بعد الثامن من كانون الأوّل/ديسمبر ٢٠٢٤، سُمِح لوسائل الإعلام الدوليّة والمستقلّة السوريّة بأن تعمل داخل البلاد للمرّة الأولى. وقد جاء هذا الانفتاح الظاهريّ بعد أن نصّب أحمد الشرع نفسه رئيساً للفترة الانتقاليّة، وأعلن عن دستورٍ مؤقّت في الثالث عشر من آذار/مارس ٢٠٢٥. للوهلة الأولى، قد تُفهم هذه التطوّرات على أنّها انطلاقةٌ نحو كسر قبضة الحكم السلطويّ. لكن واقع الحال بالنسبة إلى الصحفيّين السوريّين يبقى أعقد بكثير.
على سبيل المثال، خُذ ما جرى بعد المجازر في الساحل في مارس/آذار ٢٠٢٥؛ حيثُ مُنع الصحفيّون السوريّون والدوليّون من دخول المنطقة. أمّا الذين تجاوزوا الإجراءات الرسميّة ودخلوا من دون تصريح، فقد اعتُقلوا وأُجبروا على حذف موادهم المصوّرة على يد عناصر الأمن العام التابعين لوزارة الإعلام في الحكومة المؤقّتة. تصاعُد حالات الاعتقال والمضايقة بحقّ الصحفيين أمرٌ يبعث على القلق. قال لي أحد الصحفيّين المستقلّين، الذي كان قد قضى أربعة أيّامٍ يوثّق ما حدث في اللاذقية أواخر أذار/ مارس، إنّه اعتُقل واحتُجز لخمس ساعات، ولم يُفرَج عنه إلّا بعد أن إجباره على حذف تسجيلاته. "لا يُمكننا بناء وطنٍ بهذه الطريقة"، هذا ما قاله للمسؤولين آنذاك.
وبالمثل، تقول الصحفيّة نور حدّاد في منشور على إنستغرام في الأول من نيسان/إبريل: "لا يُمكننا بناء دولةٍ من دون إعلام". وفي مخاطبةٍ مباشرة للرئيس المؤقت أحمد الشرع، تُتابع: "كلّ ما نُريده هو الحقيقة، أيّاً كانت. هنا تقع مسؤوليتك، لا أن تُقرّر مَن يدخل ومن لا". ثمّ تُضيف: "لا يُمكنك أن تضع حواجز أمام حريّة التعبير أو الوصول إلى المعلومات. عليك أن تفي بالتزامك بقول الحقيقة لكي تبني دولتك".
كما عبّر صحفيّون آخرون، إلى جانب نشطاء، عن استيائهم من عجز الحكومة عن التواصل المباشر مع الشعب السوريّ، أو عن تقديم بياناتٍ رسميّةٍ وموثوقة على الأقل. ورغم أنّ أعمال العنف قد انخفضت بعد أسبوعٍ من السادس من آذار/مارس، لا تزال الهجمات على المجتمعات العلويّة مستمرّة، حيث قُتل بحسب التقارير ما لا يقلّ عن 12 شخصاً في ريف حمص وطرطوس يومي 30 و31 آ آذار/مارس.
السوريّون يُطالبون بالحقيقة والمساءلة والوصول إلى المعلومات في مختلف أنحاء البلاد.
إجراءاتٌ قمعيّة بحلّةٍ جديدة
في بداية شباط/فبراير، اتخذتْ الحكومة المؤقّتة خطواتٍ إضافيّة لتعزيز سيطرتها.
سوريا... العودة ممكنة
في السادس من شباط/فبراير، أصدر رئيس الوزراء المؤقّت محمد البشير قراراً بحلّ المؤتمر العام لنقابة الصحفيّين، ليحلّ مكانه مجلسٌ مؤقّت اختارته الحكومة من شخصيّات موالية. وبعد ذلك، حظرت وزارة الإعلام على وسائل الإعلام نشر أيّة تصريحاتٍ من شخصيّاتٍ كانت في النظام السابق، مبرّرةً ذلك بالحاجة إلى "المصلحة العامّة والوحدة".
أدان الاتحاد الدوليّ للصحفييّن (IFJ) هذه الخطوة في رسالته إلى الشرع والبشير في الحادي عشر من شباط/فبراير 2025، التي جاء فيها: "بتفعيل هذا القانون القديم، أنتم تُرسلون رسالةً خطيرة إلى العالم مفادها أنّ حكومتكم على استعداد لاستخدام مجموعةٍ من القوانين السيّئة التي اعتمدها النظام السابق، والتي كانت تهدف إلى تقييد حريّة التعبير والصحافة المستقلّة في سوريا".
دستورٌ مؤقتٌ إشكاليّ
يكمن جوهر ادّعاءات الحكومة المؤقتة بالشرعيّة في الدستور المؤقّت الجديد، الذي تمّ تقديمه في منتصف شهر آذار/ مارس. تنصّ المادّة 13 على أنّ "الدولة تضمن حريّة الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة".
إلّا أنّ الخبراء القانونيّين والنشطاء والصحفيّين سارعوا بالإشارة إلىّ أن هذا الدستور لا يتضمّن نصوصاً أو إجراءاتٍ يُمكن أن تضمن تنفيذ هذه الوعود بشكل فعّال. على سبيل المثال، لا يوجد حقٌّ قانونيّ واضح للوصول إلى المعلومات، ولا آليّاتٌ مؤسسيّة لحماية نزاهة الصحافة، كما لا توجد عواقب قانونيّةٌ للرقابة أو القمع.
يبدو أنّ الإطار الدستوريّ يستخدم الأدوات القانونيّة التي كان يستخدمها نظام الأسد لفترة طويلة، ممّا يُثير تساؤلاتٍ ملحّة حول ما إذا كان هذا التحوّل حقيقيّاً أم مُجرّد إعادة تسميةٍ للهياكل الاستبداديّة.
بدلاً من ذلك، تُقدّم المادّة 23 بعض الغموض المعتاد: الحقّ في تقييد التعبير باسم "النظام العام" و"الوحدة الوطنيّة" و"الآداب العامّة". قد تمنح هذه المصطلحات الفضفاضة السلطة التنفيذيّة صلاحيّاتٍ واسعة للحدّ من حريّة التعبير. وقد عبّرتْ إحدى الخبيرات القانونيّات السوريّات المقيمة في برلين عن هذا الغموض بشكلٍ دقيق، إذ أشارتْ إلى أنّ الدستور يُعاني من "نواقص كبيرة في تبنّي مبادئ الديمقراطيّة".
في النهاية، يبدو أنّ الإطار الدستوريّ يستخدم الأدوات القانونيّة التي كان يستخدمها نظام الأسد لفترة طويلة، ممّا يُثير تساؤلاتٍ ملحّة حول ما إذا كان هذا التحوّل حقيقيّاً أم مُجرّد إعادة تسميةٍ للهياكل الاستبداديّة.
الإعلام في حالة خراب: من احتكار الدولة إلى سيطرة مجزّأة
إلى جانب الغموض القانونيّ، تُعاني البنية التحتيّة لقطّاع الإعلام في سوريا من انهيارٍ على المستويّين الماديّ والمؤسّسيّ. من المقرّر أن تبدأ قناة الإخباريّة السوريّة، التابعة للدولة، بثّها في الخامس من أيار/مايو 2025.
أمّا الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون (ORTAS)، فلا تزال مغلقةً منذ تعيين علاء برسيلو مديراً لها، وهو إعلاميٌّ معروفٌ بعلاقاته مع هيئة تحرير الشام (HTS). ويرى بعض النشطاء أنّ هذا التعيين يأتي ضمن محاولةٍ أوسع لـ"أسلمة" الإعلام الرسميّ تحت تأثير الهيئة.
ومع توقّف القنوات الرسميّة عن العمل، لجأت الحكومة المؤقّتة إلى منصّة تلغرام كوسيلةٍ رئيسيّة للتواصل. وقد تجاوز عدد متابعي حساب المؤسّسة العسكريّة 300 ألف مشترك، بينما بلغ عدد متابعي الحساب الرئاسيّ 226 ألفاً. ما تزال وكالة الأنباء السوريّة (سانا) تواصل عملها، بمشاركة موظّفين قُدامى وآخرين جدد، غير أنّ المحتوى الذي تُقدّمه يُثير القلق من استمرار الأساليب القديمة. ففي 17 آذار/مارس، وبعد أيّامٍ قليلةٍ من مجازر الساحل، نشرت الوكالة تقريراً مصوّراً يُظهر اللاذقية وهي "تعود إلى طبيعتها"، في محاولة تُحاكي أساليب النظام السابق في سعيه للشرعيّة السياسيّة.
صحفيو شمال غرب سوريا، من ناقلين للحدث إلى موضوع له
23 حزيران 2021
في المقابل، تبث قناة تلفزيون سوريا، التي تبدو متماشيةً إلى حدّ كبير مع خطاب الحكومة المؤقّتة، عبر قناة سما، وهي القناة الشقيقة لقناة الدنيا التي أُغلقتْ سابقاً، وكانت مملوكةً لرجل الأعمال المقرّب من النظام، محمد حمشو.
عند إضافة المنصّات والأشخاص المحسوبين على هيئة تحرير الشام، مثل الصحفيّ المعروف جميل الحسن من إدلب، إلى جانب وسائل الإعلام المدعومة من الخليج مثل تلفزيون سوريا والعربيّ والجزيرة والعربيّة، يبدو أنّ المشهد الإعلاميّ الحاليّ مُهدّدٌ بأن تُهيمن عليه أصواتٌ قريبةٌ إلى حدٍّ كبير من الإدارة الجديدة.
وقد بلغت هذه التطوّرات المقلقة ذروتها مع إعلان تشكيل الحكومة الانتقاليّة الجديدة في 30 آذار/مارس. ومن أبرز ما أثار الجدل في هذا السياق هو قرار الحكومة الإبقاء على وزارة الإعلام، وهو قرارٌ أثار تساؤلاتٍ بشأن الغاية من استمرار الوزارة ودورها في فرض القيود وممارسة الرقابة، إلى جانب القلق من تنامي تأثير قطر في عملية بناء الدولة في سوريا. دفع هذا الجدل الحكومة إلى إصدار توضيحاتٍ حول أسباب الحاجة إلى الوزارة، مؤكّدةً أنّها جزء من استراتيجيّةٍ إعلاميّةٍ وطنيّة لبناء الدولة، وفق ما صرّح به وزير الإعلام في خطابه أواخر آذار. وقد شمل ذلك أيضاً توضيح موقف الدولة من تنظيم النشر والمطبوعات.
يُضاف إلى هذه المخاوف تعيين حمزة المصطفى، الموظّف السابق في قناة تلفزيون سوريا، وزيراً للإعلام في الحكومة الجديدة. يُعرف المصطفى بعلاقاته الوثيقة مع الشخصيّة الإعلاميّة البارزة عزمي بشارة، الذي تربطه علاقةٌ وثيقة مع العائلة الحاكمة في قطر. ومن الصعب تجاهل الاعتقاد بأنّ هذا التعيين سيُعزّز من نفوذ قطر في المشهد الإعلاميّ السوريّ، الأمر الذي يُثير تساؤلاتٍ جوهريّة حول ما إذا كان هذا التأثير الخارجيّ يخدم المصلحة العامّة لسوريا على المدى الطويل.
مثالٌ آخر على هذه التوجّهات: تعيين محمد صالح وزيراً للثقافة، وهو الذي عمل في قناة الجزيرة منذ عام 2012، حيث قدّم برامج متخصّصةً في الشعر والثقافة.
انهيارٌ اقتصاديّ يطوّق الإعلام
لا يُمكن فصل أزمة الإعلام في سوريا عن الانهيار الاقتصاديّ الأوسع الذي تعيشه البلاد. إذ يعيش أكثر من 90٪ من السكّان اليوم تحت خطّ الفقر في ظلّ تدهور الرواتب الحكوميّة، وارتفاع أسعار السلع الأساسيّة إلى حدٍّ يفوق القدرة الشرائية، وتفكّك البنية التحتيّة العامّة. وقد دفع تراكم سنوات الحرب، والفساد والعقوبات الدوليّة والغارات الجويّة الإسرائيليّة المتكرّرة، البلاد إلى حافة الانهيار التام.
ومن أبرز ما أثار الجدل في هذا السياق هو قرار الحكومة الإبقاء على وزارة الإعلام، وهو قرارٌ أثار تساؤلاتٍ بشأن الغاية من استمرار الوزارة ودورها في فرض القيود وممارسة الرقابة.
وفي ظلّ هذا اليأس، تعالت الدعوات لرفع العقوبات، خصوصاً تلك المفروضة على النظام السابق، التي ما تزال ساريةً حتّى الآن. ففي الثاني من نيسان/أبريل ٢٠٢٥، قدّم الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب مجموعة شروطٍ لتخفيفٍ جزئيٍّ للعقوبات، تضمّنت إلزام الحكومة المؤقّتة بمنع الأجانب من شغل مناصب قياديّة، والتعاون الكامل في جهود الكشف عن مصير الصحفيّ الأميركيّ المفقود أوستن تايس. ورغم وصف بعض المنتقدين لهذه الشروط بأنّها ذات دوافع سياسيّة، فإنّها تُضيف ضغوطاً جديدة على المشهد الدبلوماسيّ الهشّ في سوريا وتزيد من تعقيد مساعي الحكومة لنيل الاعتراف الدوليّ وكسر عزلتها الاقتصاديّة.
وبدوره، تعهّد الاتحاد الأوروبيّ بتقديم ما يُقارب 2.5 مليار يورو كمساعدات لسوريا خلال عاميّ 2025 و2026. إلّا أّنّ الجزء الأكبر من هذا التمويل مُخصّصٌ للمساعدات الإنسانيّة، ودعم اللاجئين السوريّين في الدول المجاورة، والاستقرار الإقليميّ، بينما لا يُخصَّص سوى قدرٍ محدودٍ منه لإصلاح المؤسّسات على المدى الطويل، أو دعم حريّة الصحافة أو إعادة بناء البنية التحتيّة للقطّاع العام.
الصحافة في روجافا (1)
29 آذار 2019
الشتات السوريّ كمصدرٍ معرفيّ
عمل صحفيّون سوريّون في الشتات على بناء بنيةٍ تحتيّة لصحافةٍ حرّة لعبت دوراً محوريّاً في التحقّق من المعلومات وتوثيق الأحداث والدفاع عن صحافةٍ تستند إلى الحقوق.
على سبيل المثال، تعاونت منظّمات مثل الأرشيف السوريّ مع محاكم أوروبيّة لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب ودعم مسارات العدالة الانتقاليّة، معتمدةً على المواد الإعلاميّة كأدلّة على العنف البنيويّ، إلى جانب شهادات سجناء سابقين. ومن دون شكّ، تُعد هذه الشبكات في الشتات مصدراً غنيّاً غير مُستغَّلٍ جيّداً في مجالات التحقيق الصحفيّ والمساءلة القانونيّة والنزاهة المهنيّة.
ومع ذلك، يبقى هذا المخزون المعرفيّ خارج حسابات السلطات السوريّة. فالحكومة المؤقّتة، على سبيل المثال، لا تزال تعتمد على نهجٍ هرميٍّ في اتخاذ القرار. أمّا التمويل الموجّه للإعلام المستقلّ، فكان في تراجعٍ مطّرد حتّى قبل سقوط النظام. وقد أدّى إغلاق العديد من المبادرات المموّلة من الوكالة الأميركيّة للتنميّة الدوليّة (USAID)، وتحوّل تركيز الاتحاد الأوروبيّ نحو المساعدات الإنسانيّة، إلى جعل الوضع الحاليّ أكثر تعقيداً وصعوبة.
فضاءٌ عامٌ هشّ ونافذةٌ تضيق
على الرغم من الوضع الصعب، هناك تحوّلاتٌ تدريجيّة. بدأ السوريّون يعودون للتعبير عن آرائهم والانتقاد علناً. ففي الذكرى الرابعة عشرة للثورة، ردّد المتظاهرون في مختلف المناطق شعارات تدعو إلى الوحدة، مثل: "واحد، واحد، واحد، الشعب السوريّ واحد" و"نرفض التقسيم وخطاب الكراهية؛ جميع السوريّين إخوة".
وإذا كانت الحكومة المؤقّتة تطمح فعلاً إلى قيادة سوريا نحو مستقبلٍ ديمقراطيّ، فإنّها بحاجةٍ إلى أكثر من مجرّد إعلان حريّة الصحافة. يجب أن تُضمن هذه الحريّة من خلال قوانين قابلةٍ للتنفيذ، وحمايةٍ مؤسّسيّة، وإرادةٍ سياسيّة حقيقيّة.
تُعبّر هذه الأصوات عن رغبة في بناء مساحةٍ مدنيّةٍ مشتركة، لكنّها في الوقت نفسه لا تزال هشّة للغاية. فلا يزال الدستور الحالي مُصمّماً بشكل يُقصي بعض الفئات: يجب أن يكون الرئيس مسلماً، وتظلّ الشريعة الإسلاميّة المصدر الرئيسيّ للتشريع. بينما تبقى الإشارات الرمزيّة نحو الشموليّة، مثل صياغة الدستور أو تعيين وزيرةٍ واحدة، من دون تأثير حقيقيّ أو تغييراتٍ ملموسة. وإذا كانت الحكومة المؤقّتة تطمح فعلاً إلى قيادة سوريا نحو مستقبلٍ ديمقراطيّ، فإنّها بحاجةٍ إلى أكثر من مجرّد إعلان حريّة الصحافة. يجب أن تُضمن هذه الحريّة من خلال قوانين قابلةٍ للتنفيذ، وحمايةٍ مؤسّسيّة، وإرادةٍ سياسيّة حقيقيّة.
وهذا يعني رفع الرقابة وضمان الوصول إلى المعلومات وحماية الصحفيّين ودمج المساءلة في هيكل الدولة ذاته.