قبل 75 عاماً، في شهر نيسان/ أبريل سنة 1950، عُرضت أول مسودة للدستور السوري على الجمعية التأسيسية البرلمانية، ومعها تفجّرتْ في سوريا المستقلة أزمةُ الدين والدولة في الدستور. مع أنّ الكثير من السرديات تطرح إيجابية هذا الدستور وتوافقيته، فإنّنا نسلّط الضوء في هذه المقالة على مأزومية ظروف وضعه ونتيجته التي تمّ تبنّي بعض أجزائها في الإعلان الدستوري الصادر مؤخراً.
الدساتير الأولى
تصاعد التوجّه نحو علمنة قوانين الدولة العثمانية في إطار جهود تحديثها خلال فترة التنظيمات العثمانية. لكنّ أول دستور عثماني صادر سنة 1876، أُعلن أنّ دين الدولة هو الإسلام. وتكفّل السلطان العثماني -الخليفة الإسلامي نصّاً- بتطبيق الأحكام الشرعية إلى جانب القوانين الأخرى. وكثّف التعديل الدستوري الصادر في 1909 من توظيف الشريعة والأحكام الفقهية في الدستور العثماني بسبب مفاعيل واقعة 31 أذار/ مارس التي مثّلت ردّ فعلٍ محافظٍ على التوجّهات العلمانية لجمعية الاتحاد والترقي التي قادت ثورة تركيا الفتاة 1908 على الحكم المطلق للسلطان عبد الحميد، وإن انقلب الاتحاديون على مساعي المحافظين في السنوات اللاحقة.
كان كثيرٌ من الآباء المؤسسين للدولة السورية، الذين قادوها خلال الانتداب وأولى عقود الاستقلال، من المنتمين إلى تيار القومية العربية وذوي توجّه تغلب عليه العلمانية. درس معظمهم في المدارس الإدارية العثمانية في استنبول وفي الجامعات الغربية. يمكن لمس هذا التوجّه في دستورَي 1920، 1930 اللذين شارك ذلك الجيل في وضعهما. خلا هذان الدستوران من مادتي الإسلام دين الدولة ومن النصّ على أنّ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. واقتصر دور الإسلام على دين الحاكم وشؤون قانون الأحوال الشخصية.
حزب الشعب
الورطة السورية... من سياسات المدن إلى الأيديولوجيا
10 تموز 2025
في أواخر سنة 1949 تبنّى حزب الشعب الدفع بمشروع أوّل دستورٍ لسوريا بعد استقلالها. كان حزب الشعب بأغلب قياداته أميلَ نسبياً إلى التيار الحداثي وهذا ما يمكن تلمّسه في وثيقة برنامجه (منهاج حزب الشعب) التي التزمت بصيانة الحريات الأساسية وقيم المساواة وخلا برنامجها السياسي والاجتماعي من صبغةٍ إسلامية أو دينية صريحة. في سياسات الحزب في التشريع، تمّت الاستعاضة عن كلمة الدين، بعبارة "مراعاة التراث العربي". وفي أبواب سياسات الحزب الاجتماعية والثقافية، استُخدمت كلماتٌ من قبيل "القوة الروحية" و"المُثل العليا" وما شابهها. وتبنّى البرنامج السعي إلى محو "الاعتبارات العصبية أو العنصرية أو الطائفية".
مع وجود أجنحةٍ أيديولوجية متعدّدة داخل الحزب، سنرى أنّ لغة البرنامج الأقرب للّيبرالية وإن كانت محافظة، انعكست في مواقف عددٍ من قيادات الحزب التي شاركت في صوغ دستور 1950. وهذا ليس بغريب حين بلغت نسبة المسيحيين قرابة ثلث مؤسسي هذا الحزب في مدينة حلب، مركز ثقله. وكان الدكتور ناظم القدسي من مؤسّسيه، وهو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت والحاصل على الدكتوراه من جامعة جنيف. وكذلك المحامي رشاد برمدا الذي ترأس أول جمعية حقوق إنسان في سوريا في السبعينيات من القرن الماضي، وسُجن ل45 يوماً خلال أحداث إضرابات النقابات السورية في أذار/ مارس سنة 1980.
مادة دين الدولة في الدستور؟
بدأت الأزمة مع اقتراح المرشد العام للإخوان المسلمين في سوريا، الشيخ مصطفى السباعي، تضمين مقترح الدستور الجديد، مادةً تنصّ على أنّ الإسلام هو دين الدولة التي خلت منها الدساتير السابقة. وقد حشد السباعي، وكان عضواً عن الجمعية التأسيسية البرلمانية، الشارع الإسلامي ودوائر الخطباء وعلماء الدين خلف هذا المطلب.
انتشرت ردود الأفعال المعارضة، وضمّت طيفاً واسعاً من ممثلي الطوائف المسيحية ومن سياسيين تقدميين كأكرم الحوراني، ومن قيادات حزب الشعب، بالإضافة إلى نخب ثقافية أكاديمية ومهنية أصدروا بيانات وعرائض عن معارضتهم للمادة.
كان كثيرٌ من الآباء المؤسسين للدولة السورية، الذين قادوها خلال الانتداب وأولى عقود الاستقلال، من المنتمين إلى تيار القومية العربية وذوي توجّه تغلب عليه العلمانية.
تناقلت الصحف انتقادات رجل القانون والاستقلال فارس الخوري* لمادة دين الدولة، نقتطف منها: "وإذا كان السادة العلماء لا ينوون إبطال القوانين والأنظمة المدنية القائمة اليوم لإحلال الأحكام الشرعية محلها في الجهاز الحكومي في سوريا، فهل يرون حضراتهم من الصواب وضع مادةٍ هامة مثل هذه في الدستور والتعرض لما تحدثه من الانعكاسات غير السارة مع بقائها في حالةٍ صورية محرومة من التنفيذ؟؟ أنا لا أريد الآن أن أسرد التبديلات التي يقتضيها تنفيذ هذه المادة في قوانين الدولة وأنظمتها وما يترتب على ذلك من النتائج غير المرغوب فيها ليس على غير المسلمين فقط، بل على المسلمين أيضاً. فغير المسلمين وهم أهل الذمة من الكتابيين لهم في المذاهب الإسلامية أوضاعٌ وقيود ليس من مصلحة أحد تعدادها الآن، فالسادة العلماء أعرف بها مني."
توسّعت حركة الاحتجاج، فقامت الكنائس المسيحية بإلغاء الاحتفال بعيد الفصح احتجاجاً. وتلقت جريدة الحوادث الحلبية مثلاً، برقيات من مجموعة من محامي حلب، يدعمون فيها موقف قيادي حزب الشعب ومقرّر اللجنة الدستورية عبد الوهاب حومد، الذي عارض المادة. ولكن، وفي النهاية، اعتمدت اللجنة الدستورية المادة بأغلبية الأصوات، وتمّ عرض مسودة الدستور في البرلمان، في 15 نيسان/ أبريل 1950.
أدّى ذلك إلى موجةٍ جديدة من الاحتجاجات والاستقطاب. منها مثلاً، أن قام زعماء الطوائف المسيحية في حمص بمطالبة نواب الطوائف في البرلمان بالانسحاب إذا ما تمّ الإصرار على مادة دين الدولة. وصعّد الإسلاميون موقفهم أيضاً. وبحسب كتاب تيري جوردون، نظم الإخوان المسلمون لمظاهراتٍ بالسيارات اجتازت أحياء المسيحيين في دمشق وحلب، ولم تقم الحكومة بأي إجراءٍ لإيقاف هذه النشاطات.
أثناء مناقشات الجمعية التأسيسية لمسودة الدستور، طالب النائب المسيحي عن دمشق، إلياس دمر، بإلغاء مادة دين الدولة، لآثارها التمييزية بين مواطني هذه الدولة. كما أعرب عبد اللطيف اليونس، النائب العلوي عن صافيتا عن موقفه بدعم جهود وساطة رئيس الجمعية التأسيسية، وإن أكّد على رفضه المادة بقوله: "مع العلم بأنني من القائلين بل من الراجين بل من المتوسلين بألا توضع هذه المادة في الدستور."
الفقه، المصدر الرئيسي للتشريع
البلاد السورية: النظام الاتحادي ودستور 1920
18 شباط 2025
وانتهى التصعيد، كما روى القيادي الإخواني عدنان سعد الدين، بنصرٍ فعليٍّ للإخوان وأجندتهم "ولما همّ الشيخ السباعي وإخوانه أن ينسحبوا من الجمعية التأسيسية، ويتركوا هذا الموضوع إلى الشعب أو إلى الشارع، تنادى وجهاء البلاد وعقلاؤها إلى تطويق هذا الخطر، والتماس حلٍّ لهذه المعضلة، فأطلقوا يد الشيخ باختيار النصوص التي تلبي طموح العلماء والدعاة والجماهير وأعضاء البرلمان من ذوي الميول الإسلامية، لتكون بديلاً عن النص المختلَف عليه، ولإقناع المناوئين بحلٍّ يحفظ لهم ماء الوجه."
كانت الحصيلة أن تمّ استبدال مادة دين الدولة في المسودة بمادة: "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع"، والنصّ في مقدمة الدستور على تمسّك الدولة بالإسلام ومكافحة الإلحاد. مع الإبقاء على مادة ديانة رئيس الجمهورية هي الإسلام، وصون الأحوال الشخصية للطوائف.
ومع ذلك كان بيان حزب الشعب في الجمعية التأسيسية عن الصيغة النهائية للدستور أقرب إلى الليبرالية، وخالياً من دعم إدراج دورٍ للدّين في الدستور وأقرب إلى وثيقة منهجه. ولكن كان لمعروف الدواليبي أحد قياديي حزب الشعب دورٌ في صياغة مادة الفقه الإسلامي إلى جانب الشيخين مصطفى السباعي ومحمّد المبارك بحسب مذكرات أكرم الحوراني. وكان الدواليبي ممثّلاً لجناح محافظٍ ضمن حزب الشعب وقواعده. من هذا الباب تعبّر رواية صهيب الشامي في تلفزيون العربي عن قوة ضغوط الشارع الإسلامي على حزب الشعب عندما اعترض بعض العلماء على حذف واستبدال مادة دين الدولة في "التسوية" الأخيرة.
مناورة محسوبة
الاستبدال كان مناورةً محسوبةً أيديولوجياً من قبل السباعي، وكما قال في مداخلته في الجمعية التأسيسية، أصبحت مادة دين الدولة الإسلام في دساتير الدول المجاورة "ألفاظ رمزية ليس لها أي معنى عملي". وعدّ التنازل عن مادة دين الدولة، مجرّد تنازلٍ عن الألفاظ في سبيل الجوهر بالنظر إلى النصوص التي استبدلتها. بحسب إليزابيث تومسون كان النصّ على الفقه كمصدرٍ للتشريع في دستور سوريا 1950، الأوّل بين الدول العربية التي تتابعت خلف بعضها لاحقاً على النصّ في دساتيرها على أنّ الدين الإسلامي شريعةً أو فقهاً كمصدرٍ للتشريع.
بحسب إليزابيث تومسون كان النصّ على الفقه كمصدرٍ للتشريع في دستور سوريا 1950، الأوّل بين الدول العربية التي تتابعت خلف بعضها.
مع قوتهم في الحشد والضغط، لم يكن للإسلاميين من القوة الانتخابية في سوريا، في خمسينيات القرن الماضي، ما يمكنّهم من أن يترجموا مادة الدستور تلك إلى نظامٍ سياسيّ واجتماعيّ جديد. من هذا القبيل ما ذكره توماس بيريه في كتابه عن الدين والدولة في سوريا،أنّ الشيخ محمد بلنكو رئيس رابطة العلماء في حلب طالب بتشكيل لجنةٍ من العلماء للنظر في مدى إسلامية القوانين الصادرة عن البرلمان سنة 1955.
عودة إلى فارس الخوري
استراتيجية هيئة تحرير الشام لتعزيز سلطتها
04 تموز 2025
هنا تحديداً تكمن أهمية توصيف فارس الخوري لصلب أزمة الدين والدولة في سوريا، وهو في جعل أحكام الدين الفقهية مصدراً للتشريع. ولهذا ما يؤيده في تجربة مصر الدستورية. فعندما مضى أنور السادات بموضوع الأسلمة في مصر، بدأه في دستور 1971 بإدخال مادة "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع". ثمّ نصَّ التعديل الدستوري سنة 1980، على أنّ "مبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع". لاحقاً جاء دستور 2012، الذي طرحه الإخوان، ونصّ على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة." وأنّه "يؤخذ رأى هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف فى الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية."
كان هناك ميثاقٌ وطنيٌّ سوريٌّ ضمنيّ يتعلّق بعلاقة الدين والدولة، يستبعد مواد دين الدولة الإسلام أو الشريعة الإسلامية كمصدر التشريع، تأسّس في دستور 1920 وتأكّد في دستور 1930، وتمّ التراجع عنه في دستور 1950.
المفارقة أنّ الأسدين مع إضعافهما لدور الشريعة في الدستور، حيث تمّ تغيير مادة الدستور من الفقه "المصدر الرئيسي" إلى الفقه "مصدر رئيسي" للتشريع في دستوريهما. فإنّ بنية الحكم الأسدي بقمعية وتطييف جهازه العنفيّ وتصحيره السياسي والثقافي شكّل بيئةً خصبةً للتطرّف والتشظّي الأهلي. وساهم في عودةٍ ملحّة للسؤال عن دور الدين في الدستور والتشريع بعد سقوط الأسد.
فما كان من السلطة الحالية إلّا أن أعادت السوريين إلى مادة دستور 1950 المأزومة، فنصّت المادة الثالثة للإعلان الدستوري على أنّ "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع". ولكن هذه المرّة بعكس 1950، تمّ ذلك مع ضعف حضور قوى اجتماعية فعلية تكبح تطبيق ما حذّر منه فارس الخوري.
*تصريحات فارس الخوري تلك تناقض ما ذكره الصحفي محمد الفرحاني ذو النفس الإسلامي، في كتابه المنشور عن الخوري بعد وفاته. يعُرف عن الخوري وده واعتزازه بحضارة الإسلام، إلا أن الفرحاني يتحدث عن تحبيذ الخوري وحماسه لتطبيق الشريعة الإسلامية كتشريع وقانون للدولة السورية. ويبدو أن الفرحاني هو المصدر الوحيد لهذه الادعاءات. يستدعي استيضاح موقف الخوري، وهو رجل القانون، التثبّت من مصادر أخرى، للوقوف عند تأييده الصريح لتطبيق الشريعة في القانون السوري، والتأكد من صحة ادعاءات الفرحاني.











