(دمشق)، لا أكتب هذه الكلمات بحياد. أنا في دهشةٍ عميقة من كمّ الافتراضات المُسبقة والمُلحقة بنا كسوريات وسوريين عشنا في مناطق النظام السابق؛ إسقاط صفاتٍ وأحكام، فرضٌ ثقافي، إقصاءٌ وتجريمٌ أحياناً، يبدو معه أننا بحاجةٍ إلى صكّ براءةٍ بثمنٍ مرتفع، كما يبدو أننا صمتنا طويلاً حتى اعتدنا الصمت واعتاد الآخرون الكلام عنّا.
الكوعنة
بدأت الثورة في مناطق النظام السابق، وهو من اعتقل الناس وعذّبهم، في مناطقه، حتى لحظة سقوطه. ورغم هذا يبرز السؤال على منصات الإعلام الاجتماعيّ في تعليقاتٍ وردود لا تنتهي: "كنتوا تسترجوا تحكوا هيك من قبل؟"
"كنا نقول الكثير طوال الوقت، وكنا نعترض ونتحدى ونرفض التهليل ونصرّح بمواقفنا ما أمكن. من الطبيعي ألا نعرّض أنفسنا لخطر، حسب ما نستطيع أيضاً، هل يجرؤ الناس اليوم على تحدي السلطات في وجهها علناً؟ ألا يورطهم هذا بمشكلات؟ يجب أن نتحلّى ببعض المنطق".
يؤكّد لي أنور ح. بنظراتٍ تستغرب تساؤلي، وهو أحد المعارضين الذين اعتُقلوا بداية عام ٢٠٠٠ لنشاطه في جامعة دمشق، والمنشقّ عن أحد أحزاب الجبهة التقدمية قبل الثورة. أنور ليس الوحيد الذي يتحسّس غياباً للمنطق في بعض الافتراضات الشائعة، فسامر ز.، الدمشقيّ الفخور، الذي أمضى السنين الفائتة بلفتِ انتباه كلّ مَن يعرفه (بمن فيهم سائقو التاكسي الذين يرتاح إليهم) وبالاستشهاد بتجارب عالمية مختلفة، إلى أن نهاية النظام قادمةٌ بلاشك، يشير لذلك أيضاً: "ليأتوا ويحاولوا أن يقولوا شيئاً في السابق، أم أن الكلام من الخارج سهل؟ أم أننا نريد أن يهاجر الجميع من بيوتهم ونترك البلاد لعصابة الأسد؟ هل هذا منطقيّ؟ وماذا عن كلّ العائلات التي بقيت في الأحياء المعارضة بعد التهجير؟ وماذا عن عائلات المقاتلين التي نزحت إلى مناطق سيطرة النظام؟ أهؤلاء جميعاً مكوعون؟"
ندى ع. من وادي بردى، معارِضة ومعتقلة سابقة أيضاً، ذكّرتني ببعض القرارات باستغرابٍ وعصبية، وجرعاتٍ متلاحقة من نفث الدخان " لقد ألغوا القرار، لكن ماذا يعني أن يطالبوا مَن دفع بدلاً نقديّاً بحجّة أنهم دعموا النظام السابق؟ هذا جنون! أنت تحاسب من رفض الاشتراك في المقتلة وتَكلَّف ثمناً باهظاً لذلك، بدل أن تشكره وتعيد له بعضاً مما خسره مُرغماً، ربما سيحاسبون أهالي المعتقلين الذين دفعوا رشاوى للأمن لمعرفة أماكن أولادهم بعد قليل!".
قد يبدو خطاب (التكويع) موجّهاً ضدّ كثيرين، وليس أولئك الذين بقوا في مناطق النظام السابق، لكن السؤال يثير حفيظتهم أكثر من غيرهم إذ أنهم اختاروا العيش تحت سيطرته، أو أُجبروا، فكان صراعهم معه وجودياً، لا كلاماً يقولونه أو يمتنعون عنه، وكان كلّ قرارٍ منه موجّهاً بشكلٍ ما ضدهم، وبتأثيرٍ يلمسونه في حياتهم يومياً، فيبدو تشويه معاناتهم أقسى وأقسى، وتحديداً للمعارضين والمعارضات منهم.
ألتقي عبير ش. النسوية الشركسية ذات الانتماء السوريّ العميق بعد سنوات، رغم أننا في المدينة نفسها. آخر مرّة حدثتني كانت بعد خروجها من الغوطة، إثر اعتقالها وإخلاء سبيلها برشوةٍ ضخمة، "لا عتب بيننا، فقد كنا نخاف أن نتواصل قبل سقوطه، بعد أن ذهب الكثيرون وبقينا فرادى. هناك أشياء لن يدركها إلا من عاشها، ومنها بتر علاقاتك ومسح صورك لأنك اخترت أن تبقى في أرضك، كمن يقطّع أوصاله ليُبقي على روحه. بالتأكيد عانى الكثيرون من تركهم البلد، ومات كثيرون كان من الأفضل لو تركوها، ولكن بعض الحظّ، لا يقلّل من أهمية الصمود وأفعال المقاومة الصامتة والعلنية التي قمنا بها، بل يجب أن يتمّ الاحتفاء بها."
الإحساس بالغبن والحاجة للتقدير أمرٌ يتشاركه كثير من السوريين والسوريات اليوم، وتحديداً بين جماهير الثورة، لكن سوريي (المحرّر الجديد) يُنظر إليهم كالقابعين في أسفل قائمة المواطنين، الأمر الذي حوّل نقاشاتي حول الانتقال السياسي ومعناه، إلى معنى البقاء في سوريا عبر هذا التحوّل. تسكننا فكرة شبهنا بفلسطينيي الداخل، لكن ما مررنا به يُسفّه باستمرار، وبأشكالٍ مؤذيةٍ جداً، مثل أن يكتب أحدهم تقريراً بأحد أقربائه، ممن سُحبوا للاحتياط، لأنه اعتبره من الفلول.
"يعرفون أن ابن أخي معارض وأن أباه معتقلٌ سابق، ولم يذهب بقدميه إلى جيش النظام وإنما ألقي القبض عليه قبل شهرين من سقوطه. اليوم، نحن نحاول شرحَ أشياء يتم تسطيحها بشدة، ونزع كثيرٍ من الحقيقة عنها، لتأتي النتائج مرعبة." تسرد ندى قصة ابن أخيها ومشكلته مع أحد الأقرباء الذين هُجّروا ثم عادوا من إدلب.
لا يقدّم العائدون المتباهون صورةً تظهر حجم الألم الذي سبق هذه البهجة بالانتصار، بل يتركون الانتصار فقط يذيق الآخرين شماتةً مبطنة، ويشهرون التضحيات كمن يبارز، لا كمن يسعى إلى التعاطف والحشد، في الوقت الذي يجمعون كلّ من تركوا خلفهم في سلّة الخانعين، الفاشلين، الخاسرين. تستمر رحى تهميشٍ ونكران ينسى الجميع خلالها أنّ مَن خسروا أرواحاً وممتلكاتٍ ما زالوا يحاولون العيش ضمن استغلالٍ متفاقم.
زعم بشار الأسد في إحدى خطبه أنّ سورية أصبحت متجانسة، وكدنا نشعر كأنّ كل مَن هو خارج تلك الـ (سورية) قد صدّقه، فبتنا كلنا واحداً بالنسبة إليهم، مكوّعين. بعد غياب، ألتقي مصادفةً ببلال م.، عضو تنسيقية الميدان سابقاً وأحد شركاء المظاهرات بداية الثورة، يخبرني عن اعتقاله لسنواتٍ ثم انكفائه إلى العمل الخاص وبعض الأنشطة السرية بعد خروجه، وابتعاده عن كلّ الأجواء المعارضة خوفاً من تكرار التجربة، ورغبةً في الاستمرار في الحياة في البلد لدعم أصدقائه وأقربائه ما أمكن. "أنا لا أحب الكلام، أحب العمل، وبإمكاني العمل هنا أكثر".
أهو النسيان؟
يبدأ من اضطرّ إلى ترك سوريا بإجراء المقارنات، بدأنا نعيش هذا مع زيارات المجنّسين من غير المطلوبين منذ أعوام، والذين لم تحمل عودتهم أبعاداً سياسية عندها بل اقتصادية، اليوم يندمج الاقتصادي بالسياسي ليتحوّل إلى طبقةٍ عليا تُجري المقارنات باستمرار. "لا يفتأ صديقي الإدلبيّ يذكرني بأنّ سياراتنا مهرهرة وأنّ موديلاتٍ منتشرةً لدينا أصبحت عندهم لعباً للأطفال، فيما يعيّرنا آخرون بغلاء الأسعار هنا ورخصها هناك"، تدنّي مستوى الحياة والمعاناة مع الغلاء بالنسبة لأنور أمرٌ غير إشكاليٍّ جداً، فأسبابه مفهومة، ولم نمتلك لها حلاً، بينما يقارن نفسه بتجارٍ ورجال أعمال مكرّسين، يصارعون لأمرٍ آخر، فباعتقاد بعضهم أنهم تحمّلوا الكثير ليبقوا ويحافظوا على وجودهم هنا رغم كون الانتقال إلى مكان آخر مُتاحاً. هم يعتقدون أن في إقصائهم خسارةً للبلد الذي يعرفون دقائق أموره خيراً من غيرهم.
الناشطون أيضاً، والمثقفون، يشتركون في الإحساس بالخيبة من جمهورٍ جديد يحتفي فقط بالقادمين، ويلغي أيّة تجربةٍ تراكمتْ في عقر داره. "يثير استغرابي تذكير النسويات من الجزيرة لنا في كلّ حين بأن تجربتهنّ مميّزة، وكأننا لا نسعى إلى مثلها، وحين يتعاطفن معنا يقلن إنه ليس لدينا خبرتهن، لأننا عشنا تحت القمع" تضيف عبير ش. عن المؤتمرات التي تشارك فيها مؤخراً.
ديما موسى: بعد سقوط النظام... أريد أن أظلّ ناشطةً سياسية
06 حزيران 2025
في المقابل يختار بعض نشطاء (الداخل) تشكيل تجمعاتٍ لا تحتوي على أفراد في الخارج، فالنقاشات أسهل والأولويات أقرب للتوافق، حيث لا تسخّف إشكالياتهم بالتذكير بالضحايا والحياة المستمرة تحت القصف، لكننا نجد بعضهم يتطرف ليتواءم دون قصد مع رواياتٍ موالية للنظام السابق، تخفّف من معاناة الحياة شمال غرب سوريا، أو الخسارات التي تكبّدها الهاربون من بطش النظام.
للأسف، لا يقدّم العائدون المتباهون صورةً تظهر حجم الألم الذي سبق هذه البهجة بالانتصار، بل يتركون الانتصار فقط يذيق الآخرين شماتةً مبطنة، ويشهرون التضحيات كمن يبارز، لا كمن يسعى إلى التعاطف والحشد، في الوقت الذي يجمعون كلّ من تركوا خلفهم في سلّة الخانعين، الفاشلين، الخاسرين. تستمر رحى تهميشٍ ونكران ينسى الجميع خلالها أنّ مَن خسروا أرواحاً وممتلكاتٍ ما زالوا يحاولون العيش ضمن استغلالٍ متفاقم، يفرضه صلف مَن قدموا وطمع مَن بقوا، ليطحن الخاسرين أكثر فأكثر من كلا الطرفين.
كثيرون يأتون سائحين، ينشرون نصائح لأقرانهم القادمين من أوروبا عن ضرورة ارتداء الكمامة، الاحتياط من التسمّم الغذائي، وتحاشي الحركة خارج الأحياء المترفة في العاصمة. آخرون يستمتعون أحياناً بوصفنا بقندهار أو تقديم توقّعاتٍ عن الفشل أو استمرار المعاناة لسنواتٍ وعقود، نائين بأنفسهم عن هذا المصير بحكم الخيار الجغرافي. ينصحنا آخرون أن نخرج في مظاهراتٍ لسبب ما أو نصلح أمرنا بطريقةٍ ما، ويستغربون الجمود منا في مجموعات الواتساب الجامعة للهنا والهناك، ويستعصي على البعض فهم دعمنا لموقفِ أو تكريس حراكنا بشكل دون آخر. يتسابق أصدقاؤنا الناشطون في الخارج لفتح مكاتب في البلد، لكنهم يريدون من يشغّلها، فهم لن يعودوا، بل سيزوروننا كلّما استطاعوا، وعلينا أن نستمرئ الاختلاف بيننا والتبعية الاقتصادية التي يفرضونها فيما يريدون الكتابة عنه، فيما يريدون الاستثمار فيه، فيما يريدون تقليده، من دون آذان تبحث فعلًا عن أبناء الأرض لتسمع ما يريدون.
تلك المؤتمرات التي بدأت في الخارج خلال السنوات الماضية، تنتقل إلى سوريا اليوم لتناقش أفكار روّاد الأعمال حول حلّ مشاكلنا المُستعصية، ونبقى متفرّجين أكثر بزعم نقص الخبرة وبسبب الانشغال بالحياة حقيقة، فالحياة هنا لم تنقطع، لم تنتهِ برحيل أحد ولم تبدأ بمجيئه، وإنما أكملت تراكمها حدثاً تلو حدث، وطريقةً تلو أخرى، ولهذه التجربة أن تُسمع وتُصاغ وتُنقد ربما، لكن ليس لها أن تُسقط من حكاية هذا المكان، أو تختصر بأحاديث الكهرباء والوقود.
يقدّم السوريون والسوريات من المحرّر الجديد مثالاً في الكفاح اللاعنفيّ وصمود أصحاب الأرض، ورؤيةٍ وتجربة للعيش بعد الصراع، لا ينبغي لها أن تسود ربما، كذلك ليس لأحدٍ أن يسود عليها فيلغيها، وإنما تُقدّم كغيرها سرداً مُستحقاً لحكايتنا في هذا البلد.
تقول صديقتي عن أحد زملائها الذين عادوا من أوروبا ليستقروا في سوريا بعد سقوط الأسد "بدأت أرى شيئاً في عينيه ينطفئ وعرفت أنه بدأ يشبهنا، وأنّ مرحلة اقتراح الحلول السحرية انتهت. هناك شيءٌ يشبه الحداد فيما عشناه؛ الإنكار، الغضب، القبول، ثم الخروج أكثر تواضعاً. سيفهمون أنّ هناك ما يوحّد السوريين في مناطق النظام ويستحق التفكّر به عبر الجغرافيا المُفكّكة، وهو ليس تجانساً كما صدّر الأسد، وإنما وحدةٌ من آلامٍ معاشة وآمالٍ بالحياة، ووعيٍ صادق ودقيق لما حصل، فهنا تجمّعنا جميعاً مهزومين. الناس أعني لا الطبول".
يبدو الأمر خلافاً ثقافياً مُترفاً إذا ما قورن بحجم التحديات أمامنا والتضحيات خلفنا، لكنه حتماً يدفع الناس إلى تكوين تحالفاتٍ ومجموعاتٍ تُقصي وتُدني حسب فهم كلٍّ منا لهذه الموقعيات، وموقفه منها. ولايزال الإقصاء حتى اليوم في معرض السياسة والثقافة والعمل، لكنّه إن لم تؤخذ خطواتٌ بسيطة للتعامل معه كالاعتراف والتشميل والتقدير، فقد يتحوّل إلى حجر عثرةٍ أمام بناء هذا الاجتماع السوري على خيرٍ وسلام. يقدّم السوريون والسوريات من المحرّر الجديد مثالاً في الكفاح اللاعنفيّ وصمود أصحاب الأرض، ورؤيةٍ وتجربة للعيش بعد الصراع، لا ينبغي لها أن تسود ربما، كذلك ليس لأحدٍ أن يسود عليها فيلغيها، وإنما تُقدّم كغيرها سرداً مُستحقاً لحكايتنا في هذا البلد.