كثيراً ما أُثير موضوع مشروع مانهاتن في السنوات الأخيرة كمثال على الطريقة التي ينبغي أن تُطوَّر بها الابتكارات والتكنولوجيا في الولايات المتحدة. ففي عام 2024، وكما اقترحتْ لجنة في الكونغرس الأمريكيّ (تضم أطرافاً ذات مصلحة)، نحن بحاجة إلى "مبادرة للذكاء الاصطناعيّ بأسلوب مشروع مانهاتن".
وبدلاً من اعتباره قصّة تحذيريّة عن كيف يُمكن لبعض المساعي التكنولوجيّة أن تؤدّي إلى عواقب خطيرة وربّما غير مسؤولة، يُنظر إلى مشروع مانهاتن في هذا السياق كنموذجٍ للعمل وخطّةٍ إيجابيّة واضحة وجبَ تكرارها.
إنّها مراجعة غريبة للتاريخ، ولكنّها قد تدفعنا للعودة إلى حقبةٍ بدأ فيها التحوّل الكبير نحو الاستقلاليّة. في تلك الفترة، في الأربعينيّات والخمسينيّات، عبّر بعض العلماء والرياضييّن والفلاسفة والمنظّرين، إن لم يكن الكثير منهم، عن تحفّظات عديدة حول العلاقة الجديدة بين الإنسان والآلة التي نعرفها اليوم، وربّما تمكّنوا من رؤية أعقد المشاكل التي قد تنشأ عند اندماج الإنسان والآلة بالشكل الذي أصبح مسلّماً به الآن. قد يُساعدنا هذا على فهم شيءٍ من المنطق والهياكل في السياق الأوسع الذي يُشكّل المواد والممارسات المستخدمة في الحروب الحديثة، ويبيّن كيف تعمل بعض مبادئ التكنولوجيا كأُسسٍ للتنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ.
لننظر إلى نوربرت وينر على سبيلِ المثال، وهو أحد أبرز الشخصيّات في تاريخ علم التحكّم الآليّ والذكاء الاصطناعيّ. لعب وينر دوراً هاماً في تطوير الأتمتة والاستقلاليّة في أنظمة الأسلحة، ولكن في أعقاب مشروع مانهاتن والاستخدام المثير للجدل للقنبلة النوويّة، ازداد قلقه، برفقة آخرين، حيال الدور الذي لعبه العلماء والرياضيّون في إنتاج تقنيّات الحرب؛ علماء "انحرفوا عن مسارهم بعنف، وتركوا مساعيهم الأكاديميّة لصنع أدوات مُدمِّرة غريبة"، كما أشار فانيفار بوش علناً، وهو مدير مكتب البحث والتطوير العلميّ آنذاك.
بخلافِ بوش، لم يكن وينر مرتاحاً مع النظرة التي سادتْ بشكل متزايد التي ترى التكنولوجيا "ليس فقط كعلمٍ تطبيقيّ، بل كفلسفةٍ اجتماعيّة وأخلاقيّة تطبيقيّة"، كنمطٍ أساسيّ لفهمنا للعالم وكيفيّة تصرّفنا فيه. بمعنى آخر، لاحظ وينر ما قد يبدو أقلّ وضوحاً لنا اليوم، وهو أنّ منطق الحوسبة وتكنولوجيا المعلومات أصبح نمطاً سائداً من التفكير (الفلسفيّ) الذي قد يؤثّر على طريقة تفكيرنا وتصرّفنا في العالم. لم يكن وينر الوحيد الذي وصل إلى هذا الإدراك؛ فقد عبّر هربرت ماركوز، لويس مومفورد، هانز جوناس، غونتر أندرز، هانا آرندت، جاك إيلول وغيرهم عن ملاحظات مشابهة حول التكنولوجيا والمجتمع الحديث في تلك السنوات الأولى.
التطوّر الجامح لأنظمة الذكاء الاصطناعيّ العسكريّة
يشهدُ اليوم تطوير ونشر أنظمة الذكاء الاصطناعيّ ذات الاستقلاليّة المتزايدة، بما في ذلك تلك التي تتخذ أو توصي بقرارات الاستهداف العسكريّ، تقدّماً يكاد يكون بلا عوائق. وقد شهدنا العديد من التقارير التي تتناول العواقب الوخيمة لأنظمة دعم القرار القائمة على الذكاء الاصطناعيّ المستخدمة في غزّة.
تركيا في حالة اضطراب: الأكراد، الشباب، والنضال من أجلِ مستقبل البلاد
14 حزيران 2025
وعلى وجه الخصوص، عزّز الصراع الروسيّ الأوكرانيّ بشكلٍ مأساويٍّ الشعور بالحاجة الملحّة لتطوير أسلحة ذاتيّة التحكّم بالكامل بسرعة ودون قيود تُذكر، في حين أنّ الصراع نفسه كان يُنتج بيانات قيّمة للغاية يأمل مطوّرو أسلحة الذكاء الاصطناعيّ استخدامها لتحسين أنظمتهم. وهكذا أصبحتْ الصراعات الدائرة بمثابة مختبرٍ مفتوح للاختبار والتجريب والتكرار.
بغضّ النظر عن أيّ نقاشات حول وعود الدقّة والإتقان والتطوّر في الأسلحة المدعومة بالذكاء الاصطناعيّ، فإنّ الحقيقة هي أنّه حتّى الآن؛ من غير المرجّح أن تكون الأنظمة المصمّمة للاستخدام في ساحات المعارك المفتوحة والمعقّدة قويّة أو موثوقة بما فيه الكفاية، ولا توجد أيّ ضمانات على أنّها ستُضبط أو تُستخدم بشكل يحدُّ من العنف؛ بل من المرجّح أن يحدث العكس تماماً.
ورغم ذلك، فإنّ الوعود المطروحة بشأن أنظمة الذكاء الاصطناعيّ العسكرية خياليّة. فالادعاءات بأنّ الذكاء الاصطناعيّ سيُساعد على حسم الحروب بسرعة، وأنّ الحرب هي مجرّد مشكلة برمجيّة، وأنّ الذكاء الاصطناعيّ قادر على جعل العالم شفّافاً، وغيرها، تُعدّ جزءاً أساسيّاً في هذا المجال، وهي ما يُغذّي مشاريع مثل برنامج القيادة والتحكّم المشترك لجميع المجالات (JADC2) الطموح للغاية، وهو مشروع تابع لوزارة الخارجيّة الأمريكيّة يهدف إلى إنشاء شبكة مدعومة بالذكاء الاصطناعيّ تربط جميع فروع الدفاع.
تهدف رؤية برنامج JADC2 إلى توفير اتصال بيانات سلس يُمكّن من اتخاذ إجراءات فوريّة بسرعة وعلى نطاق واسع في جميع المجالات، من قاع المحيط إلى الفضاء الخارجيّ، بما في ذلك الجوّ والبرّ والبحر والفضاء والأمن السيبرانيّ.
غالباً ما تُشبّه وزارة الدفاع الأمريكيّة هذه الرؤية بمنصّة أوبر لمشاركة الرحلات، ولكن بدلاً من تنسيق رحلات، يتمّ تنسيق إطلاق الصواريخ في أيّ مكان وزمان.
عيوب التعلّم الآليّ
ما يتمّ تجاهله غالباً في هذه البرامج الطموحة هو أنّ الأسلحة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعيّ لإدارة سلسلة القتل الكاملة قد تواجه مشاكل بسبب بيانات غير مكتملة أو منخفضة الجودة أو خاطئة أو متضاربة. وهذا يؤدّي بدوره إلى أنظمةٍ هشّة ونتائج متحيّزة وضارّة. إنّ بيئات الصراع فوضويّة وديناميكيّة، والأهم من ذلك فهي عدائيّة، مع وجود تنوّع كبير لم تُدرّب الأنظمة عليه ولم يُتحقّق من صحّته.
علاوةً على ذلك، غالباً ما تُصنّف بيانات الذكاء الاصطناعيّ بتصنيفات خاطئة، وأبحاث التعلّم الآلي ليستْ بالصلابة العلميّة التي توحي بها التقارير الإعلاميّة. وهذا يؤدّي حتماً إلى اتخاذ قرارات خاطئة، وسوء استخدام للقوّة، وأخطاء ضارّة تؤذي من يقع في مرماها.
كما أوضحتْ في مكان آخر بتفصيل أكبر، حين يُهيمن منطق التكنولوجيا، تُدرج النتائج الضارّة ضمن الممارسة التقنيّة كجزء لا يتجزّأ، سواء كحوادث عرضيّة أو كجانب من عمليّة الإفراط في الابتكار.
يقوم التعلّم الآليّ كتقنيّة على منطق الهدر أو الإفراط؛ منطق التجربة والفشل والمحاولة مجدّداً، والاقتراب ثمّ الفشل مرّة أُخرى، وهكذا، مع استهلاك كلّ الموارد اللازمة على أملِ الاقتراب من الكمال. يُشبه هذا إلى حدٍّ كبير أسلوب وادي السيليكون اليوم كصناعة قائمة بذاتها.
منطق رأس المال الاستثماريّ تجاه التكنولوجيا
هذا المنطق الخاصّ بالآلات جدير بالاهتمام. فالآلات لا تُصمّم ولا تعمل في فراغٍ محايد، بل هي دائماً مرتبطة بالجوانب الاجتماعيّة والتقنيّة معاً. قال فيليكس غواتاري إنّ الآلات تُمثّل أشكالاً مفرطة التركيز لجوانب معيّنة من الذات البشريّة.
وربّما يجدر بنا الالتفات إلى صناعة التكنولوجيا لفهم واقعنا الحاليّ، خاصّة أنّ وادي السيليكون ومموّليه باتوا يتولّون زمام المبادرة بشكلٍ متزايد، على الأقلّ في الولايات المتحدة، في توجيه وتيرةِ الابتكار العسكريّ، بل والدفع نحو تحوّل ثقافيّ يقود إلى الأتمتة الكاملة، أو على الأقلّ إلى تهميش الإنسان بصفته إنساناً.
هناك علاقةٌ شديدة التعقيد وشديدة الترابط بين وادي السيليكون، وأفكار التقدّم العسكريّ، وأهداف رأس المال الاستثماريّ، تعود إلى عقودٍ طويلة. يتبنّى منطق رأس المال الاستثماريّ تثميناً للخطأ والتكرار، كما يفعل منطق الذكاء الاصطناعيّ: فالاستثمار عالي المخاطرة، وعالي العائد، وبعض المشاريع تنجح، وكثيرٌ منها يفشل. قد يفشل ما يصل إلى 80% من الاستثمارات، ولكن النجاحات الكبيرة ستعوّض جميع الخسائر. إنّه رهان دائم.
نصرالله وسوريا وفلسطين: التفكير خارج السرديّات التي تتحدّث بلساننا
10 حزيران 2025
مع ذلك، فإنّ ديناميكيّات هذه العلاقة، والهيمنة المتزايدة لخطاب القطّاع الخاصّ وممارساته على العمليّات العسكريّة، يجب أن تحثّنا على التأنّي والتفكير. ماذا سيحدث عندما يُسرّع الجيش وتيرة صناعة التكنولوجيا وأخلاقيّاته الأوسع المتمثّلة في "نفّذ أوّلاً، ثمّ اطلب المغفرة لاحقاً"؟
تُبنى معايير صناعة التكنولوجيا على السرعة والحجم والمنافسة. فقد أسّس فيسبوك، المعروف الآن بـ ميتا، عمله على مبدأ أنّ القيمة الجوهريّة تكمن في سرعة طرح المنتجات إلى السوق، بغضّ النظر عمّا إذا كانتْ هذه الأفكار التكنولوجيّة جاهزة تماماً للاستخدام أم لا.
ويظلّ الشعار الأيقونيّ "التحرّك بسرعة وكسر الأشياء" هو الأساس الذي يُعبّر عن هذه الروح. وكان من بين شعارات فيسبوك الأُخرى في ذلك الوقت "الإنجاز أفضل من الكمال". هذا هو جوهر طريقة العمل، أو ما يُعرف بـ"أسلوب الهاكر": يجب على قطّاع التكنولوجيا أن يتحرّك بسرعة، ويتعلّق الأمر بالفوز في سباق الوصول بالمنتج إلى السوق، والحصول على العقود، والتوسّع السريع، وبناء احتكارٍ يُمكن من خلاله تحقيق أرباح طائلة عن طريق حرمان العملاء من الخيارات في النهاية. يُقيّد هذا الاحتكار العملاء في علاقة اتكاليّة يصعب التخلّص منها بسهولة، ومن هذا الموقع يُمكن للبائع تحقيق أرباح احتكاريّة مستمرّة.
لا يُمكن للمشاركين في هذا المجال التحرّك بسرعة كافية لكسب ميزة على المنافسين إلّا إذا تبّنوا منطق الخطأ والهفوات. وهذا بالضبط السبب في أنّ صناعة الذكاء الاصطناعيّ العسكريّ تُعزّز فكرة وجود منافسة، أو سباق تسلّح في مجال الذكاء الاصطناعيّ. فهم بحاجة إلى هذا الإطار لجعل منطق العمل ممكناً.
يُروَّج لهذا السلوك بشكلٍ متزايد في قطّاع الدفاع، ويدافع عنه أولئك الذين يحتاجون إلى هذا الإطار الفكريّ. في جلسة استماع لجنة الخدمات المسلّحة الأمريكيّة، قدّم المدير التقنيّ لشركة Palantir شهادة يدعو فيها إلى "المزيد من الجنون" و"ترك الفوضى تسود" في عمليّة الشراء والتوريد العسكريّ، لضمان تهيئة الحوافز اللازمة. ويعتقد أنّ القيود التنظيميّة صارمة للغاية، وأنّه "سيرحّب بالمزيد من الإخفاقات بكلّ سرور إذا كان ذلك يعني تحقيق نجاحات كارثيّة أكبر". لم يُحدّد بعد نوع هذا النجاح أو تداعيات الفشل، ولكن من الواضح أنّ المدير التقنيّ لشركة بالانتير يتحدّث من منطق رأس المال الاستثماريّ.
غالباً ما تُبرَّر الطرق المختصرة والحلول المؤقتة بفكرة أنّ الأخطاء يُمكن تصحيحها لاحقاً من خلال التحديثات والتعديلات المتكرّرة وغيرها. إنّ تبنّي الأخطاء والعيوب يُقدَّر ويُعزّز، حيث تتغلّب السرعة على كلّ شيء. وما ينتج من خسائر في هذه الممارسة يُعوَّض بوعد تحقيق مكاسب ماليّة كبيرة.
إنّ الوعود المبالغ فيها هي سمة أساسيّة في هذا النهج، وتعتمد على الفكرة الراسخة الآن بأنّ الذكاء الاصطناعيّ، في مرحلة ما من المستقبل، سيُصبح متقناً للغاية، ليس الآن، ولكن من المفترض أن يُصبح كذلك، وبالتالي سيكون النجاح حتميّاً أيضاً. إنّ المستقبل مع الذكاء الاصطناعيّ لا مفرّ منه من أجل تحقيق النجاح. لذا، يجب العمل بسرعة وعلى نطاق واسع. وهذا بالضبط ما يُغذّي دورة الضخ الإعلاميّ المبالغ فيها للذكاء الاصطناعيّ، سواء في المجال العسكريّ أو غيره.
بصمة وادي السيليكون في البنتاغون
من المفيد أن نُلقي نظرة شاملة على صنّاع التقنيات التي تحظى بأكبر قدر من الضجيج والاهتمام. ليس لأنّ هذه التقنيات هي التي ستُثبت جدارتها على المدى الطويل بالضرورة، بل لأنّها هي التي ستُحدّد ما سيحظى بالانتباه، وكيف تُصاغ أفكار الحرب والنصر.
إنّ سوق الذكاء الاصطناعيّ العسكريّ هو سوق مربح للغاية وواعد تُقدّر قيمته حاليّاً بنحو 9.2 مليار دولار أمريكيّ، وقد تحرّك الوافدون الجدد العدوانيّون بسرعة، بدعم من كميّات غير عادية من رأس المال الاستثماريّ، غالباً من حفنة من لاعبي رأس المال الاستثماريّ الأساسيّين المرتبطين بصناديق رأس المال الاستثماريّ البارزة مثل Andreessen Horowitz و Founders Fund.
تلقّتْ شركات ناشئة أحاديّة القرن مثل Anduril و Palantir و Shield AI وغيرها الكثير، استثمارات بمليارات الدولارات لتُصبح لاعباً أساسيّاً في هذا السوق. ورغم أنّ جميع هؤلاء يؤكّدون اهتمامهم الكبير بشرعيّة وأخلاقيّات منتجاتهم، إلّا أنّهم في الواقع لا يظهرون اهتماماً حقيقيّاً بأيّ منهما. فقد قال بالمر لاكي، المدير التنفيذيّ لشركة Anduril، بشكلٍ ساخر إنّه حتّى لو كان غير سليم عقليّاً، فإنّ "المجتمع يحتاج إلى أشخاص مثله لا تؤرّقهم فكرة تطوير أدوات العنف". أمّا أليكس كارب، المدير التنفيذيّ لشركة Palantir، فقد صرّح علناً أنّه يؤمن بإلحاق الألم، ويدعو إلى سياسة خارجيّة أمريكيّة تُركّز على "إلحاق الألم لأجيال قادمة، بأيّ شخص يؤذي أمريكيّاً".
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الرابعة
02 تموز 2025
للتوضيح، لطالما ترافقتْ الابتكارات التكنولوجيّة مع المساعي العسكريّة. وبالعادة، تُحدّد متطلّبات المؤسّسات العسكريّة وتيرة الابتكارات التكنولوجيّة وهيكلها، وكانتْ شركات الدفاع تعمل سابقاً جنباً إلى جنب مع الجيش لتعزيز الابتكار وضمان الميزة التنافسيّة. ولكن هذا تغيّر الآن. ترى شركات الدفاع الجديدة نفسها كمُورّد للمنتجات بدلاً من كونها متعاقد حكوميّ، وهذا يعني أنّه يجب عليها خلق طلب على منتجات تمّ تطويرها مسبقاً في سوق الدفاع الحاليّ.
كان إريك شميدت، الرئيس التنفيذيّ السابق لشركة غوغل ومستشار الدفاع للإدارات السابقة، من أشدّ المؤيدين لتسريع العمليّات والإجراءات العسكريّة، وقد أقام علاقات وثيقة للغاية مع واشنطن للترويج لـ “رؤيته العالميّة لوادي السيليكون حيث تُعدّ التطوّرات في البرمجيّات والذكاء الاصطناعيّ مفتاحاً لحلّ أيّ مشكلة تقريباً".
عمل آخرون، من بينهم بيتر ثيل، بجهد خلال العقد الماضي على إدخال سياسات تدعم البرمجيّات داخل الحكومات عبر بناء علاقات وثيقة معها. بالنسبة لإريك شميدت وآخرين مثله، فإنّ الإجراءات التقليديّة للمشتريات والعمليّات العسكريّة بطيئة جدّاً، ويبدو عازماً على مواءمة الجداول الزمنيّة بين العالم العسكريّ وعالم التكنولوجيا، في مسعى لتحديث الجيش الأمريكيّ وجعله يُشبه وادي السيليكون. ما يغفل شميدت عن ذكره غالباً هو امتلاكه لاستثمارات متنوّعة، سواء في رأس المال الاستثماريّ أو غيره، في شركات يعتمد نجاحها على هذا الإصلاح في قطّاع الدفاع.
يعتمد نجاح استثمارات شميدت الماليّة في الذكاء الاصطناعيّ العسكريّ، وكذلك استثمارات رؤوس الأموال المغامرة الأُخرى، على إعادة تشكيل كلّ العمليّات الاجتماعيّة والسياسيّة، وبالأخص العسكريّة، لتتوافق مع منطق قطّاع التكنولوجيا وصورته.
لكي يكون الاستثمار مثمراً فعلاً، يحتاج أصحاب المصالح إلى أن تعمل الحكومة الأمريكيّة بسرعة الآلة، لا بسرعة الإنسان، في جميع الجوانب. لا تسمح مصالح رأس المال الاستثماريّ بالانتظار طويلاً لإتمام إجراءات العقود التي تمتد لسنوات، بل تتطلّب إنجازاً سريعاً، حتّى تتمكّن الشركات الناشئة من الحصول على العقود، وجمع المزيد من رأس المال، وزيادة قيمتها السوقيّة. إنّ المنتج الذي تقدّمه شركات رأس المال الاستثماريّ لعملائها، أي المستثمرين في صناديقها، ليس التكنولوجيا نفسها ولا الشركة بحدِّ ذاتها، بل هو ببساطة النمو في القيمة، أي زيادة أرباح رأس المال. ولكي ينجح هذا النظام، يجب تهيئة البيئة المناسبة لذلك.
لنتذكّر رؤية وينر التي تقول إنّه كلّما ازداد انتشار بعض التقنيّات، ازداد معها منطق عملها الداخليّ. فمع انغماس الذكاء الاصطناعيّ والتقنيّات الرقميّة في مؤسّساتنا الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة، أصبح الطابع الهيكليّ والمنطقيّ لهذه التكنولوجيا ركيزة أساسيّة، أي بنيّة تحتيّة تتوسّط الأفكار والأفعال وتوجّهها وفق مساراتها الوظيفيّة، بما في ذلك الأفكار المعياريّة. ففي إطار منطق حوسبة الذكاء الاصطناعيّ، تُصدر الأحكام المعياريّة حول الأفعال والممارسات المرغوبة من خلال منظور العمليّات التكنولوجيّة وممارسات الأعمال. فليس الإنسان هو من يُحدّد آفاق الإمكانيّات، بل الحاسوب باعتباره منظومة أخلاق، والأهم من ذلك، الصناعة القائمة حوله.
ما يُثير القلق بشأن هذا المشهد، المتمثّل باهتمام وادي السيليكون النشط بغرس بصمته في البنتاغون، هو أنّ العمليّة التكنولوجيّة التي يروّج لها غالباً ما تُصاحبها رؤية بدائيّة للعالم، قائمة على صراع الخير والشرّ، والمعارك المستمرّة، وحالة دائمة من الاستعجال والخوف الوجوديّ، مقابل تصوّر مبسّط جدّاً لنصرٍ حتميّ ومجدٍ مستقبليّ.
لا يختلف الأمر كثيراً عن حبكة الروايات التي استوحتْ منها اثنتان من أبرز الشركات اسميهما - Anduril وPalantir، فكلاهما يشيران إلى كُتب "سيّد الخواتم". وهؤلاء الفاعلين، الذين يزدادون صخباً ونفوذاً ويبنون شبكة علاقات واسعة ويطرحون مثل هذه الآراء، لا يُقدّمون أنفسهم كرجال أعمال فحسب، بل كمنقذين وأنبياء وسياسيّين قادرين وحدهم على إعادة (الغرب، العالم، الولايات المتحدة، الحضارة) لمجدها السابق. هذه سرديّات قويّة ونظرة مخيفة، لا تهدف فقط إلى دفعنا جميعاً نحو صناعة الحرب، كما فعل مشروع مانهاتن مع الولايات المتحدة، بل تشوّه أيضاً الحقائق الرهيبة للحرب وعواقبها البعيدة في عصرنا الحاليّ.






