نصرالله وسوريا وفلسطين: التفكير خارج السرديّات التي تتحدّث بلساننا


كيف يُمكننا الوصول إلى حالةٍ تُصبح فيها النضالات من أجل نظامٍ سياسيّ ومجتمعٍ سوريّ ديمقراطيّ شامل ومنفتح، مرتبطة بشكلٍ جوهريّ بالنضال ضدّ القوميّة العرقيّة الإباديّة لإسرائيل، والعكس صحيح.

10 حزيران 2025

يزن بدران

باحث دكتوراه في جامعة بروكسل الحرة في بلجيكا وزميل في المجلس البحثي الفلمنكي (فلاندرز). بحثه يتمحور حول المؤسسات الاعلامية الجديدة في العالم العربي بعد ثورات ٢٠١١.

نُشرت هذه المقالة أولاً باللغة الانكليزية على المنصة الشقيقة لحكاية ما انحكت، مجلة"أنتولد ماغزين" في الثالث من يناير/كانون الثاني ٢٠٢٥.

مشاهدةُ اغتيال حسن نصرالله من زاوية هذا السوريّ تستدعي فتح شاشتين (على الأقلّ) في الوقت ذاته، إحداهما تتجلّى في موجزات فيسبوك وتويتر، والأُخرى في سردٍ داخليّ لا يتوقّف في رأسي.

على الشاشة الأولى، تظهر سرديّةٌ ثورةٍ شعبيّةٍ سوريّة قُمعتْ بوحشيّة، ما أدّى إلى تحوّلها إلى صراعٍ داخليٍّ متعفّن وحربٍ بالوكالة. صراعٌ تخلّلته مجازر لا تُعدّ، وعقوباتٌ جماعيّة، وتدميرٌ ممنهجٌ للمدن، ونزوح الملايين من السوريّين، وتمزُّقٌ في النسيج الاجتماعيّ قد يستغرقُ أجيالاً لترميمه (إن أمكن ذلك أصلاً). صراعٌ بدا وكأنّه، حتّى وقتٍ قريب، قد حُسم بانتصارٍ باهظِ الثمن لنظام الأسد، الذي باتَ يعتاش على جُثّةِ دولةٍ منهارة: أراضيها مُمزَّقة، اقتصادها مُدمَّر، ومجتمعها مُتهالك.

في هذه السرديّة، يُعتبر حزب الله؛ بزعامة حسن نصرالله في الواجهة، ومقاتليه ومجتمعه الأوسع من المؤيّدين في الخلفيّة، أحد أبرز المتورّطين في هذا الخراب من دون أدنى شكّ. فدعمه الصريح للنظام وهو يجتاح القُرى والبلدات والمجتمعات الثائرة في سوريا كان شرطاً أساسيّاً لبقاء نظامِ الأسد، وربّما لا يتفوّق عليه في الأثر سوى التدخّل الروسيّ المباشر ابتداءً من عام 2015. هذا الدور المباشر الذي لعبهُ مقاتلو حزب الله في الحربِ الوحشيّة التي شنّها الأسد – وأبرز مظاهرهِ في القصير، وحصار التجويع في مضايا والزبداني، وما تبع ذلك من مذابحٍ بحقِّ المدنيّين، وتهجيرٍ قسريٍّ، والصبغة الطائفيّة التي انطوتْ عليها هذه العمليّات، إضافةً إلى احتفالات البقلاوة الشهيرة التي أقامها مؤيّدو حزب الله ابتهاجاً بما فعلوه، هو أمرٌ يستحيلُ تجاهله أو فصله عن الصورة العامّة.

أين أبي؟

26 نيسان 2022
""شو أنا؟ أنا فلسطينية؟ ليش؟ عشان أبوي فلسطيني. فرجيني أبوكي! فش عندي صورة!! هذه هي ببساطة كل المعادلة. فأنا لا أمتلك أي صورة لأبي منذ أن بدأت العمل بالتصوير. إذا،...

على هذه الشاشة، يقفُ نصرالله، وربّما إلى جانب الأسد، غارقاً في الدمّ السوريّ، ومتسلّحاً بغطرسة نصرٍ صغير على مجتمعٍ مُنهك، مجوّع ومُحطَّم. كثيرون، وأنا من بينهم، ممّن ذاقوا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بطش حزب الله، مرّت هذه السرديّة في أذهانهم مع انتشار خبر اغتيال نصرالله. البعض لم يُخفِ شماتته، واحتفل بنهايته بتوزيع البقلاوة؛ وهل من شيءٍ يبعثُ على الرعب أكثر من تحوّل طقسٍ اجتماعيّ مألوف حول الطعام إلى طقسٍ يرتبط بالمجازر؟ سرعان ما اختلطتْ أكثر هذه الاحتفالات فجاجةً بخطاباتٍ أوسع من الكراهيّة والتشفّي، سواءٌ أكانتْ طائفيّة (ضدّ الشيعة)، أو عنصريّة (ضدّ اللبنانيّين).

ما يلفتُ الانتباه في هذه السرديّة هو الغياب التامّ للقاتل.

على الشاشة الثانية، تتكشّفُ أمامنا سرديّة الإبادة التي تُمارسها إسرائيل في غزّة وما بعدها، سرديّةٌ حيّة نُتابعها لحظةً بلحظة. نشهدُ فيها جيشاً من أكثر جيوش القرن الحادي والعشرين تطوّراً يصبُّ كلّ غضبهِ على "غيتو" فقير ولكنّه متطاول، تاركاً وراءه مشهداً يُشبه نهاية العالم؛ مشهداً يُجسّدُ، كما قال غسّان حاج، كوابيس الاستعمار الإباديّ في أنقى صورها. إبادةٌ تُنفّذُ تحت أنظارِ الولايات المتحدة، القوّة العُظمى العالميّة وبموافقتها الصريحة، وتستمدُّ قوّتها ليس فقط من ترسانةِ السلاح الأميركيّة، بل من الحماية السياسيّة والقانونيّة والثقافيّة التي توفّرها واشنطن. في هذه السرديّة، يتداخل تاريخ نشوء إسرائيل كامتدادٍ لمشروع استعمار منطقتنا، وتوسّعها المستمرّ على حساب شعوبها، مع محاولتها اليوم استغلال لحظة الإفلات المُطلق من المحاسبة لتسحقَ كلّ شكلٍ من أشكال المقاومة لهيمنتها في المنطقة، دفعةً واحدة وإلى الأبد.

في هذه السرديّة، يُعتبر حزب الله، خاصّةً بقيادة نصرالله، من القلائل الذين شكّلوا تحديّاً حقيقيّاً لآلة الحرب الإسرائيليّة. أجبر مقاتلو حزب الله إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، وخاضوا معها حرب 2006 التي واجهوا فيها جيشها وقوّاتها البحريّة وسلاحها الجويّ، وسط خسائر كبيرة لهم ولعائلاتهم. كانتْ هذه لحظاتٌ غير مألوفة مقارنة بتاريخِ الهزائم التي عانتْ منها الجيوش النظاميّة العربيّة (خاصّة في مصر وسوريا خلال حروب 1948 و1967 و1973).

يظهر نصرالله على هذه الشاشة الثانية كرمزٍ لهذا التحدّي في مواجهة المجازر الاستعماريّة التي ترتكبها إسرائيل، وكنفيٍ واضحٍ لفكرة حصانتها المُطلقة. خلال حرب تمّوز 2006، دعا سكّان بيروت للنظر من نوافذهم نحو البحر ليروا البارجة الحربيّة الإسرائيليّة، "هانيت"، التي كانتْ تقصفُ المدينة بلا هوادة وهي تحترق.

كثيرون، وأنا منهم، رأوا استشهاد نصرالله، الذي جاء بعد إبادةٍ مستمرةٍ في غزّة، ومع تصاعد التدمير في جنوب لبنان والبقاع وضواحي بيروت الجنوبيّة، كضربةٍ موجعة للنضالات المناهضة للاستعمار في المنطقة في لحظةٍ حرجة. بعضهم رثاه كزعيمٍ عربيّ عظيم صاحب أثر، يُشبه ناصر أو حتّى أكثر نجاحاً منه، في سبيلِ المقاومة العربيّة ضدّ الاستعمار الإسرائيليّ والتحرّر منه. وسرعان ما تحوّلتْ أبشعُ مظاهر الحزن هذه إلى صمتٍ شامل تجاه مأساة سوريا في هذا السرد، بل وحاولتْ توجيه غضبها نحو اللاجئين السوريّين في لبنان ككبش فداءٍ فوريّ.

السرديّات كصراعاتٍ متضادة

عندما تنظرُ إلى هاتين الشاشتين، تُصبح محاولة دمج واحدةٍ فوق الأُخرى، أو مشاهدتهما معاً في الوقت نفسه، أمراً مستحيلاً عمليّاً. تجدُ نفسك تتنقل بين هاتين الرؤيتين في الوقت الفعليّ، ممّا يُسبّب نوعاً من الغثيان الوجوديّ، الصمت الفكريّ، والشلل السياسيّ. وفي النهاية، لا يبقى سوى البكاء بلا توقّف. الضغط العميق في عمليّة استحضار هاتين الشاشتين يتجاوز أيّ تناقضٍ فكريّ تُثيرانه، أو الواقع المتضارب الذي تصفانه، فالحقيقة نفسها ليستْ متناقضة، هي كما هي، وهذا ما تُثبته أنقاض غزة وبيروت ومضايا المليئة بالدخّان. أمّا الضغط الذي لا يُطاق فيوجد في المكان الذي تقفُ فيه، وكيف تُحدّد موقفك وثباتك تجاه هاتين السرديّتين.

عند تجريدِ هاتين السرديّتين إلى هياكلهما العظميّة الأساسيّة، ومن دون الإيحاء بوجود تماثلٍ على مستوى المحتوى، فهما تصفان صراعَين متضادّين راسخَين لا يُمحَيان، متشابهان في البنية:

أ) صراعٌ متضادّ تجاه نظام الأسد الاستبداديّ، وخصوصاً حكمه القائم على العنف [1] منذ عام 2011، والجهاز الإكراهيّ الأوسع نطاقاً (الإقليميّ والدوليّ) الذي يدعم ذلك الحكم، والذي يظهر فيه حزب الله بشكلٍ بارز.

ب) صراعٌ متضادّ تجاه النظام الاستعماريّ الإسرائيليّ، وخصوصاً حكمه الإباديّ منذ أكتوبر 2023، والبنية الاستعماريّة الأوسع التي تدعمه، والمتمركزة حول الولايات المتحدة الأمريكيّة.

لا يُمكن الهرب من منطقُ هذين الصراعين المتضادين، ولا يقلُّ وحشيةً وتعقيداً عن البراميل المتفجّرة والقنابل الخارقة للمخابئ التي تؤكّد وجودهما وتُعيد إنتاجهما يوميّاً. بحدّ ذاتهما، لا يجب أن يكون الصراعان متضادّين. ولكن، عندما يتعلّق الأمر بحزب الله، فإنّ منطق هذين الصراعين المتضادين يستدعيك في الوقت نفسه إلى موقعين ذاتيّين متناقضين تماماً وغير متوافقين:

يضعك المشهد (ب) خلف نصرالله وهو يُلقّم بندقيته، أمّا المشهد (أ) يضعك أمامه، تُحدّق مباشرة في فوهة البندقية.

وهذا هو التوتر الذي يصعب تحمّله: الإحساس بالانقسام الداخليّ بين هذين الموقعين المتضادين.

تُساعد إعادة صياغة هذا التحليل في فهم مدى الصعوبة الكبيرة التي تنطوي عليها محاولة فهم هاتين السرديّتين معاً، أو حتّى التعامل معهما جنباً إلى جنب. وأرى أنّ هذا الأمر ينطبق (بدرجاتٍ متفاوتة) على العديد من الانقسامات التي تُشكّل واقعنا الحاليّ في المشرق العربيّ ومنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، طبقات اجتماعيّة، أجناس، أديان، أعراق، أوطان، وغيرها من المحاور المتشابكة. ومع ذلك، للخروج من هذا الشلل السياسيّ، نحتاجُ إلى إطارٍ أوسعٍ يجمعُ بين هذين الصراعين المتضادين (وغيرهما الكثير) ضمن علاقةٍ واضحةٍ ومتجانسة.

حلّ الصراعات المتضادّة

أقترحُ أنّ هناك على الأقلّ نموذجين متميّزين ومهيمنين تحليليّاً حاولا تقديم مخرجٍٍ لهذا المأزق [2]. وأرى أنّ كلا النموذجين ليسا فقط ناقصين من الناحية التحليليّة، بل تسبّبا أيضاً في خرابٍ واسعٍ في منطقتنا من خلال المشاريع السياسيّة الُمقترحة:

حزب الله وصناعة الأزمة اللبنانية… ما الدور الذي لعبه في تعميق الانهيار؟

22 أيار 2024
هذه الهيمنة تجعل من حزب الله أحد الأطراف التي تتحمل مسؤولية ما حلّ باقتصاد لبنان وصولاً إلى انهياره اعتباراً من سنة ٢٠١٩. أما استعصاء الحل السياسي والاقتصادي، بسبب تخاذل جميع...

يقول لنا النموذج الأوّل أنّ الأمر بسيط. فهو يُقدّم فهماً جوهريّاً للصراع: تقسيم واضح وثابت وبسيط، معارضة تجاه نقطة مركزيّة، يُمكنها تحديد واحتواء كلّ الصراعات والانقسامات الأُخرى سلفاً (وهو شكلٌ من أشكالِ "التحليل في اللحظة الأخيرة"). قد يكون هذا النوع من الفهم الجوهريّ واسع النطاق، كما في أشكال مناهضة الإمبرياليّة التقليديّة، التي تضع الصراع المركزيّ ضدّ الإمبراطوريّة الأمريكيّة، مع اعتبار كلّ الظواهر الأُخرى مجرّد نتائج لهذا الصراع. أو قد يكون ضيّق النطاق، كما هو الحال في الصراع السوريّ الذي يُركّز على المواجهة مع نظام الأسد. في توجّهها المعياريّ (إن لم يكن بالضرورة في التطبيق العمليّ)، قد تكون تحرريّةً وإنسانيّة وتقدميّة مثل معاداة الإمبرياليّة، أو محافظةً ومعادية للإنسانيّة ورجعيّةً مثل صراع الحضارات لهنتنغتون.

هذا المفهوم لا يفسح المجال للتناقضات أصلاً، وبالتالي لا يترك مكاناً لوجود السياسة نفسها، ويُفضّل الاستنتاجات السطحيّة المستندة إلى ذلك العداء الجوهريّ. في الواقع، إنّ مشاريعها السياسيّة المبنية حصريّاً على منطقٍ ضيّق لمعارضة تلك العقدة المركزيّة (الإمبراطوريّة الأمريكيّة، نظام الأسد) غير قادرةٍ أو غير راغبةٍ في دمج وبلورة النضالات التي لا تتوافقُ تماماً مع هذا المنطق، فتُفرَغ بذلك من أيّ مضمونٍ إيجابيّ خاصٍّ بها، وتفقدُ معناها. الحاوية الفارغة للذراع السياسيّ للثورة السوريّة مثالٌ واضح على ذلك [3]؛ وكذلك مناهضة الإمبرياليّة التي اختُزلتْ إلى مجرّد دفاعٍ عن نظامٍ روسيّ انتقاميّ، قوميٍّ متطرّف، ورجعيّ.

يقول لنا النموذج الثاني إنّ الأمور معقّدة. يُقدّم فهماً تعدديّاً للصراع؛ تكاثراً لا نهائيّاً لهذه الصراعات مع رفضٍ لأيّ تسلسلٍ هرميّ بينها أو أيّ تمييزٍ معياريّ (شيعة-سُنّة، عرب-أكراد، فلسطينيّون-إسرائيليّون: كلّهم يُحتمل أن يكونوا شرعيّين بالقدر نفسه ومتساوين في الأهميّة). إنّه غير مهتمٍّ وغير راغبٍ في التعمّق في دراسة العلاقات بين هذه الصراعات، ويتجنّب كذلك أيّ نقاشٍ حول أسبابها أو تأثيراتها المتبادلة. في أفضل حالاته، لا يعدو كونه قائمةً وصفيّة لعددٍ من الصراعات المختلفة، من دون تقديم مشروعٍ واضحٍ للتعامل معها. أمّا في أسوأ حالاته، وفي تجليّاته السياسيّة الواقعيّة في منطقتنا، فإنّه يميل إلى مشاريع سياسيّةٍ ضيّقة وانتهازيّة تتغيّر حسب الظروف (معاداة إيران اليوم، معاداة الشيعة، معاداة الأصوليّة، معاداة صدام حسين، وما إلى ذلك...).

إعادة صياغة الصراعات المتضادة

ما نحتاجه هو إطارٌ مختلفٌ تماماً، يسمح لنا برؤية هذه الصراعات المتضادة المتعدّدة، وفهمِ الظروف التي تجعلها متضادةً بالفعل. ببساطة، نحتاج إلى إطارٍ يفتحُ المجال بدلاً من أن يغلقه لإعادة بناء هذه الصراعات المتضادة المختلفة (عبر عملٍ سياسيّ وتحليليّ) ضمن مشروع تقدّميّ.

ومن البديهيّ أنّه لا توجد إجابةٌ سهلة على هذا الأمر، حتّى في نظامٍ يبدو بسيطاً ويضمّ صراعين متضادين فقط كما وصفنا هنا. ومع ذلك، يُمكنني اقتراح مجموعةٍ من المبادئ (العامّة جدّاً)، وهي ليستْ شاملةً أو كافية، بل نقطة بدايةٍ فقط، تُساعدنا في كيفيّة المضيّ قُدماً في هذا المسار.

  • السياق الاستعماريّ للمنطقة، بتشكيلاته التاريخيّة وآثارها وتجليّاتها المعاصرة المتعدّدة، رغم تباينها وتناقضها؛ هو نقطة انطلاقٍ ضروريّة لأيّ جهدٍ من هذا النوع. لقد كان، وما يزال، العامل الأكثر ضرراً في تشكيل وصيانة وتكرار الانقسامات التي تبدو وكأنّها لا تنتهي على خطوط وطنيّة، عرقيّة، دينيّة، لغويّة، أو غيرها. من دون أخذ هذا السياق في الاعتبار، سيكون من المستحيل فهم: كيف ولماذا يُجبرنا باستمرارٍ على الوقوف في هذه المواقع المتضادة بلا نهاية. ومع ذلك، لا يُمكن أن يكون هذا إلّا نقطة بدايةٍ فقط. لأنّ الهيمنة الاستعماريّة، بحدّ ذاتها، لا تستطيع تحديد مضمون هذه الصراعات المتضادة أو نتائجها التي تتكاثر في أعقابها، ولا تُحدّد أيضاً كيفيّة التعبير عنهما بالنسبة إلى بعضهما بعضاً في لحظات مُحدّدة [4]. يُمكن للإرث والمصالح الاستعماريّة أن تُساعد في رسم ملامح الهياكل السياسيّة والأيديولوجيّة (مثل الطائفيّة، القوميّة، والإقليميّة) التي تجسّدتْ من خلالها استراتيجيّات نظام الأسد والمعارضة المناهضة له في الثورة السوريّة. ومع ذلك، لا تُحدّد هذه الهياكل (وحدها) الاستراتيجيّات التي تتبعها الأطراف، أو التحالفات التي تتشكّل، أو كيف تُصاغ (أو تُعاد صياغتها) أيديولوجيّاً، ولا كيف ترتبط هذه النضالات أو تنفصل عن نضالاتٍ أُخرى (مثل النضال الكرديّ من أجل الحكم الذاتيّ أو الاستقلال، والنضال الفلسطينيّ من أجل الاستقلال). تُشكّل هذه الأسئلة، وغيرها، مساحةً مفتوحة (نسبيّاً) للعمل السياسيّ والتحليل.
  • تُساعدنا الإجابات العمليّة على الأسئلة السابقة في فهم ووصف مجموعة الصراعات المتضادة المختلفة التي تُشكّل بنيان سياساتنا وتضعنا في مواقع متباينة، أي من خلال العودة إلى الماضي. لكن أيّ مشروعٍ سياسيّ يهدف إلى تغيير هذا الوضع (مثل إعادة ترتيب، وإعادة تفسير، وإعادة صياغة هذه الصراعات المتضادة) يحتاج إلى منظورٍ زمنيّ مستقبليّ. بمعنى آخر، يحتاج إلى رؤيةٍ سياسيّةٍ مستقبليّة توجّهنا في العمل السياسيّ الحاضر إلى بناء علاقاتٍ بين هذه الصراعات المتضادة والنضالات المختلفة بطريقةٍ تُقرّبنا من ذلك المستقبل. وهذا بالطبع يفتح الباب أمام العديد من الأسئلة الصعبة حول التكتيكات الفوريّة والاستراتيجيّات المستقبليّة. لكن ذلك كلّه يكون في إطار البحث عن إجابةٍ على السؤال: أين نُريد أن نكون بعد 20 عاماً؟
  • أعتقد أنّ أيّ مشروعٍ مستقبليّ من هذا النوع يتطلّب إعادة توجيهٍ جذريّةً ومنسّقةً وثابتة لنطاق تفكيرنا وعملنا ليشمل كامل المنطقة مرّة أُخرى. فشل نظام الدولة الوطنيّة ما بعد الاستعمار في المنطقة (وبخاصّة المشرق بكلّ تفرّعاته المختلفة) في توفير الاستقرار أو الأمن أو الازدهار لغالبيّة شعوب المنطقة، فعليّاً، كان هدفه الوحيد دعم النخب السياسيّة في هذه الكيانات المختلفة وتفتيت أيّة معارضةٍ للهيمنة (النيواستعماريّة).

يُمثّل عقد الثورات التي انطلقتْ منذ عام 2011 لحظة انقطاعٍ وتغيّرٍ هامّةً في هذا السياق. وعلى رغم أنّ هذه الثورات لم تتحدَّ بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ أُسسَ نظام الدولة الوطنيّة، إلّا أنّ التطوّرات المتتابعة لها، وأساليب الاحتجاج المتنوّعة، والتضامنات العابرة للحدود، شكّلتْ تحديّاً ضمنيّاً لهذا النظام. في المقابل، جاء ردّ الفعل المضاد للثورة كمحاولةٍ طويلةٍ ومتواصلة لإعادة تأطير أزمات 2011 ضمن الحدود الوطنيّة فقط (وهو أمرٌ تحقّق، بشكلٍ مثيرٍ للسخرية، من خلال شبكةِ قمعٍ تتسمُ بطابعها العابرِ للحدود نفسها).

يفتح مثل هذا التوجّه أسئلةً صعبة لكنّها ضروريّة: ما هي "المنطقة"؟ كيف يُمكننا التخفيف من حدّة الحدود الماديّة والذهنيّة التي نعتبرها "المنطقة" (داخلها وخارجها)، سواءٌ على مستوى الجغرافيا أو الهويّة؟ كيف نُعيد تصوّر هويّاتٍ سياسيّة جماعيّة أوسع لا تمحو خصوصيات هويّاتها المكوّنة، والتي هي بطبيعتها متعدّدةٌ مثل الهويّات الوطنيّة، العرقيّة، الدينيّة، اللغويّة أو غيرها؟ مَن هم الذين يقفون خارج هذه التشكيلات الجماعيّة، وما هو منطقهم في الشمول أو الإقصاء؟ كيف يُمكنّنا إعادة تصوّر مفاهيم العيش المشترك والتنظيم السياسيّ على أساس هذه الخطوط الأوسع والأقلّ وضوحاً، وما هي أشكال السيادة، والدول، والمجتمعات التي قد تنبثق من ذلك؟

***

النتيجة هنا ليستْ مجرّد إطارٍ مصطنع يُمكن من خلاله تفسير هذه الصراعات المتضادة، بل حالةٌ يتمّ فيها الاعتراف بها واعتبارها مترابطةً ومتفاعلةً مع بعضها بعضاً. بمعنى أنّ النضال ضدّ عنف نظام الأسد يفترض ويستلزم النضال ضدّ الإبادة الجماعيّة الإسرائيليّة، والعكسُ صحيح.

يجب التأكيد على أنّ هذه النتائج ليستْ نتيجةً حتميّةً أو طبيعيّةً أو موضوعيّة. لا يوجد سبب يجعل هذا الصراع، الذي ظهر في بداية الثورة السوريّة وبعد مرور 13 عاماً، يصلُ إلى طريقٍ مسدودٍ يستحيلُ تجاوزه فيما يتعلّق بالنضال ضدّ الاستعمار الإسرائيليّ والإبادة الجماعيّة. هذه نتيجة اختياراتٍ وتحالفاتٍ واقعيّة، وبناء الخطابات والسرديّات السائدة من قِبل الفاعلين داخل الحركة ومن أعدائها (بما في ذلك بعض تيّارات اليسار المناهض للإمبرياليّة، لكيلا ننسى). ولا يُمكننا أن نتجاهل هذه القضيّة. هل هناك شكّ في التأثير السلبيّ الذي أحدثه تأييد نظام الأسد من قِبل عدّة جماعاتٍ مناهضة للإمبرياليّة، ومن فاعلين إقليميّين مناهضين للاستعمار، على مسار الثورة السوريّة؟ أو في الأثر الكارثيّ لتهميش سوريا حاليّاً وإضعافها كفاعلٍ إقليميّ، بالإضافة إلى استنزاف وتفكيك شعبها، على فُرص المقاومة الإقليميّة ضدّ الهيمنة الإسرائيليّة؟

يتطلّب بناء علاقةٍ تشاركيّة بين نضالاتٍ مختلفة (وبالتالي مستقلّة نسبياً) جهداً فكريّاً لفهمها وتحليلها ونقدها والتنظير حولها (وبالتالي، الإنصات تحديداً)، بالإضافة إلى تأسيس الأنماط والحركات والفضاءات والظروف التي يُصبح من خلالها هذا التشارك نتيجةً طبيعيّة. على سبيل المثال، يُمكن لفهمٍ نقديّ للتجذّر العميق لقمع الأسد الوحشيّ ضمن خطاب استعمارٍ وحضارةٍ أوسع، ولأنماط "الحرب على الإرهاب" (في أكثر صورها المعادية للإسلام والمدمّرة)، أن يُساعدنا على البدء في إعادة صياغة مقاومةٍ هذا المنطق كمشروعٍ مشترك. إنّ الفهم النقديّ للصراعات المتضادة الطائفيّة وكيفيّة حشدها للدفاع عن هويّاتٍ سياسيّةٍ منحطّة، في سياقاتٍ مختلفة، يُمكن أن يُساعدنا أيضاً على تعقيد الانقسامات الطائفيّة التي تُضعف كلّاً من معارضة نظام الأسد ومحور المقاومة، والبدء بالعمل الضروريّ لإعادة صياغة هذين المشروعين. كذلك، فإنّ الفهم النقديّ للصراعات المتزامنة ضمن سياقاتٍ إقليميّةٍ مختلفة (مثل تركيا وإيران ومصر وغيرها، حول قضايا تتراوح بين حقوق النوع الاجتماعيّ والحقوق الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة) وكيفيّة تفاعلها مع السياسات الإقليميّة لهذه الأطراف، يُمكن أن يُساعدنا في بدء عمليّة إعادة صياغة النضالات المتنوّعة معاً بطرق تتجاوز التحالفات الانتهازيّة الضيّقة وقصيرة الأمد، و/أو المنطق السياسيّ الرجعيّ (مثل الشوفينيّة والطائفيّة).

ولكن هذا لا يعني التظاهر بأنّ هذه العمليّة بسيطة، ولا الإيحاء بوجود ضماناتٍ لأيّ نجاحٍ في نهاية المطاف، إذ إنّنا نُكافح ضد هياكل وفاعلين يعتمد وجودهم على إنكار مثل هذه الظروف، وخلق بيئات تجعل من هذه التعبيرات مستحيلةً نظريّاً وعمليّاً على حدٍّ سواء.

ملحق

في الأيّام التي تلتْ انتهائي من كتابة هذا النصّ، انفجرتْ قشرة نظام الأسد الفارغة أخيراً إثر ضربةٍ واحدةٍ مناسبة من قوات المتمرّدين الإسلاميّين في إدلب، بعد حكم دام 54 عاماً من القمع والدم. من الواضح تماماً أنّ هذا الانهيار هو، إلى حدٍّ كبير، نتيجةٌ (وأيضاً إشارة واضحة) للضربة القاضية التي تلقّاها حزب الله خلال الأشهر الماضية، بالإضافة إلى ضعف محور إيران في المنطقة. ما يزال من المبكّر جدّاً الجزم بطبيعة النظام الجديد في دمشق وآفاقه المستقبليّة. في أفضل السيناريوهات (أي في حال عدم وقوع مزيدٍ من الصراعات والفوضى)، ستواجه أيّة دولةٍ سوريّة تنشأ من بين الأنقاض معركةً شاقّةً لإرساء أيّ مظهرٍ من مظاهر السيادة أو الاستقلال: بنيتها التحتية المدنيّة في حالةٍ يُرثى لها، واقتصادها منهك، وطبقتها السياسيّة غائبة، وجيشها مُفرغٌ من مضمونه (بل ومجرّدٌ من السلاح تقريباً على يد إسرائيل المنتصرة والغاضبة). ستكون معتمدةً كليّاً على الموارد الماليّة الدوليّة والإقليميّة الضخمة لإعادة الإعمار، وعلى "حسن نيّة" الدول المجاورة لضمان أمنها في المستقبل المنظور. سيتأثّر توجّهها السياسيّ بشكلٍ كبيرٍ بهذه المطالب؛ أي التحرّك بشكلٍ رئيسيٍّ ضمن المدار الاستراتيجيّ للمحور التركيّ القطريّ (ممّا يخلق حدوداً مباشرة بين هذا المحور وإسرائيل) بينما ستتنافس المملكة العربيّة السعوديّة والجهات الفاعلة الإقليميّة والدوليّة الأُخرى على موقعٍٍ ثانويّ.

يستلزم هذا الانقطاع العميق إعادة طرحٍ جديدةً لخريطة المنطقة الاستراتيجيّة، إلى جانب ظهور تساؤلاتٍ جديدةٍ علينا التعامل معها. سيكون مشروع إعادة إعمار سوريا وبناء مؤسّساتها الاقتصاديّة والسياسيّة والمدنيّة (ناهيك عن إصلاح نسيجها الاجتماعيّ الممزّق) هو ساحة الصراع الأكثر إلحاحاً وأهميّةً في الوقت الراهن. وتُشير المؤشّرات المبكّرة إلى أنّ توجّه سوريا سيكون مدعوماً بتحالف قوىً تجمع بين التيّارات الاجتماعيّة المحافظة والقوى الاقتصاديّة (النيوليبراليّة) الحديثة. التحدّي الأوّل والمباشر إذاً هو تنظيم وتوسيع الفضاء السياسيّ الذي يُمكن لقوى المجتمع الأُخرى المشاركةُ من خلاله في هذا المشروع والتأثير فيه، ومقاومة أشدّ توجّهاته ضرراً. يجب أن يتناول عملنا هناك أيضاً الأسئلة الاستراتيجيّة الناشئة التي سيتعيّن طرحها على المستوى الإقليميّ بمجرّد أن تهدأ تداعيات أحداث السابع من أكتوبر. أين يقع المحور التركيّ-القطريّ الناشئ بالنسبة إلى إسرائيل والقضية الفلسطينيّة؟ وما هي الأدوات التي يُمكننا البدء في تطويرها في هذا السياق الجديد لاحتواء إفلات إسرائيل من العقاب وإعادة صياغة نموذج مقاومةٍ إقليميٍّ جديدٍ في مواجهة نموذجها القوميّ الإثنيّ الإباديّ؟

بعبارةٍ أُخرى، كيف يُمكننا الوصول إلى حالةٍ يُصبح فيها النضال من أجل دولةٍ ومجتمعٍ سوريٍّ ديمقراطيّين وشاملين ومنفتحين، شرطاً مسبقاً ووجهةً للنضال ضدّ القوميّة الإثنيّة الإباديّة الإسرائيليّة، والعكس صحيح؟

"العقوبات الأمريكيّة لا تزال العقبة الأكبر" في سوريا .. مقابلة مع الخبير الاقتصادي جهاد يازجي

15 أيار 2025
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رفع العقوبات عن سوريا في ١٤ مايو/أيار ٢٠٢٥، ومنحها "فرصة للازدهار"، من السعودية، خلال جولته الخليجية، والتقى رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع. قوبل القرار...

شكر وتقدير:

نشأتْ هذه المقالة من عدّة حواراتٍ قصيرةٍ مؤخّراً مع الصديق عمرو سعد الدين، صاحب الفكر العميق، وإن كان مستفزّاً في بعض الأحيان. كما أتقدّم بالشكر للأصدقاء والزملاء بنيامين دي كلين، وإنريكو دي أنجيليس، ورشا شطا، على ملاحظاتهم السخيّة ومساهماتهم في هذه التأمّلات.

ملاحظات:

1 انظر: سلوى إسماعيل، 2018، حكم العنف. مطبعة جامعة كامبريدج.

2 أتبع هنا نهج ستيوارت هول في نقد المفاهيم السائدة آنذاك للطبقة والعرق في المجتمعات الاستعماريّة، والتي تتوافق أيضاً بشكلٍ وثيق (وخاصّةً كاستراتيجياتٍ سياسيّة) مع ما حدّده لاحقاً لاكلو وموف بـ"منطقيات التكافؤ والاختلاف". انظر: ستيوارت هول، 1980، العرق، التعبير، والمجتمعات المنظّمة في ظلّ الهيمنة؛ إرنستو لاكلو وشانتال موف، 1985، الهيمنة والاستراتيجيّة الاشتراكيّة.

3 تُعدّ مذكّرات برهان غليون، أوّل رئيسٍ للمجلس الوطنيّ السوريّ، مؤشّراً جيّداً على الجمود الشديد وفراغ الأجهزة السياسيّة التي كانتْ تُمثّل المعارضة السوريّة، بما في ذلك المجلس الوطنيّ السوريّ والائتلاف السوريّ ولجنة التنسيق. انظر: برهان غليون، 2019، عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل. الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت.

4 هناك تشبيهٌ (غير كامل) يتمثّل في اعتبار انقلاب هول لـ"الحتمية الاقتصاديّة" على الأيديولوجيا إلى حتميّةٍ تعمل "في المقام الأوّل" بدلاً من "في المقام الأخير": "يوفّر الاقتصاد ذخيرة الفئات التي ستُستخدم في الفكر. ما لا يستطيع الاقتصاد تقديمه هو (أ) محتويات الأفكار الخاصّة لطبقاتٍ أو مجموعاتٍ اجتماعيّةٍ مُعيّنة في وقتٍ مُحدّد؛ (ب) تثبيت أو ضمان أيّ الأفكار ستُستخدم من قبل أيّة طبقاتٍ إلى الأبد. وبالتالي، فإنّ تحديد الاقتصاد للأيديولوجيا يكون فقط من حيث أنّه يضع حدوداً لتعريف ميدان العمليّات، ويؤسّس 'المواد الخام' للفكر." انظر: ستيوارت هول، 1986، مشكلة الأيديولوجيا — الماركسيّة بلا ضمانات، مجلة استقصاء الاتصالات، 10(2).

مقالات متعلقة

عزيز العظمة: عن سوريا بين سقوط النظام وصعود الإسلاميين

17 كانون الثاني 2025
يتناول هذا الحوار مع الأستاذ والدكتور عزيز العظمة مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات...
عن العلمانية في سوريا ما بعد الديكتاتور

25 كانون الأول 2024
أثار التجمّع الذي حصل في ساحة الأمويين في دمشق في ١٩ كانون الأول يناير ٢٠٢٤ والذي رفع شعارات مدنية وعلمانية جدلًا في الفضاء السوري العام. الطبيب والرسّام والشاعر، عبدالوهاب عزاوي،...
الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!

22 أيار 2025
"لو بقينا هنا، سنكون إما جثثاً في أخبار عاجلة، أو أطباء بلا دوامٍ أو أدوية"، هذا ما يقوله الطالب في كليه الطب من مدينة بانياس، أحمد زاهر، في هذا التحقيق...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد