عَلِقت في ذاكرتي جملةٌ منذ أيام الدراسة الجامعية: "هناك شرطان لانتشار الشائعات هما: الأهمية والغموض".
قد يفسّر هذان الشرطان في الكثير من الأحيان أسباب انتشار شائعةٍ دون أخرى، لكنه لا يفسّر بالطبع نشوب حربٍ أهلية بسبب شائعة، مما يضعنا أمام معضلةٍ أخلاقية حين يصبح القتل سلوكاً عادياً وتفقد حياة البشر قيمتها.
بدأت الحكاية ظاهرياً حين انتشر تسجيلٌ مصوّر لأحد مشايخ الدروز يتضمّن شتائم للنبي محمد. لم تمض ساعاتٌ حتى بدأت حملات التحريض ضدّ أبناء الطائفة الدرزية باعتبارهم "كَفرة وخَونة". لقي التحريض اهتماماً خاصاً من طلاب جامعيين في حمص ودمشق حيث بدأوا بالتظاهر لإخراج رفاقهم الدروز من السكن الجامعي وطردهم خارج الجامعة، في الوقت الذي طالب فيه بعض المتظاهرين بإهدار دم هؤلاء. على الرغم من إعلان مدير أوقاف إدلب سابقاً، الشيخ أحمد رستم بأن الفيديو مزوّر، وخروج الشيخ المعني ليؤكّد بأنّ التسجيل مركّب والصوت ليس صوته، إلا أنّ حالةً من الفوضى الشديدة عمّت لتخلق سلسلةً من أعمال العنف في عدّة أماكن، أولها جرمانا ثم صحنايا والأشرفية تلتها السويداء وريفها. سقط العديد من الضحايا معظمهم من الشباب، وقُطعت الطرق المؤدية إلى تلك المدن واستُبيحت البيوت في عدّة مناطق على الطريق بين دمشق والسويداء. في الوقت نفسه كانت طائراتٌ إسرائيلية تحوم فوق عدّة مناطق سورية، وتقصف مواقع متفرّقة في دمشق وريفها وفي السويداء وريفها، مع صدور تصريحاتٍ إسرائيلية حول ضرورة حماية الدروز من التطهير الطائفي الذي يُمارس ضدّهم، مما أعطى للمتطرفين، الذين قادوا حملات التجييش، سبباً جديداً لهجمتهم يُضاف إلى الشتائم بحقّ النبي.
انطباعاتٌ أوليّة عن عودتي الخاطفة إلى سوريا/ السويداء
07 شباط 2025
هذا هو المشهد ظاهرياً: طائفةٌ تعتدي وطائفةٌ تدافع عن نفسها وعن رسولها، وقوّةٌ محتلة تستثمر الحكاية.
فماذا يمكننا القول عن جذر هذا المشهد؟
بداية؛ لا بدّ من توفّر عامل التاريخ في أرضية الشائعة، فإذا امتلك ناقل الشائعة تاريخاً وكاريزما، يصبح قادراً على التحريض والتعبئة وإثارة المشاعر، وهنا قلما يهتم جمهوره بمدى مطابقة الشائعة للحقائق، بل يقبلون بأيّة معلوماتٍ مزوّرة، ولا يراجعون دقتها مكتفين بتصديق ناقل المعلومة الذي يقدّم الشائعة كحقيقةٍ من حقائق التاريخ الذي يعرفه جيداً وهنا تلقى الشائعة قبولاً أعمى من الجماعة المُتماهية مع الناقل والمؤمنة به، فإذا كانت مناسبةً لثقافتها تنتقل لتصبح أعمالًا تنفيذية، فيتحوّل إقصاء الآخر المختلف إلى تكفيرٍ وتخوين، سرعان ما يتحولان إلى فعلٍ غايته إنهاء المشكلة عبر تصفية هذا الآخر، فتصبح الشائعة هنا - رغم وهميتها - أداة إبادةٍ حقيقية، حين تستخدم جماعةٌ أو طائفة الشائعات ضدّ أخرى ويترافق هذا مع عدم توافقٍ في الرؤى أو المصالح.
يتطوّر الأمر لدرجة تصنيف الآخر كشرّير لا يستحق الحياة لما يحمله من آثام، وهذا ما يمكن تفسيره بعرض واحدةٍ من آليات الدفاع النفسية (التقسيم أو الفصل)، والتي تتجلى في رؤية الأشخاص أو السلوكيات، إما خيّرة بالمطلق أو شريرة بالمطلق. تظهر هذه الآلية بوضوح خلال الصراعات، حين تنسب جماعةٌ ما الشر المطلق إلى أخرى في الوقت الذي ترى سلوكها نفسه خيّراً بالمطلق أيضاً. لا يعطي الفصل أو التقسيم فرصةً لرؤية الفروق بين الأفراد ضمن الجماعة. ومن جانبٍ آخر يتشكّل يقينٌ لدى الطائفة مطلِقة الشائعة نفسها بأنها صاحبة المظلومية، المضّطهَدة، صوت الحق وحامية الوطن، فبسبب قوّتها أو بسبب حسد الجماعات الأخرى لها تتعرّض للظلم بشكلٍ متكرّر، الأمر الذي يضفي على مقولةٍ قاتلة لوناً شاعرياً، وربما تكون عبارة "وهن عزيمة الأمة" التي كثيراً ما استخدمها نظام الأسد في توصيف أقوال أو أعمال معارضيه مثالاً على ذلك.
حين تتبنى طائفةٌ ما حالة الضحية يصبح خوفها من المجهول محرّكاً لتصديق الشائعات، ففي ذاكرتها الجمعية ظلمٌ وقع عليها بالفعل، ما يجعل من تصديق الشائعة الحالية وارداً، فلمَ لا يتكرّر الظلم؟
هنا يمكننا ربما تفسير الطائفية على أنها إسقاطٌ لكلّ ما تعيشه الجماعة من صراعاتٍ ومخاوف وتناقضات على جماعةٍ أخرى تعتبرها مهدّدةً للوجود، وبهذا الإسقاط تتحرّر الطائفة من معاركها الخاصة، لتشعر بتفوّقها وقدرتها على التحكّم بالأمور والحسم النهائي للمعضلات - كأن يرى الدروز مثلاً أنهم بيضة القبّان - وأنّ وجودهم في المعركة يرجّح الكفة نحو الغَلبة.
يساهم هذا الشعور بالتفوّق في منح طائفةٍ ما هويةً جمعية تتحّول إلى لا شعورٍ جمعي يحرّكها ويحكم سلوكها ككتلة. وهذا ما يتيح المجال لتشكّل الصور النمطية التي تَسِم جماعةً دون أخرى: فأبناء الطائفة الفلانية جبناء، أو أشاوس شجعان، أو منافقون.. وتخلق الصور النمطية بدورها بيئةً مساندة لنمو الشائعات فيمتلك الدروز - حسب ما تتناقله بعض الطوائف الأخرى - ذيولاً يخفونها بعناية تحت ملابسهم، والعلويون رؤوسًا مسطحة ليست كرؤوس باقي البشر، وترافق المسيحي هالةٌ من نور تضيء دربه خلال رحلاته التبشيرية.. وخلال الحروب الطائفيّة، تتماشى الشائعة في معظم الأحيان مع الصفة أو جملة الصفات المُلازمة لجماعةٍ ما وتعمل على تضخيمها، في الوقت الذي يتنامى فيه الخطر وتتسع جغرافيته.
ويرفض المنخرطون في الصراع الطائفي تصديق الحقائق، هم لا يرون إلا أنفسهم كحقيقةٍ مطلقة، ويقبلون أيّ خبرٍ يتوافق مع قناعاتهم الراسخة بخطر الآخر
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الثانية
29 نيسان 2025
في العودة إلى مثالنا الأساسي حول الفيديو المنسوب إلى شيخٍ درزي تتضافر سلسلةٌ من الشائعات المُتبادلة لتخلق انتشاراً يزداد حدةً واتساعاً حين يبدأ بتحريضٍ ضدّ الطلبة في حمص أولًا ثم دمشق ثم اللاذقية وحلب. ثم تنتشر الأخبار عن القتل على الهُويّة، التطهير الطائفي، نشوب المعارك المباشرة أو سقوط ضحايا نتيجة القنص.
يسود خطاب تخوين الدروز، فيدفع بعددٍ من أبناء الطائفة الدرزية إلى استخدام خطابٍ موازٍ في الكراهية، مما يعزّز ترابط حلقات سلسلة العنف بحيث لا نستطيع أن نتبيّن أولها من آخرها. ويرفض المنخرطون في الصراع الطائفي تصديق الحقائق، هم لا يرون إلا أنفسهم كحقيقةٍ مطلقة، ويقبلون أيّ خبرٍ يتوافق مع قناعاتهم الراسخة بخطر الآخر "فالشخص ذو القناعات الراسخة شخصٌ يصعب تغييره" حتى وإن أصبح هو نفسه وقوداً للمعركة - وهو كذلك بالفعل -.
لكن، ما الذي يجعل الشائعات جذراً من جذور الطائفية؟ حين تتبنى طائفةٌ ما حالة الضحية يصبح خوفها من المجهول محرّكاً لتصديق الشائعات، ففي ذاكرتها الجمعية ظلمٌ وقع عليها بالفعل، ما يجعل من تصديق الشائعة الحالية وارداً، فلمَ لا يتكرّر الظلم؟ ولأنّ الجماعة المظلومة تجهل شكل الظلم الجديد فإنها تتبنى أيّة مقولةٍ تتماشى مع وضعيتها، وتبدأ بدورها بالدفاع عن نفسها من خلال هجومٍ مضادٍّ بجملة من الشائعات التي تعزّز الانتماء إلى مجموعتها والتماهي معها كمحاولةٍ لرد الاعتبار. تتتالى الأخبار ويتصاعد الغضب خالقاً موجةً ممتدّةً من الكراهية لا تنكسر إلا بجهودٍ كبيرة لا يمكننا أن نعرف في ظلّ استمرار التحريض طبيعتها وحجمها وحجم العمل المرتبط بها، وإن كانت ستُثمر أم لا.