السويداء/ دمشق: عاد الطريق وغابت الطمأنينة


"لم يعد الطريق بين السويداء ودمشق كما كان. لا من حيث المرور، ولا من حيث المعنى. عادت السيارات، وعادت معها الحياة اليومية، لكن شيئاً في الداخل لم يعد يتحرّك بالسرعة نفسها، الطمأنينة. مرّ الاتفاق، وهدأت البنادق، لكنّ ارتياباً ظلّ في العيون، يحتاج إلى كثيرٍ من الزمن والخطوات على الأرض لإعادة الثقة".

05 حزيران 2025

تمام صيموعة

كاتب وصحفي

في مساء الأحد، السابع والعشرين من نيسان/ أبريل ٢٠٢٥، كنت في لقاء للصحفيين والصحفيات في إحدى الفعاليات المدنيّة في دمشق القديمة.

قرّرتُ مع زميلتي الصحفية من إدلب أن نذهب معاً إلى السويداء في صباح اليوم التالي، كلّ منا لديه أعمال صحفية يريد إنجازها. لكن زميلتي، التي غادرت سوريا في 2012، أرادت أن ترى البلد مجدّداً، وتحتاج إلى دليلٍ في السويداء، في أقصى جنوب سوريا، التي لا يمرّ بها إلا من يقصدها بالذات.

في تلك الليلة، تسلّلت الأخبار إلى الفضاء العام وأوساط الصحفيين: توتّرٌ في المدينة الجامعية في حمص، على خلفية تسجيلٍ صوتيّ منسوبٍ إلى أحد مشايخ الدروز يتضمّن شتائم طائفية. تبعتها رسائل خوفٍ من طلاب السويداء، تعكس قلقاً مُتصاعداً من حملة تجييشٍ ضدّهم.

الشائعات.. كجذرٍ من جذور الطائفية

23 أيار 2025
يرفض المنخرطون في الصراع الطائفي تصديق الحقائق، هم لا يرون إلا أنفسهم كحقيقةٍ مطلقة ويقبلون أيّ خبرٍ يتوافق مع قناعاتهم الراسخة بخطر الآخر.

ظهر شابٌّ ملتحٍ في أحد الفيديوهات، مُحاطاً بمجموعة غاضبة، يلوّح بالانتقام من أبناء السويداء. بدا في البداية وكأنه توتّر عابر. لكن، ومع مرور الساعات، تحوّلت المناشدات إلى استغاثات. بدأت صفحاتٌ محلية تنقل أخباراً عن إصاباتٍ في المدينة الجامعية في حمص.

سوسن، طالبة هندسة، تبلغ من العمر 19 عاماً، كانت ضمن الدفعة الأولى التي عادت من جامعة حمص. سنلتقيها لاحقاً في منزلها في حي الخريج في مدينة السويداء، لتقول: "في تلك الليلة، سمعنا صراخاً وشتائم تأتي من خارج السكن، هتافاتٍ تستهدفنا بوصفنا طلاباً من السويداء".

في الخلفية، كانت الهويات الطائفية تتسرّب ببطء، تعود إلى السطح كأنها لم تغب يوماً، تنتظر لحظة الانفجار لتفرض نفسها من جديد. تلاشى الخطاب الجامع، وبدأ الخوف يتسلّل إلى التفاصيل، حتى صار الانقسام حاضراً في كلّ شيء.

توتّر العبور

صباح اليوم التالي الإثنين (28 نيسان/ أبريل)، لم تكن أخبار ما جرى في المدن الجامعية قد انعكست بعد على الأرض. كلّ شيء بدا هادئاً، على نحوٍ يشي بأنّ العاصفة لم تصل بعد، أو أنّها قرّرت أن تأخذ استراحةً قصيرة.

التقينا عند طرف جرمانا. بدت زميلتي مستعدّة للرحلة. لكن، ما إن استقرّتْ في المقعد المجاور حتى سألت عن الطريق، بصوتٍ حاولت أن تُبقيه عادياً: هل هو آمن؟

بدا السؤال بسيطاً في ظاهره، لكنه حمل ما هو أكثر من الاطمئنان اللوجستي؛ كانت تسأل عن شيءٍ يشبه الاحتمالات، عن التوتّر الكامن بين نقطتين على الخريطة. طريق دمشق – السويداء لم يعد ممرّاً عادياً منذ سقوط النظام، فحوادث إطلاق النار التي تكرّرت على أطرافه على الحافلات الذاهبة للسويداء، كانت تُغلّف دائماً بتوصيفاتٍ رسميةٍ جاهزة: "عصابات خارجة عن القانون"، كنايةٌ لا تُطمئن أحداً. قلت لها إنني تواصلتُ مع أصدقاء هناك، وأكدوا أنّ الطريق مفتوحٌ وآمن.

 كل شيءٍ في الأيام الماضية كان يعلّق أسماءً على الوجوه. لم نعد نُعرف بأسمائنا أو ملامحنا، بل بمناطقنا، بانتماءاتٍ لم نختر أن نصبح واجهتها.  منذ انتشار التسجيلات والصور، أصبح من السهل أن يُقال عنك "درزي" أو "سنّي"، ولا شيء أكثر. صار الانتماء الطائفي يُقال قبل الاسم الأوّل، ويكفي وحده ليحسم كلّ القصص. كلّ خبر، مهما كان بسيطاً، يمكن أن تُعاد كتابته في لحظة، ليصبح فتيلاً لا يشبه حقيقته.

هزّتْ رأسها بصمت، وسرعان ما عادت لتسأل، هذه المرّة بنبرةٍ أقلّ وضوحاً: ماذا لو أوقفَنا حاجز؟ كيف سأُعرَّف؟ لم أحتج وقتاً للتفكير، قلت بثقةٍ متعمّدة، إن أحداً لم يسألني من قبل عن مرافقي، وإنني سأتولى الحديث.

لم تبدُ مرتاحة تماماً، لكنها ابتسمت بتلك الطريقة التي تخلط بين التوتّر والمُزاح، ثم بدأت تروي، كمن يحاول تقليل وطأة الموقف، عن تجربتها مع الحواجز في الشمال؛ عن الأسئلة الغريبة التي تُطرح هناك ليس لمعرفة شيء، بل للتذكير بأنك مُراقَب، وأنّ عبورك مشروطٌ بما تمثّله لا بما تقوله.

الطريق نفسه بدا مُتسامحاً. حواجز الأمن العام لم توقفنا، اكتفينا برمي السلام وردّه. لم يطلب أحد أوراقاً، ولم يُطرح سؤال. حتى حين مررنا بمنطقة "المطلة"، معظم سكانها من البدو على يسار الطريق، كانت الحركة فيها طبيعية. الناس تفتح دكاكينها، الأطفال بزيّهم المدرسي يركضون إلى أطراف الشارع، كما لو أنّ كلّ شيءٍ على ما يُرام.

لكنني لم أذكر لها أنّ هذه هي أخطر منطقةٍ في الطريق، لا عن قصد الإخفاء، بل لأنّ اللحظة لم تحتمل إضافة قلقٍ جديد.

في الخلفية، تعود إلى ذهني التسجيلات التي سُجّلت الليلة الماضية: أحاديث عن طلاب دروز هوجموا داخل سكنهم من قبل مجموعاتٍ غاضبة، وهتافاتٍ غريبةٍ بدأت تنتشر كعدوى. لم أكن أفكّر كثيراً بالسياسة، بقدر ما بدأت أراقب المشهد من زاويةٍ أخرى: أنا، درزيّ، أعبر منطقة ذات غالبيةٍ سنية.

لم يقل أحدٌ شيئاً، لكن مجرّد المرور، في هذا التوقيت تحديداً، جعلني أعرّف نفسي بشكلٍ لم أعتد عليه من قبل. شيءٌ ما في الطريق بدأ يُصغي للخوف، حتى وإن لم يُبدِ أيّة علامة عليه.

 انكسار الخطة

أصبحنا على بُعد قريةٍ واحدة من الدخول إلى السويداء. عند حاجز المسميّة، الذي كان ذات يومٍ نقطة تفتيشٍ ثقيلةً لجيش الأسد، لم يكن هناك أحد. الكرافانات التي كانت تعجّ بالجنود، مدمّرة. آثار الهجران واضحة، كأن أحداً فكّك المشهد بعنايةٍ وغادر قبل دقائق فقط.

الطريق فارغٌ إلا من تجاويف الإسفلت، حيث كانت المطبات التي قُلعت وتحوّلت إلى حُفر تئنّ تحت عجلات السيارات على جانبي الطريق، البيوت نائية، والسيارات تمرّ بسرعةٍ كأنها لا تريد التورّط في المكان، لا تريد أن تُرى.

رحل "الغالي" من دون أن يودّعنا

29 أيار 2025
لم أكن أتخيّل يومًا أنّني سأبكي في يومين متتاليين قتل عدّة شبان، وأنّني سأراهم مثقوبي الصدر والعين والرأس. منهم "الغالي" الذي لم أستطع التعرّف أبدًا على ملامح وجهه الجميل والوسيم....

عند اقترابنا من نقطة الحاجز المُزال، سمعت صوت انفجارٍ مُباغت خلفيٍّ. لم يكن عالياً، لكنه اخترق كلّ شيء، فقدتُ السيطرة على المقود، كما فقدتُ تماسك أفكاري. أوّل ما تبادر إلى ذهني، قبل حتى أن أستوعب ما حدث، أننا وقعنا في كمين.

في لحظة، لم تعد الطريق مجرّد طريق. لم نعد مجرّد عابرَين. أصبحنا نحن (بما نحمله من أسماء، ولهجاتٍ، وانتماءات) مكشوفين. كأنّ شيئاً واحداً فقط، صوتاً أو شائعةً أو هفوة، قادرٌ على أن يُخرج الهُويّات الطائفية من مخابئها. الهُويّات التي نحاول دفنها تحت تصرّفاتٍ مدنية وأحاديث يومية، لكنها لا تموت. هي فقط تنتظر لحظةً كهذه، انقطاعاً قصير في الاستقرار، لتطفو من جديد، كان يبدو أنّ الطريق آمن. لكن، في بلد مثل هذا، الهشاشة ليست في الطريق، بل فينا أيضاً.

توقفت السيارة على حافة الطريق، كما لو أنّ الاصطدام لم يقتصر على المعدن وحده، بل طال داخلي أيضاً. خلفي مباشرةً سيارةٌ أخرى بلونٍ شبيهٍ بسيارتي، توقفتْ بدورها، وانفتح بابها بهدوءٍ مريب، كأنّ الزمن نفسه صار يمشي على أطراف أصابعه.

نزل منها رجلٌ والدماء تنزل من جبينه بخطٍ رفيع، بدا وكأنه لا يشعر بها أو لا يريد الاعتراف بوجودها. لم أتحرّك فوراً. جسدي كان هناك، لكن رأسي كان في مكانٍ آخر، يركض بين الاحتمالات: هل هو كمين؟ هل كانت عبوة؟ هل سيفهم الناس ما حدث كما حدث فعلاً؟

كل شيءٍ في الأيام الماضية كان يعلّق أسماءً على الوجوه. لم نعد نُعرف بأسمائنا أو ملامحنا، بل بمناطقنا، بانتماءاتٍ لم نختر أن نصبح واجهتها.

منذ انتشار التسجيلات والصور، أصبح من السهل أن يُقال عنك "درزي" أو "سنّي"، ولا شيء أكثر. صار الانتماء الطائفي يُقال قبل الاسم الأوّل، ويكفي وحده ليحسم كلّ القصص. كلّ خبر، مهما كان بسيطاً، يمكن أن تُعاد كتابته في لحظة، ليصبح فتيلاً لا يشبه حقيقته.

اقتربت ببطءٍ من الرجل الجريح. لم أكن واثقاً إن كنت أذهب إليه لأطمئن عليه، أم لأطمئن على نفسي من خلاله. سألته إن كان بخير، فأجاب بنبرة جافة: "مجرد جرح بسيط". ثم نظرت إليه وطرحت السؤال الوحيد الذي يهمني: "من وين إنت؟" ابتسم وأجاب: "من السويداء". هاتان الكلمتان فقط، انهار معهما كلّ التوتّر الذي كان يقيّد عضلاتي. كأنّ الجواب أعاد ترتيب الحادثة داخل رأسي. لم يعد عليّ أن أستعدّ لأيّ سيناريو.

غادرت زميلتي مع سيارةٍ أوصلتها إلى وجهتها، وتمّ إسعاف الرجل إلى المستشفى، وبقيت على الطريق مع مرافقه. قال إنه من درعا. لم أعلّق. للحظةٍ راودني ذلك الخوف القديم (أو الحديث جداً) أن تُنسب الحوادث إلى أسماء المدن، لا إلى ظروفها. لكن، لم يكن في المكان مجالٌ للمخاوف. بقينا وحدنا، اثنين من المجهولين في أرضٍ مكشوفة، كلّ ما حولنا يقول إننا لا نملك رفاهية الشكّ.

في لحظة، لم تعد الطريق مجرّد طريق. لم نعد مجرّد عابرَين. أصبحنا نحن (بما نحمله من أسماء، ولهجاتٍ، وانتماءات) مكشوفين. كأنّ شيئاً واحداً فقط، صوتاً أو شائعةً أو هفوة، قادرٌ على أن يُخرج الهُويّات الطائفية من مخابئها.

جلسنا قرب السيارتين المتضرّرتين، وأشعلنا سيجارة بصمت. لم نتبادل أسماء ولا أحاديث طويلة. فقط نظراتٍ قصيرة واتفاقٍ ضمنيّ بألّا نُحمّل هذه الحادثة أكثر مما تحتمل. كلّ شيءٍ حولنا كان هشّاً، والمكان نفسه (الطريق، الحقول، والسماء) كان يترقّب ما سنقوله لاحقاً عن هذه اللحظة.

في تلك الساعة، لم أكن أفكر في السياسة ولا في الطوائف، بل في هشاشة الحكاية. كم من حادثٍ بسيطٍ كهذا يمكن أن يتحوّل إلى شرارة؟ كم من مرة سيُقال: "شخصٌ من السويداء صدمه أحد أبناء درعا" أو العكس، فينمو الخبر مثل كرة ثلجٍ لا تعود تشبه شيئاً مما بدأ به؟

تذكّرت كلّ الورش التي حضرتها عن السلم الأهلي، عن العيش المشترك، عن أهمية رواية القصة كما هي، لا كما يُراد لها أن تُروى. لكن، لا شيء من ذلك كان حاضراً الآن، سوى رجلين جالسين قرب طريق خالٍ، يحاولان فقط ألا يُعاد تعريفهما من جديد.

لم يكن في البال هذا الوصول. أن تصل إلى السويداء ليس بسيارتك، بل جالساً في حافلة نقل سيارات، في المقعد المجاور لسائقٍ صامت، وخلفك سيارتك، معطوبةٌ ومنهكة، مربوطةٌ بحبال صدئة، كأنّها جثّةٌ في طريقها إلى مكان الدفن.

كلُّ شيءٍ بدا معطّلاً. ليس فقط السيارة. خطتي الصحفية التي رسمتها بدقةٍ خلال الأيام الماضية، خريطة اللقاءات، الأسماء، التصريحات المتوقّعة، كلّها تكّسرت دفعةً واحدة. لم أعد صحفياً جاء في مهمة، بل عالقاً في مدينة السويداء.

السويداء كانت هادئةً أكثر مما يجب. كأنّ المدينة هي الأخرى تنتظر شيئاً لا تسميه. ظننت أنني سأنام الليلة، ثم أعود في الصباح إلى دمشق، لكن شيئاً ما في داخلي كان يعرف أنّ الحركة لم تعد قراراً شخصياً.

الانكماش

عند المساء، بدأت المقاطع تنتشر كالنار في هشيم الخوف: مجموعاتٌ مسلّحة تحتشد في محيط مدينة المليحة، على أطراف جرمانا في ريف دمشق.

فصل الموظفين في السويداء .. مكافحة الفساد أم انتقام من الماضي؟

25 شباط 2025
"النظام السابق استغل دم شقيقي كي يبقى، والحكومة الجديدة تعاقبني على دمه، الذي أكاد أجزم أنه سال نتيجة رصاصة من الخلف، ربما كانت لرفضه أمراً يقتضي أذيّة أحد السوريين" هذا...

الصورة كانت أقرب. المسلحون لا يبعدون أكثر من مئات الأمتار عن بيت عائلتي. وأنا في السويداء، لا أملك سوى أن أراقب، وكأنّ المسافة بين المدينتين لم تعد تُقاس بالكيلومترات، بل بالقلق الذي يشتدّ هنا كلما اشتدّ هناك. لم أعد أتحكّم بشيء؛ لا الطريق، ولا الوقت. أصبحت داخل مشهدٍ يتغيّر بسرعة، يكتب نفسه وحده.

في السويداء، لم تكن جرمانا مجرّد بلدةٍ محاصرة. كانت وجهاً آخر للعائلة. كثيرٌ من البيوت هنا، هناك فيها فرعٌ، أو ابنٌ، أو أخٌ، أو زوجة. كانت الأخبار تنتشر لا كأخبار، بل كخطرٍ يهدّد الدم نفسه. وكلّ صورةٍ جديدةٍ من جرمانا، كانت تُشعل وجعاً مضاعفاً في السويداء. ازدادت الاتصالات: أمهاتٌ يسألن عن أبنائهن في جرمانا، إخوةٌ يتواصلون مع إخوتهم، أصدقاء يُطمئنون بعضهم بعضاً، وفاعلون محليون في السويداء يرفعون الصوت سياسياً لمحاولة التدخّل أو التهدئة أو حتى مجرّد الفهم.

وكلما زاد ألم جرمانا، كان الغضب يرتفع هنا. ليس الغضب المحموم العشوائيّ، بل غضبٌ فيه طبقةٌ من الخذلان، طبقةٌ من الشعور أنّ المستهدف ليس "مكاناً"، بل نسيجاً كاملاً من الناس.

انقطع طريق دمشق – السويداء، ولم يكن مجرّد طريقٍ إسفلتيّ. كان شرياناً اجتماعياً وعاطفياً. وكلّ لحظة حصارٍ لجرمانا، كانت تُغلق على المدينة هنا مزيداً من الهواء، وتُضيّق المجال على أي أملٍ بالعودة إلى ما قبل هذا الانفجار في الذاكرة.

الاشتباكات التي دارت في محيط جرمانا نتج عنها وفاة ستة ضحايا من أبناء المدينة، إضافةً إلى 17 جريحاً، حسب ما أعلن مشفى الراضي هناك.

يقول علي (32 عاماً)، من سكان حي النسيم في مدينة جرمانا، إنّ التوتّر بدأ يتصاعد في الحيّ منذ مساء الثامن والعشرين من نيسان، بعد انتشار دعواتٍ تحريضيةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي. أُغلقت المحال التجارية باكراً، وانتشر عددٌ من شبّان الحي في الأزقة تحسّباً لأي هجوم محتمل.

يروي علي لسوريا ما انحكت: "مع تصاعد التوتّر، بدأتُ أشعر بالخوف من تكرار مشاهد الانتهاكات التي اعتدنا رؤيتها في مقاطع الفيديو خلال السنوات الماضية. لم أستطع تجاهل احتمال أن يحدث ذلك هنا، في هذا الحيّ. أخرجتُ زوجتي وأطفالي إلى وسط المدينة، وعدت سريعاً إلى المنزل لأراقب ما يحدث. بقيتُ أتابع الأخبار والشائعات على الهاتف، فيما أرقب الشارع من النافذة. كان هناك صوت تلقيم بنادق، وانفجاراتٌ متقطعة من بعيد، لكن أكثر ما أثار قلقي هو لحظات الهدوء التي كانت تتخلّل كل ذلك. كان هدوءاً ثقيلاً، مشحوناً بالترقب، وكأنه يسبق شيئاً أكبر."

رهف (44 عاماً)، مسعفة تعمل ضمن إحدى الفرق الطبية في مدينة جرمانا، تتحدّث عن تلك الليلة التي تصاعد فيها التوتّر حتى بلغ ذروته مع حلول منتصف الليل. تقول لحكاية ما انحكت: "كانت المدينة مغلقةً من منافذها الأربعة، وكان هاجسنا الأكبر أن نشهد حصاراً طويلاً يقطعها عن العالم. قمنا بتقسيم الطواقم الطبية إلى أربع نقاط رئيسية لتغطية مختلف الاتجاهات، لكن الجهة الجنوبية كانت الأكثر خطورة. الإصابات التي بدأت بالوصول إلينا كانت في معظمها ناجمةً عن رصاصٍ متفجّر، أطلقه قنّاصةٌ تمركزوا على الأبنية المقابلة للمدينة. المشافي الثلاثة في جرمانا دخلت في حالة استنفارٍ تام، وجميع الكوادر كانت على الجهوزية القصوى."

تضاعف سعر البندقية من 150 دولاراً إلى أكثر من 500 وانهارت أسواق الكلام. صمت المجتمع المدنيّ، وتراجع إلى الغرف المغلقة، وإلى منشوراتٍ على الفيسبوك، بينما في الخارج كانت البنادق تتكلّم، وتفرض إيقاعها.

في هذا الوقت، كان الطلاب الخائفون في مدينة حمص يناشدون أهليهم بتأمين طرق للعودة لهم، وبدأ تحرّكٌ محليّ في السويداء. أُنشئت مجموعات تواصلٍ على واتساب، بعضها انطلق بمبادرةٍ من طلاب داخل حمص، وأخرى بإدارة أهالي ونشطاء في الداخل، للضغط من أجل تأمين عودةٍ سريعةٍ وآمنة لأبنائهم.

في الصباح، تمّ تنسيق الخروج. ثلاث حافلات تنقل الطلاب من حمص ترافقها سياراتٌ أمنية، حملت الطلاب عائدين إلى محافظتهم. الطريق الذي اعتادوه سابقاً بدا مختلفاً هذه المرّة، أقسى وأطول. تقول سوسن لسوريا ما انحكت: "رافق الحافلات صمتٌ كثيف حتى اجتازت حدود السويداء، وهناك فقط بدأت تتبدّد الغمامة. هواتف بدأت ترنّ، أصواتٌ ترتفع، رسائل تطمئنّ". كما أنها تقول إنّ هناك من دافع عنها حين كانت في غرفتها في السكن الجامعي في حمص، "لم أكن وحدي. كنت في غرفةٍ فيها طلابٌ من محافظاتٍ أخرى، وهم من وقفوا في وجه هذا الخطاب. كانوا يردّون على المكالمات، يهدّئون مَن حولهم، يدافعون عنا كأننا جزءٌ من عائلاتهم."

الاحتقان الذي بدأ في جرمانا لم يتوقف عند حدودها. دخول مجموعات مسلّحة "غير منضبطة" إلى أشرفية صحنايا، غيّر وجه المحافظة، فلم تعد السويداء مدنيّةً بالكامل، ولم تصبح عسكريةً تماماً. بل بدت كمن يرتدي زيّه العسكري فوق ملابس النوم.

ظهرت البنادق فجأةً في الشوارع، تلتْها الرشاشات المتوسّطة، ثم سيارات الدفع الرباعي المُحمّلة بالمقاتلين. لم يعد هناك فراغٌ في الحارات، بل مقاتلون ينظّمون أنفسهم من دون حاجةٍ إلى قيادةٍ واضحة.

تضاعف سعر البندقية من 150 دولاراً إلى أكثر من 500 وانهارت أسواق الكلام. صمت المجتمع المدنيّ، وتراجع إلى الغرف المغلقة، وإلى منشوراتٍ على الفيسبوك، بينما في الخارج كانت البنادق تتكلّم، وتفرض إيقاعها.

محاولات التهدئة لم تتوقّف رغم كلّ شيء. فاعلون محليون في السويداء، بينهم مشايخ ووجهاء ووسطاء مدنيون، فتحوا قنوات اتصالٍ مع سلطات دمشق، للبحث في مخرج.

رصاص التفاوض

في الثلاثين من شهر نيسان ٢٠٢٥، خرج وفدٌ من السويداء إلى العاصمة للتفاوض. لكنه لم يخرج وحده، بل رافقته عشرات السيارات المحمّلة بالمسلحين، كأنّ الطريق لا يقبل التفاوض من دون مظلةٍ من الرصاص.

انطباعاتٌ أوليّة عن عودتي الخاطفة إلى سوريا/ السويداء

07 شباط 2025
"نصل السويداء ليلاً.. أدخل مدينتي التي أظنني أحفظ ملامحها كمسرى أوردتي على ظهر يدي، آتيها بلهفتي وشوقي وتوقي وآمالي ورهبتي من لقائها.. أستسلم لهذا الألم العميق البطيء والصاخب، شوقٌ وخوفٌ...

على ذات الطريق المتوتّر، سلك الوفد مساره في بلدة براق، ليُفاجأ بجدارٍ حجريٍّ يقطع طريق الذهاب. فاضطروا إلى الإبطاء، والبحث عن ممرٍّ جانبي. و"هنا بدأ إطلاق النار علينا من الجهتين" كما يقول لسوريا ما انحكت أحد المشاركين في مرافقة الوفد، محمود (38 عاماً). يتابع محمود: "لقد كان هجوماً منسقاً، قمنا بالاشتباك مع مصادر النيران، ريثما تمّ انسحاب بقية الرتل".

تحوّل التوتّر إلى هجومٍ عسكريٍّ منسّق. في ساعاتٍ قليلة، اجتاحت الفصائل المُهاجمة المدخل الشمالي للسويداء، وسيطرت على قرية الصورة الكبيرة. لم يكن هناك وقتٌ لقرع الأبواب أو جمع الحقائب. نزح سكان القرية على عجل، بينما كانت الصور الأولى لدخول المسلّحين تنتشر كالنار على وسائل التواصل.

عند مدخل القرية، تمّ إحراق قبر الضابط عصام زهر الدين، أحد أبرز وجوه النظام السابق، وأكثرهم ارتباطاً بذاكرة العنف. تمّ تدميره بالكامل، لكن ما تلا ذلك لم يكن رمزياً.

هاجمت الفصائل بيوت المدنيين وعملت على سرقة محتوياتها مثلما أظهرت كاميرات المراقبة فيما بعد، اشتعلت النيران في عددٍ من بيوت القرية تمّ تقديرها بسبعة بيوت، إضافة إلى مقامٍ دينيٍّ للدروز، فيما سيطرت الفصائل المهاجمة على الصورة.

توقّف الناس عن فتح محالهم. محطات الوقود أغلقت أبوابها، وأصبح ما تبقى من البنزين يذهب إلى الفصائل التي تتجه نحو خطوط التماس.. أمّا الكلام المدنيّ، فانسحب إلى داخل غرفٍ مغلقة، أو منشوراتٍ على الفيسبوك، وأبرز تفاصيل هذا المشهد كان صوت الطائرات الإسرائيلية تطير فوقنا ساعاتٍ طويلة.

بحسب مصادر طبيةٍ في مشفى زيد الشريطي في مدينة السويداء تمّ توثيق وفاة 66 ضحيةً في كامل محافظة السويداء التي أصبحت لا تشبه السويداء التي أعرفها. تغيّر وجهها في صمت، وصار كلّ شيءٍ فيها مشدوداً، متأهباً، مستعدّاً لاحتمالٍ لا نعرف اسمه.

هدوءٌ رخو

في صباح الأوّل من أيار/ مايو ٢٠٢٥، بدا أنّ السويداء قد استيقظت على مرحلةٍ جديدة،  حيث صدر بيان الرئاسة الروحية بلسان الشيخ حكمت الهجري، أعلن فيه انعدام الثقة مع دمشق، واتهمها بمسؤوليةٍ مباشرةٍ عن المجازر، مطالباً المجتمع الدولي بالتدخّل لإحلال السلام. كان البيان حاداً، أكثر مما اعتادت عليه بيانات الرئاسة الروحية، وأشبه ما يكون بفك ارتباطٍ سياسيٍّ كامل.

ردّة الفعل في الشارع كانت سريعة: توحدت الفصائل عسكرياً. انتشرت الحواجز، وبدأت التحرّكات باتجاه تعزيز المواقع، وكأنّ السويداء تتأهّب لصدّ هجومٍ محتمل. البنادق ظهرت بكثافةٍ أكبر، والسيارات المزوّدة برشاشاتٍ ثقيلةٍ أصبحت تمرّ في الطرقات وكأنها جزءٌ من الروتين اليومي.

لكن، وخلف هذا التماسك العسكري، كانت المدينة تنقسم سياسياً، العديد من الفاعلين المحليين اصطفوا خلف الهجري، يرون في موقفه تعبيراً أخيراً عن كرامةٍ مهدّدة. بينما بدت الفصائل الكبرى وبعض الشخصيات أقلّ حماساً. لم يعارضوا البيان صراحةً، لكنهم تمسّكوا بفكرة أنّ القنوات مع دمشق لا يمكن أن تُقطع، مهما حصل.

 في تلك الساعة، لم أكن أفكر في السياسة ولا في الطوائف، بل في هشاشة الحكاية. كم من حادثٍ بسيطٍ كهذا يمكن أن يتحوّل إلى شرارة؟ كم من مرة سيُقال: "شخصٌ من السويداء صدمه أحد أبناء درعا" أو العكس، فينمو الخبر مثل كرة ثلجٍ لا تعود تشبه شيئاً مما بدأ به؟

السويداء في هذه اللحظة تشبه بيتاً عتيقاً تهتزّ جدرانه مع كلّ صوت. الناس يحاولون التماسك، الفصائل تحاول أن تبدو موحّدة، كأن المدينة كلها تعيش على شفير شيءٍ ما. ليس سقوطاً، بل انقساماً يتقدّم ببطء… تحت صوت الطائرات الإسرائيلية المسيّرة.

عند الحادية عشرة ليلاً، اجتمع الفاعلون المحليون في السويداء وعلى رأسهم الشيخ حكمت الهجري، قادة الفصائل، وأعلنوا التوصّل إلى اتفاق، على انسحاب الفصائل المُهاجمة من قرية الصورة الكبيرة، وعودة السكان إلى بيوتهم، وعلى تفعيل دور الشرطة والأمن المحليّ من أبناء المحافظة أنفسهم. لكن الطريق... بقي مقطوعاً. باستثناء قوافل تحمل طلاباً أو وقوداً، ترافقها دورياتٌ من الأمن العام حتى أوّل المحافظة، ثم تتسلّمها فصائل محلية. لم تُفتح الطريق فعلياً، بل تمّ رسم ممراتٍ ضيّقةٍ عبرها، تكفي للضرورات ولا تكفي لعودة الحياة.

الأسواق بقيت مغلقة. محطات الوقود لم ترفع أبوابها. الهدوء عاد، لكنه ليس هدوء السلام. هو هدوءٌ يشبه أخذ التنفس بعد الجري.

في صباح الرابع من أيار/ مايو ٢٠٢٥، كنتُ واحداً من بضعة صحفيين اجتمعوا داخل مبنى المحافظة مع المحافظ مصطفى بكور. الجو في الداخل بدا هادئاً، لكن الهدوء لا يُقاس بعدد البنادق على الباب، بل بعيون الموظفين الذين لا يعرفون إن كانوا سينهون دوامهم على هذا الكرسي غداً.

حين جاء دوري للسؤال، لم أعد مهتماً بما سُمّي "اتفاقاً" ولا بتكرار ما قيل عن الانسحاب. كان الأهم بالنسبة إليّ بسيطاً ومعقّداً في آن: ما الملف الذي يجب أن يبدأ العمل عليه فوراً؟ المحافظ لم يتردّد. قال: "إعادة الحياة إلى طبيعتها، وأول خطوة لتطبيع الأوضاع هي تأمين الطريق، والطريق صار آمناً الآن." ذاتُ الطريق الذي كنتُ قد علقت خلفه لأيام.

العبارة خرجت من فمه كخبرٍ سار، الطريق فُتح، نعم، لكن لا أحد يعرف إلى أيّ حد. هذا ما وقع في قلبي في تلك اللحظة. مررنا من النقاط ذاتها التي شهدت نزاعاتٍ قبل أيّام فقط. لا إطلاق نار.

في الصورة الكبيرة التي تعرّضت للهجوم، بدا كلّ شيء أهدأ، لكن ليس أكثر اطمئناناً. بعض البيوت بُترت نوافذها بالنار. سواتر ترابيةٌ تقطع الشارع الرئيسي، وخلفها عناصر شرطةٍ بزيٍّ رسميّ. وجوهٌ مألوفة، معظمهم من أبناء السويداء. حاولت الحديث مع أحدهم، لكنهم رفضوا الحديث إلى الصحافة، حيث قالوا إن هنالك أوامر بعدم الكلام للصحافة من دون الحصول على إذن القيادة. رفض الكلام جاء مبرّراً من قِبل العناصر بسبب قيام العديد من وسائل الاعلام، باجتزاء الكلام ونشره في غير سياقاته، مما يزيد الاستقطاب، بحسب ما أخبرنا به عناصر الشرطة هناك.

تعود الأمور في السويداء رويداً رويداً إلى مجاريها، رغم بقاء استنفار الفصائل المحلية، لكن في حديث الناس يبدو أنّ هنالك شيئاً تكسّر، يحتاج إلى وقت لترميمه، وهو الخوف من السلطات الرسمية في دمشق. حافلات الطلاب عادت إلى السويداء على مراحل، مرافقةٌ رسمية حتى حدود المحافظة، ثم تتسلّمها مجموعاتٌ محلية. عودة هؤلاء الطلاب إلى الجامعات أصبحت الجدل الدائر في المحافظة اليوم، بين مَن يريد إعادتهم بعد تطمينات السلطات الرسمية في دمشق، وأطرافٌ أخرى ترفض عودتهم، حتى التأكّد من نوايا وقدرة السلطات الرسمية هناك.

حتى كتابة هذه السطور لم يعد الطريق بين السويداء ودمشق كما كان. لا من حيث المرور، ولا من حيث المعنى. عادت السيارات، وعادت معها الحياة اليومية، لكن شيئاً في الداخل لم يعد يتحرّك بالسرعة نفسها، الطمأنينة. مرّ الاتفاق، وهدأت البنادق، لكنّ ارتياباً ظلّ في العيون، يحتاج الكثير من الزمن والخطوات على الأرض لإعادة الثقة.

مقالات متعلقة

سوريا... العودة ممكنة

01 شباط 2025
"في اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا...
عاطف ملّاك... لم تنصفه الحياة، فهل أنصفه الموت؟

27 آب 2019
في الأول من تشرين الثاني 2015، انقضتْ دورية أمنٍ على الدكتور عاطف ملّاك في الشارع المكتظّ في وسط مدينة السويداء. قيل لم يتقدم أحدٌ حين استنجد: وين راحووو؟ وقيل أن...
الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!

22 أيار 2025
"لو بقينا هنا، سنكون إما جثثاً في أخبار عاجلة، أو أطباء بلا دوامٍ أو أدوية"، هذا ما يقوله الطالب في كليه الطب من مدينة بانياس، أحمد زاهر، في هذا التحقيق...
"العودة إلى طرطوس لا تشبه العودة إلى سوريا"

14 نيسان 2025
"عدتُ إلى طرطوس والعودة إليها لا تشبه العودة إلى سوريا، هي عودةٌ إلى مكانٍ لم تهجّرك منه السلطة فقط، بل ولعبَ المجتمع دوره في نفيك". هذا ما يكتبه الموسيقيّ والباحث...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد