نشرتْ "العربيّ الجديد" و"ستيت ووتش" نسخاً محرّرة من هذا التحقيق بشكلٍ مشترك.
بالنسبة لأبو إسكندر الشاميّ، فإنّ مسألة العودة إلى سوريا ما بعد الأسد تملؤها الشكوك. يقول: "وضعي مشابه لوضع 90٪ من السوريّين؛ لم أحسم أمري بعد".
تحدّثنا مع الشاميّ في 17 كانون الأوّل/ديسمبر 2024، بعد أيّام فقط من فرار دكتاتور سوريا القديم بشار الأسد من البلاد. يعيش الشاميّ المنحدر من دمشق في قبرص منذ تسع سنوات.
قال الشامي: "بعض الناس لا يستطيعون العودة ببساطة لأنّهم لا يملكون بيتاً يعودون إليه، وهذه حالتي أيضاً. بيتي قُصف، ولا يُمكنني العودة إذا كان ذلك يعني أن أنام في الشارع".
بحثنا خلال العام الماضي في برنامج العودة الطوعيّة في قبرص، وهو المشروع الرئيسيّ للدولة الهادف إلى دعم الراغبين بالعودة إلى بلدانهم "بطريقةٍ منظّمة وآمنة وكريمة".
يكشف تحقيقنا عن واقعٍ مختلف. إذ تستخدم وزارة الداخليّة القبرصيّة أساليب الإكراه والخداع لدفع الأفراد إلى قبولِ العودة "الطوعيّة"، وذلك على حساب التزامات الدولة بموجب الاتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان.
وفي حالة طالبي اللجوء السوريّين، يشمل ذلك حرمانهم من حقّ الوصول إلى إجراءات اللجوء، واحتجازهم بشكلٍ غير قانونيّ في ظروف "تتنافى مع القيم الأوروبيّة والقانون الدوليّ لحقوق الإنسان"، إضافةً إلى توجيه اتهامات لا أساس لها بارتكاب جرائم خطيرة.
يحظى برنامج العودة الطوعيّة في قبرص بدعمٍ ماليّ وعمليّ من المفوضيّة الأوروبيّة ومن وكالة فرونتكس، وهي وكالة حرس الحدود التابعة للاتحاد الأوروبيّ.
كما شجّعتْ المفوضيّة الأوروبيّة دولاً أُخرى على تبنّي "النموذج" القبرصيّ في الترحيل، ما يُنذر بمزيدٍ من الألم لأكثر من مليون لاجئ وطالب لجوء سوريّ يعيشون في أوروبا.
لا تدعم المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) حاليّاً عمليّات العودة الطوعيّة واسعة النطاق إلى سوريا.
تواصلنا مع السلطات القبرصيّة، والمفوضيّة الأوروبيّة، ووكالة فرونتكس للتعليق على ما وردَ في هذا التحقيق. وقد أحالنا متحدّثٌ باسم وزارة الداخليّة إلى وزارة الهجرة التابعة لها، ولكن محاولاتنا للتواصل معها عبر البريد الإلكترونيّ والهاتف لم تلقَ أيّ استجابة.
وأوضح متحدّث باسم فرونتكس أنّ الوكالة لا تدعم حاليّاً عمليّات الترحيل إلى سوريا، سواء من قبرص أو من أيّ دولة عضو أُخرى في الاتحاد الأوروبيّ. وأضاف أنّ المتخصّصين في شؤون العودة التابعين لفرونتكس في قبرص يقدّمون معلومات حول العودة الطوعيّة فقط للسوريّين الذين يطلبونها "بمبادرةٍ شخصيّة منهم".
ولم نتلقَّ أيّ ردود إضافيّة حتّى موعد النشر.
سياسة الإقصاء
بدأ وصول اللاجئين السوريّين إلى قبرص بأعداد محدودة في عام 2002. إلّا أنّ تشديد الحدود في أنحاء أوروبا بعد ما يُعرف بأزمة اللاجئين عام 2015، دفعَ بملايين السوريّين/ات إلى البحث عن طرق بديلة للوصول إلى أوروبا.
بين عاميّ 2018 و2022، تلقّتْ قبرص أعلى نسبة من طلبات اللجوء مقارنةً بعدد السكّان بين دول الاتحاد الأوروبيّ الـ27، وكانتْ غالبيّة هذه الطلبات من السوريّين/ات. في المقابل، ظلّتْ عمليّات نقل اللاجئين من قبرص إلى دول أوروبيّة أُخرى، والتي تهدف إلى توزيع عبءِ الهجرة بشكلٍ أكثر توازناً، دون التوقّعات بكثير.
وخلال العام الماضي، بدأتْ دول الاتحاد الأوروبيّ بالدفعِ نحو تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، في خطوةٍ أولى نحو تشجيع اللاجئين السوريّين/ات على العودة.
سرّع سقوط نظام البعث من هذا التوجّه على مستوى الاتحاد الأوروبيّ. فبعد أيّامٍ قليلة من سقوط الأسد، سارعتْ 17 حكومة أوروبيّة إلى تعليقِ إجراءات اللجوء أمام السوريّين/ات.
أمّا في قبرص، فهذه الضغوط على اللاجئين للعودة ليستْ جديدة. ففي نيسان/أبريل 2024، أعلنتْ السلطات القبرصيّة توقّفها عن النظرِ في طلبات اللجوء المُقدّمة من السوريّين/ات، حتّى ممّن قضى في البلاد أربع سنوات.
ويُمنع السوريّون القادمون حديثاً من العمل خلال الأشهر التسعة الأولى على الجزيرة، وغالباً ما يُحرمون من كلّ أشكال الدعم الماديّ، ما دفع العديد منهم إلى التشرّد.
وفي الوقت نفسه، تُشجّع السلطات القبرصيّة اللاجئين السوريّين على العودة الطوعيّة إلى سوريا، مُقدّمةً 1500 يورو وتذكرة ذهاب فقط لكلّ من يوافق على ذلك.
ومنذ سقوط الأسد، عاد 755 فقط من أصل 30,000 سوري يعيشون حاليّاً في قبرص إلى وطنهم "طوعاً"، وفقاً لأرقام الحكومة. ولا يزال ما لا يقلُّ عن 14,000 منهم ينتظرون معالجة طلبات اللجوء الخاصّة بهم.
قبرص: الأولى في الاتحاد الأوروبيّ في عمليّات الترحيل
في الأوّل من كانون الاوّل/ديسمبر 2022، أعلن نيكوس نورييس، وزير الداخليّة القبرصيّ آنذاك، خلال اجتماع للمفوضيّة الأوروبيّة، أنّ قبرص تصدّرتْ دول الاتحاد الأوروبيّ من حيث عدد الأشخاص المرحَّلين نسبةً إلى عدد السكان.
وأوضح نورييس أنّ أحد أسباب هذا الإنجاز هو "تركيز الوزارة على برنامج العودة الطوعيّة"، الذي قال إنّه يُشكّل 87% من بين "ما يقرب من 7,000" شخص تمّ ترحيلهم حتّى ذلك الحين في عام 2022.
غير أنّ الأرقام الرسميّة لمكتب الإحصاء الأوروبيّ أظهرتْ أنّ عدد الأشخاص الذين أُعيدوا من قبرص في ذلك العام بلغ 4,205 فقط.
وبعكس الترحيل الإجباريّ، تعني العودة الطوعيّة إعادة المواطنين غير الأوروبيّين إلى بلادهم "بناءً على قرار حُرٍّ ومستنير". إلّا أنّ غالبيّة الذين يوافقون على العودة الطوعيّة من قبرص هم أشخاص استنفدوا جميع الخيارات القانونيّة للبقاء في البلاد وأُمروا بالمغادرة.
بالتزامن مع خطاب نورييس تقريباً، ظهرتْ تقارير تتحدّث عن استخدام الإكراه داخل برنامج العودة الطوعيّة في قبرص، الأمر الذي أثار الشكّ في الرواية التي قدّمتها السلطات.
في 28 كانون الأوّل/ديسمبر 2022، نشرتْ منصّة "إنفومايجرانتس" الإلكترونيّة قصّة شازيل، طالب لجوء من الكونغو يعيش في قبرص، وترحيله القسريّ الذي تمّ الترويج له على أنّه "عودة طوعيّة".
اُتهم شازيل بالمشاركة في شجار بمركز بورنارا، المركز الرئيسيّ لاستقبال اللاجئين في قبرص، حيث اعتُقل مع 69 طالب لجوء آخرين.
بدلاً من وجود محامٍ، كان الضبّاط من وحدة الأجانب والهجرة يزورون المحتجزين يوميّاً، ويضغطون عليهم لتوقيع اتفاقيّات العودة الطوعيّة تحت تهديد الترحيل القسريّ.
ورغم أنّ شازيل وافق في النهاية على ترحيله، إلّا أّن آخرين تمكّنوا من الطعنِ في اعتقالهم. ففي حالتين على الأقلّ، قضى القضاة بأنّ الاعتقال كان غير قانونيّ، خاصّة وأنّ الشرطة لم تُجرِ أيّ تحقيق في الاتهامات الموجّهة إليهم حتّى بعد مرور تسعة أشهر على الحادثة.
"المشكلة السوريّة" داخل مراكز الاحتجاز في قبرص
يُحتجز طالبو اللجوء بشكلٍ روتينيّ في مركز منويا، وهو المركز الوحيد لاحتجاز المهاجرين على الجزيرة، ويستوعب ما يصل إلى 128 شخصاً من المُقرّر ترحيلهم.
وعندما يصل مركز منويا إلى طاقة استيعابه القصوى، تُستخدم زنازين إضافيّة في 22 مركز شرطة في جميع أنحاء البلاد، ليصل إجماليّ الطاقة الاستيعابيّة إلى 322 شخصاً.
في آذار/مارس 2024، زارَ أحد مُعدّي هذا التحقيق مركز شرطة لاكاتاميا، كباحثٍ مستقلٍّ ضمن وفد من أعضاء البرلمان الأوروبيّ. وكان بعض المحتجزين من حادثة بورنارا محتجزين في هذا المركز.
يضمّ المركز 25 زنزانة مُخصّصة للاحتجاز الإداريّ، حيث يُحتجز طالبو اللجوء بموجب قانون اللاجئين القبرصيّ.
تُحظّر قوانين قبرص والاتحاد الأوروبيّ احتجاز اللاجئين بشكل تعسّفيّ، ولكن تسمح وزارة الداخليّة بالاحتجاز في حالات استثنائيّة مثل حماية الأمن الوطنيّ.
في مركز لاكاتاميا، تحدّث ضبّاط الشرطة عمّا سمّوه "المشكلة السوريّة"؛ وهي صعوبة ترحيل السوريّين، الذين لا يُمكن إجبارهم على العودة إلى بلادهم، ولكن بإمكانهم اختيار العودة الطوعيّة عبر عمّان في الأردن أو بيروت في لبنان.
وتقوم فرونتكس بتدريب ضبّاط وحدة الأجانب والهجرة على الإشارة للأشخاص الذين يُعبّرون عن رغبتهم في العودة خلال مقابلات الشرطة.
في وقت زيارة الوفد، كان هناك ثمانية طالبي لجوء محتجزين، من بينهم خمسة سوريّين.
فارس*، وهو أحد المحتجزين السوريّين، أخبر الوفد بأنّه محتجز منذ شهرين. وقد اطّلع الوفد على أمر احتجازه، الذي جاء فيه أنّه يُشكّل "تهديداً للنظام العام والأمن" في قبرص. كما صدر بحقّه أمر ترحيل إلى لبنان بدلاً من سوريا.
في اجتماع لاحق، ناقش الوفد قضيّة فارس مع أندرياس جورجياديس، رئيس دائرة اللجوء في قبرص.
وأوضح جورجياديس أنّ أوامر احتجاز السوريّين تُصدر عادةً في حالات تتعلّق بجرائم خطيرة. وحتّى في حال تعذّر الترحيل، تُستخدم هذه الأوامر لتمديد فترة الاحتجاز، والتي لا يوجد لها حدّ زمنيّ مُحدّد بالنسبة لطالبي اللجوء.
وبما أنّ هذه الأوامر لا تصدر عن قضاة، فإنّها غالباً ما تفتقر إلى الرقابة القانونيّة التي تُفرض عادةً في القضايا الجنائيّة. وبلغتْ أطول فترة احتُجز فيها طالب لجوء سوريّ بشكلٍ غير قانونيّ في قبرص سنتين وتسعة أشهر واثني عشر يوماً.
في السابق، كانتْ السلطات القبرصيّة تُبرّر هذا النوع من الاحتجاز بالإشارة إلى شُبهات تتعلّق بالإرهاب، غالباً دون أدلّةٍ موثوقة.
قالتْ كورينا دروسيوتو، المستشارة القانونيّة في مجلس اللاجئين القبرصيّ، وهي منظّمة غير حكوميّة: "لم يُدان أيّ طالب لجوءٍ سوريّ في قبرص على خلفيّة جريمة متعلّقة بالإرهاب". وأضافتْ: "عادةً ما تكون الأدلّة في مثل هذه القضايا ضعيفة ومبهمة جدّاً".
في تمّوز/يوليو 2019، بدأ 15 محتجزاً، من بينهم تسعة سوريّين، إضراباً عن الطعام داخل مركز منويا احتجاجاً على فترات احتجازهم الطويلة.
ظروف احتجاز تتنافى مع "القيم الأوروبيّة"
لطالما انتقدتْ هيئات حقوق الإنسان لجوء السلطات القبرصيّة إلى احتجاز طالبي اللجوء داخل زنازين الشرطة.
وخلال زيارة أجرتها لجنة منع التعذيب التابعة لمجلس أوروبا في أيار/مايو 2023، وجدتْ اللجنة أنّ طالبي اللجوء في مراكز الاحتجاز يُعاملون بطريقة لا تختلف كثيراً عن المشتبه بهم في قضايا جنائيّة. وقد احتُجز بعضهم في مراكز الشرطة لفترات "طويلة جدّاً"، تجاوزتْ عاماً كاملاً في بعض الحالات الاستثنائيّة.
ورأتْ اللجنة أنّ "إخضاع الأجانب لظروف معيشيّة مروّعة في مراكز الاستقبال وزنازين الشرطة [...] يتعارض مع القيم الأوروبيّة والقانون الدوليّ لحقوق الإنسان".
بين عاميّ 2020 و2023، أصدرتْ المحكمة العُليا في قبرص عدّة قرارات مثول أمام القضاء (Habeas Corpus)، اعتبرتْ فيها أنّ بعض فترات الاحتجاز التي استمرّت بين 14 و21 شهراً كانتْ غير قانونيّة. كما أنّ السلطات لم تُحقّق في المزاعم التي استخدمتها لتبرير تلك الاعتقالات، مثل الادعاء بوجود تهديد للأمن القوميّ، تماماً كما حدث مع زملاء تشازل في الاحتجاز.
نيكوليتا خارالامبيدو، وهي محاميّة حقوقيّة من نيقوسيا مثّلتْ المحتجزين السوريّين أمام المحكمة، أوضحتْ أنّ السلطات كانتْ تزورهم شهريّاً وتحثّهم على التوقيع للعودة الطوعيّة.
وقالتْ: "بعضهم فكّر بالأمر بجديّة. لولا الظروف في سوريا قبل سقوط الأسد، لربّما قرّروا فعلاً العودة الطوعيّة".
في إحدى القضايا، وجّهتْ المحكمة العُليا انتقاداً حادّاً للسلطات القبرصيّة والأوروبيّة بسبب استخدامها الاحتجاز كأداة لإجبار السوريّين على الترحيل.
رأتْ المحكمة أنّ السلطات كانتْ تُماطل بوضوح، محاولةً كسب الوقت والبحث عن دولٍ ثالثة يُمكن الترحيل إليها، رغم معرفتها بأنّ سوريا لا تزال منطقة حرب.
وبحسب نيكوليتا خارالامبيدو، بدأتْ السلطات مؤخراً باستهدافِ السوريّين الذين عاشوا في قبرص لسنوات.
لا يملك معظم السوريّين في البلاد حقّ لمّ الشمل العائليّ، وتُشير المحامية إلى أنّ السلطات تُفسّر التحويلات الماليّة التي يُرسلها البعض لأقاربهم في سوريا على أنّها تسهيلات للتهريب.
في العام الماضي فقط، تولّت خارالامبيدو سبع أو ثماني قضايا أوقف فيها سوريّون بتُهمٍ مشكوك فيها تتعلّق بالتهريب أو الإرهاب، واحتُجزوا لفترات وصلتْ إلى 12 شهراً بهدف ترحيلهم. وكانتْ قضيّة فارس واحدة منها.
أمّا خارج مراكز الاحتجاز، فقد دفعتْ الظروف المعيشيّة المتدهورة جزءاً كبيراً من السوريين إلى التفكير بمغادرة قبرص.
قالتْ دروسييوتو، من مجلس اللاجئين القبرصيّ، إنّ "الظروف المعيشيّة أصبحتْ سيّئة جدّاً لدرجة أنّ الناس يُجبرون على الوصول للفقر المدقع".
وأضافتْ: "شهدنا حالات لعائلات سوريّة قرّر فيها الأب إرسال زوجته وأطفاله إلى سوريا، وكان ذلك قبل سقوط الأسد، فقط لأنّهم لم يعودوا قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسيّة. فعلوا ذلك بدافع اليأس".
عدد حالات الترحيل يفوق قدرة الرقابة
ماريا ستليانو-لوتيديس، المفوّضة القبرصيّة لحماية حقوق الإنسان، وهي المسؤولة عن مراقبة عمليّات الترحيل القسريّ لضمان التزامها بالمعايير الحقوقيّة وفقاً لقوانين الاتحاد الأوروبيّ؛ أكّدتْ أنّه لم يتمّ ترحيل أيّ سوريّ مباشرة من مراكز الاحتجاز.
ولكن بسبب عدد رحلات الترحيل المرتفع جدّاً، لم يعد مكتبها قادراً على مراقبة جميع العمليّات.
في عام 2024، تابعتْ المفوّضة 45 رحلة ترحيلٍ فقط من أصل 141 رحلة، أي ما يُعادل 32% فقط من إجماليّ الرحلات. ووفقاً لتقرير عام 2023، فإنّ الشرطة تتحمّل جزءاً من مسؤوليّة ضعف المراقبة، لأنّها تُبلغ المفوّضة بعمليّات الترحيل قبل أقلّ من 24 ساعة من موعد الرحلة المقرّرة.
كما أوضحتْ المفوّضة أنّها لا تُراقب عمليّات العودة الطوعيّة التي تتمّ خارج مراكز الاحتجاز، وهي النوع الوحيد من العودة الذي يُمكن للسوريّين التسجيل فيه.
بالنسبة لدروسييوتو، المستشارة القانونيّة في مجلس اللاجئين القبرصيّ، فإنّ العدد الكبير من حالات العودة الطوعيّة غير المراقبة يُثير القلق، لأنّه يمنع الكشف عن "الممارسات الممنهجة".
أمّا وكالة الأمم المتحدة للاجئين (UNHCR)، فهي موجودة على الجزيرة ولكنّها مهمّشة من قِبل السلطات المحليّة.
قالتْ لويز دونوفان، المسؤولة العُليا في قسم الاتصالات بوكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR)، إنّ الوكالة لم تتمكّن من التأكد ممّا إذا كانتْ عمليّات العودة من قبرص إلى سوريا تتمّ بشكل آمن وطوعيّ بالفعل.
وفي غياب رقابة كافية، قد تُعتبر قبرص مخالفة للاتفاقية الأوروبيّة لحقوق الإنسان بسبب برنامج العودة الطوعيّة الذي تُنفّذه.
المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، المسؤولة عن تطبيق هذه الاتفاقيّة، سبق وأن حكمتْ بأنّ الدول تتحمّل المسؤوليّة عن نتائج عمليّات الترحيل القسريّ للاجئين، حتّى وإن كانتْ العودة تبدو طوعيّة على الورق.
فعلى سبيل المثال، في عام 2019، حكمتْ المحكمة بأنّ السلطات الفنلنديّة لا يُمكنها التملّص من مسؤوليتها في مقتل لاجئ تمّ ترحيله إلى العراق، رغم توقيعه على تنازل ضمن إجراءات عودته.
وأوضحتْ المحكمة أنّ هذا التنازل غير صالح لأنّ اللاجئ لم يكن لديه "خيار حُرّ وحقيقيّ" في اتخاذ القرار.
تمّ إبطال الحكم في عام 2021، بعدما تمكّنتْ السلطات الفنلنديّة من إثبات أنّ اللاجئ لا يزال على قيد الحياة في العراق، وأنّ الأدلّة المتعلّقة بوفاته كانتْ مزورة.
جان-بيير غاوتشي، الباحث الأوّل في المعهد البريطانيّ للقانون الدوليّ والمقارن، علّق على هذه القضيّة بالقول: "رغم أنّ القرار تمّ إلغاؤه لأسباب واقعيّة، إلّا أنّ الحجج التي استند إليها القرار لا تزال مُقنعة".
دخول فرونتكس
تعتمد قبرص على دعم وكالة حرس الحدود والسواحل الأوروبيّة (فرونتكس) لتعزيز برامج العودة لديها، سواءً القسريّة أو الطوعيّة.
يقوم موظّفو فرونتكس بصفتهم مرشدين للعودة بإبلاغ الأشخاص بـ "الالتزام بمغادرة البلاد والعواقب المترتّبة على عدم المغادرة"، بالإضافة إلى تشجيعهم على العودة الطوعيّة.
وصل أوّل مستشار من فرونتكس إلى قبرص بدايةً في آذار/مارس 2021. ووفقاً لما أفاد به متحدّث باسم الوكالة، نشرتْ فرونتكس في عام 2023 أحد عشر مستشاراً للعودة في قبرص، أجروا خلالها 6,806 جلسة استشاريّة بهدف تشجيع الأفراد على العودة الطوعيّة.
تُشير هذه الأرقام إلى أنّ موظّفيّ فرونتكس تواصلوا مع أكثر من نصف الأشخاص الذين تمّ استقبالهم في مركز بورنارا خلال ذلك العام، حيث كانتْ الغالبيّة الساحقة من قاطني المركز من السوريّين/ات.
واصل مستشارو فرونتكس الترويج لبرامج العودة الطوعيّة للسوريّين حتّى بعد أن فرضتْ قبرص تدابيرها القمعيّة في نيسان/أبريل 2024. ففي الأشهر العشرة الأولى من ذلك العام، أجرى 12 مستشاراً من فرونتكس ما مجموعه 5,487 جلسة استشاريّة في قبرص.
أوضح موظّفو فرونتكس للوفد الزائر أنّ مُعظم طالبي اللجوء يفضّلون التسجيل في برنامج العودة الطوعيّة الذي تُديره الحكومة القبرصيّة، بدلاً من البرنامج الأوروبيّ لإعادة الإندماج المموّل من فرونتكس، لأنّه يمنحهم تعويضاً ماليّاً أكبر يُسلّم لهم مباشرة قبل صعودهم إلى الطائرة.
فخلافاً لفرونتكس، تعرض قبرص على الراغبين بالعودة الطوعيّة من سوريا وإيران وأفغانستان مبلغاً يتراوح بين 1,000 يورو (1,035 دولاراً) و1,500 يورو (1,553 دولاراً) كمكافأة للترحيل. وقد شكّل المتقدّمون من هذه الدول الثلاث ما نسبته 75% من إجماليّ طلبات اللجوء التي تلقّتها قبرص في الأشهر الإحدى عشر الأولى من عام 2024.
آلة ترحيل فائقة السرعة
بدعم من فرونتكس، حوّلت وزارة الداخليّة القبرصيّة برنامجها للعودة الطوعيّة إلى آلة ترحيل متكاملة وفعّالة.
وقد برّر ناطق باسم الوكالة الأوروبيّة مشاركتها بالقول إنّ "95% من عمليّات العودة في عام 2024 بادر بها المهاجرون أنفسهم، من دون استخدام القوّة".
وبحسب رئيس ضباط الاتصال التابعين لفرونتكس في قبرص، غريغوريس أبوستوليس، فإنّ الوكالة بدأتْ بالفعل باختبار هذا النموذج من التعاون في دول أوروبيّة أُخرى، من بينها بلغاريا.
لكن داخل فرونتكس نفسها، أبدى بعض الموظّفين قلقهم من الأساليب التي تجري بها عمليّات الترحيل.
منذ نيسان/أبريل 2022، سجّل مراقبو الحقوق الأساسيّة في فرونتكس عدّة حالات تعرّض فيها طالبو لجوء لـ"ضغوط" من أجل الانضمام إلى برامج العودة الطوعيّة. وقد أُبلغ بعضهم بمعلومات مضلّلة عن الأوضاع في بلدانهم الأصليّة، وقيل لهم إنّ فرص قبول طلبات لجوئهم تكاد تكون معدومة.
أيضاً، عبّر المنتدى الاستشاريّ لفرونتكس (CF) – وهو هيئة مستقلّة داخل الوكالة تُعنى بحماية حقوق الإنسان، عن مخاوفه بشأن مدى "الطوعيّة" الحقيقيّة لعمليّات العودة التي تتمّ تحت هذا البرنامج.
بالنسبة لطالبي اللجوء السوريّين على وجه الخصوص، أشار المنتدى الاستشاريّ في أيّار/مايو 2024 إلى أنّ "الترويج للعودة الطوعية قد يكون سابقاً لأوانه ومضلّلاً"، نظراً لتعليق الوصول إلى إجراءات اللجوء في قبرص. واقترح المنتدى أن تتوقّف فرونتكس عن تقديم خدمات الإرشاد الخاصّة بالعودة في مركز بورنارا تماماً.
لكن قيادة فرونتكس لم تأخذ بهذه التوصيّة. ففي ردّ مفصّل على المنتدى، دافع المدير التنفيذيّ للوكالة، هانس لايتنز، عن استمرار أنشطة فرونتكس في قبرص.
وبحسب قوله، كان على مستشاري العودة التابعين لوكالة فرونتكس البقاء، لأنّ رحيلهم "سيؤثّر سلباً على وصول المهاجرين للمعلومات".
"وصول المهاجرين للمعلومات"
حصلنا على نسخة من محادثة عبر تطبيق واتساب، أجراها أحد الأشخاص مع مكتب العودة الطوعيّة داخل مركز بورنارا، بهدف الحصول على استشارة.
جرتْ المحادثة بين 1 و6 كانون الأوّل/ديسمبر 2024، أي قبل أيام قليلة من سقوط نظام الأسد، حيث سأل بدر* المستشارين عن نوع الدعم الذي يُمكن أن تقدّمه له السلطات القبرصيّة كلاجئ سوريّ يرغب في العودة إلى حلب.
في ذلك الوقت، كانتْ قوّات المعارضة السوريّة قد استعادتْ السيطرة على المدينة، وكانتْ تقترب من الإطاحة بالنظام. وذكر بدر في إحدى الرسائل أنّ زوجته وأطفاله عالقون في حلب وسط استمرار القصف.
ردّ أحد الضباط قائلاً إنّ السلطات القبرصيّة ستقوم بحجز رحلةٍ له مباشرة إلى عمّان في الأردن، حيث سيتمكّن بعدها من استقلال حافلة إلى دمشق.
وأضاف ضابط آخر في رسالة صوتيّة ثانية:
"من دمشق، عليك أن تتدبّر أمرك بنفسك".
لكن ما غاب عن هذه المعلومات هو أنّ أيّ رحلة من دمشق إلى حلب في ذلك الوقت كانتْ تتطلّب عبور خطوط القتال بين قوّات النظام وقوّات المعارضة.
حاول الضبّاط الاتصال ببدر لمناقشة الوضع بشكل أكثر تفصيلاً، ولكنّهم لم يتمكّنوا من الوصول إليه.
في 6 كانون الأوّل/ديسمبر، أغلقتْ السلطات الأردنيّة معبر نصيب الحدوديّ مع سوريا. سأل بدر الضبّاط عمّا إذا كان هذا سيؤثّر على عودته، ولكنّه لم يتلقَ أيّ ردٍّ.
سألنا أيدان إييجونغور، المشاركة في قيادة المنتدى الاستشاري لفورنتكس، عن الإجراءات التي يجب أن تتخذها الوكالة عند تقديم المشورة في حالات مثل حالة بدر.
أوضحتْ إييجونغور أنّه في الحالة المثاليّة، يجب على موظّف فورنتكس رفع تقرير حادث خطير (SIR) فوراً، حيث قالتْ: "عندما يكون هناك خطر لانتهاك حقوق أساسيّة، من الواجب الإبلاغ عنه دون تأخير".
ولكن متحدّثة باسم فورنتكس أخبرتنا أنّه لم يُرفع أيّ تقرير من هذا النوع بخصوص عودة السوريّين/ات الطوعيّة خلال فترة الهجوم الذي شنّته المعارضة.
المزيد من الأموال الأوروبيّة للترحيل القسريّ والعودة "الطوعيّة"
على الرغم من اعتراف المفوضيّة الأوروبيّة بضرورة وجود مراقبة مستقلّة على عمليّات العودة الطوعيّة للسوريّين، إلّا أنّها فشلتْ في وضع أموالها في المكان الصحيح.
قُمنا بمراجعة المشاريع التي وافقتْ المفوضيّة على تمويلها في قبرص ضمن صندوق اللجوء والهجرة والاندماج للفترة الواقعة بين 2021 -2027.
لم تُخصّص المفوضيّة أيّ مبلغ لمراقبة برنامج العودة الطوعيّة في قبرص، من أصل 56.4 مليون يورو (58.4 مليون دولار) تمّ إنفاقها حتّى الآن.
بين أيّار/مايو 2022 وأيلول/سبتمبر 2024، قدّمتْ المفوضيّة لقبرص 9.7 مليون يورو (10 ملايين دولار) لبرنامج العودة الطوعيّة، وهو ما يُشكّل 90% من ميزانيّة البرنامج. وبفضل هذا التمويل، تمّ ترحيل حوالي 12,600 شخص عبر برنامج "العودة الطوعيّة المدعومة"، وهو ما يُعادل نحو 1.3% من سكّان البلاد.
خلال نفس الفترة، خصّصتْ المفوضيّة حوالي 2 مليون يورو (2.07 مليون دولار) للترحيل القسريّ لحوالي 4,507 شخص من قبرص.
قال جيف كريسب، خبير اللجوء واللاجئين في جامعة أكسفورد، إنّ "عمليّات الترحيل القسريّ التي يُقبض فيها على الأشخاص ويُقيّدون بالأصفاد ثم يُجبرون على ركوب الطائرة برفقة ضباط أمن، تكون أكثر تكلفة بكثير مقارنةً بإقناع الشخص بأن يصعد الطائرة طواعيّة".
خصّص الاتحاد الأوروبيّ مبلغاً زهيداً قدره 121,547 يورو (125,795 دولاراً) لمفوّض حقوق الإنسان في قبرص لمراقبة عمليّات الترحيل القسريّ بين تمّوز/يوليو 2022 وكانون الأوّل/ديسمبر 2027.
تموّل المفوضيّة الأوروبيّة الآن أيضاً بناء مرافق جديدة لاحتجاز المزيد من طالبي اللجوء بهدف ترحيلهم.
في حزيران/يونيو 2024، أعلنتْ عن تخصيص حوالي 67.7 مليون يورو (70 مليون دولار) لمشروع "ليمناس" الذي تبلغ تكلفته الإجماليّة 84.9 مليون يورو (87.85 مليون دولار) ومن المتوقّع أن يُصبح جاهزاً في 2025. يشمل المشروع "مركز احتجاز متخصّص للترحيل" ومركز استقبال.
سيتسع مركز الاحتجاز لما يصل إلى 800 شخص ممّن صدرتْ بحقهم قرارات ترحيل، بمن فيهم الذين لا يُمكن تنفيذ قرارات ترحيلهم. وسيزيد "ليمناس" قدرة قبرص على إجبار أشخاص مثل فارس على العودة سبع أضعاف.
في أكتوبر/تشرين الأوّل 2024، وبعد أن طالبتْ إيطاليا والنمسا الاتحاد الأوروبيّ بإعلان أجزاء من سوريا مناطق آمنة للترحيل، أعلنتْ المفوضيّة الأوروبيّة عن تخصيص 25 مليون يورو (25.87 مليون دولار) لصندوق "نماذج جديدة لتحفيز العودة الطوعيّة المدعومة" للدول المطلّة على البحر المتوسط التي تُعاني من ضغط الهجرة.
وتمّتْ الإشارة بشكلٍ خاصّ إلى برنامج العودة الطوعيّة في قبرص كنموذج ناجح يستحقّ المزيد من التمويل.
ويجوز استخدام حتّى 30% من هذا التمويل لتعويض الأشخاص المقرّر ترحيلهم قسراً إذا اختاروا "التعاون" مع السلطات.
سألنا المفوضيّة عمّا إذا كانتْ قد خصّصتْ أموالاً إضافيّة لبرنامج العودة في قبرص ضمن هذا الصندوق الجديد، ولكنّنا لم نتلقَّ ردّاً قبل موعد النشر.
تذكرة ذهاب إلى سوريا
بعد حديثنا في كانون الأوّل/ديسمبر 2024، نشر أبو إسكندر الشاميّ، الدمشقيّ المقيم في قبرص، صوراً توثّق عودة سوريّ إلى بلاده عبر صفحة فيسبوك يُديرها ويبلغ عدد أفرادها 35,000 عضواً.
بالنسبة لسوريّين مثل الشاميّ، فإنّ خيار العودة بعيد كلّ البعد عن أن يكون طوعيّاً، فقد أظهرتْ تحقيقاتنا أنّه يتشكّل بفعل ممارسات الدولة المعاديّة التي تسعى للتخلّص من طالبي اللجوء بأقلِّ تكلفة ممكنة.
في الوقت الذي يُثني فيه صنّاع القرار في بروكسل على برنامج العودة الطوعيّة الناجح المزعوم في قبرص ويخطّطون لتعميمه في الدول الأعضاء، يدفع السوريّون يدفعون أثماناً باهظة لسياسات تٌعطي الأولوية للإقصاء على حساب الحماية.
*تم تغيير أسماء هؤلاء الأشخاص لحماية هويّتهم.
الدعم الإضافي في التقارير: كلارا زينيكر.
التحرير والتدقيق: أندريا جليوتي، محرّرة التحقيقات في "العربيّ الجديد".
للاستفسارات، التعليقات، والشكاوى، يرجى التواصل مع أندريا جليوتي عبر البريد الإلكترونيّ [email protected] أو مع أنس عمري عبر [email protected].
يُرجى إرسال المعلومات الحسّاسة والنصائح عبر بريد إلكترونيّ مُشفّر إلى [email protected].
*تصحيح بتاريخ 18 فبراير: أشارتْ النسخة السابقة من هذه القصّة إلى أنّ قرار المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان (ECtHR) الصادر عام 2019 ضدّ فنلندا لا يزال سارياً. وقد تمّ تعديل النصّ ليعكس أنّ المحكمة ألغتْ هذا الحكم في تمّوز/يوليو 2021.