"بعد أيام قليلة من سقوط النظام خرجت للعمل مجدداً، لم أنتظر في الشارع طويلاً كما كانت العادة سابقاً حتى وصل أول سرفيس خط "الدوار الشمالي". السرفيس منهك وكراسيه مهترئة لكن بعضها فارغ هذا الصباح أي لن أضطر إلى جلوس القرفصاء عند عتبة الباب كما فعلت كثيراً من قبل. السائق متوتّر المزاج يخبرني أن الأجرة أصبحت أربعة آلاف بعد أن كانت ألف ليرة فأفهم فوراً سبب الرخاء المفاجئ. في الطريق إلى كراج العباسيين تنتقد سيدة السائق بالقول لماذا لا تأخذون الفين أو ثلاثة آلاف، لماذا أربعة! فيرد السائق أن سعر المازوت تضاعف خمس مرات و "هي خسرانة خسرانة"".
هكذا يصف الخيّاط محمد غازي (33 عاماً) المقيم في حي الصالحية في دمشق أصداء التحوّل الذي يشهده قطاع النقل العام في المدينة منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 على مستخدمي النقل العام. يمثل هذا التحوّل محكاً متقدّماً لفحص أثر تحرير الأسواق على الاقتصاد والمجتمع السوري وفرصة لتشكيل تصوّر عن مستقبل الاقتصاد في ظلّ نظام السوق الحر الذي أعلن الحكام الجدد في دمشق تبينه.
يعيش غازي في شمال دمشق بينما يقع عمله ضمن مشغل للخياطة في منطقة حرستا شرق المدينة. يقول الشاب "أحتاج كل يوم لركوب سرفيس من الصالحية إلى كراج العباسيين، وآخر من الكراج إلى حرستا ذهاباً واياباً. سابقاً كنت أدفع ألف ليرة لكلّ سرفيس بمجموع أربعة آلاف في اليوم لكن بعد سقوط النظام رفعت كلّ خطوط السرافيس أجرتها فصرت أدفع أربعة آلاف حتى الكراج. حالياً أدفع 14 ألف للتنقلات كل يوم حتى باتت مصاريف المواصلات تأكل كتلة كبيرة من دخلي".
ولى زمن المازوت المدعوم
أوان التحوّل .. القطاع غير الحكومي السوري بُعيد سقوط نظام الأسد
30 كانون الثاني 2025
يعتمد قطاع النقل العام داخل المدن في سوريا بالدرجة الأولى على السرافيس، وهي حافلات صغيرة الحجم تتسع لما بين 10 حتى 14 راكباً، وتُعدّ بذلك أضعف أشكال النقل الجماعي إذ ينقل السرفيس الواحد ما بين 200 حتى 300 راكب في اليوم في مدينة يقدّر عدد سكانها بأكثر من أربعة ملايين نسمة. يملك محمود الأبرش (40 عاماً)، وهو ابن لخمسة أطفال يعيش في حي ركن الدين في دمشق أحد تلك السرافيس وهو مصدر الرزق الوحيد لهم. يقول الأبرش "كانت حكومة النظام السابق توفّر كميات محدودة من وقود الديزل بأسعار مدعومة لنا، كلّ سرفيس كان يحصل على 30 ليتر من المازوت يومياً بسعر مدعوم بلغ في السنوات الأخيرة ألفي ليرة لليتر، بالمقابل كانت وزارة النقل تلزم أصحاب السرافيس بتعرفة الألف ليرة للراكب".
لم تكفي الكمية المذكورة لتشغيل السرفيس ليوم عامل كامل، والذي يبلغ وسطياً 16 ساعة في دمشق، فكان كثير من السائقين يضطرون لشراء المازوت بالسعر الحرّ. لكن تلك لم تكن المشكلة الأكبر حسب ما يقول الأبرش "في حين كنا نشتري الديزل بألفي ليرة كان سعره الحر في السوق يتراوح ما بين 15 حتى 20 ألفاً، بالتالي كان الربح الذي يحقّقه أصحاب السرافيس من بيع مخصّصاتهم من الديزل في السوق السوداء أكبر من الربح الذي يمكن أن يحقّقوه في حال استخدموا الوقود لتشغيل مركباتهم. وبالنتيجة انخفض عدد السرافيس التي تعمل على خطوط النقل بشكل كبير وتكدّست الناس في الشوارع بانتظارها... لاحقاً في عام 2022 فرضت وزارة النقل علينا تركيب أجهزة GPS في سياراتنا وعلى نفقتنا لتتمكن من مراقبة حركة السرافيس وتحرم من لا يعمل على خطّه من الديزل المدعوم، لكن تلك الإجراءات أدّت لفتح أبواب جديد للفساد مثل تركيب أجهزة تعطل النظام أو تركيب أكثر من جهاز في سيارة واحدة".
محمد غازي ساخراً "سابقاً كان السوريون يتبارون من يدفع الأجرة عن الآخر في حال اجتمع شخصان يعرفان بعضهما في السرفيس، لكن هذه الأيام إن رأيت صديقك المقرب يصعد السرفيس الذي أنت فيه، غالباً ستدّعي أنك لم تره".
عقب سقوط النظام ألغت حكومة تسيير الأعمال نظام الوقود المدعوم وحرّرت سوق المحروقات ليصبح الديزل متوفّراً بأسعار بدأت بـ 18 ألف في الأسابيع الأولى ثم انخفضت لاحقاً إلى حوالي 10.5 ألف. بالمقابل، ارتفعت التعرفة للراكب من ألف إلى ما بين ثلاثة حتى خمسة آلاف ليرة باختلاف مسافات خطوط النقل. هذا الارتفاع جعل استخدام وسائط النقل العام رفاهية يعجز الكثير من المواطنين عن تحمّلها كما هو الحال بالنسبة لنسرين بغدادي (44 عاماً)، وهي موظّفة ضمن مؤسّسة حكومية وتعيش في الزبداني، إحدى ضواحي دمشق الغربية. تقول السيّدة التي لا يتجاوز مرتبها الشهري 400 ألف ليرة "أنا واقعة بين نارين، إن تغيّبت عن الوظيفة قد أفصل من عملي، أما إن ذهبت لخمسة أيام في الأسبوع فسأدفع نصف مرتبي للمواصلات".
وفي وصف ثقل التعرفة الجديدة على الناس يضيف محمد غازي ساخراً "سابقاً كان السوريون يتبارون من يدفع الأجرة عن الآخر في حال اجتمع شخصان يعرفان بعضهما في السرفيس، لكن هذه الأيام إن رأيت صديقك المقرب يصعد السرفيس الذي أنت فيه، غالباً ستدّعي أنك لم تره" وينهي تعليقه ضاحكاً. بالمقابل، أدّى ارتفاع الأجرة إلى انخفاض أعداد الركاب وبذلك اختفت مشاهد تدافع الناس اليومي سعياً للحصول على مكان داخل السرفيس وهو ما أدى متحدثانا ارتياحاً تجاهه.
تفاعل المجتمع، السوق والدولة
قوى الأمر الواقع في سوريا: ثلاثة نماذج لإدارة الاقتصاد تصبّ في نظامٍ واحد
17 آذار 2025
يقول الأبرش صاحب السرفيس "طوال السنوات الماضية كانت أسعار المحروقات ترتفع وفي كلّ مرّة كنّا نعتمد معادلة أنّ تعرفة الراكب تساوي ثمن نصف ليتر ديزل، ومع كلّ ارتفاع للديزل كنا نحن في الواجهة أمام الناس فيتهمونا بالجشع والاستغلال... لو استطاع باب السرفيس التحدّث لقال لك كم مرة صُفِق بعنف من راكب قرّر تفريغ جام غضبه في الباب المسكين". بلغ عدد السرافيس قبل الثورة 19.5 ألف سرفيس في دمشق وريفها حسب دراسة لمجلة النقل عام 2011. كلّ سرفيس يتناوب عليه سائقان، أي أنه يشكل مصدر زرق لعائلتين وبمجموع قد يصل إلى مئتي ألف نسمة. "سائقوا السرافيس باتو مكروهين في المجتمع" يقول الأبرش ويتابع "نحن نتحمل الازدحام والبسطات العشوائية التي تأكل من مساحات الطرق الضيّقة أصلاً في معظم أحياء دمشق، نتكبّد تكاليف إصلاح كبيرة للآليات كلّ عام بسبب حالة الطرق… نحن أيضاً دراويش لدينا عائلات نعيلها ومن الظلم أن نتحمّل المسؤولية عن إخفاق الدولة القديمة".
بالمقابل تعبّر نسرين عن عدم اقتناعها بتبريرات السائقين بالقول إنّ "أصحاب السرافيس باتوا يربحون أكثر اليوم مما كان عليه الحال زمن الديزل المدعوم، لقد تضاعفت غلتهم أربعة أضعاف، وحتى لو دفعوا نصفها للوقود فالمبلغ المتبقي "الربح" مازال أكبر من كلّ الغلة التي كانوا يحقّقونها في السابق".
ويشرح طالاس "نجاح آليات السوق له شروط أولها وجود نظام سياسي شامل Inclusive يحقّق أكبر قدر من مشاركة المجتمع ويحفظ حقوق الملكية المادية والفكرية، فلا حرية للسوق في ظلّ نظام استبدادي، كما يتطلّب الأمر وجود جهازي بيروقراطي مُحترف، وأخيراُ يتطلّب إنشاء نظام حماية اجتماعية للفئات الأكثر ضعفاً... ما لم تتحقق هذه الشروط لن ينجح نظام السوق في تحريك عجلة الاقتصاد السوري المهشم".
من منظور السلطة، يقول وزير النقل في حكومة تسيير الأعمال بهاء الدين الشرم إنّ المشكلة ليست في ارتفاع التعرفة بل في انخفاض الدخل، في مقابلة خاصة مع قناة تلفزيونية قال الوزير "قطاع نقل مهترئ ونحتاج سنوات لإصلاحه لكننا ضمن خطة طوارئ تمكننا خلال الشهر الأول بعد التحرير من تأمين المحروقات وإعادة تشغيل غالبية خطوط النقل الداخلي... حدثت بعض الفوضى في التسعير لكننها استدركناها بتشكيل لجان فنية تضع تعرفة جديدة لكلّ خطوط النقل بعد دراسة المسافة، الوعورة ومعدل اهتلاك الآليات بحيث لا يُظلم الراكب ولا السائق".
يضيف الوزير "آليات النقل الداخلي الموجود قديمة جداً تعود سنوات صنعها إلى الثمانينات والتسعينات ولم يعد من المجدي اقتصادياً تشغيلها، لذلك فتحنا باب استيراد المركبات المستعملة شرط ألا يتجاوز عمرها 15 عاماً". هذه التوجّهات أثّرت على سوق المركبات حيث انخفضت أسعار السرافيس إلى الثلث تقريباً مما يعكس تغيّرات أعمق في الديناميات الاقتصادية في القطاع. لتتضح الصورة بشكل أوضح لنطبّقها على حالة متحدّثنا محمود الذي انخفضت قيمة سرفيسه السوقية من 300 مليون ليرة إلى 100 مليون بعد سقوط النظام، بالمقابل ارتفعت غلّته اليومية من 300 ألف ليرة إلى حوالي 800 ألف. في النتيجة، إنّ قيمة السرفيس التي كانت تساوي تقريباً غلة ألف يوم عمل، باتت حالياً تعادل حوالي 125 يوم عمل. وهذا تغيّر كبير في عائدية رأس المال. صحيح أن محمود خسر من قيمه رأسماله المستثمر في السرفيس، لكنه بات اليوم يمتلك قدرة أكبر على الاستثمار. تشي هذه المقارنة بعمق وسعة التحوّل الاقتصادي الذي تمرّ به سوريا في المرحلة الحالية.
نجاح السياسة شرط لنجاح الاقتصاد
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ
08 نيسان 2025
من نافذة مكتبه في مدينة بون الألمانية يطلّ الاقتصادي والأكاديمي السوري مسلم طالاس، الباحث في المعهد الألماني لدراسة التنمية والاستدامة IDOS على أبنية فخمة وشوارع نظيفة تمرّ فيها واحدة من أعقد شبكات النقل الداخلي التي تضمّ قطارات بأحجام وسرعات مختلفة وحافلات لامعة ومكيّفة لا ازدحام فيها. يعلّق الرجل "أنظر ماذا يمكن أن يفعل تحرير الاقتصاد من قبضة الدولة، إنّها خطوة صحيحة من حيث المبدأ إذ يقضي على الفساد وعلى الاحتكارات ويفتح الباب للمنافسة بين المنتجين مما يخدم مصلحة المستهلكين من حيث السعر والجودة". لكنه يعبّر عن مخاوفه أيضاً أن يقودنا هذا التحوّل إلى "رأسمالية المحسوبيات" حيث تمسك طبقة جديدة من رجال الأعمال مفاصل الاقتصاد ويحرم آخرون من المشاركة، ويشرح طالاس "نجاح آليات السوق له شروط أولها وجود نظام سياسي شامل Inclusive يحقّق أكبر قدر من مشاركة المجتمع ويحفظ حقوق الملكية المادية والفكرية، فلا حرية للسوق في ظلّ نظام استبدادي، كما يتطلّب الأمر وجود جهازي بيروقراطي مُحترف، وأخيراُ يتطلّب إنشاء نظام حماية اجتماعية للفئات الأكثر ضعفاً... ما لم تتحقق هذه الشروط لن ينجح نظام السوق في تحريك عجلة الاقتصاد السوري المهشم". هنا يلتقي الاقتصادي بالسياسي ويصبح نجاح العملية السياسية شرطاً ضرورياً للتعافي الاقتصادي.
خروج الدولة من السوق لا يجب أن يكون انسحاباً كاملاً يترك الفقراء لتوحّش السوق، بل يجب عليها أن تفهم وتتقن إدارة التوازنات الاقتصادية والمعيشية بين الأجور والأسعار، وكذلك بين النمو والعدالة الاجتماعية.
في المدى المنظور، على السوريين أن يتوقّعوا مزيداً من ارتفاع أسعار السلع والخدمات بالتزامن مع ازدياد وفرتها وبجودة أعلى نسبياً. ستصبح الكهرباء متوفّرة كما هو الحال في إدلب مثلاً لكن سيدفع المواطن أضعاف ما اعتاد دفعه قديماً. يعلّق محمود "ما كان يفعله النظام السابق بشكل تدريجي نفذته الحكومة الجديدة في خبطة واحدة" ويتساءل الرجل "هل انتهت كل برامج الدعم الحكومي؟ معظم الناس التي أعماها الفقر المدقع لا تستوعب ما يحدث وتنتظر النجدة من الدولة الجديدة". خروج الدولة من السوق لا يجب أن يكون انسحاباً كاملاً يترك الفقراء لتوحّش السوق، بل يجب عليها أن تفهم وتتقن إدارة التوازنات الاقتصادية والمعيشية بين الأجور والأسعار، وكذلك بين النمو والعدالة الاجتماعية.