كان أمراً مؤلماً ومدهشاً؛ هذه ليست حمص إذاً


فجأة، بعد سقوط نظام الأسد صار بمقدوري زيارة مدينتي حمص، ورؤية منزل الطفولة، المكان الذي لن أشاهد فيه والدتي من جديد.

27 حزيران 2025

عمار ديوب

كاتب سوري مقيم في دمشق، يكتب في عدد من الصحف العربية منها الحياة والعربي الجديد.

المسافة بين دمشق وحمص حوالي ساعتين بالسيارة، أي رمية حجر كما نقول بالعامية، لكنها امتدّت لتصبح ثلاثة عشر عاما قبل أن أتمكّن من زيارتها.

كانت المرّة الأخيرة التي زرت فيها مدينتي، حمص، حينما توفي والدي في كانون الثاني/ يناير 2012 وبعدها لم أذهب إليها أبداً. حتى حينما غادرتْ والدتي في 2018 مُلتحقةً بوالدي لم أفعل.

مضت ثلاثة عشر عاماً، وهي سنواتٌ طويلةٌ للغاية، وكأنني كنت خارج البلاد، ولم أكن. كنتُ في دمشق وخفت من الزيارة بعد اعتقال عددٍ من أصدقائي أثناء زيارتهم حمص، ولم يكونوا مطلوبين للأمن في دمشق، خاصّة أنّ الاعتقال راح يتساوى مع القتل.

مضى العمر، وتزوّج حسام، آخر إخوتي، وصار له من الأولاد ثلاثة، أكبرهم في الصف السادس، ولم أرهم. ولم أرَ والدتي في منزل العائلة، وأيضاً لم أرَ مدينتي حمص بعد الدمار الذي أوقعه بها جيش بشار المتوحّش. في حمص قضيتُ سنوات حياتي الأولى من الصف السابع الإعدادي وحتى الشهادة الثانوية. هي أكثر من ست سنوات، ولي فيها أصدقاء وحياةٌ كاملة، وكنت أعرف جيّداً تفاصيل الكثير من الأحياء التي دُمّرت: وادي السايح، كرم شمشم، الخالدية، الحميدية، دير بعلبة، وسواها الكثير..

كانت لحظة سقوط النظام أعظم لحظةٍ عشتها منذ اعتكافي المستمر في دمشق. في تلك اللحظة انفتح التاريخ من جديد، وعادت زيارة حمص إلى قائمة انشغالاتي، لكنني خفت من الأمر. شعرتُ برهبةٍ من تلك الزيارة وحاولت تأجيلها. كنتُ قد وطّنتُ نفسي على العيش في دمشق وفجأةً صار بمقدوري زيارة منزل الطفولة، المكان الذي لن أشاهد فيه والدتي من جديد. فكيف سأذهب الآن؟

الصوت الضائع: سوريو المحرّر الجديد

13 حزيران 2025
"هناك أشياء لن يدركها إلا من عاشها، ومنها بتر علاقاتك ومسح صورك لأنك اخترت أن تبقى في أرضك، كمن يُقطّع أوصاله ليُبقي على روحه" هذا ما تقوله عبير ش متذمرةً...

تحجّجتُ بأسباب كثيرة، ومنها عدم وجود مكان أضع فيه جروي الصغير مشمش. هذا الجرو الجميل، أعيش معه منذ ستة أعوام، أشكو له أحزاني، ووحدتي، وأحمله وأسير به في المنزل يومياً، ليعيد إليّ بعض التوازن النفسيّ. حقا أين أتركه؛ وهو الذي ملأ حياتي بعد أن غادر أغلبية الأصدقاء إلى المنافي، فيما الأهل في مدينةٍ أخرى، في حمص، التي عاد قلبي ليهجس بها، ولتستعيد ذاكرتي ذلك الطفل الذي كنته ولعب في أزقتها؟

كيف سأرى أحوال مدينتي وقريتي ومنزل العائلة وإخوتي وأولادهم؟ قد أبدو صلباً وعنيداً أمام الآخرين، ولكنني في غاية الهشاشة، أخاف اللقاءات العائلية، سيما بعد انقطاعٍ طويل. خفت أن أبكي أمامهم. قد حدث الأمر سابقاً، لحظة رأيت بعض أخواتي، وقد أتين إلى زيارتي في دمشق في الأعوام السابقة. كان الأمر صعباً للغاية.

مضت ثلاثة أشهرٍ على السقوط، وراح الإخوة وأولادهم يصرّون على الزيارة، وهدأت الأحوال في حمص بعد انفلاتٍ طائفيٍّ كاد يُغرق المدينة في الدماء. ومع الأسف تجدّد بعد انتهاء الزيارة والعودة إلى دمشق، راح ضحيته عددٌ من العلويين، وما يزال.

الطريق إلى حمص.. لم تعد الأعشاب موجودة

أتى صديقي صهيب، وقال إنّ سيارته جاهزة للسفر. تعرّفت إليه خلال اعتقالي في فرع الخطيب وسجن عدرا في أيار/ مايو عام 2011. كنتُ قد اعتُقلت في أواخر أيار 2011، بعد تظاهرةٍ في حي الصالحية في قلب دمشق وكانت من أجل فك الحصار عن درعا وللسماح بوصول الحليب للأطفال. ترافقنا، ومعنا الدكتور جلال نوفل، إلى القيادة العامة للمخابرات المركزية في المزّة ثم إلى سجن عدرا، وتوطدتْ علاقتي بصهيب رغم فارق العمر، واعتُقل هو لاحقاً أربع مرات؛ وغادر مع عائلته في الباصات الخضراء في 2016 من جيرود إلى عفرين، وأصبحت علاقتنا افتراضية، ولكن ومع سقوط النظام أتى لزيارتي فوراً. لم أكن قادراً على الزيارة وحيداً أو معه فقط. لن أستطيع قطع المسافات وحيداً، فاتصلت بأصدقاء آخرين، وكان منهم الدكتور جلال نوفل الطبيب النفسي، والكاتبة رانيا مصطفى، واعتذر آخرون.

وضعت مشمش عند جاري، وصعدنا إلى السيارة. الخوف والرهبة استوطنا عقلي ومشاعري وكلماتي وذاكرتي وأنفاسي. جلستُ في المقعد الخلفي، وتركتهم يتحدثون. لم أشارك إلّا قليلاً، إذ كانت عيوني شاخصةً إلى المساحات الصحراوية بين دمشق وحمص، فيما ذاكرتي تستعيد المساحات ذاتها من رحلاتٍ سابقة، حين كان بإمكاني السفر وقت أشاء، أراقب البلدات المسترخية والهرمة والمهملة على جوانب الأوتوستراد الدولي. صحيح أنّ هذا العام ليس فيه مطر، بل جفافٌ كارثيّ، وليست هناك مساحاتٌ خضراء، لكنني صعقت حينما رأيت مجرّد سنتيمتراتٍ من العشب عند مشارف حمص، بينما ذاكرتي تحتفظ بعلوّ الأعشاب، قرابة نصف متر. الأرض حمراء اللون وقاحلةٌ بدورها، وأشجار السرو المنحنية مع قوة الرياح (وهي ظاهرةٌ خاصة بتلك المنطقة، حيث فتحة حمص) ممتئلةٌ بالغبار، بينما كانت تضج بالاخضرار كما تحتفظ بها ذاكراتي. كان أمراً مؤلماً ومدهشاً؛ هذه ليست حمص إذاً.

كان مشهد الدمار في حمص هو المُسيطر عليَّ، ولكن أيضاً، الخشية من الحواجز الأمنية التي زُرعتْ في المدينة منعاً ولجماً للتعديات على الأحياء العلوية والانتقام منها من قِبل فصائل ومجموعاتٍ متشدّدة أو إجرامية، انطلاقاً من المجازر التي قام النظام بها ضدّ الثوار والأحياء التي يقطنون فيها، وتدمير بعضها وتهجير الأهالي. ولكن عمليات الانتقام بعد التحرير تجاوزت ذلك، لتطال مدنيين لا علاقة لهم بالأمر إطلاقاً.

الوصول.. فطورٌ ملائكيّ بنكهة العائلة

كان  أخي الكبير يتصل بي طيلة الطريق: أين وصلتم؟ هل الأمور بخير؟

أخيراً وصلنا، وقرّرنا، وقبل التجوال في شوارع حمص، الذهاب إلى فيروزة، البلدة التي يقطن فيها أخي، حيث اشترى منزلاً، قاصداً الاقتراب من حمص بعد أن أصبحت بناته في الجامعات، وهي غير قريتنا الأصلية (الوريدة) في ريف حمص الشرقي. سأل الحاجز الأوّل عن السلاح، وقال لصهيب: لماذا أخفضت صوت الأغاني، عللي الصوت، بينما كان الحاجز الثاني متشدّداً بعض الشيء، وقام بنزع "التفييم" بآلةٍ حادة عن البلور، وهدّد بإيقافنا في المرّة الثانية إن لم ننزعه.

امتعضنا نحن وصهيب، (وفي رحلة العودة سلكنا طريقاً آخر). كان نزار ينتظرنا عند مفرق حيّ عشيرة، الذي تمّ تهجيره في سنوات الثورة. بعد السلام، وكانت أعيننا تلمع من اللقاء، اتجهنا إلى منزله، وكانوا قد أعدوا الفطور قبل وصولنا، وامتلأ المطبخ بالصحون الممتلئة، أكثر من عشرين صحناً؛ بيض بلدي، مقليّ ومسلوق، لبنة غنم، قشطة، أنواع متعدّدة من الجبنة، الشاي، الخضار، المكدوس، الزبدة، دبس العنب، وأتوا أيضًا بالفلافل والحمّص من المحل القريب. ذكرني هذا بوالدتي، التي كانت تُعدّ كلّ تلك الأنواع في المنزل، والآن زوجة أخي تفعل مثلها؛ وطبعاً لا مجال للمقارنة مع فطوري في دمشق، المقتصر على بيضتين ولبنة وبعض الزيتون، رغم اهتمامي بأن تكون نوعيته جيدة، ولكن هيهات هيهات..

قد أبدو صلباً وعنيداً أمام الآخرين، ولكنني في غاية الهشاشة، أخاف اللقاءات العائلية، سيما بعد انقطاعٍ طويل. خفت أن أبكي أمامهم. قد حدث الأمر سابقاً، لحظة رأيت بعض أخواتي، وقد أتين إلى زيارتي في دمشق في الأعوام السابقة.

بعد لحظات، حضرت أختي الكبيرة مع زوجها، ولم أرهم أيضاً منذ ثلاثة عشر عاماً. بدت مرهقةً بعض الشيء، وبالكاد تسمع، وحين السؤال عن السبب، ذكرتْ أن إحدى الدبابات كانت تطلق القذائف بالقرب من البناية التي كانت تقطنها. مريم هي أختي الكبيرة، ولها مكانة الأم. وفي إحدى زياراتي إلى حمص، التي تزامنت مع المظاهرة الكبيرة في حماه في تموز/ يوليو 2011، كنا نشاهد التلفاز، وكنت قد انفصلتُ عن زوجتي، فقلت بصوتٍ عالٍ: إن مدينةً كهذه، وقد أدميت تدميراً وقتلاً واعتقالاً ونفياً وتهميشاً في الثمانينيات، وما تزال تتظاهر بشكلٍ سلمي وبأكثر من 300 ألف شخص؛ تدفعني للزواج من إحدى بناتها..

كان الأمر مزاحاً، لكنها اندفعت برفض ذلك، إذ كيف لمسيحيٍّ أن يتزوج مسلمة (بالنسبة إليها)؟ هي تظنني مسيحياً، وغاب عنها أنّ في تلك المدينة مسيحيين أيضًا؛ لقد كانت ملتزمة دينياً في العقود الأخيرة. لم أمرّر الأمر ويبدو أنني وجهت لها كلاماً قاسياً، ولكن ليس شتيمة، وتكهربت الأجواء في المنزل، وبكت، وبوجود والدي كنت مُحرجاً للغاية، وهي كذلك، ولكنني قمت وقبّلت رأسها، وقلت نحن مختلفون، وأرجو ألا تتدخلي بما يخصّني. ولكن القلب لم يغفر سريعاً، لا من جهتي ولا منها، وأخذ الأمر العديد من السنوات حتى عدنا نتكلم مع بعضنا.

التجوال في المدينة

صعدنا إلى السيارة، وبدأنا التجوال في شوارع حمص. كانت المواجهة الأولى لي مع المدينة المُتهالكة، المُتعبة، المُجهدة، الغارقة في الحزن والكآبة والإنهاك، وحيث بدأت ذاكرتي بالمقارنة بين الأمس واليوم وما جرى منذ 2011. زرنا حيّ الأرمن والزهرة، واتجهنا نحو وادي السايح، وكان الدمار هائلاً. مررنا بمنزل أختي؛ كانوا قد رمموا شقتهم التي نُهبت بالكامل، ولكن البناية لم تتدمَّر؛ كانت مواد الترميم قليلة الثمن، الدهان، الأبواب الخشبية، التلييس، وكان وجه صهري في غاية الإجهاد، وبانت معالم الكبر عليه. في هذا الحيّ (وادي السايح) سكنتُ لأوّل مرّةٍ في بداية الثمانينيات، وتنقلت بين العديد من البيوت المستأجرة، وجميعها تقريباً كانت في الحي ذاته، ربما لأنه كان حيّاً للطبقة المتوسطة وعاداته أقرب لعاداتنا، وربما لوجود منزل أختي المتزوّجة فيه، حيث لم يكن في قريتنا مدرسةٌ إعدادية، ومنه بدأت أتعرّف على الأحياء المجاورة، حي الأُظن والحميدية وبستان الديوان، كان حيّاً مسيحياً في بعض شوارعه وسنياً في الجهة الغربية فيه، ولكن لم تكن فيه مشكلات بين الأهالي ولم تكن هناك علاقاتٌ قويةٌ أيضاً.

لم أجلس، كان صهري مندهشاً: كيف تمرّ ولا تجلس؟ ولكنه يجد لي العذر. ودعته ومشيت أقلّ من عشرين متراً. كانت البناية التي فيها شقة أختي الكبيرة مهدّمة، وهناك بعض الشقق، ولكن الدرج طار من البناية، والشقق مُخترقة بفتحاتٍ من أثر الصواريخ. بعد قليل وصلنا إلى الجزء الغربي من وادي السايح. وبالكاد ترى فيه بعض السكان، بينما كان يقطنه عشرات الألوف من الناس سابقاً. قرّرتُ أن نتجه نحو جامع النور. حيث كنّا نستقل الحافلة التي تأخذنا إلى القرية بين 1983 و1991، ولاحقاً، كانت المحلات والبنايات عامرةً بالناس، والآن ليس فيها أحد، حتى الحديقة الصغيرة أمام الجامع لم يكن فيها أشجارٌ؛ ليس في ذاكرتي أحداثٌ مميّزة عن الجامع، ولكنه جزءٌ من ذاكراتي المُتعلّقة بالمكان، وبدخول المصلين إليه ومراقبتهم وهم يخرجون، وبالوقوف أمامه إلى أن تمتلئ الحافلة، ولم تحدث معي أيّة مشكلةٍ فيه، فكانت زيارته واجبة. قمنا بدورةٍ صغيرة، كانت معالم المدينة وكأنّها تعرّضتْ لقصفٍ من جيشِ احتلال، لم يترك فيها مجالاً للحياة.

عن سوريا التي زرتها بعد سبعةٍ وعشرين غياباً

07 نيسان 2025
"قبل شهرٍ من سقوط الطاغية، قالت لي أمي: سأرحل من دون أن أراك! وها أنا ذا، بعد سبعةٍ وعشرين عاماً، أقف أمام باب منزلي في القرية في طرطوس. على حائط...

 كان واضحاً، أنّ هذا الحيّ في أسوأ أحواله، وهو قريبٌ من حيّ الخالدية الشهير، الذي غنّت فيه الصديقة فدوى سليمان وعبد الباسط الساروت في 2011. تركنا خلفنا هذا الدمار، ولكنه رافقنا وامتدّ حتى جامع خالد ابن الوليد، وأيضاً حاولت الذهاب نحو بناء المطاحن، وأيضاً كان الدمار في كلّ مكان، بالكاد تجد بعض البشر أو السيارات. ذهبنا إلى المشفى الوطنيّ، أيضاً شاهدنا الدمار، ثم عدنا إلى جامع خالد، قبالته مباشرةً كانت البنايات محروقة، والكثير من أسطح الشقق صار فوق بعضه بسبب القصف الجوي. صحيحٌ أنّ أربعة أشهرٍ مرّتْ (لحظة الزيارة) على سقوط النظام، ولكن المدينة في حالةٍ مدقعة من الفقر والإهمال والتعب.

في محيط الساعة القديمة، كانت الفوضى عارمة. اتجهنا بعدها إلى ساحة الساعة الجديدة، تلك الساعة التي تجمَّع حولها أهالي حمص، ومن كل الطوائف، في 18 نيسان 2011، ثم دخلنا شارع الدبلان، وكان من أهم شوارع المدينة قبل 2011، والآن، بالكاد تدبُّ فيه الحياة رغم افتتاح معظم محلاته من جديد. هنا لم نعد نرى مشاهد الدمار. أخذنا طريق حيّ الغوطة والانشاءات ومديرية التربية، حيث الأحياء الثرية والمتوسطة، السنيّة. لم يكن هناك أيُّ دمار، وتبدو الأحياء مستقرةً ومتجذّرةً في المكان، وشوارعها عريضة ونظيفة، وكذلك مقاهيها، ولكن ليس فيها أيّ بناءٍ جديد.

كنت قد نسّقتُ مع الناشط السياسي أبو علي صالح (محمد صالح) من أجل لقائه، وهو معتقلٌ سياسي سابق، كان عضواً في حزب العمل الشيوعي، ولم يغادر مدينة حمص طيلة سنوات الثورة، وكان يحاول مع آخرين منع تحوّل الثورة إلى حربٍ طائفية، ونجحوا في إطلاق سراح بعض الشباب المحتجزين من العلويين أو السنة، وحاولوا جاهدين العمل في قضايا التوثيق، ولكنه اعتقل، وكذلك كثر، كانوا يقومون بالأعمال ذاتها بغية تجنيب المدينة المزيد من الاقتتال والانقسامات التي كان النظام وأصحاب العقلية السلفية يدفعون إليها.

كانت الساعة قد اقتربت من الخامسة. بدأت ابنة أخي، التي رافقتنا، بالقلق والنظر إلى الساعة، وهذا يعني أنّ علينا أن نتحرّك إلى القرية فوراً، حيث سنذهب لرؤية إخوتي، وبعض الأقارب، وقبل أن تغيب العين، الشمس، والأفضل أن نتحرّك نهاراً خوفاً من عصاباتٍ أو مجموعاتٍ قد تتعرّض لنا في الشوارع بين القرى أو في المدينة حتى. وهناك رأيٌ سائد، أنّ العلويين وأهل الساحل منهم يغلقون الأبواب على أنفسهم منذ الساعة الخامسة خشية الانتهاكات. احتسينا قهوتنا، وأكلنا حلاوة الجبن وسرنا نحو قريتي البعيدة عن حمص قرابة 30 كيلو متراً.

هناك الكثير من الطرق، سابقاً، ولكننا اضطررنا للعودة عبر الحميدية، وهو حيٌّ فيه أغلبيةٌ مسيحية، إلى شارع الستين في الزهرة، وأغلبيته علوية، وهي مسافة كبيرة، للمرور بالعباسية ثم دير بعلبة، والسبب أنّ الشوارع ما زالت غير صالحةٍ للسير، وما تزال بقايا الدمار فيها، ولأنه الطريق الأكثر أماناً وفقاً لرأي ابنة أخي. في طريقنا الجديد لم توقفنا الحواجز، ومررنا بالكثير من القرى، ثم بدأت بساتين وأراضي القرية بالظهور تباعاً؛ كنتُ متشوّقاً لرؤية التغيير، وبأملٍ كبيرٍ ألا يكون نحو الأسوأ، كافة القرى السابقة ليس فيها تغييرٌ يذكر، قرىً بالكاد تبرز من الأرض، ولكن بساتينها على حالها؛ العنب، الزيتون، اللوز...

تشاهد في مدخل قريتي مبنى البلدية المُستأجر، وقد ازداد إهمالاً، وقد أثار لديّ بعض الحزن. فهل يعقل كلّ هذا الاهتراء في الأبواب والنوافذ والبلاط! بعد ذلك رأينا بستان زيتونٍ ولوزٍ للعائلة؛ كنت مهتماً برؤية كلّ شجرة، ومدى اخضرارها، ونظافة التربة من الأعشاب. أوقفنا السيارة، ونزلنا منها من أجل قطاف بعض اللوز والأكل من الأشجار مباشرة. كنت في غاية السعادة وأنا أسير بين الأشجار، متفقدًا لها ولنوعية ثمارها. حين غادرتُ القرية لم تكن مثمراةً بعد، ولكن الأشجار أصبحت ضخمةً بعض الشيء، ولم تكن باسقةً بشكل كبير؛ ربما بسبب الجفاف، واستعدتُ الأيام الخوالي. كان أخي حسام، الأصغر في العائلة، يقطف بعض اللوز للسهرة، كان اللقاء شديد الانفعالية. احتضنته لبعض الوقت والدموع تكاد تنهمر من كلينا سوية وتحمرّ أعيننا من الشوق واللقاء بعد طول غياب. لقد صار أربعينياً، وبشعرٍ خفيف، ولكن بصحةٍ وافرة، وسمارٍ كبير من شدّة الشمس والعمل في الأرض. كانت سعادتي كبيرة، وكنت أعيد النظر إليه، وقد صار أباً لثلاثة ذكور... يا له من زمن.

القرية واللقاء مع العائلة

اتجهنا إلى القرية، وأنا أراقب كلّ بستان، جانبي الطريق، وما تغيّر فيهما، باعتباري أعرف مالكيها كذلك. لم تتأذَّ البساتين تلك، ولم تشهد المنطقة بالعموم معارك أو قطعاً للأشجار، وهذا جنّبها الأهوال التي حدثت في الكثير من القرى المُنتفضة، ولم ينزح أهلها بشكلٍ جماعيّ، ولكن حدث في قريتنا الكثير من الهجرة الاختيارية إلى أوروبا بينما حدثت الهجرة من القرى الشيعية مع سقوط النظام، وبسبب اصطفاف الكثير منهم معه. القرى العلوية لم تنزح، ظلّ أهلها فيها، ولكنها شهدت نزوحاً خفيفاً إثر سقوط النظام ثم عاد أهلها إليها، بينما أغلبية أهالي القرى الشيعية لم يعودوا.

كانت الأسرة بانتظارنا، إخوتي وعائلاتهم، وسمعت زغاريد خفيفة، وكان اللقاء شديد الحرارة، حيث يتعرّف أولاد أخوتي على عمهم المعارض، "صاحب الرأس الكبيرة". كان شادي ومشهور يستعرضان نفسيهما على الدراجات ونحن في طريقنا إلى منزل العائلة؛ منظرهما في غاية الحب والجمال.

الخوف والرهبة استوطنا عقلي ومشاعري وكلماتي وذاكرتي وأنفاسي. جلستُ في المقعد الخلفي، وتركتهم يتحدثون. لم أشارك إلّا قليلاً، إذ كانت عيوني شاخصةً إلى المساحات الصحراوية بين دمشق وحمص، فيما ذاكرتي تستعيد المساحات ذاتها من رحلاتٍ سابقة، حين كان بإمكاني السفر وقت أشاء.

كانت الكبّة المشوية على الجمر، اجتمعنا حول المِنقل، وأكلنا منها وهي ساخنة، تسقسق دهناً. (كان والدي رجلاً محبّاً للغاية، يطلب إحضار العرق البلدي، فلا يصح أكلة الكبة من دونه، لتمتلئ الكؤوس وقد امتزج بالماء وصار أبيض). أحاول تجنّب الذكريات تلك، فهي تجعلني ضعيفاً، وهو ما لا أحبّ إظهاره أبداً. رحت أتفقّد شجرات حديقة المنزل، وأرى والدي ووالدتي في  كلّ مكان؛ غادرا دنيانا ولكنني كنت أراهما. كان والدي رجلاً يتقن الاستماع، وكان يرتدي إما القنباز أو الجلابية، وظلَّ كذلك طيلة حياته، ويعلّق بجملٍ قصيرة، فيها انتقاداتٌ لاذعة بعض الشيء، إنما ليس بشكلٍ مباشر أبداً. لم يكن يحبّ السياسة، ولكنه يتابعها عبر الأخبار. كان يسألني حينما أزورهم عما يجري في البلاد، يسأل وأجيب؛ لم يكن يُعلّق، فلقد أخفوا عنه سابقاً اعتقالي لعشرة أيّام، ولكن وبعد الإفراج عني أخبروه بالقصة. كانت والدتي أكثر صلابةً في مواقفها من والدي فيما يخصّ التربية أو الحياة عموماً. لم أتلقَّ أنا ولا إخوتي الضرب منه، بينما كانت والدتي تقوم بتعويض ذلك وبشكلٍ صارم، ولا أنسى تعليقاً ملفتاً لها: لو ضربك والدك لما عارضتَ أو انشغلت بالسياسة. كانت تمزح بعض الشيء، ولكنها كانت خائفة بشدّةٍ من التغيير ومن تكرار اعتقالي. بالنسبة إليها لم يكن للثورة من داعٍ، فالبلاد أصبحت تعيش الحروب والخوف. وكمسيحية، كانت تخشى على مستقبل البلاد سيما إن صار الحكم إسلامياً! فهل كانت على صوابٍ أم على خطأ؟ هذا حديث أخر. وبالنسبة إليّ، فهروب بشار كان أفضل ما حدث في حياتي وحياة كلّ السوريين.

بعد قليل امتدّتْ مائدةٌ كبيرة للغاية، من خمس طاولات، وكانت عامرةً بمختلف أنواع الطعام والمشروبات؛ العرق البلدي والوسكي والفودكا. بعد قليلٍ انتقلنا إلى الغرفة الكبيرة، للسهرة وتبادل الأحاديث عن الأعوام السابقة. تركّز النقاش عن طبيعة السلطة، والانتهاكات، والخوف الوجودي، وكيفية تدبّر الأحوال اليومية، وعن خوف الأقليات والمدخل إلى الخلاص من الأزمات، وكيفية الاندماج في الدولة الجديدة. في هذه الأثناء أتوا بقالب كاتو للاحتفال بعيد الصغير فادي، ولم يكن يوم ميلاده، هو بعد أيّامٍ عدّة، ولكن استغلوا وجودي كي يشعروني بالكثير من الحبّ؛ كانت لفتةً في غاية الحنان.

الخيال وقد تحقّق... عن يوم سقوط الأسد

12 كانون الأول 2024
في ساحة الرئيس في جرمانا كان رأس حافظ الأسد قد أُسقط ورُمي على يمين الساحة، وصعد الشباب إلى أكثر من صورة لبشار، ومزّقوها بأيديهم وأقدامهم. عمار ديوب يأخذنا معه في...

امتدّت السهرة طويلاً، ومع ذلك استيقظت في السابعة صباحاً، وتفقدت الحديقة وأبحرت بنظري إلى البيوت القريبة محاولاً تخزين صورها في ذاكرتي، وإلى الأفق وفي كلّ الجهات. ثم احتسيت القهوة مع أخي وزوجته، وبعد نصف ساعةٍ أيقظتُ أصدقائي، ونلت منهم الكثير من الشتائم، وكنت أحسب الوقت بكثيرٍ من الدقة، فانطلقنا نحو الأراضي التي لم أشاهدها. كانت المناظر تسرّ القلب، وتُعيد للروح تألّقها. ذهبنا إلى بستان الفستق الجديد، الذي لم أشارك في زراعته، ولكنني كنت أتابع الأمر عبر الهاتف وبشكلٍ شبه يومي وأحثّ حسام وصفوان ونزار على السقاية والتطعيم والتشحيل؛ كانت لديّ رغبةٌ خاصة بالذهاب إليه ورؤية الأرض، فلقد ساهمت بزراعة ذلك البستان سابقاً بشجر اللوز، حبّ، تطعيم، سقاية، تعشيب، فلاحة، ولكن اللوز انتهى وقُلع، والآن زُرِع فستقاً. سريعاً، ومن الأبواب ومن دون جلوس قمت بالسلام على عمي وخالتي، وهما طاعنان في السن. وتناولنا وجبة الفطور عند أخي الثالث، وكان فيها ما كنت أتخيّله من الأطايب وأنا في دمشق. عدنا إلى حمص من جديد، ومررت بأختٍ لي، وأيضاً كان سلاماً سريعاً؛ كنا مضطرين للعودة إلى دمشق.

استقرّتْ غصّةٌ كبيرة في حلقي، وكأنني أكلت إسفرجلة، من زيارة الأحياء المدمّرة في اليوم السابق، ولم أرغب بمشاهدة المزيد. هناك ألمٌ في داخلي، ورغم مرور أكثر من عشرة أيّام على العودة (لحظة كتابة هذه السطور)، لا يغادرني كلّما تذكرت المدينة المدمرة. وربّما لأنني في حالة تشاؤمٍ من طبيعة السلطة الحالية وسياساتها الاستئثارية، والتي لا أعوّل عليها للنهوض بالبلاد، أو تأمين الاستقرار، وقد انفجر الوضع في جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء وتجاوز عدد القتلى المائة، وكما قالت السلطة إنّ جماعاتٍ منفلتة هاجمت الساحل، كذلك كرّرت الأمر ذاته الآن. ثم جاء تفجير كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة في دمشق لتزيد الطين بلّة.

هل أنا متشائم بحكم طبيعتي؟ لا قطعًا؛ التشاؤم نتيجة كافة السياسات المُتبعة، والفاشلة منذ لحظة الخلاص من نظام القتل والدمار والتهجير.

مقالات متعلقة

سوريا... العودة ممكنة

01 شباط 2025
"في اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا...
"العودة إلى طرطوس لا تشبه العودة إلى سوريا"

14 نيسان 2025
"عدتُ إلى طرطوس والعودة إليها لا تشبه العودة إلى سوريا، هي عودةٌ إلى مكانٍ لم تهجّرك منه السلطة فقط، بل ولعبَ المجتمع دوره في نفيك". هذا ما يكتبه الموسيقيّ والباحث...
طلاب التاسع في الساحل السوري: خوفٌ واستعدادٌ للمواجهة!

21 حزيران 2025
"أخاف من الطريق كما أخاف من الامتحان" هذا ما يقوله الطالب جعفر الذي يستعد لتقديم امتحان الشهادة الإعدادية لأوّل مرة بعد سقوط النظام السوري، وسط وضعٍ أمنيٍّ مهتزّ، ومخاوف يسلّط...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد