أزمة المياه في القامشلي: انتظارٌ يوميّ ينهك الأجساد ويستنزف الأرواح

"نعيش نصف حياة. نصفها الآخر نقضيه في ترقّب وصول المياه"


19 آب 2025

آريا حاجي

صحافية سورية.

في أحد صباحات الصيف، جلست دنيا فواز، ناشطة المجتمع المدني المقيمة في أحد أحياء مدينة القامشلي، على شرفتها، تحاول استعادة لحظةٍ بسيطة من حياتها السابقة، سكبت القهوة في فنجان، التقطت له صورة، ونشرتها عبر حالتها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. لم تكن تتوقّع سيل التعليقات الذي انهال عليها من قبل أصدقائها: "هل وصلتكم المياه؟"، و"هل قمت بتعبئة الخزان؟".

لكن الحقيقة التي أخبرتهم بها كانت أبعد ما تكون عن الاطمئنان: "لم يصلنا شيء، أردت فقط أن أحتسي القهوة بصمت، دون قلق، دون غضب، دون اكتئاب." بهذه الكلمات ردّت دنيا، التي تعيش منذ أكثر من أربعة أشهر محرومةً من المياه القادمة من الخط الحكومي إلى منزلها.

تقول دنيا: "اعتاد أطفالي أن يملؤوا مسبحهم الصغير على الشرفة في مثل هذا الوقت من العام، أما اليوم، فإن اقتربوا من صنابير المياه أصرخ عليهم، أخاف أن تُهدر نقطةٌ واحدة قد نحتاجها فيما بعد، حتى أصبح صراخي جزءاً من يومهم، وانعكس على حالتهم النفسية كما انعكس عليّ".

لم تعد الغسالة تُشغّل عند الحاجة، بل أصبح استخدامها قراراً مدروساً، لا يتم إلا مرة أو مرتين في الأسبوع، كما تقلّص التنظيف المنزلي إلى مسحٍ سريع بعبوة مياه. حتى تنظيف درج البناء، الذي كانت دنيا تبادر إلى طلبه، توقفت عنه بعد أن تكررت حالات التجاهل من الجيران، فتوتّرت العلاقات، وتحوّل التواصل إلى شجارٍ ضمني.

امتحانات في زمن التفاوض

20 حزيران 2025
"أتى هذا القرار وأخرجنا من دائرة الضغط النفسي، أنا اليوم سعيدةٌ جداً بأنني سأتمكن من تقديم الامتحان والعودة إلى منزلي بعد الانتهاء". هذا ما تقوله لسوريا ما انحكت الطالبة في...

"سابقاً، كنّا نسهر الليالي ننتظر وصول المياه، سهرتُ حتى انهارت عيناي، وتضررت صحتي. عانيتُ من اختلالٍ في الهرمونات، وأصبتُ بتكيساتٍ على المبيضين. قال لي الطبيب إن السبب الرئيسي هو السهر والإجهاد النفسي. خضعتُ للعلاج ثلاثة أشهر، لكنني لم أتعافَ نفسياً من آثار الأزمة."

أصبحتْ تعبئة الخزان عمليةً دورية تستنزف وقت الأسرة ومالها. تقول دنيا: "نملأ خزاناً يتسع لعشرة براميل ثلاث مراتٍ أسبوعياً. بتنا ننفق ما يقارب 300 دولاراً شهرياً فقط لتأمين المياه الضرورية، في وقتٍ لا تزال فيه الظروف الاقتصادية ضاغطة، وكل شيء مرهونٌ بالقدرة على التحمّل."

مضطرةٌ لإطفاء أجهزة المنزل الكهربائية، لتغلي الماء للطهي، عليها تحمل رؤية طفليها يعانيان من صيفٍ حارق من دون تكييف. أما مياه الشرب فيشترونها أسبوعياً لقاء مبلغٍ إضافي.

"كل تفاصيل حياتنا أُعيد تشكيلها حول ندرة المياه، لم أعد أتحمّل ذلك، أصبح الماء يزورني حتى في أحلامي، أراها تتدفق من الصنابير أو من محرك (دينامو) لم أعد أستخدمه. بتّ أعاني من فوبيا ،كلما سمعت صوت المياه أو أصوات المولدات".

لكن الألم الأكبر، كما تقول، فمنبعه شعور الذنب الدائم الذي يكتنفها تجاه أطفالها، الذين لم يعودوا يستطيعون اللعب بالماء كما اعتادوا.. تكمل دنيا: "الحي غير آمنٍ للعب في الخارج، والمياه كانت وسيلتهم الوحيدة للفرح. الآن، حين أمنعهم عنها، أشعر أنني أطفئ جزءاً من طفولتهم، وأعاني من تأنيب الضمير بعد كل مرة أصرخ فيها بوجههم."

أمام هذا الواقع، تقول إيفا إن انتظار المياه أصبح الحالة اليومية الثابتة: "نعيش نصف حياة. نصفها الآخر نقضيه في ترقّب وصول المياه. لم نعد نخطط لأيّ شيء، كل شيءٍ مؤجّلٌ بانتظار نقطة ماء. فقدنا معنى الحياة الطبيعية".

حين تُختزل الحياة في انتظار المياه

حال دنيا يشبه حال كثيرين في مدينة القامشلي، حيث باتت أزمة المياه سبباً لأزمةٍ نفسية متفشية تطال الأفراد والعائلات، وتغيّر نمط معيشتهم بالكامل. إيفا إبراهيم، المقيمة في حيّ السياحي، تصف الشعور بالقلق المستمر الذي يرافقها منذ انقطاع المياه عن حيّها منذ أكثر من شهر ونصف: "حين نفكر بالماء، يسيطر علينا القلق. حتى عندما كانت المياه تصل مرةً كل ثلاثة أيام، كنّا نركض في أنحاء المنزل نملأ الخزانات خوفاً من انقطاعٍ مفاجئ. لم نعد نستخدم المياه ونحن نشعر براحةٍ نفسية، بل نخشى ألا نراها مرة أخرى".

تقول إيفا إن الأزمة لم تترك لها أو لعائلتها أيّ شعورٍ بالاستقرار: "تحولت الحياة اليومية إلى عملية حسابٍ لكل قطرة، ووضع خطةٍ دقيقة لتوزيعها على الطهي، الغسيل، والشرب. لم نعد نخرج من منازلنا مطمئنين، نخشى أن تصل المياه ونحن غائبون، فنتأخر عن تعبئتها".

أمام هذا الواقع، تقول إيفا إن انتظار المياه أصبح الحالة اليومية الثابتة: "نعيش نصف حياة. نصفها الآخر نقضيه في ترقّب وصول المياه. لم نعد نخطط لأيّ شيء، كل شيءٍ مؤجّلٌ بانتظار نقطة ماء. فقدنا معنى الحياة الطبيعية".

الوجه القبيح للانتقال نحو الطاقة المتجدّدة في القطاع الزراعي شمال شرق سوريا

25 تشرين الثاني 2024
يركّز هذا المقال على التحوّل المُتسارع من استخدام الديزل إلى الطاقة الشمسية في القطاع الزراعي في شمال شرق سوريا، بشكلٍ خاص في الري. يحلّل المقال العواقب المحتملة لهذا التحوّل بالربط...

المعاناة التي يعيشها أهالي مدينة القامشلي من انقطاع المياه بشكلٍ متكرر، ليست أزمةً طارئة، بل إنها مشكلةٌ متجددة، تتفاقم خلال فصل الصيف، بحسب ما أوضحته بلدية الشعب في مدينة القامشلي، عبر بيانٍ نشرته في تموز/ يوليو 2025. وتلقي البلدية باللائمة على تقنين الكهرباء في محطات الضخّ، إلى جانب عدم انتظام التغذية الكهربائية، والقدرة المحدودة للضخّ، إلى جانب الاستخدام غير العادل للمياه.

هوزان طه عثمان، المقيم في حيّ قناة السويس، يصف صباحاته بأنها تبدأ دوماً بسؤالٍ واحد: "هل لدينا ماء؟ إن لم يكن؛ يتعكر مزاجي اليوم بأكمله. أصبحت المياه هي المحدد الرئيسيّ لبداية يومي".

ويتابع: "أعاني من حالةٍ نفسية صعبة، بتنا نبحث عن أية وسيلة للهروب من ضغط الأزمة".

ويشير هوزان هنا إلى أن أزمة المياه باتت حديث الشارع اليومي في القامشلي، فمن اضطرار أحدهم للذهاب إلى منزل أحد أقاربه للاستحمام، إلى لجوء آخر لمنزل جاره حتى يتمتع ببعض هواء التكييف البارد، لعجزه عن إيجاد الماء لتشغيل جهاز التكييف الصحراوي.

في معظم منازل مدينة القامشلي، باتت الأواني المعبّأة بالمياه مشهداً متكرراً، والاقتصاد في استعمال المياه استراتيجيةً موحدة لدى أهاليها. كما باتت الصهاريج التي تبيع المياه لأهالي المدينة جزءاً لا يتجزأ من زوايا شوارعها، وصوت محرّك الصهاريج معروفاً للصغير قبل الكبير.

أزمة المياه لم تعد مسألةً خدمية، بل أصبحت أزمة وجود، تختبر قدرة الناس على الاحتمال، وتتركهم في دائرةٍ لا تنتهي من القلق والضغط النفسي.

مقالات متعلقة

"حرقوا قلبي": عن أمهات سوريات غيّب الإعلام أحزانهن

23 تموز 2025
تظهر الأم السورية المفجوعة بفقدان أبنائها في وسائل الإعلام، باعتبارها قوية، جبارة، صامدة، صابرة...، أمٌّ لا يُحتفى بألمها بل بـ "دورها التعبوي"، لتُختزل إلى تمثالٍ صامت في مسرحٍ وطني، تتكلّم...
خلّونا الليلة تَ نقول للحزن ماله مطرح

18 شباط 2021
يغوص دلير يوسف في ذاكرته ويسرد في هذا النص الأغنيات التي كان يسمعها حين كان طفلًا في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، فيقول إنّ هذه الأغنيات جعلت المدينة أجمل وإنّ...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد