تحرير المعتقلين/ات كان محطّ أنظار العالم في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي ٢٠٢٤، وقصص تعذيبهم كانت محور أسباب العودة عن تأييد النظام السابق. أن ينتهي عهد الاعتقال التعسفي والتعذيب، هو ما يتوقّعه السوريون/ات، مُفترضين حتمية القطيعة مع شكل حكمٍ كرّس نفسه بإخفاء مناوئيه والتنكيل بهم.
"ماذا تغيّر؟" سؤالٌ استنكاري يتردّد بين كثيرين وكثيراتٍ من دمشق، رغبةً بسوريا جديدة حرّة من الطغيان، وإيماناً بأننا نسير ولو الهوينى نحو الكرامة، حيث لا يُهان السوريون، وتحفظ حقوقهم، ويحاسبون بقدر أخطائهم أيّاً تكن.
اليوم، في دمشق وريفها، تقوم قوات الأمن العام، وعناصر المخافر والحواجز، بتنفيذ اعتقالاتٍ لأسباب جنائية وأمنية، ترتبط بجرائم تمتدّ من السرقة وتعاطي المخدرات إلى حيازة السلاح، أو التسبّب باعتقال السوريين/ات وتعذيبهم وقتلهم خلال حكم نظام الأسد. يُؤخذ كلّ هؤلاء إلى أماكن التحقيق نفسها، وهي غالباً المخافر أو نقاط تواجد الأمن العام، وإلى السجون المستخدمة من قبل النظام الفارط، كسجن عدرا المركزي في دمشق، وكثيراً ما يخرجون خلال فتراتٍ قصيرة لعدم التثبّت من التُهم الموجّهة إليهم. بالنسبة للمراقبين من المحامين/ات وناشطي/ات حقوق الإنسان الذين أخذتْ حكاية ما انحكت رأيَهم، يبدو أنّ ظروف الاعتقال قيد التحقيقات قد اختلفت، فهناك تحسّنٌ على بعض المستويات وأخرى تثير القلق.
العدالة الانتقالية الحسّاسة للجندر في سوريا.. حوار مع لمى قنوت
21 نيسان 2025
تدور انتقاداتٌ كثيرة، مبدئياً حول أسباب الاعتقال، وارتباطها في الحالات التي تحرّتها حكاية ما انحكت بمزاجية أفراد الأمن؛ هكذا إن كان الشخص المعني متقبّلاً متلاطفاً، فقد ينجح في تجنّب الاعتقال، عبر المطالبة بحقوقه، كإبراز أمرٍ خطيّ من النيابة العامة بالتفتيش أو الاعتقال، والاعتراض على التعرّض للمساءلة في المقام الأول. حين أُوقف مهيار م، خريج طب الأسنان حديثاً من اللاذقية، حاجزٌ للأمن العام في منطقة المزة، اعتراضاً على وجود ذكور وإناث لا تربطهم قرابةٌ في سيارته، ما كان منه إلا أن اعتذر وتبادل المُزاح مع العناصر: "فتشوا السيارة ووجدوا معي سكيناً أخبئها للطوارئ. ضحكنا حول إمكانية اعتقالي، لكني استطعت إدارة الحديث كي أمضي في سبيلي. لست سعيداً بما حصل، فقد أحسست بغرابةٍ وشعورٍ مزعج كوني اضطررت إلى مسايرتهم".
تحدث بعض الاعتقالات من دون أساسٍ قانوني، كما في حال مهيار، لتشارُك أصدقاء من الذكور والإناث سيارةً خاصة، أو غناء مطربٍ في ملهىً ليليّ كالذي التقاه سامي أثناء توقيفه. عاد سامي من لبنان بعد سنوات اللجوء، وصادف أن أبدى اهتماماً بوالدة أحد الموقوفين من عناصر جيش النظام السابق، لبكائها قرب فرعٍ أمنيّ في ريف دمشق قرب سكنه، ليتفاجأ باستجوابٍ من أحد العناصر المتواجدين في المنطقة، تلاه تفتيشٌ لهاتفه وإهانةٌ له بسبب صورة إحدى قريباته بملابس خفيفة، أثارت هذه الإهانة غضب سامي فضرب العنصر الذي يستجوبه، وسيق بعدها إلى مخفرٍ في ريف دمشق "أسبوع من الضرب وتُهمٌ اختُلق بعضها: انتحال الشخصية، ضرب عنصر أمن عام، حيازة سلاح".
خرج سامي ع بريئاً حليق الرأس مع كدماتٍ مختلفة الألوان والمواقع، بعد أن انشغل أقرباؤه بالتواصل مع وساطاتٍ مختلفة من معارفهم الجدد في الجيش لإخراجه، وسؤالٍ يردّدونه للوساطات ومن يسأل عن سامي: "ماذا تغيّر إذن؟"
حسرة سامر (اسم مستعار) من منطقة ركن الدين في المقابل تُعيدنا إلى التساؤل حول موضوعية الإجراءات المتبعة في إنفاذ القانون: "سلّمتُ مخبريَن وشيا بي وتسبّبا باعتقالي للأمن العام، وقد كانا مستسلمَين تماماً، ليخرجا يعد أيام. لست أدري ماذا فعلا بالضبط، لكن التحقيق لم يكن جدياً بما فيه الكفاية، وقد أنكرا كل شيء".
تظهر نحافة صالح أ وبعض الندوب التي ما تزال ظاهرةً بعد اعتقاله في نقطةٍ أمنية ثم في مخفر قدسيا لشبهة حيازة سلاح أكثر مما يرويه: "نُحشر في أماكن ضيقة في حمامٍ من دون باب، ورائحة رطوبةٍ وعطن تسدّ الأنوف، ولا يُسمح للجميع باستلام أغراض النظافة الشخصية من ذويهم".
قد يشفع قبول الموقوفين/ات بإجراءات الأمن العام، ويتيح لهم معاملةً أفضل من تلك التي يتلقاها أولئك الذين يتحدون سلطة القائمين على الضبط والاحضار. يتخلّل هذا معايير شخصية، ومناطقية، وطبقية أو طائفية، فالأشخاص من خلفياتٍ غنية غالباً ما يُعتبرون من المرتبطين بالنظام السابق، وفي أحوال أخرى يُهانون على طريقة النظام السابق في إهانة أيٍّ كان: "كان النظام داعس على راسكن وما كنتوا تسترجوا تحكوا شي"، جملةٌ تكرّرت على مسامع عبد ل لدى اعتراضه على التوقيف في مخفر المحافظة بسبب مخالفةٍ عقارية في منطقة مشروع دمر، ولدى كلّ تساؤلٍ طرحه حول حقوقه. "في النهاية قلت لهم: إن كنتم تريدون التعامل بهذه الطريقة، قولوا ذلك ولن نعترض على شيء".
تُظهر الإهانات اللفظية والسلوكيات دوافع انتقامية لدى بعض أفراد الأمن، تتنافى مع مبادئ الإعلان الدستوري الذي يعدّ المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية، جزءاً لا يتجزّأ منه، بما تتضمنه من مناهضةٍ للتعذيب.
رحل "الغالي" من دون أن يودّعنا
29 أيار 2025
وعلى رغم تصريحات وزير الداخلية أنس خطاب حول العزم على تحويل السجون إلى مراكز إعادة تأهيل، ما تزال المنظمات الدولية كالصليب الأحمر بعيدةً عن تقديم خدماتها في السجون السورية، وتمّ إيقاف عمل جمعية التي كانت تقدم خدماتٍ مختلفة للمساجين في سوريا في عهد النظام السابق، وتنسّق تعليمهم وممارستهم لحرف مختلفة داخل السجن. "لم يعد لدينا سجون" كان رد وزارة الداخلية على أحد أعضاء الجمعية الذي فضّل عدم ذكر اسمه، عند محاولتهم التواصل والتنسيق من أجل العودة إلى العمل. "سُرقت جميع ممتلكات الجمعية ونُهب سجن عدرا المركزي، بما فيه جميع معدات التدفئة والتكييف في الأيام الأولى بعد السقوط". هذا يعني أنّ السجن يفتقد إلى خدماتٍ أساسيةٍ لا بدّ منها للحفاظ على صحة الموقوفين.
تظهر نحافة صالح أ وبعض الندوب التي ما تزال ظاهرةً بعد اعتقاله في نقطةٍ أمنية ثم في مخفر قدسيا لشبهة حيازة سلاح أكثر مما يرويه: "نُحشر في أماكن ضيقة في حمامٍ من دون باب، ورائحة رطوبةٍ وعطن تسدّ الأنوف، ولا يُسمح للجميع باستلام أغراض النظافة الشخصية من ذويهم".
يشبّه صالح وسامي ظروف توقيفهما بما كان يحصل في صيدنايا، وينم هذا عن قلّة درايتهم بظروف التعذيب التي عاشها المعتقلون فيه، ودهشتهم لما يتعرّضون له اليوم، فيما تقيّم هبة (اسم مستعار)، وهي إحدى الناشطات في دعم المعتقلات والمعتقلين السابقين وأهالي المفقودين أيام النظام السابق، شرط التوقيف اليوم بأسى: "يبدو أنّ ما كان يحصل من تعذيبٍ في فرع الأمن الجنائي، الذي كنا نعتبره أكثر الفروع الأمنية تهاوناً في السابق، هو ما يمرّ به معظم المعتقلين اليوم، إذا استثنينا التصفيات التي لا زلنا نعتبرها شائعات".
خلال "التحقيق"، تعرض صالح إلى صنوفٍ من التعذيب لانتزاع الاعترافات منه، استُخدمتْ فيها العصي الكهربائية في أماكن حسّاسة والضرب الشديد، ما ترك وذماتٍ على جسده لوقتٍ طويل، كما حُلِق شعره بغية الإهانة والعقاب "لم يسجّل المحققون أقوالي بدقة وهدّدوني بالعنف للإقرار بها، ولم يسمحوا للمحامي بالتدخل خلال فترة التحقيق، لكنهم سمحوا لأمي بزيارتي".
"كان النظام داعس على راسكن وما كنتوا تسترجوا تحكوا شي"، جملةٌ تكرّرت على مسامع عبد ل لدى اعتراضه على التوقيف في مخفر المحافظة بسبب مخالفةٍ عقارية في منطقة مشروع دمر، ولدى كلّ تساؤلٍ طرحه حول حقوقه. "في النهاية قلت لهم: إن كنتم تريدون التعامل بهذه الطريقة، قولوا ذلك ولن نعترض على شيء".
في الواقع، لم يكن يُسمح بزيارات الأهالي إلى مراكز التحقيق، ولا للمحامين بحضور التحقيقات الأولية سابقاً، ولا يرى أحدٌ الموقوف عادةً حتى تبدأ الإجراءات القضائية. يُظهر الجهاز القضائي اليوم تعاوناً مع سرديات الموقوفين والموقوفات، فهو يطلق سراح معظمهم ممن لا إثبات قانونياً على ارتكابهم الجرائم التي يُتهمون بها، لكن أعداد القضايا وقلّة الكوادر تعرقل سير العمل. خرج عبد ق بعد عدّة أيامٍ من توقيفه في فرع الأمن السياسي التابع لريف دمشق سابقاً، إثر تقريرٍ يتهمه بكونه فلولاً للنظام السابق (بسبب عمله السابق كموظف في وزارة الدفاع)، ونصّ محضر التحقيق على اتهامه بإخفاء سلاحٍ في منزله. "لم يتمّ إثبات الاتهام، لكن الرحلة من مركز الأمن، إلى المخفر وحتى المحكمة، رحلة عارٍ أصابتني باضطرابٍ عصبيّ أقعدني عن المشي".
الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!
22 أيار 2025
الأهالي هم من يمرون بصعوباتٍ تذكّرهم كثيراً بواقع التوقيف سابقاً، لم تستجبِ المخافر إلى أسئلة زوجة عبد أو والد صالح وأقرباء سامي حول احتجاز أبنائهم فيها من عدمه، لكنها قد تسمح للموقوفين باتصالاتٍ هاتفيةٍ مع ذويهم في بعض الحالات وحتى بزياراتٍ كما في حال صالح، ولا شك أنّ هذا من أهم التغيّرات التي يجب تبنيها في أي نظام توقيف؛ السماح بالتواصل مع العالم الخارجي في فترة التحقيق. يحذر الأستاذ المحامي حسين ع الذين لطالما عمل في الدفاع عن المعتقلين في محكمة مكافحة الإرهاب: "نحن أمام حالاتٍ قد تصنّف إخفاءً قسرياً، وعلينا أن نقرع جرس الإنذار لهذا، فالخلاص من الاعتقال التعسفي والإخفاء هو من أهم ما خرج السوريون ضده".
يأمل السوريون/ات ممن قابلتهم حكاية ما انحكت تحقيق تغييراتٍ بسيطة سيكون لها أكبر الأثر على احترامهم لأنفسهم وإحساسهم بكرامتهم، ليس أقلّها حقّ إجراء اتصال يخبرون فيه أهلهم أو محاميهم باعتقالهم ومكانه إن حدث، ولا أصعبها احترام المتهمين والتعامل بما يقتضي التحقيق دون شخصنةٍ أو تسييسٍ أو إهانة، ولا أبعدها عن القانون افتراض البراءة حتى ثبوت التهمة، ولا أغربها عدم التوقيف من دون سببٍ قانونيّ ومذكرةٍ مكتوبة، ولا آخرها تجريم التعذيب الذي نال ما نال من كرامة السوريين/ات.
على رغم ترحيب شهودنا بالحديث عن تجاربهم، يتحفظ معظمهم على ذكر أسمائهم الحقيقية بعلانية، ما يعني أن الخوف لا يزال مسيطراً على السوريين/ات، وأنه ما يزال لدينا الكثير لنقطعه في طريق المحاكمات العادلة، حيث لا يخشى أحدنا التصريح بالحقيقة ولا يحاسب على انحيازها لأحدٍ أو ضد أحد.
إن إصلاح الجهاز الأمني لمنع تكرار أيّة انتهاكات طالت السوريين/ات مراراً، لا يقل أهميةً عن محاسبة المجرمين وتعويض المتضررين كأحد أعمدة العدالة الانتقالية، وهو في حالنا هدفٌ أساسيّ لنزع فتيل الصراع والوصول بالناس إلى سلام يستحقونه، لا أقل ولا أكثر.