مع سقوط نظام الأسد وانسحاب الجيش السوري السابق وتفكّكه، بقيت دير الزور مقسّمةً بين مناطق تسيطر عليها (قوات سوريا الديمقراطية" (قسد" شرق نهر الفرات وأخرى غرب الفرات خضعت لسيطرة الحكم الجديد، وشهدت تدفّقاً جديداً لقوّاتٍ عسكرية وأمنية تابعة له، مُعظمها من ريف دير الزور في وقتٍ تعيش فيه المدينة دماراً طال أكثر من ثلثي بنيتها. ليس من السهل تحديد عدد الوافدين من الريف مقابل عدد السكان المُقيمين منذ العام 2011 مع اللاجئين العائدين من خارج البلاد، لكن مع سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٤ وتفكّك مؤسسات الدولة والأمن السابقين، برزت بين هذه المجموعات أشكالٌ جديدة من العلاقات.
في السابع من أيلول/ سبتمبر الجاري، خرج عددٌ من سكّان قرية الهري في ريف البوكمال في دير الزور وبدأوا قرع الطناجر في أجواء القرية تزامناً مع خسوف القمر. شارك في هذا الحدث عددٌ من سكان القرية بهدف إخافة كائنٍ أسطوريّ، وإجباره عبر ضجيج قرع الطناجر على التوقّف عن ابتلاع القمر ولفظ ما ابتلعه وفق معتقداتهم. استمرّ القرع حتى انتهاء الخسوف. في النهاية تراجع الكائن الأسطوري وأطلق سراح "قمرنا" وفق ما قالت لنا سعاد من القرية الواقعة شرق مدينة البوكمال على بعد خمسة كيلومترات من الحدود العراقية وأغلب سكانها من عشيرة الجغايفة التابعة لقبيلة الدليم العربية المُنتشرة في المنطقة منذ قرون.
متحف سجون داعش الافتراضي
07 تشرين الثاني 2024
عُمْر سعاد خمسةٌ وثلاثون عاماً، أنهت المرحلة الاعدادية وتزوّجت أحد الأقرباء الذي طلّقها بعد التحاقه بقوات المعارضة المسلحة أوائل العام 2012، بسبب التغيّر الكبير الذي أحدثه انخراطه في هذا المسار الجديد في حياته، فلم يعد لديه الوقت الكافي للالتزام بواجباته الأسرية وعلاقته الزوجية، كما أنّ ظروف الحرب والصراعات التي عاشها سببت له توتّراتٍ وضغوطاً أثّرت عليه نفسياً، ليغادر تاركاً وراءه طفلين في المدرسة اليوم.
تقول سعاد لنا: "نعرف أنّ خسوف القمر يحدث بسبب حركة الأرض حول الشمس. ولكن هناك من المشاركين في القرع من يعتقد، حتى اليوم، أن قرع الطناجر سوف يؤثر ويقنع الوحش الخرافيّ بالتوقّف عن ابتلاع القمر". تضحك سعاد وتقول عبر اتصالٍ مع سوريا ما انحكت: "القناعة تأتي من النتيجة: كلّما قرعنا الطناجر قلّ خسوف القمر. ولذلك، فالطريقة فعّالة".
لكن هذه الطقوس لا تخلو من مخاطر، إذ رافقها إطلاق نارٍ عشوائيّ أدّى لإصابة مدنيين في القرية (حوالي 12 ألف نسمة). وفق سعاد، كان الخسوف نفسه هو سبب إطلاق النار. "ككلّ السوريين أيّ شيء وأيّ حدث يستدعي إطلاق النار". تضيف الصبية أنّ السلاح منتشر في القرية كما في غالب مناطق محافظة دير الزور وتؤكد كلامها: "لا يكاد يمر يومٌ إلا ونسمع فيه عن جريمة قتلٍ أو سرقة في الدير ولا يقف الأمر هنا فقط.. نكاد لا نتحرك من بيوتنا بعد حلول الليل إلا للضرورات القصوى. الفوضى في الريف مخيفةٌ لنا نحن النساء".
من جهةٍ أخرى، يكشف اعتقال قوات الأمن العام في أيّار/ مايو الماضي لتاجر المخدرات المعروف في الهري "أحمد حسين العلي الجغيفي"، الملقب بـ (الحوت) مع عددٍ من أبنائه وأحفادهِ، وأفرادٍ من شبكة التهريب التي تديرها العائلة في البوكمال شرق دير الزور، عن تعقّد الوضع الأمني. صادرتْ قوات الأمن مستودع سلاحٍ يحوي أسلحة متنوعة.
ينتمي أهل الهري إلى ما يُطلق عليه أهل المدينة اسم "الشوايا". وهي التسمية التي تقول سعاد لسوريا ما انحكت، إنّها لا تزعجها ولا تسبّب لها ضيقاً بقدر ما تعتز بها. فهي في النهاية ابنة تلك البيئة المفضّلة بالنسبة لها عن بيئة المدينة الموحشة المزدحمة التي لا يعرف فيها أحدٌ أحداً، عكس قريتها حيث يتشارك الجميع في الحياة والطقوس والأحلام.
ينتمي أهل الهري إلى ما يُطلق عليه أهل المدينة اسم "الشوايا". وهي التسمية التي تقول سعاد لسوريا ما انحكت، إنّها لا تزعجها ولا تسبّب لها ضيقاً بقدر ما تعتز بها. فهي في النهاية ابنة تلك البيئة المفضّلة بالنسبة لها عن بيئة المدينة الموحشة المزدحمة التي لا يعرف فيها أحدٌ أحداً، عكس قريتها حيث يتشارك الجميع في الحياة والطقوس والأحلام.
وهناك عدّة رواياتٍ مُتداولة حول التسمية، يوضّحها في حديث مع سوريا ما انحكت، الباحث والناشط السياسي زهير السهو من دير الزور المُقيم في ألمانيا: "الأولى تُرجِع الاسم إلى كلمة (شاويو) الآرامية التي تعني المضياف كصفةٍ اشتهروا بها. والثانية تربطها بكلمة الشاة (الغنم) لأنهم اختصوا بتربيتها ولم يتقنوا غير هذه المهنة. وروايةٌ ثالثة ترى أنّ المصطلح يصف مرحلة تحضرهم التي أصبحوا فيها (أشياعاً) أو تابعين لمجتمعاتٍ مستقرة".
ويوضّح السيد السهو في مقال له: "أنّ المنطقة الشرقية من سوريا شهدت تشكّل هوياتٍ سكانية متميّزة خلال القرون الأخيرة. فإلى جانب البدو الرحّل الذين أصبحوا قلة، وسكان المدن (الحضر) العاملين في التجارة والصناعة والخدمات، برز (الشوايا). وقد انتشر لقب (شاوي) منذ منتصف القرن التاسع عشر للإشارة إلى من ينتمي إلى الريف في المناطق الشرقية، ولعمل هذه المجموعة القبلية بتربية المواشي (مثل الغنم والماعز)، تحول نمط حياتها ليقترب من (بدو نصف رحل) يعملون في الزراعة وتربية المواشي، منتقلين من حياة البادية إلى حياةٍ زراعية شبه مستقرة على أطراف الريف والمدن، خاصةً حول الفرات وروافده. وقد ازداد اهتمامهم بالتعليم كما غيرهم من السوريين، وتضم عائلاتهم نخباً مثقفة، رجالاً ونساءً".
تعدّدت أسماء دير الزور بشكل كبير، كما رصد ذلك مؤرّخها، الدكتور عبد القادر عياش، في كتابه "حضارة وادي الفرات، مدن فراتية - القسم السوري"، وأقدم أسمائها (برته) و(جديرته)، كما وردت في معجم البلدان باسم دير الرمّان، وعُرفت بـدير الشَّعار ودير العصافير. وأخيراً، أضيفت كلمة (الزور) إلى اسمها في التشكيلات الإدارية العثمانية عام 1864 لتمييزها عن مواضع أخرى تحمل اسم (دير).
الحيار: نساء العشائر يدفعن الثمن
05 نيسان 2024
"خليج سورية" هو لقب الدير بين السوريين. ليست البامياء ذات القرون الصغيرة العلامة الفارقة لها فقط، فهي تنتج القمح بمساحاتٍ واسعة والقطن، ولديها ثروةٌ حيوانية يعرفها تجار الخليج والعراق، متمثلةً بأغنام العواس التي تتميّز بجودة لحومها وإنتاجيتها العالية للحليب وقدرتها على التكيّف. أمّا النفط فكأنّ أمره يبقى سرّاً أو أنّ التحدّث عنه ممنوع، ويكتفي أهل الدير بالنظر إليه بحسرة وهو يغادر أراضيهم، فيما تغيب التنمية الحقيقية عنها تاركةً بعض قراها في عصر ما قبل النفط، فلا كهرباء ولا ماء ولا طرقات حتى العقد الثاني من القرن الحالي.
تذهب سعاد كلّ عدة أشهر إلى مدينة دير الزور لزيارة صديقاتها من عشيرتها المُقيمة هناك، يرافقها أخوها الكبير، مستخدمين سيارتهم الخاصة من نوع تويوتا مكشوفة تسمّى في المنطقة (الشاص)، عابرين عدداً من مدن وبلدات دير الزور الموزّعة على ضفاف نهر الفرات. قرب البوكمال تعبر السيارة جسر السويعة وتدخل البلدة الهادئة نسبياً. يعيش في البوكمال ما يقرب من 340 ألف نسمة (إحصائيات العام 2014)، وعلى الأرجح فإن العدد أكبر من ذلك نتيجة للنزوح من مناطق الجوار.
قبل حوالي عشرة كيلومتراتٍ من مدينة دير الزور، وعلى يسار الأوتوستراد، يقع مطار دير الزور العسكري والمدنيّ في الوقت نفسه. في الوقت الحالي يجري تأهيل المطار برعاية برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ. لا تظهر حركة طيران كثيرةٌ هذه الأيّام خلافاً لما كان الحال عليه سابقاً أيام النظام السابق حيث كان المطار موقعاً استراتيجياً أساسياً لنقل السلاح والأفراد والمواد المسروقة والقليل من البضائع إلى المدن الأخرى.
تدخل الصبية ومعها أخوها دير الزور مرتديةً لباسها التقليدي البدوي: غطاء رأس ملوّن وعباءة مع قليلٍ من حمرة الخدود وكثير من الكحل. لا تضطر الصبية لركوب أية عبّارة نهرية بحكم أن الطريق من بلدتها حتى مدينة دير الزور يقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات كما تشرح لنا. تدخل من شارع بور سعيد قبل المدينة بقليل باتجاه هدفها في حي الجورة ذي الطابع العشوائي. الأفراد القادمون من الضفة اليمنى للنهر يستخدمون عبّاراتٍ محلية الصنع تعمل على الديزل من أحد المعابر النهرية بعد انهيار جميع جسور الدير الستة على نهر الفرات، بما فيها أشهرها المعروف باسم الجسر المعلّق الذي بات علامةً للمدينة.
بُني جسر دير الزور المعلّق بين العامين 1927 و1929 خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان من قبل شركةٍ فرنسية اسمها Fougerolle (فوجيه رول) كانت تعمل تحت إدارة الجيش الفرنسي تلك الفترة. ربط الجسر المعلّق الذي كان مُخصّصاَ للمشاة بين ضفتي نهر الفرات في قلب المدينة، طوله 450 متراً وارتفاعه 36 متراً. أُنير لأوّل مرّة في أربعينيات القرن الماضي، وكان يُستعمل للمشاة والسيارات باتجاهٍ واحدٍ فقط، وبقي الحال هكذا حتى العام 1980 حين أوقفت الحكومة مرور السيارات فوق الجسر حفاظاً عليه، مع إنشاء جسرٍ آخر، بديلٌ مُخصّصٌ لعبور السيارات ليس بعيداً عنه، يُعرف باسم جسر السياسية بحكم وقوعه بجوار فرع الأمن السياسي سابقاً. تعرّض الجسر المعلّق في 2 أيار/ مايو 2013، إلى قصفٍ مدفعيّ أصاب الدعامة الثالثة التي تحمل الأسلاك المعدنية الأساسية له، مما أدى إلى انهياره الكامل، وسط تبادل اتهاماتٍ بين النظام السابق والمعارضة حول من قصفه. فيما تعرّض جسر السياسية للتدمير عام 2014.
يقول أحمد الغبرة، أحد تجّار سوق المقبي من أهالي الدير المدينة: "لم يمتلك أهل الريف كثيراً من المحلات في المدينة حتى العقد الماضي، حين أصبحوا يتدفقون ويتملّكون في البيوت والعقارات عموماً، وأصبحوا جزءاً من نسيج المدينة الاقتصادي. لم يتوقف الانتقال من الريف إلى المدينة منذ ذلك الحين، وبات مصحوباً بتغييرٍ في العادات والتقاليد والأجواء.. لم يعد في الدير ديريّين".
إلى ذلك، تفاقمت معاناة المدنيين في دير الزور بعد قطع الجسر الترابي الذي كان يربط بين ضفتي المدينة (الجزيرة) و(الشامية)، من قبل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد أقل من شهرٍ على سقوط النظام في ٢٤ كانون الأول/ ديسمبر، قبل أن تسهم جهودٌ محليةٌ في إعادة فتحه في مارس/آذار الماضي.
قبل أن تذهب سعاد إلى بيت أقربائها طلبت من أخيها القيام بجولةٍ في الأسواق التي بدأت تستعيد عافيتها بعد سقوط النظام. ينزل الشاب وأخته إلى مدخل سوق (المقبي)، أحد أقدم أسواق دير الزور، وقد أُنشئ أيام حكم العثمانيين عام 1865، ويضمّ عدة أقسام تجارية مثل محال العطارين والحدادة، وبالتأكيد الألبسة، وهي الأهم بالنسبة لسعاد.
في السوق، يصعب تمييز أهالي مدينة دير الزور عن الوافدين إليها من الريف لسببٍ بسيط، هو التشابه في اللباس واللهجة. في أحد جوانبها استطاعت الحداثة مسح الفروقات الشكلية بعدما صار غالبية الناس رجالاً ونساءً يرتدون ملابس أوروبية الطابع، ولكن بعضهم بقي على لباسه التقليدي (التلي عباءة النساء والدشداشة للرجال). أما الأحاديث المتبادلة بين الناس، فيكاد من الصعب التفريق فيها بين كلمةٍ وأخرى.
بعيدا عن عيون داعش.. التعليم سرًّا
16 تموز 2025
ولعل صعوبة التمييز هذه لم تعد فقط مجرّد مسألة تشابهٍ في اللباس واللهجة، بل نتيجةٌ حتمية لتحوّلٍ اقتصاديٍّ واجتماعيّ طويل الأمد. فلم يعد أهل الريف مجرّد وافدين إلى سوق المدينة كزبائن أو باعةٍ متجولين كما كانوا سابقاً. وربما يحدّد العام 2011 نقطة تحوّلٍ جوهرية في علاقتهم بالمدينة، بحكم تدفّقهم إليها، كنتيجةٍ لانطلاق العمليات العسكرية وتشكيل الكتائب المقاتلة ومنها جبهة النصرة. يقول أحمد الغبرة، أحد تجّار سوق المقبي من أهالي الدير المدينة: "لم يمتلك أهل الريف كثيراً من المحلات في المدينة حتى العقد الماضي، حين أصبحوا يتدفقون ويتملّكون في البيوت والعقارات عموماً، وأصبحوا جزءاً من نسيج المدينة الاقتصادي. لم يتوقف الانتقال من الريف إلى المدينة منذ ذلك الحين، وبات مصحوباً بتغييرٍ في العادات والتقاليد والأجواء.. لم يعد في الدير ديريّين"، على حد توصيفه.
تزايد هذا التدفق مع العمليات العسكرية في الريف والمدينة، وتوجّه اللاجئين نحو الجزء الآمن والواقع تحت سيطرة النظام السوري السابق (المدينة بشكل أساسي) وتحديداً باتجاه أحيائها العشوائية مثل حيّ الجورة.
بعد حوالي خمسة عشر عاماً على بدء الحراك وتسليحه وسقوط نظام الأسد، يوضح الصحفي عبد الله جديع، وهو من قدامى صحفيي الدير، أنّ الدير اليوم لا تشبه الدير قبل سقوط النظام ويوضح: "المحسوبيات العشائرية واضحة في التعيينات الإدارية، وهذا النهج تجاوز حدود الانقسام بين الريف والمدينة، وأثار انتقاداتٍ حتى داخل العشائر ذاتها. فوق ذلك هناك مئات المجموعات المسلحة في المحافظة لا تتبع لوزارة الدفاع أو الداخلية، أغلبها من الدفاع الوطني السابق أو جيش العشائر الذي كان تابعاً لإيران، وهم الآن يتحرّكون بحريةٍ تامة، أما الأجهزة الرسمية مثل الأمن العام والشرطة فلا تتحرك من أول اتصالٍ عند التبليغ عن جريمةٍ أو شجار، بل ينتظرون ثلاثة بلاغاتٍ عن الحادثة نفسها، والسبب كثرة البلاغات الكاذبة، ونقص الآليات، وانتشار السلاح. وحتى عند التحرّك، قد تصل الدورية بعد ساعةٍ على الأقل".
يشير الصحفي جديع إلى أنّ "الحماية الفعلية للبلدات تقبع في يد عناصر النظام السابق والميليشيات الإيرانية بعد انضمامهم إلى الأمن العام، مع تواجد بعض المهاجرين الذين يتبعون لوزارة الدفاع السورية قرب النهر مقابل مناطق قسد، وانتشار عناصر من تنظيم الدولة السابقين بين الأهالي بشكل مدني. باختصار: إنّ الوضع الأمني هنا سيء. قبل فترة أخبرني مواطنٌ ديري أنه شاهد بيت جيرانه يتعرض للسرقة تحت تهديد السلاح، لكنه لم يبلغ الشرطة لأنه يعرف أن اللصوص سينهون العملية قبل وصولها ولا يستطيع التدخل لأنه سيُقتل". ولم يتسنّ لحكاية ما انحكت التأكد من هذه المعلومات الميدانية.
يقول عضوٍ قديم في مجلس مدينة دير الزور، طلب عدم ذكر اسمه إنه "بدلاً من أن تعمل الإدارة المحلية على صياغة عقدٍ اجتماعيّ جديد يعترف بالواقع الديموغرافي الجديد وينظّمه، يتم التعامل معه من خلال المحسوبيات والولاءات العشائرية، مما يغذي الشعور بالتهميش لدى جميع الأطراف ويجعل من السهل إلقاء اللوم على (الآخر) سواء أكان وافداً أو من سكان المدينة القدامى بدلاً من مواجهة إخفاقات الحوكمة الحقيقية التي تمنع إعادة الإعمار وتعمق الأزمات اليومية للسكان".
لا يقف الأمر عند حدود ما سبق، ففي حزيران الماضي نشب شجارٌ بين بائعي خضار جوالين قرب (الكوخ) في منطقة الجبيلة بمدينة دير الزور وعناصر الشرطة بعد قرار نقل السوق الشعبي. وفي الشهر نفسه، أصدر عددٌ من مثقفي وناشطي الدير بياناً مفتوحاً للتوقيع عليه (570 شخصية حتى اليوم)، موجهاً إلى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، تحت عنوان "البيان الوطني لأبناء دير الزور"، طالب بإنهاء تهميش حضور الديريين في إدارة مدينتهم ومعالجة مظاهر الفساد، منتقدين انتشار المحسوبيات والتعيين على أساس الولاءات العشائرية، وداعين إلى تشكيل لجنةٍ رئاسيةٍ مستقلة تزور المحافظة وتستمع إلى مطالب الأهالي، مع إعادة هيكلة الإدارة المحلية على أساس الكفاءة.
في السياق نفسه، احتجّ موظفون ومثقفون من دير الزور على نية السلطة / المحافظة تحويل متحف دير الزور إلى مكاتب إدارية، معتبرين في رسالةٍ مماثلةٍ للرئيس الانتقالي أنّ الأمر لا يُمثّل مجرّد تغييرٍ وظيفيّ، بل هو طمسٌ للهوية الثقافية وتفريطٌ بإرثٍ إنسانيّ محليّ وعالمي، خاصة أنّ متحف الدير هو الوحيد في المنطقة، ويضمّ تاريخ تراث المحافظة منذ ما قبل التاريخ. علم حكاية ما انحكت عند التواصل مع عددٍ من المعنيين بإن المسألة حُلّت، وتم التوافق على بقاء المتحف على ما هو.
فكّ الاشتباك بين الطاقة المتجددة واستدامة المياه الجوفية في القطاع الزراعيّ شمال شرق سوريا
04 أيلول 2025
يروي أحد المغتربين العائدين إلى دير الزور لحكاية ما انحكت: "الشيء الذي يحزّ بقلبي، تفوت إلى مجمع التربوي تقول هذا العامل الذي كان بعثياً ينظم مسيرات مؤيدة ويمجد السيد الرئيس وهي القصص ترجع تلاقيه هو نفسه بنفس المكان. ألا تستحق الشباب اللي تهجرت تقعد بهالبلد؟ رجعنا لنفس الدوامة بعثني فلان ومشي الحال أو ما مشي الحال وهذا الوضع هو اللي خلاني أشعر أنه وقت السفر. أنا الذي لم يفكر بالسفر أبداً". ولعل تأكيد هذا المغترب ألا نذكر اسمه، يشي بالكثير، وكأن الزمنّ لم يتغيّر!
إضافة ًإلى ما سبق، ثمّة أزمة سكنٍ تعصف بالمدينة، إذ ارتفعت الإيجارات مع غياب خططٍ رسمية لإعادة الإعمار في المدينة المدمّرة بنسبة كبيرة، مترافقاً كذلك مع وضعٍ صحيٍّ سيء للمشافي التي تفتقر إلى الأجهزة والكوادر والأدوية في حدها الأدنى. يروى لنا الشاب محمد حويجة، وهو موظفٌ في مديرية التربية، أنه اضطر للذهاب إسعافياً إلى المشفى الوطني وهناك طلبوا منه شراء الحقن اللازمة له، مشيراً إلى تحويل العديد من الحالات إلى دمشق.
من جهةٍ أخرى، يرى الصحفي عبدالله أنّ "هذه الأزمات الخدمية - السكنية والصحية - ليست سوى عَرَضٍ لتحوّلٍ أعمق في بنية المدينة الاجتماعية والاقتصادية، فبعد عقودٍ من التهميش تحت حكم النظام السابق، وجد سكان الريف في سقوط النظام وانهيار مؤسساته فرصةً للمطالبة بحصةٍ في المدينة ومواردها". ويرى أنهم لم يعودوا قادمين كعمالةٍ رخيصة أو زبائن عابرين، بل كقوةٍ اقتصادية فاعلة تمتلك رأس مالٍ اكتسبته خلال سنوات الثورة وتستثمر في العقارات والتجارة، مما أعاد تشكيل المشهد الاقتصادي والاجتماعي للمدينة ووسّع من هوامش المنافسة على الموارد الشحيحة أصلاً.
هذا الانزياح السكاني كان له أن يكون فرصةً تاريخية للاندماج والتعايش تحت مظلّة حكمٍ فعّال وخدميّ، إلا أنّ غياب الدولة والمؤسسات، حوّلا هذا التحوّل الطبيعي إلى بؤرةٍ للتوتّر والاحتكاك، وفق قول عضوٍ قديم في مجلس مدينة دير الزور، طلب عدم ذكر اسمه إذ "بدلاً من أن تعمل الإدارة المحلية على صياغة عقدٍ اجتماعيّ جديد يعترف بالواقع الديموغرافي الجديد وينظّمه، يتم التعامل معه من خلال المحسوبيات والولاءات العشائرية، مما يغذي الشعور بالتهميش لدى جميع الأطراف ويجعل من السهل إلقاء اللوم على (الآخر) سواء أكان وافداً أو من سكان المدينة القدامى بدلاً من مواجهة إخفاقات الحوكمة الحقيقية التي تمنع إعادة الإعمار وتعمق الأزمات اليومية للسكان".
في (11 أيلول)، بدأت حملة "دير العزّ" الهادفة إلى جمع أموالٍ لإعادة الإعمار في المحافظة، وقد انتهت الحملة بجمع مبلغ 25 مليون دولار. ولا يُعرف بالضبط من هي الجهة التي سوف تتولى إدارتها. حضرت سعاد هذه الفعالية من وراء شاشة التلفزيون المربوطة ببطاريةٍ موصولة إلى ألواح الطاقة الشمسية، لأنّ وضع الكهرباء لم يتحسّن كثيراً منذ سقوط النظام. تبرّعت سعاد للحملة بمبلغ مئة دولار أميركي من دون أن تعلن عن اسمها على شاشة العرض.
في تلك الليلة لم يكن هناك خسوف في السماء..








