الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!


"لو بقينا هنا، سنكون إما جثثاً في أخبار عاجلة، أو أطباء بلا دوامٍ أو أدوية"، هذا ما يقوله الطالب في كليه الطب من مدينة بانياس، أحمد زاهر، في هذا التحقيق الذي يسلّط الضوء على تزايد أعداد الساعين إلى الهجرة في الساحل السوري، من دون أن تكون المجازر الأخيرة السبب الوحيد، بل تضاف إليها أسباب أخرى اقتصادية اجتماعية في ساحلٍ لم يعد يتعرّف على هويته.

22 أيار 2025

كمال شاهين

صحفي وكاتب سوري

(الساحل السوري). "كل ليلة، أضع رأسي على الوسادة وأسأل نفسي: هل أموت غداً برصاصٍ عشوائي، أم أخاطر بركوب البحر لأموت غرقاً؟". يقول ياسر زاهر (25 عاماً) الذي فقد ثلاثة أصدقاء في مجازر في منطقة بارمايا في ريف بانياس.

السؤال نفسه، يطرحه بصيغةٍ أخرى خرّيجُ كلية الهندسة الميكانيكية في جامعة تشرين تمام (24 عاماً)، قائلًا لحكاية ما انحكت: "بعد كل ما حدث، لم يعد السؤال هل نغادر؟ بل متى نغادر؟". يقول ذلك وهو يبحث ضمن مجموعةٍ على تيليغرام، اتفق مع مجموعةٍ من أصدقائه على وضع كلّ أخبار الهجرة فيها. المفارقة أنّ تمام ينتمي إلى جيل كان يُفترض أن يحتفل بـ"سقوط النظام"، لكنه اليوم يجد نفسه، وفي ظلّ أجواء مشحونةٍ بالخوف وعدم الاستقرار والإشاعات اليومية، أمام سؤال: لماذا تتفاقم أحلام الهجرة في الساحل رغم زوال نظام الأسد؟

وكما حدث قبل أربعة عشر عاماً عندما ملأ سوريون آخرون القوارب والمخيّمات والسفارات بحثاً عن فرص للنجاة، فإنّ هناك اليوم من ينتظر دوره في قوارب ومخيّماتٍ جديدة. من بين هؤلاء آلافٌ من سكان الساحل السوري لا يفكرون اليوم سوى في الهجرة للنجاة بأرواحهم وسط مستقبلٍ مظلم بدل انتظار موتٍ مجاني. هذه المرّة تبدو ضرورة الهجرة أمراً وجودياً تُغذيه الدوافع الاقتصادية والاجتماعية أيضا، لأنه "لو بقينا هنا، سنكون إما جثثاً في أخبار عاجلة، أو أطباء بلا دوام أو أدوية"، كما يقول الطالب في كليه الطب من مدينة بانياس، أحمد زاهر، مستعيداً بعض صور زملائه من الطائفة العلوية في حي القصور: "قُتل ما لا يقل عن عشرين طبيباً في الأسبوع الأسود في بانياس ومعهم عشرات المعلمين والطلاب، واختفى عددٌ غير معروف منهم. ليس من المعقول أبداً أن تعجز السلطة الحالية عن ضبط الأمن والأمان، مطلب الناس الأساسي، بسبب انفلات عناصر منتمين إلى أجهزتها كما تدّعي. الأسوأ من هذا أنّ الأمر نفسه قد يتكرّر لأيّ سببٍ سياسيٍّ أو عسكري لا دخل لنا به". فيما يشرح الشاب، علي عيسى، من بلدة القرداحة وهو يعمل في قطاع التعليم كإداريّ قائلا: "هذه الأزمة الوجودية تدفع الكثيرين إلى البحث عن مكانٍ يمكنهم فيه إعادة تعريف هويتهم بعيداً عن سوريا التي لم تعد كما عرفوها، ولا كما حلموا بها".

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل (٦)

24 نيسان 2025
ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة...

وهكذا أدّى التصاعد المتكرّر للتوتّرات الأمنية، وتهديدات النزوح الداخلي التي شهدت تزايداً كبيراً بعد مجازر السادس من آذار/ مارس وما تلاها ضمن مناطق مختلفة من الساحل السوري من استمرار ممارسات القتل والخطف، إضافة إلى غياب الجهات الأمنية الضامنة لأبسط حقوق الناس في التنقّل والعمل، إلى إعادة حلمٍ قديمٍ مؤلمٍ إلى الواجهة: الهجرة والسفر والخروج من البلد بأيّة وسيلة، وهذه المرّة من الساحل السوري الذي لم يتوقف نزيف أبنائه حتى الساعة. وهو ما تؤكّده الوقائع، حيث "انتشلت سلطات الإنقاذ في قبرص جثث سبعة أشخاص، منتصف شهر مارس/آذار الماضي، كانوا يحاولون الوصول إلى الجزيرة، بعد أن انطلقوا على متن قارب من محافظة طرطوس يتوقع أنه كان يحمل على متنه 20 شخصاً" وفق تقرير نشرته القدس العربي. وليس بعيداً عن هذا الخبر، يتيح العبور أمام مبنى الهجرة والجوازات في اللاذقية أو طرطوس مشاهدة مئات الأفراد ممن ينتظرون دورهم للحصول على جواز سفر بتكلفةٍ ليست قليلة. هؤلاء المئات ليسوا أبناء طائفةٍ واحدة. إنهم سوريون يطرقون أبواب العالم من جديد بحثاً عن نجاةٍ يبدو احتمالها ضعيفاً هذه المرّة.

بعد سقوط النظام.. لا أمان، ومجازر، وانهيارٌ اقتصادي، وأفقٌ مجهول

اللاذقية، التي كانت تُعتبر آمنةً نسبياً، لم تعد كذلك. فمنذ مجازر الساحل في مطلع أذار/ مارس لم تتوقف الانتهاكات. في الأيام العشرة الأولى من شهر نيسان أبريل ٢٠٢٥، سقط ما لا يقل عن 26 شخصاً في سوريا وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.

في مقاهيها، التي كانت تعجّ بحديث الثورة والمستقبل، بات الحوار اليومي يدور حول كيفية مغادرة البلاد. يقول مشغّل أحد مقاهي منطقة الزراعة، قيس حاتم (أربعون عاماً): "المفارقة أنّ سقوط النظام، الذي كان يُفترض أن يُنهي أسباب الهجرة، زاد الطين بلّة. تحت أنقاض الحرب، برزت فجواتٌ جديدة تدفع الشباب إلى حزم حقائبهم: قلقٌ أمنيٌّ متجدّد مع كلّ تحركٍ لقوات الأمن أو الفصائل التي لا يضبطها شيء ولا قانون يردعها، يُضاف إليه قلقٌ يوميّ مع كلّ خبرٍ عن احتمال قصفٍ إسرائيليّ على مواقع عسكرية مثل موقع سقوبين الملاصق للّاذقية التي تضم عشرات آلاف السكان، وطائفيةٌ خفية ومعلنة تظهر في أبسط التفاعلات اليومية، واقتصادٌ منهار حوّل الشهادات الجامعية إلى مجرّد أوراق لا تساوي ثمن تأشيرة السفر".

يتيح العبور أمام مبنى الهجرة والجوازات في اللاذقية أو طرطوس مشاهدة مئات الأفراد ممن ينتظرون دورهم للحصول على جواز سفر بتكلفةٍ ليست قليلة. هؤلاء المئات ليسوا أبناء طائفةٍ واحدة. إنهم سوريون يطرقون أبواب العالم من جديد بحثاً عن نجاةٍ يبدو احتمالها ضعيفاً هذه المرّة.

"كنا نظن أنّ التغيير سيأتي بالحرية، لكنه جاء بفوضى لا نعرف كيف نتعايش معها"، يعترف مهندسٌ شاب في الخامسة والعشرين من عمره يعمل في مرفأ اللاذقية (طلب عدم ذكر اسمه) كان من أشدّ المؤيدين للثورة، التقيناه في المقهى نفسه: "في مؤسسات الدولة هناك كآبةٌ واضحة في المعاملات والتعاملات اليومية. وهناك تخبّطٌ إداري كبير. مؤسساتٌ تدار بعقلية النهب".

هذا التحوّل من "الهروب من النظام" إلى "الهروب من كل شيء" يفسّر لماذا صارت مقاهي الجامعات أشبه بوكالات سفرٍ غير رسمية، ولماذا تحوّلت أحاديث الأصدقاء من السياسة إلى مقارنة أسعار تأشيرات الدول.  يقول المهندس "تمام" من قرية الشلفاطية التي شهدت مجازر طائفية إنّ "الساحل الذي وقف أهله مع التغيير في سوريا يجد نفسه اليوم أمام معضلةٍ وجودية، البقاء يعني العيش على هامش التاريخ، والمغادرة تعني الاعتراف بأن كل التضحيات ذهبت سدى".

الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري

09 كانون الثاني 2025
في الساحل السوري، سحب البعض صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ الجدران تحت اسم "الشهيد في سبيل الوطن"، والذين باتوا اليوم إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد"...

"نحن لسنا على خط نارٍ مباشر، لكننا نعيش احتمال اشتعال النيران كلّ يوم". هذا ما تصفه الطالبة في كلية الطب سنة ثالثة، من مدينة بانياس لينا ابراهيم، مضيفةً: "على رغم أنّ الجامعات لم تتحوّل إلى ساحات قتال، إلا أنّ القصف الإسرائيلي المتكرّر على مواقع مثل المينة البيضا (شمال اللاذقية)، وتصاعد عمليات الاغتيال والاشتباكات في المناطق المحيطة (مثل جريمة دوار الأزهري وغيرها كل يوم)، أعادا تشكيل مفهوم (الأمان) في ذهن السوريين في الساحل السوري. الخوف من التصعيد المفاجئ صار كافياً لجعل فكرة الاستقرار مستحيلة".

حتى لو تجاوز الطالب مخاطر العنف والتمييز، فإنّ السؤال الأكبر: ماذا بعد التخرّج؟ "حصلتُ على شهادة الصيدلة قبل عامين، وأعمل اليوم في مستودع أدويةٍ براتب لا يتجاوز مئة دولار شهرياً"، يقول كريم مغيروني (25 عاماً) من مدينة اللاذقية. ويتابع كريم: "العنف الطائفي، الفوضى الأمنية، والانهيار الاقتصادي حوّلت (النصر) إلى كابوسٍ يومي. هذه العوامل لم تدفع الشباب إلى حزم حقائبهم فحسب، بل حولت الهجرة من (خيار) إلى (ضرورة جماعية)".

الهوية المفقودة... الساحل السوري غريبٌ عن أهله

في شوارع الساحل التي كانت تعجّ بحياة مختلفة قبل عدّة شهور، تسير خريجة الهندسة سارة فندي من جبلة (25 عاماً)، وهي لا تعمل الآن، تقبع في انتظار قرار تعيين في وظيفةٍ حكوميّة قد لا يأتي أبداً وإلى جوارها يمشي جيلٌ لا يحلم إلا في الهجرة. تقول سارة: "كل يوم يمرّ أشعر أن مدينتي تبتعد عني أكثر. الأماكن نفسها، لكن الروح تغيّرت".

هذا التحوّل في الهوية الجماعية للساحل السوري أصبح دافعاً خفيّاً يُضاف إلى أسباب الهجرة. يشرح الشاب علي عيسى من بلدة القرداحة، وهو يعمل في قطاع التعليم كإداريّ: "الشباب الذين عاشوا سنوات الحرب يحملون ذكرياتٍ عن ساحل مختلف، منفتحٍ على العالم وعلى السوريين ككل، ليس كما كان في عهد الأسد، وليس كما صار بعده. إنهم يعانون من اغترابٍ مضاعف، عن الماضي الذي لم يعودوا يريدونه، وعن الحاضر الذي لم يختاروه. نحن لسنا ضحايا نظام فقط، بل ضحايا تحوّلٍ لم نكن نتخيّله".

اليوم، هناك اكتشافٌ للهويات الطائفية لدى كثيرين من جيل الشباب. يقول "علي": "لا أعرف ما هي الحصيلة التي ينالها من يسألك على الطالعة والنازلة عن طائفتك؟ ماذا تقدّم له هذه المعلومة؟ إذا جنّ ربعك عقلك ما ينفعك لذلك إذا كان فيك تغادر، ضب شناتيك ولا تقصر".

تشير "نورا" (22 عاماً) ابنة جبلة، إلى أن: "كلّ طائفة تعيش ضمن حدود حاراتها، وما إن يحل الليل حتى نعود إلى بيوتنا ونغلق الأبواب والشبابيك خوفاً من المجهول. هذه الأزمة الوجودية، الأعمق من كلّ المشكلات المادية، قد تكون الدافع الأقوى الذي يدفع أقدام الشباب نحو المجهول، إذ أنه من المحتمل أن يسألك فصيلٌ مسلح عن طائفتك وترتبك في الإجابة، أو لا تريد الإجابة، فيكون مصيرك بضع طلقاتٍ في الرأس. هذا ما حدث في جبلة عدّة مرات بعد مجازر السادس من آذار".

"في الكلية، لم نكن نسأل بعضنا عن الطوائف"، تتذكر الطالبة في كلية الصيدلة من مدينة طرطوس رنا سليمان، وتتابع: "اليوم صار السؤال الأول الذي تواجهه عند التعارف هو السؤال الطائفيّ علناً أو خفيةً". هذا التحوّل المفاجئ في الأولويات الاجتماعية يضع الشباب أمام معضلةٍ وجودية: كيف يحافظون على هويتهم المدنيّة في ظل تصاعد الخطاب الطائفي؟ "كنت أعتقد أنني سوريّةٌ أولاً"، تقول رنا، "لكن الأحداث الأخيرة أجبرتني على إعادة النظر حتى في طريقة كلامي".

"الثورة كانت تعني الحرية، لكن (الحرية) التي جاءت بعد سقوط النظام صارت أكثر الأشياء التي نخاف منها"، تعترف رنا، وتتابع "ففي ظلّ انعدام القانون، صارت (الحرية) تعني حرية الميليشيات في التحرّك، وحرية الأقوى في فرض إرادته. هذه المفارقة تدفع الكثيرين إلى مفارقةٍ أخرى: الحنين إلى زمنٍ كان القمع فيه على الأقل منظّماً ومتوقعاً".

هذه الطبقات المتعدّدة من الاغتراب تخلق شعوراً جماعياً بالتشظي. "كأننا نعيش في مدينةٍ شبحية، كلّ شيء فيها يذكرنا بما كان ولم يعد"، تصف "نورا" (22 عاماً) ابنة جبلة من الطائفة السنيّة وهي تعمل في محلّ تجميل. هناك انقسامٌ واضح في العلاقات الجماعية. وتتابع: "كلّ طائفة تعيش ضمن حدود حاراتها، وما إن يحل الليل حتى نعود إلى بيوتنا ونغلق الأبواب والشبابيك خوفاً من المجهول. هذه الأزمة الوجودية، الأعمق من كلّ المشكلات المادية، قد تكون الدافع الأقوى الذي يدفع أقدام الشباب نحو المجهول، إذ أنه من المحتمل أن يسألك فصيلٌ مسلح عن طائفتك وترتبك في الإجابة، أو لا تريد الإجابة، فيكون مصيرك بضع طلقاتٍ في الرأس. هذا ما حدث في جبلة عدّة مرات بعد مجازر السادس من آذار".

بين أحلام الهجرة وإمكانية تطبيقها

تلعب تكلفة السفر والمكان المقصود دوراً كبيراً في حدّ كثيرين عن التفكير بالسفر. يقول المحامي علي غانم (في أواخر ثلاثينياته) من اللاذقية في حوارٍ معه إنّه جرّب التقديم على اللجوء الإنساني في البرازيل عبر موقعٍ الكتروني فاكتشف أنّ الشيء الوحيد المجانيّ هو الإقامة في البرازيل، في حين أن "تكلفة السفر والأوراق والإقامة الفندقية الحصرية جميعها عليه، وتبلغ في الحدّ الأدنى ثلاثة آلاف دولار تعادل راتب موظفٍ حكوميّ لمدة ستين شهراً، وهذا يعني الحاجة إلى بيع أصول مادية مثل البيوت والسيارات في حال توفرها ولكن سوق العقارات في أسوأ أحواله ومثله سوق السيارات التي تهاوت أسعارها كثيراً".

يرى علي أنّ قلّةً قليلة من الناس يمكنها أن تغامر بالسفر إلى بلدٍ بعيد كالبرازيل من دون وجود احتمال عقد عمل وهذا يصح على فردٍ واحد فما بالك بأسرة؟ ويضيف: "عموم أهل الساحل فقراء ليس لديهم شيءٌ من هذا المبلغ في ظلّ فصل آلاف الموظفين من أعمالهم واختفاء آلاف الأعمال. في واقع الأمر، مَن أراد السفر من الأغنياء فعل ذلك قبل وقتٍ طويلٍ من سقوط النظام، هذه الحسابات المادية تخلق طبقةً جديدةً من المهمّشين: أولئك الذين يريدون الهجرة لكنهم محبوسون في وطنٍ لم يعودوا يعترفون به".

هذه المعادلة القاسية تخلق فجوةً هائلة بين الرغبة في الهجرة والقدرة عليها. فبينما يزداد عدد الراغبين بالمغادرة يومياً، تتحوّل الهجرة إلى امتيازٍ طبقيّ. "الأسر التي تمتلك شبكة علاقاتٍ في الخارج، سواءٌ عبر مغتربين يرسلون الأموال أو معارف يسهلون الإجراءات، هي وحدها القادرة على عبور هذه الهوة. أما البقية، فيجدون أنفسهم محاصرين في دوامةٍ من الحلول المستحيلة" يقول علي متابعاً حديثه معنا.

البعض يحاول ركوب البحر من رأس البسيط إلى قبرص، رغم أنّ تكلفته تصل إلى ألفي دولار ومخاطره لا تُحصى. "أعرف عائلاتٍ باعت كل ما تملك لتمويل رحلةٍ واحدة لابنها، أما اللجوء إلى الهجرة الداخلية، أي إلى المدن السورية الأخرى فهو غير ممكن في الساحل السوري أساساً بسبب الحمولات الطائفية الكبيرة التي تتفجّر في البلد. في دمشق تعمل عائلاتٌ كثيرة من الساحل السوري على العودة إلى قراها ومدنها الساحلية حيث لا يتوفّر أيّ نوعٍ من الأعمال ولا الآمال. فعلياً، ومن دون أيّة مبالغة، في بعض القرى الساحلية، لم يبقَ سوى كبار السن والأطفال، وهؤلاء يشكلون لوحةً كئيبةً لمستقبل مجتمعٍ يفقد مقومات بقائه الأساسية يوماً بعد يوم" تقول منى حويجة، عاملة إغاثة من اللاذقية.

يقول علي: "عموم أهل الساحل فقراء ليس لديهم شيءٌ من هذا المبلغ في ظلّ فصل آلاف الموظفين من أعمالهم واختفاء آلاف الأعمال. في واقع الأمر، مَن أراد السفر من الأغنياء فعل ذلك قبل وقتٍ طويلٍ من سقوط النظام، هذه الحسابات المادية تخلق طبقةً جديدةً من المهمّشين: أولئك الذين يريدون الهجرة لكنهم محبوسون في وطنٍ لم يعودوا يعترفون به"

في المقابل، تظهر فئةٌ جديدة من "المحاصَرين"، أولئك الذين تمكنوا من جمع المال لكنهم عاجزون عن المغادرة بسبب تعقيدات الإجراءات أو نقص الوثائق أو مشاكل الفيزا. يقول طالبٌ في كلية الهندسة، كريم إبراهيم، من طرطوس: "تمتنع كثيرٌ من الدول اليوم عن منح السوريين فيزا نظامية للدخول بعد عشر سنوات من تدفق السوريين حول العالم. لقد حصلتُ على منحةٍ دراسية في الولايات المتحدة لكنني عالقٌ هنا منذ عامٍ تقريباً لأنّ الحكومة الأميركية لم تقرر حتى الآن منحي الفيزا".

الأكثر إيلاماً أن هذه العقبات لا تُوقِف تدفق الراغبين بالهجرة، بل تدفعهم إلى خياراتٍ أكثر خطورة. أحاديث محلية تتحدّث عن ظهور "سماسرة هجرة" يقدمون عروضاً ووعوداً كاذبة بطرق غير شرعية سبق للسوريين أن جرّبوها في العديد من سنواتهم. "يبيعون الناس أوهاماً، وينتهي الأمر ببعضهم في السجون أو في قاع البحر"، كما يقول كريم.

هكذا، في ظلّ غياب أيّة حلول مؤسساتيةٍ من النظام الجديد في سوريا أو حتى طرحها، وغياب أيّة برامج دعم دولية، يصبح الساحل السوري سجناً مفتوحاً لمعظم أهله. الأغنياء غادروا، والفقراء يحلمون بالخلاص، والطبقة الوسطى تتآكل يومياً بين ارتفاع التكاليف وغياب أي أمل. السؤال لم يعد: لماذا تهاجر؟، بل كيف تفعل ذلك إن كنت من المحظوظين القلائل الذين يستطيعون؟

مقالات متعلقة

"العودة إلى طرطوس لا تشبه العودة إلى سوريا"

14 نيسان 2025
"عدتُ إلى طرطوس والعودة إليها لا تشبه العودة إلى سوريا، هي عودةٌ إلى مكانٍ لم تهجّرك منه السلطة فقط، بل ولعبَ المجتمع دوره في نفيك". هذا ما يكتبه الموسيقيّ والباحث...
راتب شعبو: مجازر الساحل أحدثت صدعاً مبكّراً في أسس بناء دولةٍ وطنية بعد نظام الأسد

02 نيسان 2025
"الرصاص التي قتل عائلاتٍ آمنةٍ وعزلاء في بيوتها، هو رصاصٌ مؤجّل، موجّه إلى صدر كلّ سوري مهما اعتقد هذا السوري الصامت أو (المتشفّي) إنه بعيدٌ عن الرصاص" هذا ما يقوله...
عن سوريا التي زرتها بعد سبعةٍ وعشرين غياباً

07 نيسان 2025
"قبل شهرٍ من سقوط الطاغية، قالت لي أمي: سأرحل من دون أن أراك! وها أنا ذا، بعد سبعةٍ وعشرين عاماً، أقف أمام باب منزلي في القرية في طرطوس. على حائط...
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الأولى

08 نيسان 2025
أثارت موجاتُ المجازر في الساحل، التي استهدفت العلوييّن بشكلٍ خاص، ردّ فعلٍ قويّ من الناشطين/ات والجماعات، الذين وثّقوا الأحداث، وأعربوا عن تضامنهم وجمعوا الدعم المادي، ونددوا بالتضليل وانتهاكات حقوق الإنسان.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد