مقابلة مع إياد الجرود عن فيلمه "في مهب الريح"

عند سقوط النظام فكرت .. محظوظ لانتهائي من العمل عليه


17 حزيران 2025

سليمان عبدالله

صحافي وناقد سينمائي سوري مقيم في برلين

كمشاهد/ة سوري/ة في عالم ما بعد سقوط نظام الأسد، يقفز سؤال إلى ذهنك ما أن تبدأ بمشاهدة فيلم "في مهب الريح"، للمخرج السوري إياد الجرود، الذي جاء عرضه الافتتاحي في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا) ، وتعرف بأنه قد صُور بعد عامين من انطلاق الثورة، حينما كان السؤال السوري مفتوحاً، أي جديد ينتظرني؟. لكن، ما أن يمضي بك المخرج "الصامت"، في رحلة الفيلم، حتى تشعر بطزاجة أسئلة الفيلم، التي يتردد صداها حتى اليوم.

بفصل أول حابس للأنفاس، يجعل المشاهد/ة جالساً على حافة الكرسي، دون سرد صوتي، يعيدنا المخرج بالزمن إلى مرحلة تحول في الثورة السورية، طغيان العسكرة على الاحتجاجات المدنية، تاركاً قصف النظام للمناطق الثائرة عليه، تحديداً سراقب، المدينة التي يتحدر منها، أعين المدنيين المعلقة بالموت الساقط عليهم من السماء، يفسر لنا لم حمل أبنائها السلاح، ولماذا بات للفصائل الإسلامية الصوت الأعلى، قبل أن ينطلق بكاميرته مع مجموعة من المقاتلين من سراقب المتجهين نحو الطبقة، وهم يخشون من اصطيادهم جواً من قبل النظام.

يحط المقاتلون رحالهم في الطبقة لينضموا لعملية عسكرية ضخمة مفترضة لحصار مطارها، لكنهم لا "يصلون" أبداً، نراهم فيما تبقى من الفيلم، في رحلة طريق، عالقين في مهمة تفوق قدراتهم، يبدو الانخراط في القتال لا مفر منه، حتى وإن كانت النتيجة بعيدة المنال .. هو قتال لأجل البقاء على قيد الحياة، إقناع النفس بأنهم يحاولون على الأقل فعل شيء ما.

وإن كان المخرج يرافق المقاتلين في بعض محاولاتهم العبثية لقصف المطار بأسلحة بدائية، لكنه يبقينا أكثر معهم، يلعبون كرة القدم،  ويتحلقون حول النار قرب بحيرة الثورة، يشربون الشاي، يندبون حظهم العاثر ... قلة عددهم، وقلة الذخيرة، وقلة الطعام، والعلمانيين. ما كان ينبغي أن يكون حصاراً يتحول إلى كمين، علقوا فيه.

مقابلة مع أنس زواهري، مخرج "ذاكرتي مليئة بالأشباح"

05 أيار 2025
"كان عرضه الافتتاحي في نيسان/أبريل ٢٠٢٤. لكن لو سقط النظام قبل عرضه الأول، لكان الفيلم بالطبع قد أخذ شكلاً آخراً"، يقول المخرج أنس الزواهري في مقابلةٍ أجريناها معه، عما إذا...

عوض التوجه إلى أرض المعارك يبقينا المخرج خلف الكواليس، يلتقط اللحظات الصامتة السائدة بين أناس وجدوا أنفسهم قد تغيروا خلال عامين، ويريدون التعرف على أنفسهم من جديد. يبتعد المخرج بذلك، عن إغراء الأحداث الساخنة، يبقينا بعيداً عن الدماء الساخنة المنسكبة، وقريبين من الندوب التي يتركها العنف على النفوس.

يحيل إياد البحيرة إلى رمز، وكأنه يوحي للمشاهد/ة، بأن هؤلاء المقاتلين، ليسوا سوى أسماك صغيرة في هذا الصراع، تحاول ايهام نفسها بأنها تحاصر سمكة قرش، النظام الرابض في المطار،  يقطعون عنهم الإمداد البري والمياه عنه ويمطرونه بعدد صغير من الصواريخ، لكنهم يخشون مواجهته، أن يجوع جنود النظام ويبادرهم بالهجوم عليهم ويقتحمون الطبقة.

وسط هذا الحصار المفترض، تظهر النقاشات بين المقاتلين، والمخططين من الفصائل، عن أسباب تأخر النصر، إيجاد تفسير لوضعهم، أهم العلمانيون؟ أم الغرب الذي لا يريد أن يستلم الإسلاميون السلطة؟ كيف ينبغي التعامل مع المنشقين عن النظام، الذين يصلون إليهم، ذبحهم جميعاً، أم أخذ كون بعضهم مجندين بعين الاعتبار؟

في هذه المقابلة المطولة، مع إياد الجرود، نلقي معه نظرة إلى الوراء، بداياته السينمائية، ورحلة تصوير وإنتاج وإصدار "في مهب الريح"، الأسباب الإنتاجية لهذه الرحلة الطويلة للغاية، التي قاربت عقداً من الزمن.

*بداية، هل لك أن تحدثنا بداية، عن مدخلك إلى صناعة الأفلام؟

حقيقة، أنا درست الرياضيات، التي أحب، وقمت بتدريسها لطلاب المرحلة الثانوية. اهتمامي بالسينما سبق عملي فيها، وذلك من حيث المشاهدة الدورية.

أما المدخل، فكان الظرف والحاجة للتعبير عما تشعر به بعد اندلاع الثورة، والإحساس بالمسؤولية إلى حد ما. إذ كان لدي اهتمام منذ البداية بالتوثيق، حتى كتابة أيضاً. كان هناك شيء ملفت يحدث للمرة الأولى، ودهشة، حيال ما هو جديد، وتغير كل المفاهيم والعلاقات الإنسانية في المكان. هذا التغير يجذبك لحفظه. كان لدينا ذاك الحلم "الساذج" بتحقق العدالة في النهاية، وكنا نتصور أننا بحاجة لهذه التفاصيل. عندما تدرك بأن الثورة ليست مؤقتة ولن تنته كما تصورنا بداية خلال مدة قصيرة، تعي بأنك بحاجة لأدوات أخرى.

فيلمي الأول "دفاتر العشاق" كان يدور حول الغرافيتي، عن حالة جديدة في مدينة سراقب، هي الكتابة الكثيفة للغاية على الجدران،  وحتى تحت أقدام المتظاهرين على الأرض. كان شيئاً ملفتاً. عندما تشاهدهم يكتبون مرة، ثم يتكرر ذلك، تدرك بأن هناك مساراً، وعليك متابعته، وحفظه، على نحو يتجاوز التقاط صورة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.

من المعروف أنه ليس لدينا أكاديميات سينما في سوريا، هل كنت تستلهم من صناع الأفلام السوريين/ات على الأقل، عندما بدأت العمل، رغم قلة عدد الأفلام المتوفرة حينها نسبياً؟

عددها قليل كما قلت، إلى جانب عدم توفرها قبل الثورة، إلا في دوائر معينة في دمشق، وبعض المساحات الثقافية. بعض هذه الأفلام المحظورة من قبل النظام، كتلك التي صنعها عمر أميرالاي مثلاً، باتت متوفرة بعد الثورة فقط.

لكن، كانت لدينا مكتبة ضخمة من الأفلام في المنزل، يجلبها أخي من دمشق. إذ كنا في مدينة صغيرة ليس فيها دور سينما أو أفلام متاحة للبيع. بوسعي اعتبار أخي، الشخص الذي كان يربطني بالسينما. عموماً، لست ميالاً لاتباع نموذج، واتساءل أحياناً إن كان من الأجدى أن أدرس السينما أم لا.

أنا سعيد لاتخاذ القرار الصحيح، وانجاز الفيلم برؤيتي ما قبل سقوط النظام، لأنه لو سقط قبل انجازه، كان لهذا التغيير الذي حدث في حياتنا جميعاً، والأسئلة الجديدة التي ظهرت، ليؤثر ربما على مسار الفيلم أيضاً. وكان هناك احتمال ألا أنجزه حتى أو يتطلب أكثر من عامين حتى تستقر الأفكار، لا أن تكون مدفوعة بحدث سقوط النظام. 

أفلامك، حتى أحدثها "في مهب الريح" ٢٠٢٤، صُورت في السنوات الأولى من الثورة. السؤال الذي يطرح نفسه عند المشاهدة، إن كنت قد صورته في ٢٠١٣، لماذا تأخر إصدارها لعدة أعوام، في حالة فيلمك الأخير لأكثر من ١٠ سنوات؟

صنعت عدة أفلام قصيرة، قبل أن أصنع فيلمي "دفاتر العشاق" في ٢٠١٤، الذي كان عرضه العالمي الأول في مهرجان روتردام الدولي، ويغطي الفترة بين بداية ٢٠١١ حتى نهاية ٢٠١٣، و"القربان" وهو إنتاج ٢٠١٨، وكان عرضه العالمي الأول في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية، ويغطي أيضاً من ٢٠١١ وحتى الشهر الثالث من ٢٠١٣، وبذلك يتقاطع زمنياً مع فيلمي "دفاتر العشاق"، من حيث فترة التصوير، لكن موضوعهما مختلف، رغم وجود عناصر تربط الفيلمين. أحدهما يركز على الحراك المدني والغرافيتي، فيما يتعاطى "القربان" مع تطور الوضع ككل، ويتابع شخصيتين كانتا حاضرتين بقوة في الحراك المدني، ثم في الحراك العسكري.

"في مهب الريح" يأتي زمنياً تماماً بعد الفترة التالية ل “القربان". لذا الأعمال الثلاثة هي سلسلة بشكل أو آخر، واعتبرها سوية مشروعاً يقدم قراءة عن مرحلة، ليست مستقلة بحد نفسها، فتجد مشهداً يربط فيلماً بآخر بطريقة أو أخرى.

أما عن تأخر إنتاجها، فهي الظروف الإنتاجية، إذ أُنجزت الأفلام الثلاثة بشكل مستقل، دون أن تكون مرتبطة بشركة إنتاج، وبتمويل شبه معدوم، الجزء الأكبر من التمويل شخصي. هناك منحة صغيرة لكل فيلم. وهذا أمر مرتبط بالعقلية التي أعمل بها، وعقلية السوق، وحساسية هذه الأفلام. فيلم "في مهب الريح" مثلاً، كان لديه فرصة إنتاجية، لكن هذه "الفرصة" كانت تريد أخذ الفيلم إلى مسار مختلف تماماً، بعد ثان، رؤية ثانية. وهذه مسألة صعبة دوماً بالنسبة لك كمخرج، أن توازن بين المرونة الإنتاجية والحفاظ على أفكارك.

هل تأخر الإنتاج كان ذا صلة بهبوط الاهتمام بالفيلم السوري في السنوات الأخيرة، مقارنة بالسنوات الأولى للثورة؟

لم اهتم حقيقة بهذا السياق، إذ لدي حساسية حيال ذلك، والسؤال هنا هل تؤخذ أفلامنا للمهرجانات لأن سوريا محور الأحداث، أم لأن الفيلم الذي انتجته يستحق ذلك. تأطير أفلامنا بذلك، يشكل نوع من الإهانة لجهد صانع/ة الفيلم.  فيلمي الأخير "في مهب الريح" جاء قبل سقوط النظام، في فترة غريبة، ساكنة تماماً، باتت فيها سوريا منسية دولياً. ولكون الفيلم عن مقاتلين، وقد صورته قبل عقد، لم يكن متوقعاً أن يكون محط اهتمام. الوجود في سوق الإنتاج مرهق، ولم أكن يوماً هناك. أعمل عادة على الفيلم بصرف النظر أين سيصل، وبماذا سيعود علي. المهم بالنسبة لي أن أنهي العمل عليه.

بحديثك عن تزامن عرض الفيلم الأول في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية "إدفا"، مع سقوط النظام، هل ساعدت هذه الرياح المواتية الفيلم، للمضي أبعد في مهرجانات دولية ذو التصنيف الأول؟

ليس لدي إطلاع كبير على ذلك. جواب ذلك ربما عند المنتجة التنفيذية غيفارا نمر (مبتسماً). العمل على ذلك يتطلب الكثير من الطاقة، ما لا امتلكه. كان ما يهمني أن انتهي من العمل على الفيلم، الذي استغرق فترة طويلة جداً مني، بسبب الظروف الشخصية، وكانت تكاليفه عالية للغاية، نظراً لعملي عليه في هولندا، ولعدم وجود شركة إنتاج. الفيلم كان ذو ميزانية صفرية (زيرو بدجت)، ولم يتلق دعماً مالياً خاصاً أكان أم عاماً، ولم يحصل على منح. الإقامة الفنية التي استفدت منها كمخرج، لا تتجاوز قيمتها ٥٪ من الميزانية. العمل على الفيلم لا يقدم لك مردوداً مالياً أو راتباً، هذا ما يجعلك تعمل عليه لفترة وتتوقف ثم تعود إليه.

فيلم "تدمر" ، بالكاد محتمل لدى جمهور "الفيلم" في برلين .."خفيف" في دمشق

09 أيار 2025
"تدمر" فيلمٌ وثائقيّ من صنع وإخراج الراحل لقمان سليم ومونيكا بورغمان، يحكي ويمثّل فيه معتقَلون لبنانيون سابقون عن تجربتهم في ذلك الجحيم، الذي لا يكاد أحدهم يصدّق أنه خرج منه...

أكثر ما فكرت فيه عند سقوط النظام كان هو أنني محظوظ لكوني قد انتهيت من العمل على الفيلم. لا لأن الفيلم سيأخذ فرصته، لكونه قد قوبل من مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية "إدفا" قبل السقوط، بل لأنني لم أكن متأكداً فيما إذا كنت أريد إنهاء الفيلم أم لا، حتى بعد قبوله من "إدفا"، لكونه كان المرحلة الأولية من المونتاج، قبل تصحيح الألوان وتصميم الصوت، وكنت أفكر فيما إذا كنت أريد استكماله في الوقت الضيق المتبقي، أم تأجيله للعام التالي، وأحصل على مبلغ إضافي لعمليات ما بعد الإنتاج. لذا أنا سعيد لاتخاذ القرار الصحيح، وانجازه برؤيتي ما قبل سقوط النظام، لأنه لو سقط قبل انجازه، كان لهذا التغيير الذي حدث في حياتنا جميعاً، والأسئلة الجديدة التي ظهرت، ليؤثر ربما على مسار الفيلم أيضاً. وكان هناك احتمال ألا أنجزه حتى أو يتطلب أكثر من عامين حتى تستقر الأفكار، لا أن تكون مدفوعة بحدث سقوط النظام. خلال فترة العمل المتقطعة في السنوات العشر الماضية، فكرت بالكثير من الخيارات، احتمال صنع جزءين، والبحث عن المقاتلين في الفيلم الأول بعد عقد. هذا الاحتمال ربما كان سيظهر مجدداً لو أجلت انهاء الفيلم وسقط النظام.

*الفيلم يقارب الساعتين و٢٠ دقيقة، يبدو طويلاً نسبياً، هل لك أن تحدثنا عن رحلة المونتاج، وفيما إذا فكرت في أن مدة الفيلم الطويلة ستقلص فرص قبوله في المهرجانات. خمنت كمشاهد بأن طول الفيلم يعكس ربما حالة الانتظار واليأس الذي اكتنف المقاتلين المنتظرين قرب مطار الطبقة.

اتفق. هناك معايير للسوق، وكان معلوماً بالنسبة لي وللمنتجة التنفيذية غيفارا مدى تأثير المدة على حظوظه. لكن كما ذكرت، الأمر يتعلق بالتطلعات. رغم أن الجميع يريد تحقيق النجاحات، لكن لأصدقك القول، لا تعنيني تحقيق المعايير لتحقيق الجوائز مثلاً، يمكنك إضافة طبقات للفيلم، لتعزيز حظوظه، مثلاً إضافة القصة الشخصية، المغرية كثيراً لشركات الإنتاج. لذا لم يكن يعنيني خلال العمل الوصول إلى مدة معينة. النسخة الأولى كانت مدتها ثلاث ساعات. وبعد جولة من أخذ الآراء، كان قراري هو الوصول إلى ساعتين و٢٠ دقيقة، لأكون مرناً قليلاً ومتوازناً، دون أن أكون مبالغاً أو أن أظلم القصة بالجزئيات التي تحدثت عنها، التعبير عن الانتظار. الغرض من الفيلم هو تقديم تجربة كاملة. قد يقول لك أحدهم لا أريد مشاهدة الطريق في الفيلم، لكن الطريقة بالنسبة لي رحلة. لذا، كل ما في الفيلم، يهدف لمنح المشاهد المساحة لعيش التجربة كما هي قدر الإمكان، بانتظارها وترقبها.

*يبدو الفيلم رصداً موضوعياً، لا ذاتياً لحياة هؤلاء، متى ولم اتخذت قراراً بألا تكون جزءاً من السرد، لا نسمع صوتك أو سرداً كلاسيكياً لقصتك، بالكاد تعلق فقط عندما تشعر بالخطر؟

هناك نمط سائد في الإنتاج اليوم، لتحظى بفرصة أفضل عليك أن تعمل على قصة شخصية، وينطلق من افتراض أن القصة الشخصية تصل للجمهور أكثر، وأنها أكثر ترابطاً وسلاسة وسهولة. بالنسبة لي، اتعامل مع ذلك بطريقة مختلفة. لا أحبذ أن "يقودني" أحد في القصة، وهذا ما أرى أن التعليق الصوتي يلعبه. كما أرى أنه انعكاس لعجز في المادة نفسها، بمعنى أن يرمم المرء العجز الموجود في المادة البصرية بنص متين وشاعري لأخذ المشاهد/ة في هذه الرحلة. لكن إن كنت قادراً على أخذ المشاهد فيها بنص، لماذا لا أشاركه مع الجمهور كنص. كل الأفلام التي عملت عليها صنعتها دون توجيه، في محاولة لالتقاط تلك "اللحظة الحقيقية". أي لا كيف تتفاعل الشخصيات مع وجود كاميرا، بل كيف يتصرف الناس على نحو واقعي وحقيقي في حياتهم. لذا أخذت صناعة أفلامي وقتاً طويلاً، من بناء العلاقة، وخلق مسافة بيني وبين الشخصيات، أي ألا تكون قريباً جداً منهم، أو بعيداً عنهم كمراقب، وألا تؤثر في مسارات النقاش، بل أن تأخذها بشكلها الطبيعي، وأن تكسر حالة التصنع، إذ أن وضعت أياً كان أمام كاميرا، سيبدأ بمحاولة اظهار نفسه بأفضل صورة أمامها، ويختار مفرداته، التي قد لا تكون معبرة عما يشعر به، بل ما يحب أن يكونه. لهذا تحتاج صناعة الفيلم انتظاراً وترقباً وصبراً. يتطلب ذلك أيضاً طريقة تفاعل غير فجة مع الشخصيات والرهان على مللهم من وجود كاميرا معهم، ورغبتهم في عيش حياتهم، دون أن يضطروا ليكونوا متحفزين. معايشة الوضع مع المقاتلين في هذا الفيلم، وفي غيره، تكسر هذه الحالة، وتصبح الكاميرا جزءاً من المكان، وتنسى الشخصيات بأن هناك كاميرا في المكان ترصدهم.

 هناك نمط سائد في الإنتاج اليوم، لتحظى بفرصة أفضل عليك أن تعمل على قصة شخصية، وينطلق من افتراض أن القصة الشخصية تصل للجمهور أكثر، وأنها أكثر ترابطاً وسلاسة وسهولة. بالنسبة لي، اتعامل مع ذلك بطريقة مختلفة. لا أحبذ أن "يقودني" أحد في القصة، وهذا ما أرى أن التعليق الصوتي يلعبه. كما أرى أنه انعكاس لعجز في المادة نفسها، بمعنى أن يرمم المرء العجز الموجود في المادة البصرية بنص متين وشاعري لأخذ المشاهد/ة في هذه الرحلة. لكن إن كنت قادراً على أخذ المشاهد فيها بنص، لماذا لا أشاركه مع الجمهور كنص.

*الفيلم خال تماماً من النساء، أدري بأن هذا السؤال يطرح عليك دوماً في العروض داخل أوروبا لهذا الفيلم وأفلامك السابق، لكن ما الذي يقوله ذلك برأيك؟

هذا صحيح، كنت دائماً أتوقع طرح هذا السؤال، سواء في عروض هذا الفيلم أو في أعمالي السابقة.  بالعودة الى ما بدأنا به ،الفيلم الوثائقي، بالنسبة لي، هو محاولة صادقة للاقتراب من الواقع كما هو، لا صناعته. غياب النساء ليس قراراً، بل انعكاس لواقع محدّد. في "في مهب الريح"، تحديداً، وضمن موضوعه فإن عدم حضور النساء فيه بشكل مباشر، قد يكون له ما يبرره ويُفهم أكثر، لكن حتى في أفلامي السابقة، حضور المرأة كان دوماً نسبياً ومحدوداً. بدل أن أفرض تمثيلاً أنثوياً لمجرد ملء خانة تحقق شرطاً انتاجياً، ولكنها تخل بشرط الواقع،  أفضّل أن تحضر علامة استفهام معلّقة، أؤمن أن طرح السؤال "أين النساء؟" يصبح أقوى عندما ينبع من داخل المتلقي، لا من تجميل سطحي يُملى على الواقع. من هنا، لا أتهرب من السؤال، بل أقدّمه كما هو، دون تزويق، كي نعيد التفكير في الشروط التي أنتجت هذا الغياب في الأصل.

*نلاحظ ابتعادك عن الدماء والأنقاض على الدوام. حتى وأنت تركض للنجاة من القصف لا نراك تعرض للقتل والدماء؟ ما الذي دفعك لاتباع مقاربة مخالفة عن تلك الأفلام التي ظهرت في الأعوام الأولى من الثورة. وأنت تشاهده في ٢٠٢٥، لا يبدو فيلمك فيلم "قضية" كلاسيكي سوري، يسعى فحسب، للإظهار للعالم بأن النظام السوري يقتل ويقصف، بل يميل أكثر لمراقبة مجتمع سوري في طور التحول، آثار العنف عليه، لا العنف نفسه..

كان ذلك اختياراً واعياً، مبنياً على تجربة سابقة، نجدها في فيلمي "القربان"، الذي يرصد فترة مكثفة جداً من الأحداث. عموماً، ذاك يعود إلى المعضلة الأخلاقية الاشكالية، المتعلقة بحق استعمال الصورة، والإجابة على أسئلة كسبب استخدامي للمشهد الدموي، ابتزاز الجمهور عاطفياً؟ أن أصدمهم؟ تعبير عن العنف؟ في "في مهب الريح"، لغة العنف حاضرة طوال مدة الفيلم، هناك أدوات أخرى للتعبير عن الواقع بطريقة أراها أهم. تجد في فيلمي العديد من المحادثات التي تجري داخل السيارة، عن الجثث، والقتل. أرى أن استخدام بعض المصطلحات أعنف من رؤيتها كمشهد، إذ تتخيل هذا التوصيف، وترى مدى استسهال استخدامه. هذا جزئياً ما يحاول الفيلم أن يقترب منه، مستوى اللغة المستخدمة بينهم، نتيجة هذا الظرف. لكن هذه مسألة جدلية، مستمرة، أنا أفضل هذه الطريقة، آخرون يرغبون في أن يشعر الجمهور بالصدمة، عبر العنف المعروض.

الأمر يرتبط أيضاً بتأثير الأحداث عليك كصانع فيلم، ورؤيتك. في فيلمي السابق "القربان"، هناك شخصيات نخسرها، لكن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا لماذا سأستخدم هذه المادة المصورة، وإن كنت مكان هذه الشخصية، التي تعرضت لهذا التشوه، هل كنت سأرغب في أن تُعرض صورتي بهذا الشكل؟ هاهنا مقاييس على نحو، أن تكون عادلاً مع الشخصيات كما تكون عادلاً مع نفسك. ولا ننسى أن في الحرمان من الجثة سؤال، يتجاوز مسألة ترك الجمهور يراها ويتلمس الموت بنفسه.

من ناحية أخرى، هناك سؤال يطرح نفسه عليك كصانع/ة فيلم، ما هدفي من الفيلم؟، هل أريد أن يخرج الجمهور منه وهو يبكي أم يتساءل؟، لا أبحث عن كسب التعاطف أو تصويرنا كضحايا، لأننا لسنا فقط ضحايا، هناك عدة مستويات للحالة، ولا يمكن اختصارها وتبسيطها على أنها صراع ضحية وجلاد، إذ شهدنا ظهور العديد من الأطراف التي أجرمت. الأمر يتعلق بالنسبة لي، بطرح أسئلة تجعلنا نستفيد من هذه التجربة، ونحللها بطريقة صادقة وواقعية. لا أريد للجمهور أن يبكي ويتعاطف معي ويربت على كتفي، بل أن يفكر ويربط ما يراه بواقعه أيضاً، يفكر في الأسباب التي تدفع الناس إلى التحول إلى مقاتلين في سوريا وفي كل أنحاء العالم، هل هي رغبة في القتل؟ يسرني عدم تصفيق الجمهور أحياناً بعد عرض الفيلم،  محتاراً كيف يمكنه أن يصفق لما رآه، بل ينتظر حتى ظهور مخرجه ليصفق.

*تقول في مقابلة لك منذ سنوات، بأن هدفك حفظ التاريخ، في ظل حرب السرديات حينها، خشية أن يكتب المنتصر، النظام حينها التاريخ وحده، الآن وقد سقط النظام هل تعتقد أن هذه المقاربة كانت صحيحة، بمعنى ربما كانت صحيحة في المدى المتوسط، لكن ليس على المدى الطويل، عند أخذ احتمال سقوط النظام في الحسبان؟

لا يتعلق الأمر بالنسبة لي بسردية النظام فحسب. عندما قدمت لإصدار فيلمي السابق "القربان"، كتبت "كي لا نترك لقاتل منتصر أو سياسة مسيطرة، أن يكتب تاريخنا أو يحكي قصتنا." لذا الأمر يرتبط بسرديات متعددة كانت حاضرة وستظل. الهدف من صناعة الفيلم، هو حفظ أصيل وحقيقي للمرحلة. ما نشهده في المرحلة الحالية من تغير في السرديات، وتغير في النفوس، لأسباب مصلحية أو سياسية أو شخصية، يشي بإمكانية تغير الرؤى كلياً. في صناعة الفيلم محاولة لأن تكون صادقاً مع المرحلة كما كانت. لا أهدف عموماً للحديث عما فعله النظام، بل ما الذي قمنا به حينها، وكيف تغير المسار، إذ أن الثورة ليست حالة ملائكية ومثالية، وشهدت العديد من الأخطاء وارتكاب الجرائم، وهو أمر يستحق أن نتحدث عنها ونتعلم منه. في كل أفلامي رصد للتغيرات والتحولات، وسيطرة الفصائل، وتغير الخطاب، من دولة مدنية إلى دولة إسلامية.

وهناك بعد آخر، يتعلق بحفظ الواقع الاجتماعي والعمراني والموسيقي لتلك الفترة .. المدينة التي صورت فيها معظم أفلامي، تعرضت لدمار هائل خلال الثورة، تصبح الأفلام بطريقة ما وثيقة عن البنية العمرانية. هناك مدن سورية باتت حطاماً على الأرض وستُبني بأشكال مختلفة. بالمثل، توثق طريقة اللباس، ونمط الموسيقى. كما تلاحظ أستعين بموسيقى محلية، عوض العمل مع مؤلف موسيقي.

من ناحية أخرى، هناك سؤال يطرح نفسه عليك كصانع/ة فيلم، ما هدفي من الفيلم؟، هل أريد أن يخرج الجمهور منه وهو يبكي أم يتساءل؟، لا أبحث عن كسب التعاطف أو تصويرنا كضحايا، لأننا لسنا فقط ضحايا، هناك عدة مستويات للحالة، ولا يمكن اختصارها وتبسيطها على أنها صراع ضحية وجلاد، إذ شهدنا ظهور العديد من الأطراف التي أجرمت.

*رغم تصويره بعد عامين من اندلاع الثورة، يبدو الفيلم "طازجاً" إن صح التعبير، ويعيد للأذهان النقاشات، المتجددة في الأشهر الماضية، حول ما إذا كانت العسكرة قد جلبت الانتصار أم لا، شيطنة العلمانية، تسمع مقاتلين يغنون في الفيلم "بالذبح جيناكم يا العلمانية، بدون اتفاقية"، سيطرة الإسلاميين على الثورة، نقاش حول كيفية التعامل مع المنشقين، ذبحهم دون تمييز؟، نقاش يشبه ذاك الدائر حالياً عن العدالة الانتقالية. يجعلك الفيلم تفكر في اليوم لا الأمس. هل كنت متأكداً من ذلك قبيل إصداره؟

أتفق مع هذه الملاحظة، وأعتقد أن ما يُضفي على الفيلم طزاجته، للأسف، هو المراوحة لا التقدم. مراوحة لا تخص الحالة السورية وحدها، بل تمس مسارنا البشري الأوسع. وهذا ما حاولت التعبير عنه في أحد النصوص المرافقة لإطلاق الفيلم: ”منذ أزلنا إلى زوالنا، تبقى قصص الثورات والحروب مُحيّرة، مُربِكة، مقلقة، أسطورية، قاسية، عنيفة، ولكنها تعكس طبيعتنا البشرية، وهي تُشبهنا مهما ابتعدت عنا، وقعت منذ بدء وجودنا على هذه الأرض ويبدو أنها ستُرافقنا إلى النهاية.“

المقطع الذي يردّد فيه المقاتلون: “بالذبح جيناكم يا العلمانية، بدون اتفاقية"، هي ببساطة تعبير واقعي عن خطاب تلك المرحلة، و احد أبرز صراعاتها التي ماتزال حاضرة، حتى بعد ١٤ عشر عاماً لن تمحى قسوتها. في هذا المعنى، فإن جدليات العسكرة، والعدالة، والانشقاق، وغيرها لم تُحسم بعد. بل تستمر بالعودة بأشكال مختلفة، سقوط النظام والأشهر اللاحقة له، أعادت تذكيرنا بمدى قدمها وبمدى حاجتنا إلى حسم أجوبتها. وحاجتنا إلى الانفتاح على تجربتنا، خشيت تكرارها. فما قد نظنه اليوم استثنائياً هو، في العمق، امتداداً لتاريخ مفتوح. كنت حريصاً على أن تحضر هذه النقاشات أمام الكاميرا، لا كإدانة ولا كتبرير، بل كضرورة للصدق مع التجربة.

شخصياً أحاول بقدر ما أن أحمي نفسي، لا طاقة لي ولا معنى في خوض دروس دفعت ثمن تعلمها باهظاً. الآن جل ما أتمناه الأفضل للناس وفرصة لملامسة الحياة مجدداً، بوعي لا بخوف.

مقالات متعلقة

محمد علي الأتاسي: لم ننتج يوما فيلما يخص جمهورا غربيا (15)

17 تموز 2020
تتحاور مايا أبيض وإنريكو دي انجيليس مع محمد علي الأتاسي، الصحافي وصانع الأفلام الوثائقية الذي أسّس بالاشتراك مع بعض زملائه وزميلاته في العام ٢٠١٣ مؤسسة "بدايات للفنون  السمعية البصرية" التي...
السينما السوريّة: ما الذي لم نتمكن من رؤيته؟

09 نيسان 2021
يحاور انريكو دي أنجيليس خبير السينما الإيطالي جيونا أ. ناتزاور، المندوب العام لأسبوع فينيسيا السينمائي الدولي للنقّاد Venice International Film Critics' Week، ومبرمج مهرجان رؤى دو ريل الدولي Visions du...
السينما السورية في المنفى: حوار مع صانع الأفلام: عروة النيربية (16)

06 كانون الثاني 2021
"ماهي "السينما السورية"؟ ...هل نعرفها على أساس جنسية المخرج/ة؟ على أساس موضوع الفيلم؟ مصادر التمويل؟ القصة؟ أو على أساس إجماع بين السوريين/ات بأنه "فيلمهم"؟ لست متأكداً من أني أعرف كيف...
الأفلام السوريّة.. هل تُنتج لجمهور غربي؟ وهل يشاهدها السوريون/ات؟

03 تشرين الأول 2024
ما هو الفيلم السوري؟ كيف يتم إنتاجه؟ وهل يتم إنتاج الأفلام السوريّة لجمهور غربي؟ وهل يمكن الحديث عن موجة سينمائية جديدة في سوريا؟ هذه الأسئلة وغيرها تعالجها هذه الدراسة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد