(أخفت حكاية ما انحكت، عمداً، الأسماء الحقيقية والأعمار وبعض التفاصيل الهامة من هذه الشهادة حفاظًا على سلامة الشهود. وقد جمعت وكتبت هذه الشهادة الشاعرة والكاتبة ميسون شقير على لسان أحد الشهود الذي تركته يروي لنا كلّ هذا الألم)
ابتداءً من يوم الثلاثاء 29 نيسان/ إبريل ولمدّة أربعة أيّام، عاشت مناطق من سوريا مثل مدينة جرمانا في الريف الشرقي لدمشق ومدينتا أشرفية صحنايا وصحنايا في الريف الغربي للعاصمة السورية، ومحافظة السويداء، حالة رعبٍ وتهديدٍ طائفي وإعداماتٍ ميدانية بحقّ مدنيين عزّل، دفعت عدداً كبيراً من سكان تلك المناطق إلى مغادرتها خوفًا إلى قرى جبل الشيخ ومناطق أخرى، في محاولةٍ لإنقاذ من تبقى.
حدث الأمر بطريقةٍ مشابهة لما كانت قد عاشته منطقة الساحل السوري من مجازر ارتكبتها فصائل "متشدّدة وغير منضبطة"، في يوم السادس من آذار/ مارس 2025 ولمدّة ستة أيّام متتالية، من دون أن يستقر الوضع الأمني بعد.
هنا نقدّم شهاداتٍ من أهالي المدنيين في أشرفية صحنايا الذين تعرّضوا لإعداماتٍ ميدانية حتى بعد دخول الأمن العام إلى البلدة بتاريخ 30 نيسان/ أبريل 2025، وذلك بعد 20 ساعةً من القتال المُتواصل بين الفصائل المتشدّدة التي كانت تهتف بإبادة مكوّنٍ سوريٍّ كامل وبين الفصائل المحلّية في هذه البلدة.
تحكي هذه الشهادة قصّة إعدام خمسة أشخاص من عائلةٍ واحدة في أشرفية صحنايا، مرويةً على لسان أحد أفراد هذه العائلة كراوٍ رئيسي، عن كيفية تلقي العائلة هذا المصاب الكبير، مع الاعتماد على شهاداتٍ فرعية لمن شاهد الأحداث وعايشها بشكلٍ مباشر، محاولين بذلك تأكيد سعينا لتقديم الحقائق، وللمساهمة في تحقيق عدالةٍ انتقاليةٍ حقيقية، غير متوفّرةٍ حتى الآن في المسار الذي تعتمده حكومة دمشق.
رحل "الغالي" من دون أن يودّعنا
29 أيار 2025
كنت أعتقد أنّ عائلتي قد نالت حصّتها كاملةً من المقتلة السورية، حين خسرنا أحد أفراد عائلتنا، شهيدًا تحت التعذيب في أقبية نظام الأسد المجرم. إنه أخي الذي ساعد، وبشهادة العديد من الناشطين، أهالي درعا في الحصول على الأدوية، مثلما تحدّى كلّ الحواجز والخطورة والرعب، وأوصل بنفسه الحليب وأدوية الأطفال، سيرًا على الأقدام، إلى مدينة داريا، ومدينة دوما اللتين عانتا منذ بداية الثورة حصاراً جائراً من قبل قوات نظام الأسد. ولهذا نصبت له المخابرات السورية فخًا واعتقلته مع صديقته الناشطة في دمشق عام 2012 ولم نعرف شيئًا عنه إلا بعد مضي عشر سنوات على اعتقاله لندرك أنه استُشهد تحت التعذيب في ذات السنة التي كان قد اعتُقل فيها.
مع هذه الخسارة الفاجعة، كنّا نعتقد أننا أخذنا نصيبنا كلّه من الفقد والقهر والحزن والخذلان، كحال عائلاتٍ سوريةٍ كثيرة، كان النظام السابق سببًا في معاناتها مع الإحساس القاتل بأن يقتل سوريٌ أحد أفراد عائلتنا ظلمًا، من دون أيّ ذنبٍ اقترفه، ومن دون أيّة محاكمة. لكننا كنا واهمين، فبعد أن حصلت المعجزة وسقط الأسد، وبعد أن عشنا حالةً من الأمل العارم، ومن الفخر بشهيدنا وبأننا كنّا من المساهمين في هذه الثورة، التي أسقطت الأسد، عدنا وعشنا من جديد تجربةً صاعقةً من الخذلان والفقد والموت، واكتشفنا أننا لم نكن قد أخذنا حصتنا الكاملة من الموت.
في عصر يوم 29 نيسان/ أبريل عام 2025، وبعد يومين من المعارك التي عاشتها بلدتنا أشرفية صحنايا، مثلها مثل مدينة جرمانا، بين شباب مسلحين من أهل البلدة وفصائل تقاتل إلى جانب الحكومة السورية. وهم كما رأيتهم بأم عيني رجالٌ مدجّجون بالأسلحة، ملتحون وبشعورٍ طويلة، يلبسون اللباس العسكري، ويضعون على أيديهم عصبةً كُتِب عليها شعار: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
حاوطت هذه الفصائل المدينة وحاصرتها وأخذت تهتف مهدّدةً بقتلنا نحن الدروز، وتصفنا بالخنازير (انتقامًا لفيديو مُفبرك فيه تطاولٌ على شخصية الرسول الكريم، ومعاذ الله أن يتطاول شيخٌ من طائفة الموحدين الدروز المسلمة على نبي الله، فأنا شيخ وأعرف تماما ماذا أقول)، وبين رجال وشباب البلدة الذين حاولوا بأسلحتهم الفردية حماية المدنيين، وخاصة حماية عائلاتهم من المجازر الطائفية التي كانت قد تعرّضت لها منطقة الساحل السوري قبل فترةٍ وجيزة.
في عصر ذلك اليوم جاءتنا الأنباء عن أنّ قوات الأمن العام، أي القوات التابعة للدولة السورية الجديدة، ستدخل البلدة من أجل فرض الأمن وحماية الناس بعد أكثر من يومين من الاشتباكات، وعلى الرغم من تأخّر قوات الأمن هذه، إلا أننا كنا قد استبشرنا بهم خيرًا، واعتقدنا أنهم لا يمكن أن يسمحوا بحصول أيّة مجازر طائفيةٍ بحقّنا.
فبعد أن حصلت المعجزة وسقط الأسد، وبعد أن عشنا حالةً من الأمل العارم، ومن الفخر بشهيدنا وبأننا كنّا من المساهمين في هذه الثورة، التي أسقطت الأسد، عدنا وعشنا من جديد تجربةً صاعقةً من الخذلان والفقد والموت، واكتشفنا أننا لم نكن قد أخذنا حصتنا الكاملة من الموت.
في حوالي الساعة الرابعة مساءً، كنا قد طلبنا من معظم نسائنا وأطفالنا في البلدة التوجّه إلى مجلس أو مسجد البلدة الكبير، وذلك لحمايتهم من المعارك الدائرة. وفي هذه الساعة دخلت مجموعاتٌ كبيرة من الفصائل المسلّحة التابعة لحكومة دمشق ومن قوات الأمن العام، إلى المدينة. في هذا الوقت توجّه ثلاثة رجالٍ مسلحين يتبعون للأمن العام، إلى منزل قريبي الشيخ عمّار الذي تجاوز عمره الثمانين، وكان معه في البيت أخوه الأصغر تمّام الذي روى لي ما حصل معه (استمعت سوريا ما انحكت إلى رواية تمّام أيضًا وستروي شهادته على لسانه)، وابنه الشاب سلمان الذي يمتلك محلًا للعصرونية في البلدة، ويمتلك وجهًا يبعث على الطمأنينة والأنس.
يروي تمام لسوريا ما انحكت: بعد دخولهم البيت مثلما فعلوا مع كلّ بيوت الحارة، قام الرجال المسلحون بتفتيش منزل أخي الكبير الشيخ عمّار ثم خرجوا من المنزل. عندها تركتُ الشيخ عمّار وابنه في المنزل وتوجّهت إلى المسجد أو المجلس لأطمئنّ على النساء وأطمئنهنّ بأنهن يستطعن العودة إلى بيوتهن إن أردن.
مرّت حوالي نصف ساعة ما بين الذهاب إلى المسجد وعودة بعض النساء إلى بيوتهن، قبل أن أعود إلى منزل أخي الذي تركته قبل قليل للاطمئنان عليه وطمأنته. وصلت إلى البيت، وفيما أنا أدخل إلى المضافة، انتابني إحساسٌ مؤلم وشعرت بالدم يتوقف في شرايني، وكأنّ ثمّة ما يُهيّئني لمشهدٍ سأراه ولن أنساه يومًا. وكيف أنساه؟ وقد ارتسم بالدم والقتل غيلةً وغدرًا. على أرض المضافة، وجدتٌ سلمان ابن أخي مُضرجًا بدمائه، وقد أصابته الرصاصات في كتفه الأيمن. بدأت بالصراخ والشهيق، أناديه وأنادي أباه أخي الأكبر الشيخ عمّار الذي لم أجده. تركت الشاب مُضرّجًا بدمائه وبدأت أبحث عن أخي في أرجاء المنزل. مرّة أخرى أحسست بتوقّف الزمن، وبالدم يتوقّف في الشرايين قبل أن أجد أخي، الشيخ الثمانيني جثّة هامدة، مُضرّجة بدمائها بسبب رصاصاتٍ استقرّت في صدره.
بدأت أنوح وأصرخ وأنادي أخي وأنا أقلّب جثّته. ظننت أنّه فارق الحياة. تركته وعدت إلى ابنه الشاب. هزّزته بقوّة وقلبته على ظهره لأكتشف أنّ قلبه ما زال ينبض. اتصلت بقريبٍ لي من أجل محاولة إسعافه. وبالفعل جاء قريبي وعمره حوالي عشرين عاما. بدأ بمساعدتي لنكتشف أنّ بقية روحٍ ما زالت في الجسدين. فانطلقنا في محاولةٍ لإسعافهما.
الشائعات.. كجذرٍ من جذور الطائفية
23 أيار 2025
في الطريق، وقبل الخروج من البلدة، أوقفنا عناصر الحاجز المتمركزين في أوّل البلدة عند منطقة القوس. منعونا من إكمال طريقنا إلى المستشفى بحجة أنهم قد يكونون "إرهابيين" كما قالوا لنا. وعندما حاولنا تجاوز الحاجز الذي فرضته تلك الفصائل، هددوهنا بالقتل وأطلقوا رصاصًا في الهواء. وبعد ربع ساعة سمحوا لنا بالمرور. وقد تكرّر الأمر عند باب المشفى، ونتيجة المماطلة استُشهدا قبل أن يتلقيا الرعاية الطبية التي كان من الممكن أن تنقذ روحيهما.
ما سبق هو ما حدث مع أقاربي. ولم يمرّ وقتٌ طويل على فجيعتنا بقريبي الشيخ الجليل عمّار وابنه الشاب الطيب سلمان، حتى علمت من ابن عمي (استمعت حكاية ما انحكت لشهادته أيضاً) أنّ مجموعاتٍ مسلّحة دخلت أيضا إلى بيت ابن عمنا الآخر الشيخ الأكبر في العائلة الذي يزيد عمره عن خمسة وثمانين عاما، وكان يحمي في بيته حفيداته بنات ابنه، وأنّ المسلحين فتشوا البيت فلم يجدوا شيئا. حينها قالوا إنهم يريدون أن يأخذوا البنات الصغيرات، لكن ابن عمي الشيخ الأكبر قال لهم "لن تأخذوهم ولو كان الأمر على جثتي". طلب الشيخ الأكبر من المسلحين أن يأخذوه هو معهم بدلاً من حفيداته، وبالفعل فقد أخذوه وخرجوا، وبعد البيت بأقلّ من خمسين مترا، أطلقوا عليه النار وأعدموه. حينها سمع أخوه الثالث الذي يسكن قريبًا منه الصوت، فخرج وركض باتجاه أخيه، فقام مسلّح أخر بإطلاق النار عليه وقتله فورا، لتصبح عائلتنا بعدها عائلةً مكلومةً بأربعة شهداء في اليوم الأسود نفسه، الذي لن ننسى تاريخه ما حيينا.
لم نصدّق أننا فعلا فقدناهم جميعا، وأننا نعيش هذا الكابوس المرعب من القهر والرعب والموت والخذلان من دون أيّ ذنب. لم نستطع استيعاب أن يقتلنا "رفاقنا" الذين تشاركنا معهم حلم الثورة. لم ننم أبدًا، وفي اليوم التالي وقبل أن ندفن موتانا الأربعة من دون أيّة مراسم عزاء، اتصلت بنا زوجة ابن عمنا الرابع (لم تستطع حكاية ما انحكت الاستماع إلى شهادة الزوجة لأنها ما تزال تحت الصدمة). لتخبرنا أنّ عناصر مسلحين كانوا قد أتو لتفتيش المنزل، قتلوا زوجها رميًا بالرصاص عند باب البيت أمام عينيها وأمام أولاده، ومنهم ابنته التي تبلغ من العمر خمس سنوات، وأنه فارق الحياة على الفور.
لم نصدّق أننا فعلا فقدناهم جميعا، وأننا نعيش هذا الكابوس المرعب من القهر والرعب والموت والخذلان من دون أيّ ذنب. لم نستطع استيعاب أن يقتلنا "رفاقنا" الذين تشاركنا معهم حلم الثورة.
خمسة رجال من عائلتنا الصغيرة، خمسة رجال دفنّا معا، ومئة قلبٍ من أقاربنا ما تزال تنزف وجعاً وحسرة، لن أنادي بعد اليوم على أحد يا بن عمي، لن يفتتح صباحي وجه قريبي الشاب الخلوق الذي وضع فيه الرحمن سرّ الايمان الذي يشعّ من ملامحه سلامًا وألفة.
لا أدري ماذا يمكن أن أقول لأولادهم، وكيف سأنظر في عيون قريبي الشهيد تحت التعذيب في سجون الأسد، قريبي الذي دفع عمره كي يُدخل المساعدات إلى مدنٍ لا تسكن الطائفة الدرزية في أيٍّ منها، لأنه كان لا يؤمن بالطوائف بل كانت طائفتنا وطائفته أننا سوريون، حلمنا ببلد أكثر عدلًا.