الورطة السورية... من سياسات المدن إلى الأيديولوجيا


لا يمكن نفي أنّ لقمعية حكم الأسديين الطويل واستئصاليته دورهما في تعميق الأزمة السورية. ولكن، وبعد سقوط الأسد، لا يبدو أنّ السياسة السورية قد خرجت من أزماتها، حيث إن ضعف النخب المتشرّبة بوعيٍ ودراية لمتطلّبات بناء الدولة الوطنية، جعل من احتضان الأفكار الرومنطيقية مقتلاً للسياسة وساقها نحو انفجارٍ لم تشهده دولٌ مشابهة في درجة التطور المادي كتركيا ومصر وتونس.

10 تموز 2025

أحمد بورزان

كاتب سوري, دكتور في الاقتصاد في جامعة ولاية كاليفورنيا, مهتم بالتاريخ والاقتصاد السياسي.

المتأمّل في مسار السياسة السورية منذ تأسيس الدولة، يجدها تنتقل بين أزماتٍ جعلتها في حالةٍ من السيولة التي تتكرّر فيها على نحو كارثيّ دوراتُ التفكيك وإعادة الإنتاج؛ من تضعضع مؤسسات الحكم المدني، إلى استبدادٍ سلطانيّ وحشيّ، انتهى بحربٍ أهلية وسيطرة جماعةٍ أصولية على الحكم.

يحاجج هذا المقال أنّ أزمة الدولة السورية مع تعدّد عواملها، يلعب في جذورها الداخلية عاملان أساسيان: أولاً، سياسيّ يتعلّق بظروف تشكّل الحاسّة السياسية السورية في ظلّ غيابٍ لدولةٍ يكون مركزها المشرق (هنا بلاد الشام والعراق) لقرون طويلة. أدّى هذا الغياب إلى ضمور الخبرة والعدّة المعرفية للنخب المحلية اللازمة لبناء الدولة، بما تتطلّبه من اجتراح سياساتٍ ومؤسساتٍ دمجية وتحديثية، على المستوى السياسي والاقتصادي والأيديولوجي وإدارة صراعات هذه المستويات.

العامل الثاني، أيديولوجيّ، حيث هيمن وعيٌ رومنطيقيٌّ مبنيٌّ على مقارباتٍ فكرية بقيت حبيسة أجواء زمن ردّة الفعل على صعود الغرب وهجمته الاستعمارية، يعلو فيها الوجداني والمُلقَّن والعصبوي، وينخفض العقلاني والمعرفي المبني على معطيات الواقع، من هنا تأتي سمتها الرومنطيقية. وهي أفكارٌ تنتعش في اقتصاداتٍ تسودها الريعية وضعف الرسملة، عمّقتها المحدّدات السياسية للاقتصاد في سوريا في عهد البعث.

مع أنّ كثيراً من حساسيّات النخب المدينية، المشكّلة عثمانياً، لم تتبدّل لاحقاً مع قيادتها النضال ضدّ الاستعمار، ومن ثمّ دولة الاستقلال، كان ممكنًا تجاوز الميراث التاريخي لضمور التجربة السياسية لحكمٍ ذاتيّ وفئوية النخب المدينية، لولا هيمنة التيارات الرومنطيقية لاحقاً، مع قيادة الأطراف الاجتماعية للسياسة، في بيئةٍ ضعيفة المأسسة والتقاليد السياسية، ما حرف السياسة بعيداً عن مهمّاتها الواقعية الوطنية، وجعلها مطيّة مشاريعٍ سلطوية فردية وفئوية ضيّقة لا ندري كيف ستخرج منها حتى الآن.

ابتداءً، نستعرض الظروف التاريخية لتكوّن الحاسة السياسية للنخب المدينية في دمشق وحلب، لأهميتهما أولاً، وثانياً لبيان مدى ضعف استقلالها الذاتي عن المركز العثماني، ومدى محلية تجربة النخب السياسية وفئويتها. ثم نعرّج على التيارات الايديولوجية التي هيمنت على السياسة السورية وكانت مقتلاً آخر لها.

الولاة بين الاستقلال والتبعية العثمانية

قسّم المؤرخ بروس ماسترز المناطق العربية في ظلّ العثمانيين إلى ثلاث مناطق تتفاوت في درجة خضوعها للمركز العثماني:

أولاً، حواضر بلاد الشام وشمال العراق، حيث خضعت مدن حلب ودمشق والموصل والقدس بشكلٍ مباشر للنفوذ العثماني وخفّت سلطة التحكّم في المناطق الجبلية والصحراوية المجاورة التي شهدت العديد من حركات التمرّد كتمرّد فخر الدين المعنيّ.

ثانياً، مناطق حُكمت من قبل ولاةٍ عيّنتهم استنبول، ولكنّ الولاة اعتمدوا على قوىً محليّة في إدارة مناطقهم. كمصر وبغداد والبصرة وأطراف فلسطين.

استراتيجية هيئة تحرير الشام لتعزيز سلطتها

04 تموز 2025
إنّ تجذير سوريا الجديدة في تحالفٍ كامل مع المحور الغربي، مع حلفائه الإقليميين، والسعي إلى أشكال التطبيع مع إسرائيل، يساعد على ترسيخ الشرعية الخارجية للنخبة الحاكمة الجديدة وجذب الاستثمارات الأجنبية،...

ثالثاً، مناطق شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا التي حكمها حكّام محليون أعلنوا تبعيتهم للسلطنة العثمانية وجمعوا الضرائب تحت اسمها.

من هذا التقسيم نستطيع أن نفهم جزءاً من تطوّر دول المنطقة اللاحق، مع صعود مفهوم الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة في القرن التاسع عشر. بعكس مصر والمغرب وتونس وتركيا، وخلا جيوبٍ منعزلة وممتنعة، حُرمت حواضر بلاد الشام الأساسية من تراكم تجربة حكمٍ ذاتي لمناطقها، مع خضوعها بشكلٍ مباشر لسلطة العثمانيين.

مرّ الحكم العثماني بأطوار مختلفةٍ في مقاربة حكم المناطق العثمانية الخاضعة مباشرةً للمركز، فتحوّل من حكمٍ شديد المركزية في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى تليين المركزية، مع إعطاء الولاة المزيد من الفسحة في إدارة شؤون ولايتهم بين القرن الثامن عشر، وأخيراّ عهد التنظيمات العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر الذي سعى نحو مركزة الدولة وفق أصول حديثة.

وبينما صوّر المؤرخ، عبد الكريم رافق، صعود ولاةٍ من أمثال ولاة عائلة العظم في أواخر القرن الثامن عشر كانتصارٍ لقوى محليّة عربية ونواة حكمٍ قوميّ وتراجعٍ لقوة سلطة الدولة العثمانية؛ اختلف مع هذا الطرح، مؤرخون لاحقون أمثال كارل باربير ودينا رزق خوري وبروس ماسترز وآخرون، أشاروا إلى أنّ الصعود النسبيّ للحكم المحلّي إنما كان مرونةً واستجابةً من قبل استنبول لتغيّر الظروف الاقتصادية والتعبوية العسكرية. كما أكّدوا الانتماء العثماني للولاة خصوصاً في حالة الموصل ودمشق وحلب. حيث لم يكن لولاتها قاعدة سياسية أو عسكرية مستقلة عن الدولة العثمانية التي تعيّنهم كما تعيّن قضاة مدنهم. فبحسب إنجين أكارلي، كان استمرار الولاة في الحكم رهناً برضى البلاط العثماني عنهم، ولا تلبث حظوظهم في الحكم أن تتلاشى عند انقلاب البلاط عليهم، كما توضّح سيرة أسعد باشا العظم بعد إقصائه من ولاية الشام ومقتله لاحقاً.

 أعيان داخل السور وخارجه

أدخل ألبرت حوراني مفهوم سياسات الأعيان لفهم ديناميات إدارة المجتمعات المحليّة في المناطق العربية العثمانية. وفق تقسيم تلميذه فيليب خوري، تنقسم عوائل الأعيان في حواضر بلاد الشام السورية، إلى أعيان داخل السور: وهم إمّا من أصول دينية أو تجارية أو ملتزمي أراضٍ قطنت الأحياء الداخلية للمدن، داخل "السور"، وسنسميهم أعيان المتن. منهم كانت عوائل التجار ونقباء الأشرف والمفتين والعلماء وبعض القضاة الذي تعيّنهم استنبول.

القسم الثاني (أعيان خارج السور) تحدّروا من عائلات الأغوات من أصول عسكرية من الإنكشاريين الذين زادت نسبة المحليين منهم (كثيرٌ منهم من أصول كردية وتركمانية)، ومَن برزوا معهم من جباة وملتزمي ضرائب أراضٍ زراعية وتجار ماشية وحبوب وغيرها من موادّ خام محليّة. سكن هؤلاء الأعيان في أحياء طرفيّة (كحيّ الميدان في دمشق وباب النيرب في حلب) تقع خارج "سور" المدينة الداخلي. كانت هذه المناطق أقل تجانساً، ضمّت العرب إلى جانب إثنياتٍ متنوّعة، وذوي الأصول الريفية والعشائر، كما قطنها متواضعو الدخل.

بحسب ماسترز، تعكس مرويات المؤرخين المحليين وفتاوى بعض العلماء نظرة استعلاء أهل المدينة وريبتهم ممن سكن أطرافها من دروز في دمشق وعشائر عربية وكردية وتركمانية. بسبب هذا الانكفاء للنخبة المدينية عن الخزان البشري الريفي حولها، لم تكن هناك إمكانيةٌ لتكرار حركات تمرّدٍ استقلالية في مدن كحلب والشام كحركة علي جانبولاد.

زادت أهمية طبقة الأعيان في أواخر القرن الثامن عشر مع نزوع الدولة العثمانية تعميم نموذج الالتزام في بلاد الشام بدلاً من التيمار العسكري بسبب تصاعد الضغوط المالية. فصعدت طبقةٌ من متعهّدي الأراضي الزراعية، الذين تحوّلوا لاحقاً إلى تملّك الأراضي مع صدور قانون الأراضي العثماني 1858.

حافظ الأعيان على موقفهم من الجيش بعد نهاية العهد العثماني. نادرون من ضباط الجيش السوري الحديث مَن كانوا ينتسبون إلى كبرى عائلات الأعيان. ولكن بعكس الشائع، لم تكن أغلبية ضباط الجيش السوري لدى تأسيسه من العلويين كميراث جيش الشرق الانتدابي. كما أوضح نكولاس فان دام وهشام بوناصيف، لم يكن حضور السنة ضعيفاً، سواء إذا نظرنا إلى نسبة الضباط السنة من خريجي المدرسة الحربية السورية زمن الانتداب، أو نسبتهم بين اللاعبين الأساسين في الانقلابات وفي قطع الجيش الاستراتيجية.

سواءٌ تحت نظام التيمار العسكري، أو الالتزام أو المُلكية لاحقاً، لم يتمتّع حائزو الأراضي في بلاد الشام بحقوق ونفوذ إقطاعيي أوروبا وبقوا خاضعين لسلطان الدولة العثمانية من دون أيّة امتيازاتٍ سياسية. وينطبق هذا التباين أيضاً على مزايا الحكم الذاتي، الذي تمتّعت به (قبل استقرار نموذج الدولة الوطنية) العديدُ من مدن أوروبا الغربية مقارنة بالمدينة المشرقية.

وإلى ذلك، يضاف التناحر الفئوي الذي اتصفت به سياسات الأعيان وانقساماتهم بين أشراف وإنكشاريين، وبين جماعات الأشراف أنفسهم في المدينة ذاتها، ما منعهم من التصرّف والتفاوض على مصالحهم كفئةٍ متحدة. كان إظهار الولاء للسلطان ومدّ الجسور مع دوائر الحكم في استنبول وسيلة الأعيان المدينيين لضبط سلوك الولاة العثمانيين والاستحواذ على النفوذ خلال صراعهم المحلّي.

حين حصلت حركات تمرّدٍ ضدّ السلطة في المدينة، كانت عادةً ذات طبيعةٍ إصلاحية، تستهدف التصحيح، ولم تكن ثورية. وتراوحت استجابة السلطات العثمانية لها ما بين القمع وبين تلبية مطالب المحتجين. فإلى جانب غياب مركز دولةٍ في المشرق العربي، غاب أيضاً استقلال طبقة ملّاك الأرض ومساحة الحكم الذاتي للمدينة المشرقية، ما أفقد نخب مجتمعات المشرق سياق تجربة حكمٍ محليّة مستقلّة.

من السوق والمسجد إلى السراي

يلحظ فيليب خوري اندماج فريقي الأعيان (المتن والطرف) في منتصف القرن التاسع عشر لتشكيل طبقةٍ واحدة من الأعيان المدينين هيمنتْ على المناصب الإدارية وحيازة الأراضي الزراعية.

تاريخياً، ومع حضور أعيان المتن في مناصب إدارية كقضاة، تجاوز دورهم وقتها الفصل في المحاكمات، واضطلعوا بمهام إدارية. ولكن عموماّ كان محور نشاط أعيان المتن الاقتصادي بعيداً عن الحكومة. وتغيّر ذلك نسبياً بسبب عاملين: الأول، تراجع الصناعات الحرفية وصعود الصناعة والتجارة الأوروبية الذي شهده اندماج المنطقة المتزايد في الاقتصاد العالمي في القرن التاسع عشر.

العامل الآخر كان توسّع الجهاز البيروقراطي العثماني مع مجيء التنظيمات العثمانية التي هدفت إلى مركزة الدولة على أسس حديثة، ونحّت مرتكزات المجتمع التقليدي، كإنشاء المدارس الحديثة التي استبُدلت بها مؤسساتُ التعليم التي هيمن عليها الجناح العُلمائي من الأعيان لقرون طويلة.

لهذه الأسباب، انفتح بعض أعيان المتن على القطع مع الماضي، وانضموا وإن بتوجّس إلى أجهزة الدولة الإدارية. وارتبط أعيان المتن بعلاقات مصاهرةٍ لم تكن شائعة سابقاً مع عائلات أعيان الأغاوات، الذين كانوا أسرع في الالتحاق بالجهاز الحكومي. ربح أعيان المتن من هذه المصاهرة مدخلاً أوسع لجهاز الدولة، الذي كان أيضاً بوابة استيلاءٍ على الأراضي الزراعية، التي زادت أهميتها كمصدر دخل مع تراجع دورهم التجاري والاقتصاد الحرفي، وربح الأغاوات المكانة الاجتماعية العليا التي كانت حكراً على أعيان "داخل السور".

انخرط الأعيان في دولة التنظيمات كعثمانيين وليس كإداريين محليين. ارتدوا الطربوش والمعطف العثماني وأصبح إتقان اللغة التركية بجانب العربية مظهراً للتميّز والرقي الاجتماعي، وأرسلوا أولادهم إلى استنبول للتعلّم في مدارسها العُليا. ولاحقاً، صدّرت هذه النخبة الجديدة زعاماتٍ وطنية للدولة السورية، تخرّجت من جامعاتٍ غربية مرموقة كناظم القدسي ورشدي الكيخيا.

 تناحرٌ فئويّ طاغٍ

المتتّبع لأهم الأعمال التي رصدت تاريخ سوريا بين القرن الثامن عشر وعهد الانتداب، لا يستطيع إلّا أن يلحظ مركزية التناحر الفئوي أو العصبية المحليّة في توصيف سياسات الاعيان، سواء في المدينة أو الدولة، كما تشي عناوين مراجع أعمال هربرت بودمان وليندا شيلشر وفيليب خوري عن حلب ودمشق وسوريا تباعاً.

وسادت تلك الفئوية (العصبية الحادّة) سياسات المدينة الواحدة بين أشرافٍ وأغاوات وبين الأشراف أنفسهم، ومن ثمّ حضرت بقوّة في سياسات أعيان الدولة المتكوّنة حديثاً خلال الانتداب، واكتسبت بعداً مناطقياً، كما جعلتْهم قوميتهم العربية يتطلّعون على خارج الحدود السورية. عُرف حزب الشعب، حلبي المركز، بهواه العراقي، بينما اقترب القوتلي وحزبه الوطني من محور السعودية ومصر. لعلّ ذلك يعود إلى الروابط التجارية والثقافية العثمانية لكلٍّ من حلب ودمشق.

البلاد السورية: النظام الاتحادي ودستور 1920

18 شباط 2025
نصَّ الدستور السوري الأوّل (1920) على وجوب إقامة حكمٍ اتحادي في البلاد ومقاطعات تُدار باللامركزية الواسعة، كما أقرّ في المادة الثانية والثالثة منه. هنا إطلالة تاريخية على مصطلح "البلاد السورية"...

ما غطته المقالة أعلاه من ضعف التجربة السياسية لنخب الأعيان خلال الدولة العثمانية، ومحليّتها وفئوية سياساتهم الحادة، الذي أضعف فرص نشوء تراكم تجربةٍ تولّد لدى نخب السوريين حاسةً أو تقاليد سياسية لقيادة دولةٍ وطنية، ينطبق أيضاً على توصيف فيليب خوري لسياسات الاعيان خلال الانتداب وعقود الاستقلال الأولى: "وقد أدت الفئوية التي اشتدت في نهاية الثلاثينات وعجز الكتلة-الوطنية-الإداري، وما اقترن بهما من تجاهل الكتلة لتطلعات الأقليات المتراصة والطائفية وحاجاتها، إلى إلحاق الضرر بسمعة الكتلة. ويقع جزءٌ من المسؤولية على قصور الكتلة عن إدارة الانتداب الفرنسي، التي أغفلت تدريب نخبةٍ إداريةٍ سوريةٍ كفؤةٍ ومخلصة....، وبحرمانها من فرصة الحصول على خبرةٍ في الحكم واستيعاب هذه الخبرة، فنقل القادة الوطنيون إلى عهد الاستقلال مقداراً معيناً من انعدام الكفاية الإدارية. على الرغم من الأشكال الأرقى من التنظيم السياسي التي أنشئت خلال الانتداب، فقد فشل معظم القادة الوطنيين في تخطي قواعدهم الضيقة في المدن..".

يبدو أنّ التناحر الحادّ سِمةٌ لم تخف حدّتها مع الزمن. تغزر مواقف التناحر في مذكرات خالد العظم، الذي يُعدّ أرفع سياسيٍ أنتجته سوريا، وفي شهادة برهان غليون عن تجربته في المعارضة السورية في كتابه "عطب الذات"، حتى دفعته إحدى حلقات التناحر إلى البكاء في اجتماعٍ للمعارضة السورية.

الأعيان والجيش

يلحظ فيليب خوري، أنّه خلال اندماج الأعيان في جهاز الدولة العثماني خلال فترة التنظيمات، اتسم الأعيان بتجنبهم للسلك العسكري، وغلب على أولادهم الالتحاق بالمدارس الإدارية والفنية و"بذلوا ما بوسعهم لتجنيبهم الخدمة العسكرية العثمانية". وغلب الالتحاق بالمدارس العسكرية على منتسبي العائلات الأقل شأناَ.

إضافةً للعامل الاقتصادي من حيث توفّر مصدرٍ أفضل للدخل، ربما يرتبط الانكفاء عن الجيش بما ذكره المؤرخ عبد الكريم رافق عن الأثر السيء لكلمة "إنكشاري" في ذاكرة الأهالي، كمرادف للفوضى لفترةٍ طويلة، حتى بعد حلّ تشكيلات الإنكشاريين في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، مع أنّ الكثير من عائلاتهم اندمج بمجتمع المدينة وكان منهم علماء مشهورون.

حافظ الأعيان على موقفهم من الجيش بعد نهاية العهد العثماني. نادرون من ضباط الجيش السوري الحديث مَن كانوا ينتسبون إلى كبرى عائلات الأعيان. ولكن بعكس الشائع، لم تكن أغلبية ضباط الجيش السوري لدى تأسيسه من العلويين كميراث جيش الشرق الانتدابي. كما أوضح نكولاس فان دام وهشام بوناصيف، لم يكن حضور السنة ضعيفاً، سواء إذا نظرنا إلى نسبة الضباط السنة من خريجي المدرسة الحربية السورية زمن الانتداب، أو نسبتهم بين اللاعبين الأساسين في الانقلابات وفي قطع الجيش الاستراتيجية.

من الملفت ما ذكره الفريق عبد الكريم زهر الدين (وزير الدفاع درزي الأصل) في مذكراته، عن رفض المصريين في زمن الوحدة تعيين العقيد جادو عز الدين في منصب قائدٍ للجيش الأول لكونه درزياً. ويعقب زهر الدين قائلاً: "قبل الوحدة لم تعرف سورية مثل هذه العقبات أبداً". يُقارن ذلك الموقف بتعليق الشيشكلي على تعيين شوكت شقير كرئيس أركان الجيش: "شقير بلا ماضٍ ولا مستقبل ولا أحد يسير خلفه لأنه درزيّ ولبناني أصلاً.". وهوما كرّره عبد الكريم النحلاوي مع تعيين زهر الدين وزيراً للدفاع خلال عهد الانفصال.

قبل حكم البعث، كانت الإشارات قليلةً حول توجّس الضباط السنّة من اعتلاء منسوبي الأقليات إلى مناصب حساسة في الجيش. بالمقارنة، نجد أنّه مع علمانية الجيش التركي التاريخية الحادة، يُتداول ضعف حضور العلويين الأتراك في المناصب القيادية العُليا فيه. وبشكلٍ مشابه يُلاحظ ضعف تمثيل الأقباط في الرتب العليا في الجيش المصري. كلتا الدولتين لهما تاريخ أطول مع مؤسسات الدولة الحديثة كالجيش وحساسياتها.

مع إيجابية خفوت التمييز في الجيش السوري وقتها، إلّا أنّ غياب وجود سياساتٍ دمجية وطنية موازية على مستوى الدولة، فتح باب إمكانية التطييف الأقلويّ الكارثي في الجيش لاحقاً، في تطييفٍ مشابه للجيش في عراق البعث، مع اختلاف السياق.

 تلفيقية الأصالة والمعاصرة

كانت الهيمنة في الحقل الأيديولوجي في المدن السنية العثمانية الشامية لدوائر حلقات المساجد والمدارس العلمائية والطرق الصوفية. انكسرت هذه الهيمنة تدريجياً مع انفتاح المنطقة أمام التأثيرات الغربية في إطار مفاعيل الصدمة الحضارية التي جلبها غزو نابليون لمصر والهجمات الاستعمارية اللاحقة.

ومع حضور التيار الليبرالي بين أواخر العهد العثماني حتى خمسينيات القرن الماضي، إلا أنّه لم يعش طويلاً بعد الاستقلال ولم يحقّق اختراقاً شعبياً عميقاً.  وغلب على الأيديولوجيا المشرقية كونها ردّ فعلٍ على الهجمة الغربية الحداثية. هنا يمكن الحديث عن طابعين هيمنا على الأيديولوجيا في المشرق: سُمّي الأول بالتلفيقي والثاني بالرومنطيقي.

انخرط الأعيان في دولة التنظيمات كعثمانيين وليس كإداريين محليين. ارتدوا الطربوش والمعطف العثماني وأصبح إتقان اللغة التركية بجانب العربية مظهراً للتميّز والرقي الاجتماعي، وأرسلوا أولادهم إلى استنبول للتعلّم في مدارسها العُليا. ولاحقاً، صدّرت هذه النخبة الجديدة زعاماتٍ وطنية للدولة السورية، تخرّجت من جامعاتٍ غربية مرموقة كناظم القدسي ورشدي الكيخيا.

المذهب التلفيقيّ الذي سلّط عليه الضوء عبد الله العروي وياسين الحافظ، يرجع في جذوره إلى محمّد عبده، وتبنّته قطاعاتٌ كبيرة من المجتمعات العربية، والأنظمة الرسمية المشرقية بما فيها الثورية منها. وصّفها عبد الله العروي قائلاً : "وتتلخص هذه في توفيقٍ أو تلفيقٍ بين توخّي القوة المادية والحفاظ على تراث السلف، فتنادي بأعلى صوتها: لن نفرط بشيء، لا مما هو قائمٌ في الحاضر ولا مما هو منحدرٌ إلينا من الماضي." فتتبنّى الرغبة بالتحديث في الجوانب التقنية من دون أيّة مسائلةٍ أو مواجهةٍ للبنى الفكرية المتضاربة مع قيم الحداثة التحررية.

ومن ثمار النظرة التلفيقية، مشاهدة تجاور المظاهر المادية الحداثية الكفؤة والمُدارة محليّاً (جامعات، مشافي، معامل) في مدننا، إلى جانب وعيٍ اجتماعيّ وسياسي قاصرٍ عن قيم المساواة والحريات الأساسية الحداثية، حيث يجري إعادة اختراع التراث حداثياً، لترسيخ القيم المحافظة والتمييزية بمستوى أعلى بكثير مما نشهده عالمياً مع صعود اليمين الهوياتيّ.

اللّاتناظر المديني

يمكن القول إنّ اللّاتناظر ملموسٌ في المدينة السورية، بين إبداعٍ تقنيّ وتجاريّ فرديّ، وبين ضعف الإنتاج ونوعيته نسبياً في متعلّقات العلوم الاجتماعية ومحافظةٍ اجتماعية طافحة في النقاش العام. إنّما يأتي من سطوة مقاربة التلفيق التي بذرها جيل النهضويين من أمثال محمد عبده، الذي كانت وصفته في تجاوز التأخر تتمثّل في العودة إلى الدين من دون نقدٍ جذريّ لمرجعية الدين في الشأن العام: "فالدواء الذي ينجح في شفائهم من هذا الداء لا يكون إلا ردّهم إلى العلم بدينهم، والتبصر فيه..".

في حين حضرت كتلٌ شعبية سنيّة قويّة موالية لقيم الحداثة السياسية، كما نشهد في تركيا ومصر وتونس، التي نجحت في تحييد دور الدين عن التشريع في دستورها الديمقراطي الصادر عام 2014، بقي الوسط المدينيّ السوري (دمشق وحلب) في مجمله وفيّاً للمقاربة التلفيقية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وقد تراجع التيار الحداثي السنّي بعد أن تمّ ضرب القواعد السياسية والاقتصادية لطبقة الأعيان المدينية مع حكم البعث وتجريف الحياة السياسية والثقافية. عندما تجتمع التلفيقية مع انكفائيةٍ تقليدية (لها جذورها) عن الفعالية السياسية، يضعف الفضول المعرفي عما هو خارجٌ عن التقني، وتضعف معه قوة التيار الحداثي.

رومنطيقية

الرومنطيقية هي الطابع الثاني للأيديولوجيا المشرقية. تأتي تسميتها من مثالياتها وغلبة الطابع العاطفيّ عليها. بمعنى بُعد أحكامها عن معطيات الواقع، ونشوئها كردّ فعلٍ نفسي على صعود الغرب والهجمة الاستعمارية ونكبة فلسطين. هيمن على عالم الأفكار والسياسة في المشرق تياران رومنطيقيان أساسيان، هما القومي والإسلامي.

كما يوضّح حازم صاغية، كانت القومية العربية كما التركية متأثّرةً بشكلٍ كبير بالمدارس القومية الألمانية الرومنطيقية التي تسرّبت منذ أواخر العهد العثماني. كان تأثر ساطع الحصري (فيلسوف القومية العربية) بالفكر الألماني القومي محصوراً بالأسس الثقافية للهوية القومية، ولم يهتم بجوانب التجربة البسماركية في بناء الدولة-الأمة والجهاز البيروقراطي والتحديث الصناعي.

كذلك تنضح كتابات عفلق بالشاعرية وضآلة التقدير للجهد المعرفي. يسجّل صاغية أنه: "لم يُخفِ عداءه للمعنى أو لبلورة المعنى، بل عداءه للمعرفة التي تضيف شيئاً إلى المعطى الخام، أو تدعي إضافته". فالخطر الأكبر، كما رأى مبكراً، هو "الإيغال في التفكير المجرد...".

بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الرابعة

02 تموز 2025
أعربت منظمات المجتمع المدني، إلى جانب ناشطين وصحفيين سوريين، وأصواتٍ أخرى، عن ردود فعلٍ تلقائيةٍ وعفوية إثر إعلان العفو عن فادي صقر. وجاءت تلك الردود متطابقةً إلى حدّ كبير، حيث...

وفق فيليب الخوري يمكن التمييز بين جيلين من القومية العربية: الأوّل قومية الأعيان، وهي وإن كانت رومنطيقية في تخيّلها للماضي الإسلامي العربي الذي وظّفته في خطابها في الحشد ضد الاستعمار، لكنّها لم تكن ثورية والتزمت بمؤسسات الدولة الليبرالية الدستورية وحرياتها.

مثّلت هذا الجيل القومي الكتلةُ الوطنية خلال الانتداب، ثمّ الحزب الوطني ذو المرتكز الدمشقي، ومن حلب حزب الشعب الذي تمكّن من نيل أغلبية مقاعد مجلس النواب في كلّ انتخاباتٍ قبل حكم البعث. لم يكن الحزبان كثيفا الأدلجة. قوميتهما العربية وجرح التقسيم الاستعماري لبلاد الشام، جعل أفقهما السياسي يتطلّع إلى خارج الحدود السورية كما أسلفنا، ما أضعف جهودهما لصوغ هويةٍ وطنية سورية. لم تتوقّف محاولات شخصياتٍ مقرّبة من حزب الشعب عن التنسيق لجرّ سوريا إلى التوحد مع العراق الهامشية.

استمر تناحر حزبي الأعيان إلى أن توحّدت قواهما بعد إقالة الشيشكلي 1954، مع صعود ممثّلي قوى اجتماعية طرفية تبنّوا برامج قومية واقتصادية جذرية ومهدّدة لسطوة الأعيان الذين فشلوا في دمج الأطراف المهمّشة في برنامجٍ اقتصاديّ وطني. انتهت آخر محاولةٍ لاستعادة سلطة الأعيان خلال فترة حكم الانفصال.

الجيل الثاني من القومية، صعد مع توسّع الطبقات الوسطى المتعلّمة المدينية من خارج دائرة الأعيان. ومع هجينيته، كان أقرب للجذور الألمانية للقومية العربية. وأكثر جذرية في المناداة بالعدالة الاجتماعية، والبعد عن الأحلاف الغربية، والمناداة بدورٍ أكبر للدولة في التصنيع والاقتصاد، مع تبنّي المزيد من الجرعات الاشتراكية مع عبد الناصر وبعث المنطلقات النظرية (1963). يُذكر أنّ الضباط الذي باشروا عملية الوحدة مع مصر كانوا من هذا الجيل. لكنّ الوحدة تمّت بمباركة كثيرين من الجيل الأول، حتى أنّ قول رشدي الكيخيا لدى الانفصال: "اليد التي وقّعت وثيقة الوحدة مع مصر لن توقع وثيقة الانفصال."، كان متداولاً.

بعثية بروتو-فاشية

حكم التيار القومي الاشتراكي سوريا مع تسلّم البعث الحكم سنة 1963. وصبغ الجهاز العنفي (الجيش والأمن) بصبغة أقلوية، في حين طغى الطابع الريفي على باقي مفاصل الدولة. شعبياً، بين التيار الناصري والبعثي داخل مدن دمشق وحلب، كانت المناطق الشعبية لمراكز المدن من الطبقة الوسطى والصاعدة ناصرية الميول. لم يكن الوجود البعثي ملحوظاً بقوّة. أغلب البعثيين من المدينتين لم يأتوا من المركز المديني، وكانوا من خلفياتٍ أكثر تواضعاً. وقبل حكم البعث، لم يتمكّن أحد البعثيين من النجاح في تمثيل إحدى المدينتين في الانتخابات البرلمانية سنة 1954 و 1961.

مع الحكم البعثي، هيمن منظورٌ أحاديٌ للهوية يستعلي على المستوى الوطني، ويعيق بناء هويةٍ وطنيةٍ مبنيةٍ على واقع تنوّع المذاهب والأديان والإثنيات وأنماط الحياة في سوريا. مع حداثيتها الشكلية، لقّمت الأنظمة القومية الاشتراكية في المنطقة المؤسساتِ التعليمية والإعلامية والثقافية بمخيالٍ إسلاميّ موافقٍ لتلفيقية أيديولوجيتها. واستقرّ جهاز أيديولوجيٌ شديد التوذّم يحمل بصمات البروتو-فاشية: من التغنّي بصورةٍ مثالية عن ماضٍّ ذهبي، ونرجسيّةٍ مدمجةٍ بمظلومية فرادة الاضطهاد والاستهداف من الغرب، والتوجّس من "الشعوبيين" والدخلاء.

وفي حين كانت أقلوية الجهاز العنفي الأسدي، بقمعيته، تُمعن في تفتيت الهوية الوطنية؛ فإنّ المنبت الأقلويّ لحافظ الأسد كان له تأثيران كبيران في مجالي الأيديولوجيا والاقتصاد، حيث تم توظيف خطابٍ كثيف المحرمات والشعاراتية، واستعمال شماعة التهديد الخارجي. كما بنى نظاماً يقمع أي حوارٍ سوريٍّ حقيقي حول مسائل الهوية والسياسة، وحتى مساءلة الاتجاه العام لسياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية. على الرغم من تل الزعتر وجهود تصفية الحركة الفلسطينية المستقلّة، جرت المغالاة في شعارات الصمود والتصدي و"فلسطين قبل الجولان"، ليعوّض نقص شرعية الصبغة الأقلوية للنظام الطاغية وخصوصاً جهازه العنفيّ شديد القمعية.

مع الحكم البعثي، هيمن منظورٌ أحاديٌ للهوية يستعلي على المستوى الوطني، ويعيق بناء هويةٍ وطنيةٍ مبنيةٍ على واقع تنوّع المذاهب والأديان والإثنيات وأنماط الحياة في سوريا. مع حداثيتها الشكلية، لقّمت الأنظمة القومية الاشتراكية في المنطقة المؤسساتِ التعليمية والإعلامية والثقافية بمخيالٍ إسلاميّ موافقٍ لتلفيقية أيديولوجيتها.

كما قال ألتوسير، للأيديولوجيا تجسّدٌ مادي، تنتعش الأفكار الرومنطيقية في اقتصاداتٍ تسودها الريعية وضعف الرسملة، ومع غياب حوامل مادية للأفكار التقدّميّة، كمنظماتٍ شعبية على منوال الاتحاد العام التونسي للشغل. في ظلّ البعث تمّ تطويع الاقتصاد وإمكاناته لخدمة أمن النظام الذي حدّد إمكانيات تراكم رأس المال والتطوّر الاقتصادي. كما يشي عنوان أطروحة بسّام حدّاد التي صدرت لاحقاً في كتاب: "الثمن الاقتصادي لأمن النظام: انعدام الثقة، وشبكات الدولة وقطاع الأعمال، والركود الاقتصادي في سوريا.". فما هو سياسيّ هنا حدّد ما أمكن في المجال الاقتصادي.

بعد حملات التأميم البعثية 1964-1965، وراديكالية جناح صلاح جديد، كان الأسد أكثر تسامحاً مع القطاع الخاص. إذ أدخل،  ولو بقيود، البرجوازية الشامية في تحالفه. سُمح بنموّ قطاعٍ خاص على نطاقٍ محدّد وشديد التشبيك مع النظام حتى يحول دون تهديد تحوّل قوة اقتصادية (ستكون سنيّة بغالبها) إلى قوّةٍ سياسية، ما حدّ من إمكانات تعميق التطوّر الرأسمالي السوري. أمّا المنظمات الشعبية من نقاباتٍ وجمعيات فلاحية، فقد فقدت استقلاليتها وتمّ ربطها بأجهزة النظام.

الصحوة

من رحم هذا القمع والتجريف الفكري والإشباع الرومنطيقي للثقافة السياسية، صعد جيل "الصحوة" من تيارات الإسلام السياسي والجهادي. وكان لهذا التيار حضوره منذ الاستقلال. سياسياً، بقي ضعيفاً نسبياً لدى النظر في نسب أعضاءه في البرلمانات المنتخبة. لكنّه تمتّع بقدرةٍ على حشد الشارع الإسلامي، أظهرها مثلاً خلال أزمة إدخال مادة دين الدولة في مقترح دستور 1950.عندما تصادم التيار الحداثي السنّي مع الإسلاميين، واستطاع الإسلاميون الضغط عليه لتمرير أجندتهم.

لاحقاً في ظلّ صعود الصحوة الإسلامية، حمل هذا التيار لواء المعارضة المدينية في اضطرابات (1979-1982)، مع حضورٍ للتيارات القومية واليسارية المعارضة. ثمّ خلال الثورة السورية، كان التيار الإسلامي الحامل الأيديولوجي لكبرى الفصائل المسلًحة السورية ذات المنبت الطرفيّ في أغلبيتها.

على الرغم من الليونة الظاهرة للحكّام الحاليين تجاه بعض محظورات التيار السلفي الجهادي الذي تحدّروا منه، فإنّهم لم يذهبوا بعيداً عن التيارات الإسلامية والجهادية المغرقة في رومنطيقيتها. وزادت على من سبقها في ضعف التجربة والأدوات المعرفية السياسية والإدارية، وحِدّة رؤاها الأحادية الفئوية التي تصطدم مع قيم المساواة والحريات الأساسية، ومع توليد حدٍّ أدنى من التوافق الوطني.

خاتمة

لم تكن منطقة الهلال الخصيب فريدةً في احتضانها للأفكار الرومنطيقية. إلّا أنه في دول أخرى مجاورة تمّ لجم هذه الأفكار من خلال حضور نخبٍ متشرّبةٍ، بوعيٍ ودراية، بمتطلّبات بناء الدولة الوطنية. ضعف هذه النخب في سوريا جعل الاحتضان مقتلاً للسياسة، وساقها نحو انفجارٍ لم تشهده دولٌ مشابهة في درجة التطور المادي كتركيا ومصر وتونس.

لا يمكن نفي أنّ لقمعية حكم الأسديين الطويل واستئصاليته دورهما في تعميق الأزمة السورية. لم يسهب المقال في هذا الدور لعموم معرفته. ولكن بعد سقوط الأسد لا يبدو أنّ السياسة السورية قد خرجت من أزماتها. كانت هذه محاولةً في تأمل مكامن هذه الأزمات. لعلّه يكون نافعاً في التفكير بطرق الخروج من الورطة السورية أو تخفيف وطأتها.

 

مقالات متعلقة

عزيز العظمة: عن سوريا بين سقوط النظام وصعود الإسلاميين

17 كانون الثاني 2025
يتناول هذا الحوار مع الأستاذ والدكتور عزيز العظمة مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات...
الصوت الضائع: سوريو المحرّر الجديد

13 حزيران 2025
"هناك أشياء لن يدركها إلا من عاشها، ومنها بتر علاقاتك ومسح صورك لأنك اخترت أن تبقى في أرضك، كمن يُقطّع أوصاله ليُبقي على روحه" هذا ما تقوله عبير ش متذمرةً...
الشائعات.. كجذرٍ من جذور الطائفية

23 أيار 2025
يرفض المنخرطون في الصراع الطائفي تصديق الحقائق، هم لا يرون إلا أنفسهم كحقيقةٍ مطلقة ويقبلون أيّ خبرٍ يتوافق مع قناعاتهم الراسخة بخطر الآخر.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد