شلبية إبراهيم، كان يا ما كان في الفن والحب اللي كان


سيدة عادية، بزيٍّ "بلدي" عادي، لكن بروحٍ غير عادية. والمأمول أن يفضي هذا الحوار في تجميعه إلى تشكيل صورة متباينة الظلال والدلالات عنها، كما هي: فنانة صادقة، وفنها ينتمي إلى الإنسان.

08 أيار 2024

محي الدين ملك

فنان تشكيلي سوري، أقام العديد من المعارض داخل وخارج سوريا، يهتم ويكتب عن الفن التشكيلي.

عالم من السحر والخيال وغرائب الإنس والجان والحيوان والطير وعجائب الزمان والمكان، يتشكل بخطوط غير محدودة، وحسٍّ ممتدٍ على حافة اللانهائي. تلك، هي العوالم الفنية الساطعة والنقية والنظيفة، تسيل بإبداع وعفوية أصيلة على مساحة اللوحة. فيها ملامح الناس وروح العامة والشعور المشترك ووَجْدٌ بالمكان -مرتع الطفولة- الذي يخرج من القلب باستمرار.

عن شلبية إبراهيم - المرأة: صنيعة التاريخ والتراث والنيل. وحين استقر بها المقام، في دمشق، ظلت أشواقها متصلة بين هنا وهناك، وبلا انتهاء.

تحكي بعفوية كأنها في فجرها الأول، وببساطة حد البراءة، وبحقيقية تماماً، ومتخيلة تماماً، كأنها آتية من عالم مسحور حقاً. أسمع كلامها الذي يتفتح ويزدهر، حينما تأتي على ذكر رفيق قلبها ودربها الفنان "نذير نبعة"، فأجد أشواقها، مثل نزوع النظرة، تذهب إلى الأفق البعيد الممدود. وأتأمل لوحاتها، فأجدها الحنين إلى عالم كان مليئاً، وقد خلا رويداً رويداً.

والآن نحن هنا على سطح منزلها في حي الروضة، وبجوار بردى الشاحب نتحاور. وخطوة بعد خطوة يسجو الليل، وتختفي السماء بغيومها المجوفة في الفراغ الموحش. وحدها الخيوط الملونة البعيدة تتسلل إلى كلماتها (باللهجة المصرية).

سيدة عادية، بزيٍّ "بلدي" عادي، لكن بروحٍ غير عادية. والمأمول أن يفضي هذا الحوار في تجميعه إلى تشكيل صورة متباينة الظلال والدلالات عنها، كما هي: فنانة صادقة، وفنها ينتمي إلى الإنسان.

أريد أن أبدأ من هذه البداية الطريفة، أي رؤيتك للشيخ الأكبر "ابن عربي"، ما قصة هذا التَّشوف أو الرؤيا؟

لم تكن رؤيا، بل رأيته في الحقيقة.

منذ ١٥ سنة قبل مجيئي إلى الشام، سنة ١٩٦٨، وأنا أرسم ابن عربي. لكنه لم يظهر بالشفافية التي رأيته فيها. كنتُ دائماً أذهب إلى السوق القريب من مسجده، عبر البساتين والأشجار التي كانت تغطي المساحة الممتدة من حي الروضة وإلى حي الشيخ ابن عربي. وذات يوم، بينما أُكلّمه بيني وبين نفسي، وخيالي "جامد" (باللهجة المصرية - أي حاضر بقوة)، نظرت نحو الطاحونة الموجودة في تلك البقعة، فرأيت رجلاً بلباس ملاك، بل أقرب إلى ملاك.. ملاك.. ملاك (تكرر بدهشة)، وهو يمتطي حصاناً أبيض اللون، والمسافة بيننا لا تتعدى أمتاراً، ولمَّا حاولت الاقتراب منه، ابتعد ثم اختفى.

عندما عدت إلى البيت، رويت الحكاية لزوجي نذير، قلت له: لم أستح من الرجل/ الملاك، بل من نظرات الحصان. تعجب نذير، وقال: "كان ضارب دماغك ولا إيه؟!". نذير يعرف إحساسي.

حاولت أن أرسمه بتلك الشفافية والرقة والحس الطيب الجميل. كان يلبس أبيض على أبيض. هو ليس بالطويل، ولون شعرهِ أحمرَ، مثل لون الحناء. الحصان جعلني أستحي، فمضيت في حال سبيلي. كان الشيخ ابن عربي ملاكاً.

بعد ذلك، قررت زيارة مقامه، لأسأله: رأيتك يا شيخ، فلما لا تظهر لي مرة أخرى؟!

رسمته كثيراً، لأنني أريده بالخيال والحلم والشفافية التي رأيته فيها أول مرة. صحيح أنني فشلت.. وفشلت، لكنني في النهاية سأرسمه كما رأيته. ربما من سحر جماله أضعته. أريد أن أرسمه كما شاهدته: ملاك شفاف. ولدي قدرة كبيرة في رسم الحصان، لكنني ما زلت عاجزة عن رسم روح ابن عربي.

هو، بالنسبة لي "حاجة مش زي أي حاجة". لقد قال: "معبودكم تحت قدمي"، وكان يقصد المال. وإلى اليوم لم أستطع أن أفهم سر نظرات الحصان الذي يشبه الإنسان.

ثم صار ابن عربي يأتيني في المنام، باستمرار.

من لوحات شلبية إبراهيم.

جميل. الآن، لو تُقدِّمي نفسك بأسلوبك وعلى طريقتك؟

أنا من دلتا النيل، أول بقعة سكنها الفراعنة، من بلد اسمها "مَنوف"، وتحديداً من قرية "جَزَيَّ"، وسميت بهذا الاسم لأنها داخلة في نهر النيل على شكل جزيرة.

مكان جميل، حِتّة من الجنة، ومشهور بحكايات الجن. عندما كنا صغاراً كانوا يقولون لنا: "لا تروحوا للنيل لأن فيه المسحور"، بقصد تخويفنا. هذه الحكايات ظاهرة في رسوماتي.

كان لدي أب طيب، وجميل جداً، لا يُفرِّق بين الصبي والصَبيّة، لذلك كنتُ جريئة، وكنت دائماً أذهب إلى النيل لأرى الجنية أو المسحورة.

وعندما أتيت وسكنت الشام، عشقت الشيخ ابن عربي، وأحببت الحي المُسمى باسمه.

كذلك في منطقتي، الدلتا المصرية، توجد حكايات مشابهة: الشيخ المَعَدَّاوي، أي الذي يًعدِّل ويتحكم بحركة مياه النيل، وغيره.

قريتي جميلة جداً، والناس فيها يحبون بعضهم البعض. كلهم أسرة واحدة. والموهبة تُكتسب من الناس.

كنا نلعب عند الغيضة  (البستان). وفي ليالي القرية، نجلس، نحن الصغار، على المسطبة، ونستمع إلى والدي وهو يحكي قصة "عنترة"، و"زيناتي خليفة" وقصص الجنية التي تأخذ الأطفال إلى قاع النيل، فنتخيل وكأن قاع النهر أشبه بالجنة، فيها ما طاب من الأكلات والحلويات.

إلى اليوم أحب بلدتي، رغم غيابي الطويل، وقد بلغ ٢٥ سنة، أي منذ وفاة والديَّ.

كنت ترسمين أيام الطفولة؟

أيوا، كنتُ أصنع الرسوم على شاطئ النيل، من رملها…

رشا عمران: بلاد تطردك لا يمكن أن تكون وطناً

21 آذار 2024
في هذا الحوار نسأل رشا عمران عن علاقتها مع فكرة المنفى وخيانات الجسد والمحطات التي تعتبرها الأهم في حياتها.

ومتى رسمت على الورق أو القماش؟

عندما تعرَّفت على زوجي نذير. ذات يوم جاء بكمية من الورق والأقلام والألوان، ليرسم عليها إحدى مشاريع الكلية، وأثناء غيابه قمت بالرسم على تلك الأوراق، وبتلك الألوان. عندما رأى نذير ما فعلت، دُهش وتعجَّب. ثم أخذ هذه المجموعة من الرسومات وعَرَضَها على أستاذه عبد العزيز درويش.

سنتحدث عن هذه القصة بعد قليل.

... ثم، مع الأيام بدأت أرسم مناماتي التي تشبه الواقع بعناصرها، أي مثلاً، الورد في المنام هو الورد في الواقع تماماً، وهكذا… ثم مللت من الورق، فبدأ نذير يشتري القماش لأرسم عليه.

أذكر أن مجموعة صديقات أوروبيات، أصبحن لاحقاً زوجات لأصدقاء أمثال عدلي رزق الله وجورج البهجوري، كانوا حين يزورون مصر، يأتون إلى زيارتنا ويقتنون لوحاتي قبل لوحاتهم.

حدثيني عن الحب الذي جمعك برفيق دربك وزوجك الفنان السوري الراحل نذير نبعة؟

بالنسبة لي، لم أر أجمل وأطيب من نذير. رجل عظيم ومحترم. يحترم المرأة من هنا (تشير إلى العقل)، يتعامل مع المرأة إلى درجة تشعرها بالأمان التام، كأنه يقول: طالما عندك الشخصية والقوة، دافعي عن نفسك بنفسك.

تعرفت عليه عن طريق ابن خالي، الفنان محمد حِجْ، أثناء دراستهما في كلية الفنون بالقاهرة، وكانوا يسكنون في منطقة "سيدي الحسين"، وهي منطقة تشبه دمشق القديمة. رأيت نذير أول مرة في بيت خالي، أثناء زيارته له. بدا الأمر طبيعياً أول مرة، ثم سأل عني، وطلب من ابن خالي أن يقوما بزيارتنا في المنوفية، وفعلاً هذا ما حدث.

نذير أحبّ المكان جداً، وأحبّ النيل. وحدث أن قلت له: شَعْري في الخريف بلون وفي الربيع بلون آخر، فصار يضحك، ثم قال لي: أنا معجب بك جداً، أنت لا تشبهين أحد. قلت له: يعني حتتجوزني؟ أجاب: وليه لا؟ بعد أسبوع تزوجنا. هذه هي حكاية حُبّنا.

بعد الزواج سكنَّا في إمبابة، وهي منطقة سكنية أُنشئت أيام جمال عبد الناصر، وصار المكان ملتقى للأصدقاء: الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ومحمد علي (عازف الطبلة مع الشيخ إمام) وحجازي الرسام ومحيي اللَّبَّاد وعدلي رزق الله وليلى نصير (فنانة سورية)... شباب أيام الزمن الجميل. حين كانت الحياة أفضل من حياة اليوم.

يذكِّرني كلامك بكلام قاله نذير: "هذه القرابة بين الفنان والمرأة هي التي شدّتني إلى موضوع المرأة. المرأة لا تعني امرأة معينة... بل التي تسمو لتصبح المدينة أحياناً. بهذه الشمولية أنظر إليها، وأرسمها من الذاكرة، وجماليّاتها تختلط بجماليات "عشتروت"، و"ست الحُسن" الموجودة في ألف ليلة وليلة، وحكايا الجدّات".

ياااا سلام! هذا هو نذير. نذير راجل مابيتعوّضش.

من لوحات شلبية إبراهيم.

جميل. لنقف عند هذه القصة، والكلام لـ "نذير" يوم كان طالباً في القاهرة في الستينيات، وبعد أن تعرَّف عليك، يقول إنه عرض رسوماتك على أستاذه الفنان المصري المرحوم عبد العزيز درويش، وبعد رؤيته لرسوماتك، قال: العم ماتيس (يقصد الفنان هنري ماتيس) كان عاوز يعمل كده. إنت يا نبعة عايز تبوظ الحاجات الجميلة دي بالأكاديمية بتاعة أهلك.

لاقى جواب درويش صدى في نفس نبعة، وقال حينها: "لم تكن الأكاديمية (بتاعة أهلي ولا أهله..، بل كانت بتاعة الغرب) الذين نقلنا عنهم وقلَّدناهم..". كان هدفه أن تدخلي كلية الفنون، القسم الحر. ما رأيك بحديث درويش ونذير؟

(تضحك) نعم، هذا ما جرى. هل تعلم عندما أرسم أدخل في عزلة، وكأنني في الجنة، وأبدأ بالغَرفِ منها. لا أحس بالعالم المادي والحسي، أنا في عالم اللون والورق و/أو القماشة. أحياناً أفكر بأيامنا الجميلة، أنا ونذير. أفكر به كثيراً، وبأخلاقه ومعاملته. وأفكر كم أحبَّ الناس. عندما تحب نفسك بصدق فلا بد أن تحبّ الدنيا كلها.

فعلاً هو كما وصفتِ. حسناً، بعد أن أنهى الأستاذ نذير دراسته في القاهرة، عدتما إلى سوريا. التحق هو بسلك التدريس في دير الزور. كيف وجدت المكان؟ صحراء ونهر؟ هل اختلف الأمر عليك نفسياً وفنياً؟

نعم، بقينا سنتين. ولن أكذب عليك إن قلت إنني أحببت دير الزور أكثر من الشام. هل لأن فيها الفرات شبيه النيل؟ لا أعرف. وأحببت ناسها جداً.

رسمتِ هناك؟

هدفي كان الاستمتاع بالمكان. لم أرسم إلا قليلاً، وعلى الورق، لأن وقتها لم نكن نملك الكثير من المال.

في السبعينيات، سافر نذير إلى باريس للدراسة، وكنتِ برفقته. قيل أنه انصدم من واقع الفن هناك، فصار يقرأ لابن عربي ليكون بإمكانه التَّخَيُّل واستحضار الصور المُتخفّية في الذاكرة البعيدة، وقد نجح، والدليل هو مشروع تخرجه المدهش.

نعم، انصدم بالمدارس الفنية، ونجح. كان يحب ابن عربي، ويقرأ كتبه. ثم لا تنسَ معرضه "التجليات"، كان من وحي تلك الحالة العرفانية.

في مقابلة مرئية معه، قال: حاولت أن أكون شاعراً وفشلت، ثم وجدت نفسي رساماً، والإنسان العربي شاعر قبل أن يكون أي شيء آخر، فالعربي يبدأ التعبير بالكلمة، لذلك كان الفنان الأول في القبيلة شاعراً. ما رأيك؟

كل شيء كان نذير يقوله، كنت، من قلبي، أوافق عليه. لأنه صادق.

للفنان السوري التعبيري مروان قصاب باشي دور في حياتك الفنية. كيف؟

نعم، تعرفت على مَرَوان (بفتح الميم والراء في اللهجة المصرية) عام ١٩٦٨، حينها أقمت معرضي في المركز الثقافي في حي أبي رمانة، وكان عفيف بهنسي هو المسؤول عن المركز، وكان ضد المصريين وضد المعرض، لكن عندما زار المعرض وفدٌ من السفارة الفرنسية، صار بهنسي يدعمني. تعجبتُ من تصرفه: كيف لأجنبي يقوم بدعمي وهو لا. طبعاً أراد أن يظهر أمامهم بمظهر الراعي والمهتم. حقيقة، غضبتُ منه.

المهم، قبل انتهاء المعرض قررنا (أنا ونذير) السفر إلى مصر، فطلب نذير من صديقنا الفنان عبد القادر أرناؤوط أن يحتفظ بلوحات المعرض في منزله بعد انتهاء العرض، إلى حين عودتنا من مصر. وهذا ما حدث.

خلال هذه الفترة، أتي مروان في زيارة إلى سوريا من ألمانيا، والتقى بعبد القادر في منزله. طبعاً أنا لا أعرف مروان، ولم ألتق به في يوم من الأيام، لكنه كان صديقاً لنذير، ورأى لوحاتي، فسأل: لمن هذه؟ فأجاب عبد القادر: لشلبية ابراهيم، زوجة نذير، وهي مصرية..

بعد عودتنا من مصر، قام مروان بزيارتنا، ومن يومها أصبحنا أصدقاء. كان يرسمني كثيراً، وأقام لرسوماتي معارض عدة في ألمانيا.

هالة العبدالله: معياري الوحيد هو الحريّة

05 أيار 2021
في هذا الملف الصغير الذي أعددناه عن المخرجة السوريّة هالة العبدالله، نحاورها في الإخراج السينمائي وفي العمل النضالي ضد نظام الأسد ونحكي عن علاقتها بالثقافة وعن علاقتها بسوريا، كما نرفق...

أيضاً، الكاتب زكريا تامر كتب عن رسوماتك: "ماذا تريد أن تقول في رسومها؟ من الحماقة أن نسأل القمر (يقصدك): ماذا تريد أن تقول في ليلة تتلألأ". ما رأيك؟

زكريا يفهمني، ويعرف رسوماتي بشكل جيد. زكريا عِشْرَة عمر كمان. وقمت برسم الكثير من الرسوم للقصص التي كان يكتبها للأطفال.

تعتقدين أن رسومك عبارة عن وثيقة وتوثيق للتراث الشعبي والفلكلور وحكايا الجان والجدات والسِّيَر والملاحم، والنيل، يعني، بالمجمل، الماضي الحي والمخزون المتواتر للذاكرة الشعبية الشفاهية؟

نعم. منذ صغري كان النيل والجن، والمسحور-الحبيب الذي كنا نعتقد أنه يغوي أجمل طفل في القرية، ويسحبه إلى قاع النيل، حيث قصره. كان حلمنا أن ننزل النيل لنرى القصر. طبعاً، هكذا كنا نظن، أي لا قصر، ولا شيء من هذا القبيل، بل أحلام الطفل.

لماذا يعتبر البعض أن الفن الشعبي بسيط، ولا شأن له بالفنية والجمالية، كما في المدارس المعروفة؟

أرى أن في الخيال أشياء راقية، ومن يتهم الفن الشعبي لا يستطيع أن يصل إلى تلك المنطقة، لذا يعتقد البعض أنه فن بسيط. لا، الفن الشعبي ليس بالبسيط، وحكمهم ليس صحيحاً. الفنان الشعبي يعجن عالماً في داخله. 

أفهم من كلامك أن الفن الشعبي يستطيع أن يصمد أمام الثقافة المستهلكة؟

نعم. كان نذير معجباً جداً برسوماتي، وكذلك مروان، حيث كان يقول لي، وباستمرار: أنا أتعلم منك يا شلبية. أتعرف لماذا كان يقول لي هذا الكلام؟ لأن ألوانه حزينة، بينما كان يجد الفرح في ألواني.

عندما أرسم، لا أرى ما أرسمه. أقضي أربعة أو خمسة أشهر غائبة عن العالم الخارجي، كأنني أخذ من نفسي، والخيال يقودني. وعندما أنتهي من مجموعتي في أيام، أتأملها وأسأل: أنا الي عملت كِدَه؟! لا أصدق أنني مَنْ قامت برسم هذه الرسومات.

الفن الشعبي فن جمالي جمعي، لا فردي، ولا يعرف القواعد الأكاديمية. والحس الجمالي عندك فطريٌّ، وعلى السجية، كيف لم يتأثر خيالك وحسك الجمالي بالتقاليد السائدة؟

لأنني أحترم عالمي الداخلي، ولأنني، مثلاً، أنبهر بأعمال نذير، ولكن لا علاقة لي بأعماله، ولا أتأثر به. فقط أقوم بدور المتلقي بشكل حيادي وجيد.

يعني، لك عالمك الخاص؟

نعم، عالم ليّنٌ وخياليٌّ، يخصني وحدي.

بمن تأثرت من الفنانين الشعبيين المصريين؟

أبداً.

وماذا عن رسام الكاريكاتوري والفنان العالمي المصري جورج البهجوري (تولد ١٩٣٢)؟

لا، لم أتأثر به. له عالمه ولي عالمي. لكن نحنا ولاد بلد واحد. كان صديقاً لنذير، وحضرنا معرضه في باريس، ورسمني كثيراً. الحقيقة أحب أعماله كثيراً، وأراه فناناً كبيراً. حب الناس نعمة.

لديك حرية تعبير مدهشة لرسم الأجساد وحركات الأيدي والأرجل، وصياغة عناصر التصميم بأسلوبك الخاص.

عالمي هو الذي يرسم نفسه بنفسه. الفن هو خط وحس. 

يكثر الحصان والطيور والقمر بجوار الإنسان. ما السبب؟

الحصان رمز الحبيب، بهذا الشكل أرسمه، وخلع نعاله دليل الحرية.

ما رأيك بتجربة الفنان الشعبي السوري أبو صبحي التيناوي؟

يا عيني! هو عندي عبقري الحكاية الشعبية.

تعرفينه بشكل شخصي؟

طبعاً، كنا، أنا وزكريا تامر، نزوره دائماً في محلِّه في الشام القديمة.

متى؟

أوّل السبعينيات. واشتريت منه عدداً من اللوحات. وقتها، كانت الواحدة بمئة ليرة سورية تقريباً.

هل تأثرت، فنياً، بأحداث المنطقة والحرب السورية؟

شعرت بفظاعة ما جرى من إجرام وقتل وتشويه وخراب، وقررت أن أرسم وقائع هذا الحال، لكنني لم أستطع. في الواقع أرى العالم المدَمَّر بعيني، ولا أراه من داخلي. حاولت، فرسمت وجوهاً مشوهة، ونظرات متألمة، وكانت النتيجة هي رؤية مختلفة عن الدمار. بالمختصر: لا تخرج القسوة من داخلي. عند الرسم أجدني في عالم مختلف: عالم الخيال والحس، وعندما أنتهي من هناك، أعود إلى الواقع. لا أعرف كيف أشرح هذا الموضوع، يبدو لي أن عالم الخير عندي أكبر من عالم الشر.

حسيبة عبد الرحمن: بقيت في سوريا كي لا يُقال أنّ أهل كفرسوسة طردوا الأقليّات

12 تشرين الأول 2021
إنّها حسيبة التي ما إن يُنطق اسمها أو يلفظ في مجلس ما أو يشار إليها، حتى تتلفت الرقاب نحوها بتقدير ناجم عن احترام كبير وجليل لامرأة يعرف كلّ من عرفها...

كيف تنظرين إلى الفن العربي، عموماً، والفن المصري والسوري، بوجه خاص؟

لا أريد ان أحكم على فن أحد.

أعني بصورة عامة.

كل الفن انضرب. والإنسان نفسه انضرب من الوضع الذي هو فيه.

لازلت تتمتعين بالنشاط والقوة والحيوية رغم بلوغك سن الثمانين.

لا، عمري الآن عشرين من الداخل (تضحك).

جميل، لكن ما سر هذا الشعور؟ وما هي العِبَر المستوحاة من الحياة؟

كنت أقول لنذير: كل يوم أولد من جديد. هذه هي الكارثة، لذلك، ليس عندي حساب للعمر. العمر يعني أن أكون صادقة، وأُحبُ الناس ويحبونني. هذا هو العمر، بعد ذلك، لا أعرف ما سيحدث.

العبرة هي أن أنسى الأشياء السيئة والقبيحة وأتذكّر الأشياء الحلوة والجميلة. أنا من النوع الذي لم / ولا يحمل الشر في نفسه.

كلامك يُذَكِّرني بلوحة "سيزيف" لنذير. لقد لخَّص حياة الإنسان التي تشبه "سيزيف" في عذاباته وضياعه، واللاجدوى. يقول: هو نفسه الإنسان المعاصر الذي يحمل حملاً ويسقط منه.. هذا العذاب الأبدي، هو الرابط بين الإنسان المعاصر وسيزيف القديم، الذي أُجبر على القيام بمهمة وهو يعلم أنها لن تنتهي ولا جدوى منها، يمثل الكفاح المرير والفشل الأبدي، وهذه الرمزية أُسقطتُّ على الإنسان الذي يكدُّ ويشقى دون نتيجة. هل تفكرين اليوم بمثل ما كان يفكر به نبعة بالأمس؟

الوضع الذي نحن فيه اليوم أسوأ بكثير مما قاله نذير. بمعنى، هناك من لا يجد طعاماً يقدِّمه لأولاده. وهذا قمة المأساة.

عندما أتيت إلى سوريا في الستينيات، رأيتها جنة، واليوم صارت كالجحيم.

وربِّنا ينجّي غزة، وينجّي المنطقة كُلّها، كمان. ويعود الناس زي ما كانوا.

مقالات متعلقة

لويز عبد الكريم: الهويّة التي حطمها المنفى

01 أيار 2024
"حين تركت الشام، شعرت أنّ روحي انشلعت" هذا ما تقوله لويز عبد الكريم التي ترفض أن تُعرّف نفسها كممثلة اليوم، ومع ذلك هي لا تفكر بالعودة إلى البلد، لأنّ "سوريا...
يعرب العيسى... عن "المئذنة البيضاء" ودمشق والزمن والأدب

17 أيار 2023
"لأن الحكاية جزء أساسي من العقل البشري، وعلاقته بالعالم" من جهة، ولأن "الإنسان بحاجة إلى وهم" ومن جهة ثانية، حيث "لا تستمر الحياة بلا أوهام".. اختار الكاتب يعرب العيسى خوض...
حوار غير منشور سابقًا مع الأب باولو

29 تموز 2022
في نهايات العام 2012 التقى وسيم حسن بالأب باولو على هامش أحد مؤتمرات المعارضة وسجّل معه حوارًا صحفيًا لم يعرف طريقه إلى النشر كاملًا حتى اليوم، علمًا إنّ بعض أجزائه...
أمل عمران: "سوف أعلمكم التمثيل"

18 آذار 2022
يعتبر السينمائي والمخرج إياس المقداد، فيلم "صندوق الدنيا" للمخرج السوري، أسامة محمد، واحدًا من أكثر الأفلام استثنائيّة ونضجًا في التجربة السينمائيّة السوريّة. وفي سعيه للبحث عن آثار الفيلم، قرّر إجراء...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد