراً على قدرة العودة على فعل المستحيل، وإذ دخلَت الحافلة أبواب المدينة، رأيت نفسي يافعاً في طريق عودته من اللاذقية بعد أسبوعٍ قضيته في جامعتها، وكأنها لم تكن غربة عمرٍ وسنيناً طوالا. طيلة تلك السنوات، كان توجّسٌ ما قد تملّكني بأنني سأعودُ إليها "غريباً"، فلا أنا استوطنتُ في المنفى، وخسرتُ عضويتي في الوطن، فأعود للمنفى متيقناً باستدامته وتوسّعه، وأصبحُ غريباً في المكانين. ولكني فوجئت في طرطوس بقدرتي الفطرية على خوض غمار طرقاتٍ تحكمها الفوضى، فيما لو حوكمتْ بأعين من عاش في أوروبا دهراً، فوجئتُ بأنّ السير بين مسارب السيارات لا زال فعلاً اعتيادياً لا يثير الهلع، حتى سماع الطلقات النارية في الليل لم يكن مخيفاً وكأني عشت الحرب هنا واعتدت ضجيجها. فوجئت بقدرتي على مناقشة الغلاء والشؤون المعيشية في السنوات الماضية، لم أودّ أن يعرف أحد أنني كنت في الخارج، ولم تكن مهمةً صعبةً. قدرتي على الإدّعاء بأننا شعبٌ واحد لم يعرف الطائفية ذات يوم كانت مفاجئةً، وأنا من كتبَ في مقال سابقٍ بأن أحياء  المدينة تحكي قصة ترسيم حدودٍ حقيقيٍّ وفطريٍّ بين طوائفها.

انطباعاتٌ أوليّة عن عودتي الخاطفة إلى سوريا/ السويداء

07 شباط 2025
"نصل السويداء ليلاً.. أدخل مدينتي التي أظنني أحفظ ملامحها كمسرى أوردتي على ظهر يدي، آتيها بلهفتي وشوقي وتوقي وآمالي ورهبتي من لقائها.. أستسلم لهذا الألم العميق البطيء والصاخب، شوقٌ وخوفٌ...

كنت قد ذكرت في مقالي المُشار إليه بأنّ الحدود التي رُسمت فطرياً بين المناطق العلوية، والمسيحية، والسُّنية في المدينة تحكي قصةً طائفيةً لم ينتجها النظام بل سبقت وجوده. عدت إلى طرطوس لأرى بأنّ تلك الحدود أضحت ترسم خطوطاً فاصلةً بين عوالم مختلفة. فراغٌ مخيفٌ يعيش في انتظار المجزرة في الحارات العلوية، يقول صديقٌ قديم: "اقتلونا وخلصونا، الانتظار صعب". في حي الرمل، مررت بالقرب من مجموعة نساء علويات يبدو أنّ بعضهن ارتدى الحجاب بعد سقوط النظام، تقول سيدةٌ بشعرٍ أشقر: قرد، شو عاملين بحالكن. يضحكن بحزن.

هنا تغلق المحلات سريعاً بُعيد الغروب، تبقى الحارات حبيسة صمتٍ مخيفٍ وظلامٍ داكن، ما خلا نوافذ قليلة، حتى مطلع الصباح، ورغم أنّ الاحتكاكات والمشاحنات الطائفية حتى حينها كانت في حدودها الدنيا، إلا أنّ الأحياء العلوية كانت تبدو وكأنها تعيش صدمة ما بعد القيامة. تعرّضتْ بعض المحالّ لعملية تكسيرٍ ونهب من قبل مسلحين يرتدون زي "الهيئة"، لم تخلُ تلك العمليات من شتائم طائفية. هنا، عمليات خطفٍ تحصل بتواترٍ شديد ويُسألُ السكان عن دينهم من قِبل رجال الأمن العام  كما أخبرني بعضهم. ومع ذلك، شخصياً لم أتعرّض لهذا السؤال، ولا لأيّ سؤال أخر طيلة فترة وجودي في المدينة.

يتداول السكان أيضاً بأنّ المناطق السنية أو المختلطة تتمتّع بساعات كهرباء أطول، تنقلاتي بين الأحياء تنفي تماماً صحة المعلومة. خرجتْ بعض المظاهرات في هذه الأحياء أكبرها كانت احتجاجاً على المساس بضريح الخصيبي (مؤسّس المذهب العلوي)، وسارت حتى مبنى المحافظة وتصعّدت فيها الهتافات من "يا علي" إلى "العفو العام". يبدو أنّ أيّ حراكٍ أو نقاشٍ سياسي في هذه الحارات ينتهي بمطلب العفو العام. لشباب المنطقة مجموعاتٌ خاصة على وسائل التواصل، فيها يترك العلويّ لطائفيّته السجيةَ في الحكاية ويلمح البعض إلى أنّ هناك دعمٌ قادمٌ وتغييرٌ لا ريب فيه كما أخبرني أحد الثقاة.

وعلى المقلب الأخر من المدينة، تبدو شوارع المدينة السنية من شمال مطعم المشوار، وحتى ما بعد جامع المنصور وهي تضجّ بالحياة. تفتح المقاهي أبوابها ويجتمع الرجال في محالّهم حتى شطرٍ متأخرٍ من الليل، في واحدةٍ من هذه الحارات نشأتُ طفلاً. مررت بها ذات مساءٍ، سألني بعض الجيران القدامى عن سبب اختفائي طيلة السنوات الماضية، أخبرتهم أنّي كنت مُلاحقاً فلجأت إلى الخارج، يظن بعضهم أنني عدت مع مقاتلي الهيئة ممن أطلقوا عليهم لقب "الشباب". عاد بضعة شبانٍ من تلك الأحياء فور سقوط النظام بزيٍّ عسكريٍّ ولحىً مسدلة، بينما قضى بعضهم نحره في معارك ضدّ النظام. هنا، تُرى أعلام الثورة ورايات التوحيد البيضاء أكثر تواتراً من الحارات الأخرى، وعلى مدخل المدينة القديمة كتب أحدهم "طرطوس العمرية". وعلى الحيطان، عُلّقت صورٌ لشهداءَ الثورة ممن لم يتمكن ذووهم من إقامة شعائر عزائهم بالشكل اللائق طيلة حكم الأسد. يخرج شبانٌ من تلك الأحياء بين الفينة والأخرى إلى الشوارع، وخصوصاً بعد خروج مظاهرةٍ "علوية" مطلِقين هتافاتٍ تمجّد الحكومة الجديدة، وبعض هتافات الثورة، وبعض الهتافات الطائفية، فأخيراً "سيجن جنونّ إيران بأنّ سنيّاً يحكم سوريا".

جرائم جيش الإسلام بحقّ العلويين في عدرا العمالية تؤسّس لسرديةٍ مفصلية في فهم العلويين لأحداث الثورة السورية كلّها.

في المناطق المُختلطة، وهي لا تزال حاراتٍ بأغلبيةٍ علوية ولكنها ليست أحياءً علوية بالمطلق، فإنّ الحركة تبدو أيضاً في حدودها الدنيا. وكما يخبرني أصدقاءُ كثر، فإنّ حبل الود الذي لطالما امتدّ بين العلويين والسنة في تلك الحارات قد بدأ بالتفسّخ، تخبرني صديقةٌ بأنّها قطعت التواصل مع جارتها بعد أن نشرت تلك على حسابها على الفيسبوك شعاراتٍ تمجّد سوريا الأموية ورئيسها السني و "أبو عمشة القيادة". ويخبرني صديقٌ بأنّه قطع علاقته مع جاره نتيجة شكّه بأنه يعمل مع "الفلول"، بالإضافة إلى أنّه يؤيّد إقامة دولةٍ علويةٍ في الساحل كما تنبئ اختياراته على الفيسبوك!

تبدو بعض البيوت فارغةً من السكان تماماً، منهم من لجأ إلى قراه خوفاً من المجهول، ومنهم من فرَّ خارج البلاد ولا يعرف أحدٌ مصيره، وخصوصاً قيادات الجيش أو الدفاع الوطني، ومنهم علي مهنا (قائدٌ في الدفاع الوطني أيام النظام السابق) الذي علمت لاحقاً أنّ له منزلاً في شارعنا نفسه.

استمرار الخوف والبحث عن هُويّةٍ سورية

وفي المساحة "الحيادية"، نرى في المساحات العامة نشاطاً علنياً لجملة من الحراكات السياسية التي نشأت في المدينة فور سقوط النظام، تسعى جاهدةً للخروج من شرنقة الطوائف، ولعلّها تشكّل البقية الباقية من هُويّة سورية جمعية. كانت قدرتنا على النقاش السياسي  بصوتٍ عالٍ في الأماكن العامة مدهشةً بالنسبة إليّ، كنت منذ بداية انخراطي السياسي في عام 2005 قد اعتدت الريبة وخفض الصوت عند بدء أيّ حديثٍ سياسي. في زيارتي الأخيرة، كنت ومجموعة من الأصدقاء نتبادل حديثاً سياسياً شيّقاً، حين وجدتُ نفسي أنظر إلى الطاولة المجاورة بحذرٍ وارتياب، جاهدت نفسي كيما أقول لجالسيها: أعلم أن النظام قد سقط، لكني لا زلت أخشى أن أحدكم سيكتب فينا تقريراً أمنياً ما. فشلتُ، فضحكنا وقال أكبرهم: ولمن سنقدمه؟

عن سوريا التي زرتها بعد سبعةٍ وعشرين غياباً

07 نيسان 2025
"قبل شهرٍ من سقوط الطاغية، قالت لي أمي: سأرحل من دون أن أراك! وها أنا ذا، بعد سبعةٍ وعشرين عاماً، أقف أمام باب منزلي في القرية في طرطوس. على حائط...

وعلى رغم أنّ زيارتي لم تمتد لأكثر من عشرة أيامٍ، إلا أنه كان بامكاني التماس إحساسٍ بالانتصار عند أغلبية السنة، حتى لدى من والوا منهم نظام الأسد حتى لحظاتٍ قريبة، تظهره عنجهيةٌ واضحة، والتماس إحساس بالخوف وبالهزيمة لدى أغلبية العلويين، حتى ممن دفعوا ثمناً باهظاً جرّاء معارضتهم لنظام الأسد، تعزّزه عنجهية الأوائل. ذلك بالإضافة إلى امتدادِ أخدودٍ يفصل بين "الحقائق"، بين العلويين والسنة في المدينة. يحفر فيه (الأخدود) القلق الوجودي عميقاً، فالقلق الاقتصاديّ بادٍ في العيون رغم انخفاض الأسعار، يقول لي سائق تاكسي: ما الذي نجنيه من انخفاض الأسعار إن لم نملك المال أصلاً. تزيد من هوّة الأخدود سهولة انتشار الشائعات في عصر ما بعد الحقيقة وغياب مصدرٍ رسميٍّ للمعلومة. قلتُ ساخراً: والله لو سألنا سنياً وعلوياً عن لون السماء في نهار واحد لحصلنا على إجابتين مختلفتين. بلغ الأخدودُ مداه الأقصى ليلة الخميس المشؤوم، في السادس من شهر آذار، حين خرجت مظاهرةٌ للعلويين أمام مبنى المحافظة مطالبةً بإسقاط الجولاني وتضامناً مع جبلة. الحقيقة الوحيدة هي أنّ المظاهرة تزامنت مع إطلاق رصاصٍ أصاب بعضه مبنى المحافظة. يقول العلويين، لقد أطلق السنة النار على مظاهرتنا. ويقول السنة: لقد تظاهر العلويين وهاجموا مقرّ المحافظة بالرصاص.

وعلى أيّةٍ حالٍ، عدت إلى منفاي بعد زيارةٍ قصيرة، مخبراً الجميع بأني سأعود قريباً، ورحت أفكّر في احتمالية العودة الدائمة معوّلاً على الهدوء الذي رأيته حين كنت هناك، والذي دفع بي للاعتقاد بأنّ ما كنا نخشاه من حدوث مجازر طائفيةٍ في الساحل عشية سقوط النظام ما كان ليقع، يبدو أنّ تلك كانت أضغاث أمنيات، فبالعودة إلى جملةٍ من المشاهدات، كان يبدو واضحاً بأنّ ذلك الهدوء ما كان ليُستدام، وخصوصاً مع تعذّر إيجاد حلولٍ للأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفشيّة، والتي تشكّل إما البنية التحتية لاستقرارٍ مستدام، أو زيتاً ساخناً يزيد من اشتعال فتيل الإنفجار، والذي لن تحمد عقباه ولن ينجو منه أحد.

مقالات متعلقة

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (٤)

12 نيسان 2025
ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة...
سوريا... العودة ممكنة

01 شباط 2025
"في اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا...
عزيز العظمة: عن سوريا بين سقوط النظام وصعود الإسلاميين

17 كانون الثاني 2025
يتناول هذا الحوار مع الأستاذ والدكتور عزيز العظمة مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد