نظرة على تجربة النوادي السينمائية السورية.. منذ نادي دمشق السينمائي في الخمسينيات، وحتى لحظة الانعتاق من النظام


"عند السؤال حول ضرورة النوادي السينمائية في الحياة الثقافية المعاصرة تبرز الإجابة من الفعل الثقافي نفسه، فمشاهدة الأفلام في الصالات السينمائية التقليدية لا توفر تلك الحميمية ولا ذاك الانفتاح على النقاش والتحليل، الموجودين في الأندية السينمائية. كما أن النقاش الذي يصاحب عرض الأفلام، واستضافة صناعها، يضاعفان الجرعة المعرفية ويساهمان في خلق جمهورٍ ذي حسٍّ جماليّ وفكريّ أعلى"، يقول إياس المقداد، صانع الأفلام وكاتب هذه المادة، عن تجربة الأندية السينمائية في سوريا، تاريخياً، منذ نشأة نادي دمشق السينمائي في الخمسينيات، مروراً بفترة حكم الأسدين، والنشاط المكثف الذي شهدته هذه النوادي بعد سقوط نظام بشار الأسد.

15 تشرين الأول 2025

إياس المقداد

سينمائي ومسرحي سوري، خريج المعهد العالي للفنون المسرحية قسم الباليه دمشق- سوريا 2005، حاصل على درجة الماجستير في الفنون السمعية البصيرة من جامعة الآب لوقا بروكسيل- بلجيكا 2013، ماجستير في صناعة الفيلم من الأكاديمية الملكية للفنون في جينت 2019 - 2021 . مصمم رقص وصانع أفلام يركز في عمله على التجريب كمنهج وأسلوب عمل للبحث في أشكال الفن المعاصر في السينما وفنون الأداء.

لم يكن سقوط نظام الأسد حدثاً عادياً، بل محطةٌ تاريخية أنهت مرحلةً داميةً طويلة، وفتحت الباب لمرحلةٍ جديدة لا تقل قسوةً وتعقيداً. بالنسبة لي، كان التفكير بالعودة إلى سوريا بعد انقطاعٍ قسريّ دام أربعة عشر عاماً ضرورةً تمليها مركّبات الحنين والانتماء إلى وطنٍ لم نختره، بل ابتُلينا به.

حملتُ معي في رحلة العودة شوقاً وأشرطةً سينمائية أنجزتها في سنوات المنفى، دون أن تكون لديّ أية فكرةٍ واضحة عن المكان الذي سأعرضها فيه. كان الأمر مجرد رغبةٍ في مشاركة ما عملتُ عليه مع أبناء الوطن الذين عاشوا الثورة والحرب في الداخل. وصلت إلى محافظة درعا في الثالث من يناير/ كانون الثاني 2025 عبر المنفذ الجنوبي الأردني، قبل أن تقودني السينما إلى رحلةٍ نحو دمشق وحلب.

وفقاً لنظرية العالم الصغير لستانلي ميلغرام، يكفي عددٌ محدود من الروابط للوصول إلى أي فردٍ في العالم. وقد انعكس هذا المفهوم في تجربتي، إذ قادتني دوائر الأصدقاء الضيقة في دمشق إلى شبكة من العلاقات الثقافية: فبفضل الممثلة حنان شقير، التقيت بناصر منذر مؤسس نادي جرمانا السينمائي، الذي فتح أبوابه لعرض مجموعةٍ من أفلامي. كما ساعدتني الصحفية براء صليبي في التواصل مع الدكتور أحمد حسن، مدير نادي أبو رمانة السينمائي. وفي الوقت ذاته، وصل صدى الإعلان عن العروض في دمشق إلى حلب، حيث بادرت نتالي بحادي مديرة تجمع "كراسي"، للتواصل معي لتقديم بعض أفلامي لجمهور المدينة.

في اللحظة التي عدت فيها كانت الدولة قد تلاشت، وتبخرت الوزارات الثقافية وغيرها من المؤسسات الرسمية. وفي ظل هذا الفراغ، برزت أهمية المبادرات المستقلة، لتأخذ النوادي السينمائية دوراً تعويضياً عن غياب الفعل الثقافي الحكومي، ولتؤكد أن الثقافة كانت دوماً فعلاً نابعاً من حاجة المجتمع للتعبير عن ذاته.

لمحة تاريخية عن نشأة النوادي السينمائية

بدأ تأسيس النوادي السينمائية في ثلاثينيات القرن العشرين كرد فعلٍ على سيطرة المنتجين والموزعين وملّاك صالات العرض على الفن السينمائي. منذ اختراع السينما لاحظ صنّاعها التأثير الكبير لهذا الوسيط على وعي الناس، وأدركوا القيمة التجارية لهذه الصناعة. ظهور السينما التجارية، التي تنزع إلى الترفيه، والسينما الموجهة والدعائية (البروبغاندا)، الهادفة إلى التضليل وتوجيه الرأي العام سياسياً واجتماعياً، حدّ من انتشار وتأثير الأفلام ذات النزعة الفنية الفكرية والمعرفية، أي تلك الأفلام المشغولة بهموم البشر والبحث عن الحقيقة.

الأفلام السوريّة.. هل تُنتج لجمهور غربي؟ وهل يشاهدها السوريون/ات؟

03 تشرين الأول 2024
ما هو الفيلم السوري؟ كيف يتم إنتاجه؟ وهل يتم إنتاج الأفلام السوريّة لجمهور غربي؟ وهل يمكن الحديث عن موجة سينمائية جديدة في سوريا؟ هذه الأسئلة وغيرها تعالجها هذه الدراسة.

كل ما سبق، دفع الشغوفين بالفن السينمائي إلى تأسيس صالات عرضٍ لا تتبع مقاييس السوق، وتحاول خلق فضاءٍ سينمائي يدافع عن الناس ويحاول أن يعمل على توعيتهم بطرق مختلفة.

ورغم ارتباط هذه النوادي بالثقافة الباريسية الرفيعة، فقد ظلّت هامشيةً أمام هيمنة السينما التجارية، ولم تحظَ بتاريخ مدوَّن كافٍ، ما يفسر قلة المصادر المتعلقة. السرد التقليدي يعتبرها مؤسسات حافظت على السينما الصامتة وعرضت الأفلام الممنوعة، وصولاً إلى تأسيس السينماتيك الفرنسي في العام 1936، قبل أن تصبح بعد الحرب فضاءً لظهور الجيل الذي قاد الموجة الفرنسية الجديدة في الخمسينيات.

كانت صالات العرض والنوادي السينمائية في فرنسا تسمى بصالات الفن والتجربة، واكتسبت النوادي صفةً قانونية في العام 1957 عندما أصدر وزير الثقافة والكاتب الشهير أندريه مارلو مرسوماً لدعم وتنظيم ونشر صالات الفن والتجربة[2]. كل ذلك بدأ عندما كرّس أرمان تيله صالةً صغيرة في الحي اللاتيني في باريس لعرض أفلام لا تنتمي إلى أفلام السوق، وجعلها منفتحة على التجارب السينمائية الأجنبية كأفلام الاتحاد السوفيتي وإيطاليا وغيرها، المبتعدة عن النمط الهوليوودي التجاري.

مدينة كان الفرنسية شهدت في العام 1947 تأسيس الإتحاد الدولي للأندية السينمائية (IFFS - FICC) بمبادرةٍ من مجموعة من صناع السينما والمهتمين بالسينما، لتصبح الأندية السينمائية حركةً عالمية تعنى بتبادل الأفلام مع الأندية السينمائية المنضوية تحت مظلة الاتحاد، تهدف إلى تعزيز الوعي بثقافة السينما البديلة، ودعم مسارات الفن السينمائية، في مسعى منها نحو تحرير هذه الحركة من شروط السوق، التي تسيطر على الإنتاج السينمائي وعلى توزيع الأفلام على حدٍ سواء.

فيما يلي نظرة متفحصة على تجارب أبرز النوادي السينمائية في سوريا:

نادي دمشق السينمائي

لحظة التأسيس

قامت أول محاولةٍ لإنشاء نادٍ سينمائي في سوريا في مدينة دمشق في مايو/أيار من العام 1952 بمبادرة من مجموعة من المثقفين وعلى رأسهم الدكتور نجيب حداد. اقتصر نشاط النادي في بداياته على جمع مكتبة سينمائية تضم كتباً، ونشرات، ومعلوماتٍ عن الأفلام. أصدر النادي نشرة أسبوعية، توزعها على أعضاء النادي والصحف المحلية، تهتم بالتعريف بالأفلام البديلة (أفلام الفن والتجربة)، وتقدم في بعض الأحيان تحليلاً مكثفاً للأفلام المعروضة في صالات السينما في دمشق.

لخص حداد أهداف النادي السينمائي في كلمته التي ألقاها في حفل الافتتاح بـ "إن غايتنا مساعدة المجتمع عن طريق تعويد الشباب على تذوق الفن السينمائي والحكم على الأفلام حكماً صحيحاً كي نستفيد من محاسنها ونتقي مساوئها العديدة، وخير الوصول إلى غايتنا المتوخاة هذه هي أن يكون لدينا قناعة خاصة بنا حيث نعرض ما يخطر لنا من الأفلام لنشاهدها ونناقشها في آن واحد."

 مع تغير إدارة المؤسسة العامة للسينما في العام ١٩٧٣ ، وضعت الإدارة الجديدة نصب أعينها إنهاء استقلالية النادي السينمائي، وإخضاع نشاطه لسيطرة المؤسسة وأجندة السلطة في دمشق. اصطدمت إدارة النادي مع المؤسسة ووزارة الثقافة، ما تسبب بطرد النادي من سينما الكندي، وفصل بعض المخرجين من المؤسسة العامة للسينما. رد المخرجون الذين يديرون النادي بسحبه من مظلة المؤسسة والبحث عن بدائل تضمن استقلالية النادي وأهدافه، وذلك من خلال إجراءات، لعلّ أبرزها انتخاب إدارة جديدة للنادي، لضمان سيطرة المستقلين عليه.

لم يستطع النادي تحقيق أهدافه في إيجاد مكان للسينما "الهادفة"، مع ما يتطلبه ذلك من دعم مادي ومعنوي، وعقلية تدعم مشاريع الشباب الطامحة إلى ثقافة ذات محتوى فكري مميز. كما خاض أعضاء النادي ومؤسسيه نقاشاً مع موزعي الأفلام وأصحاب الصالات السينمائية، دون أن ينجحوا في إقناعهم باستئجار أحدها لعرض الأشرطة السينمائية التي يرغبون بعرضها، وتتوافق مع أهداف النادي. ليتحول منزل الدكتور نجيب، أستاذ الأدب الفرنسي، مقراً للنادي، حيث تعقد اللقاءات، وتدور النقاشات، ليصبح النادي تجربة رائدة في الحياة السينمائية السورية، على الرغم من تواضع النتائج التي حققها.

الانطلاقة الجديدة للنادي السينمائي في السبعينات

في العام 1963 أُنشئت المؤسسة العامة للسينما لتكون معنية بإنتاج أفلام تتوافق والأهداف السياسية والاجتماعية لثورة حزب البعث المفترضة، بأيدولوجياتها المتمركزة حول الوحدة العربية وتحرير فلسطين، والملتزمة بـ “قضايا الأمة".

قدم الدكتور نجيب حداد مشروع النادي السينمائي للمؤسسة كي تديره في الستينيات، وبالفعل بدأت في إدارة هذا المشروع لبضع سنوات، حتى تغير وضعه كلياً، مع عودة نخبةٍ من صناع الأفلام السوريين الشباب، الدارسين في الخارج، منهم محمد ملص وعمر أميرالاي وهيثم حقي وقيس الزبيدي ونبيل المالح، ليصبح مشروعاً ذا تأثيرٍ لافت، في ظلّ ظروف اجتماعية وسياسية خاصة مرت بها سوريا حينها.

بحسب ما قال المخرج عمر أميرالاي في  لقاء صحفي مع الباحثة رشا السلطي، وما ورد في الكتاب الذي ألفته السلطي عن السينما السياسية السورية، تعاونت مجموعة من صناع الأفلام الشباب مع المؤسسة العامة للسينما على إدارة النادي السينمائي، بعد انتخاباتٍ أُجريت في حزيران العام 1971، أفرزت مجلس إدارة جديد يتكون بأكمله من السينمائيين الشباب أو المتحمسين للسينما البديلة.

دعم المؤسسة العامة ووزارة الثقافة لمشروع النادي السينمائي، سهّل من اتخاذه سينما الكندي المملوكة لوزارة الثقافة مركزاً لنشاطه. وصل عدد أعضاء النادي في ذاك العام إلى 770 عضواً فاعلاً، يشاركون في نشاطات النادي، من عرض أسبوعي للأفلام وإدارة حوارات عنها. كما وجه النادي دعوة لعدد من المخرجين البارزين عالمياً، فحضر بيير باولو بازوليني، آغنيس فاردا، أندريه فايدا إلى دمشق وشاركوا أفلامهم مع الجمهور السوري وانخرطوا معهم في نقاش حول أفلامهم، والفن السينمائي وارتباطات الفن السينمائي بالسياسة والحياة الاجتماعية. تحول النادي السينمائي إلى مساحة للتفكير الحر، ومنبر للتعبير عن الهواجس السياسية والاجتماعية في مرحلة دقيقة وحساسة في تاريخ سوريا السياسي، وفق عمر أميرالاي، ونضال الدبس.

هالة العبدالله: معياري الوحيد هو الحريّة

05 أيار 2021
في هذا الملف الصغير الذي أعددناه عن المخرجة السوريّة هالة العبدالله، نحاورها في الإخراج السينمائي وفي العمل النضالي ضد نظام الأسد ونحكي عن علاقتها بالثقافة وعن علاقتها بسوريا، كما نرفق...

مع تغير إدارة المؤسسة العامة للسينما في العام ١٩٧٣ ، وضعت الإدارة الجديدة نصب أعينها إنهاء استقلالية النادي السينمائي، وإخضاع نشاطه لسيطرة المؤسسة وأجندة السلطة في دمشق. اصطدمت إدارة النادي مع المؤسسة ووزارة الثقافة، ما تسبب بطرد النادي من سينما الكندي، وفصل بعض المخرجين من المؤسسة العامة للسينما. رد المخرجون الذين يديرون النادي بسحبه من مظلة المؤسسة والبحث عن بدائل تضمن استقلالية النادي وأهدافه، وذلك من خلال إجراءات، لعلّ أبرزها انتخاب إدارة جديدة للنادي، لضمان سيطرة المستقلين عليه.

كان "المنتدى الاجتماعي" من أقدم وأعرق المنتديات الاجتماعية في سوريا، ويلعب دوراً اجتماعياً وسياسياً هاماً منذ عهد الاستقلال، قبل أن تتوقف نشاطاته جراء ضغوط حكومة البعث. طرحت إدارة النادي السينمائي الجديدة على مالكي المنتدى، الذي كانت تشرف عليه مجموعة من العائلات الدمشقية العريقة، إمكانية التعاون. وهذا ما حصل، إذ منح المنتدى مقره في حي الطلياني في دمشق، للنادي السينمائي ليقيم فيه عروضه السينمائية. لم يكن المقر معداً للعروض السينمائية، لكن أعضاء النادي استطاعوا تحويله إلى صالة سينما بالاستعانة بأحد مؤسسي السينما السورية وأشهر حرفييها. استطاع نزيه الشهبندر بخبرته ومعرفته بتقنيات السينما من وضع جهاز العرض السينمائي في المطبخ ثم توجيه عدسة العارض السينمائي نحو مرآة مثبتة خلف الجمهور، لتقوم المرآة بعكس الصورة على الشاشة… هذا الحل التقني المبتكر مكّن أعضاء النادي من عرض أفلامهم في ذلك الفضاء من دون مشاكل.

إصرار النادي على استقلاليته، تسبب بمنع أعضائه من استخدام الأرشيف الخاص بالمؤسسة العامة للسينما أو أي مصدر حكوميٍ آخر، ما دفع إدارة النادي إلى الدخول في علاقات مع أندية سينمائية خارج سوريا، أملاً في الحصول على أفلام يعرضونها في دمشق. كما طور النادي نظام العضوية في النادي، متيحاً الحصول على بعض الأموال لدعم برنامج الأفلام، وأصدر نشرة إخبارية عن نشاطاته، ووفر ورشات عمل احترافية في صناعة السينما، يديرها السينمائي العراقي قيس الزبيدي.

في هذا الإطار، تبرز شهادة المخرج نضال الدبس كوثيقة حيّة عن الدور الريادي الذي لعبه نادي دمشق السينمائي في سبعينيات القرن الماضي. فقد تحوّل النادي، إلى منبرٍ للنقاش الحرّ ومنصة للقاء بين السينمائيين السوريين الشباب والجمهور. لم يقتصر نشاطه على العروض المحلية، بل انفتح على العالم عبر مشروع السينما والسياسة الذي أُنجز بالشراكة مع فرنسا ومجلة كراسات السينما (Cahiers du Cinéma)، والذي كان يعد نوعاً ما مهرجاناً سينمائياً، حيث أُتيح للنادي الحصول على مجموعة من الأفلام العالمية النادرة. كما أسهمت علاقات النادي بالمهرجانات الدولية في تأمين عروض لأفلام حديثة لم تكن تصل إلى سوريا بطرق التوزيع التقليدية.

وبالتوازي مع ذلك، شكّل النادي نقطة ارتكاز لبقية النوادي السينمائية التي نشأت في مدن سورية أخرى مثل حلب، حمص، واللاذقية، وتواصلت معه مستفيدةً من خبراته وتجربته التنظيمية. هذه الشبكة من الأندية رسخت حضور السينما كجزء من الحياة العامة، وفتحت المجال لجمهور أوسع لاكتشاف سينما بديلة حملت في طياتها أسئلة اجتماعية وسياسية وفكرية عميقة.

 عندما سقط النظام، وجد النادي السينمائي في جرمانا نفسه أمام لحظةٍ مفصلية؛ إذ أعلن عن نفسه رسمياً، وأطلق أولى مبادراته العلنية بعرض أفلام الثورة المحظورة سابقاً، ضمن تظاهرة حملت عنوان "سينما الحرية".

كما ساهم النادي في تدريب سينمائيين من الجيل الثالث، كشأن نضال الدبس الذي درس لاحقاً السينما في الاتحاد السوفيتي، بمنحة دراسية كان للنادي الدور الأبرز في حصوله عليها. هالة العبدالله، كانت من جمهور النادي، الذي أصبح يعمل في قطاع السينما، كمديرة إنتاج ومساعدة مخرج في العديد من المشاريع السينمائية الرائدة، التي أنتجت في سوريا خلال فترة الثمانينات والتسعينات.

لقد استخدم نظام الأسد الأب كل الطرق الممكنة لتقييد نشاط النادي، بعد أن بات منظماً للنشاط المستقل الوحيد تقريباً في سوريا، التي يذهب بها تدريجياً نحو حكمٍ عسكري قمعي. استخدم النظام الرقابة لمحاصرة تلك النشاطات الفكرية، وفرض الرقابة على الأفلام، والجهات التي يتعامل معها النادي، وصولاً إلى إغلاق نشاط النادي في دمشق في العام 1988، عبر اتصالٍ هاتفي من إحدى الجهات الحكومية.

الأندية السينمائية خلال عهد الأسد الابن

شخصياً، أثرت العروض السينمائية الخاصة التي شاهدتُها في دمشق خلال فترة تكويني المعرفي، جذرياً في علاقتي بالسينما. يحضرني هنا الدعوات التي كانت تصلنا من الدكتور حسان عباس لمشاهدة ومناقشة بعض الأفلام في المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى بدمشق. عرض علينا الدكتور حسان في إحدى أمسيات العام 2004، فيلم "طوفان في بلاد البعث" لعمر أميرالاي، بالتزامن مع نهاية حراك ربيع دمشق السياسي.

السينما السوريّة: ما الذي لم نتمكن من رؤيته؟

09 نيسان 2021
يحاور انريكو دي أنجيليس خبير السينما الإيطالي جيونا أ. ناتزاور، المندوب العام لأسبوع فينيسيا السينمائي الدولي للنقّاد Venice International Film Critics' Week، ومبرمج مهرجان رؤى دو ريل الدولي Visions du...

كان الدكتور حسان يرى في عرض ذلك الفيلم، الممنوع من العرض في سوريا، وسيلةً لنشر الوعي بين جيلٍ شاب نشأ في ظل نظام البعث. بوسع المرء تصور إمكانية تأثير مثل تلك العروض في اندلاع انتفاضة السوريين/ات، في العام 2011.

لكن تجربة النوادي السينمائية لم تنته في سوريا، بل استمرت خلال سنوات الثورة والحرب، 2011 – 2024:

النادي السينمائي في جرمانا

في حوارٍ لحكاية ما انحكت مع ناصر منذر، أوضح أن تأسيسه النادي السينمائي في جرمانا في العام 2017 لم يكن ضمن خططه. ناصر، المهندس المهتم والناشط في مجال علوم الفلك قبل اندلاع ثورة 2011، والمعارض لنظام الأسد، لم يرغب في مغادرة البلاد رغم كل العنف الذي عاشته. من السؤال الذي شغله ورفاقه: "ما الفعل الضروري في هذه المرحلة؟"، تولدت قناعةٌ بضرورة الفعل الثقافي، خاصة بالنظر إلى شغفه بالسينما وامتلاكه أرشيفاً رقمياً غنياً بالأفلام المتنوعة والهامة. هكذا ولدت فكرة تأسيس نادٍ للسينما في جرمانا، خصوصاً بعد أن هدأت العمليات العسكرية في محيط دمشق عقب تهجير أهالي الغوطة.

اعتبر ناصر الفعل الثقافي بديلاً عن الفعل السياسي المستحيل في ظل سلطةٍ قمعية شمولية، لا تقبل أيّة مبادرة مستقلة، كما استفاد من خصوصية جرمانا، التي لم تكن في مواجهةٍ مباشرة مع النظام، مما أتاح قدراً من الهامش للتحرك.

أراد ناصر من خلال النادي أن يخلق فضاءً سينمائياً، يفتح الباب لنقاشٍ حرّ يلامس قضايا المجتمع. وبالفعل، قدّم النادي قبل سقوط النظام عروضاً لأفلام تناولت موضوعات الاستبداد والحريات السياسية، وأسهمت النقاشات التي تلتها في طرح أسئلة العدالة والحرية. كما نفّذ النادي مشاريع مثل العروض في الهواء الطلق بالتعاون مع فعاليات مدنية، استهدفت الأطفال والمراهقين. وقد نجح في استقطاب جمهورٍ متنوع عمرياً وإثنياً، لتصبح النقاشات مساحةً لكسر الممنوع وفتح الحوار الوطني.

عندما سقط النظام، وجد النادي نفسه أمام لحظةٍ مفصلية؛ إذ أعلن عن نفسه رسمياً، وأطلق أولى مبادراته العلنية بعرض أفلام الثورة المحظورة سابقاً، ضمن تظاهرة حملت عنوان "سينما الحرية". دعاني ناصر لعرض مجموعةٍ من أعمالي، وكانت تلك التظاهرة لحظة فارقة بالنسبة لي، حيث اجتمع جمهور جرمانا المتنوع، من مختلف الأعمار، بشغف كبير لمشاهدة أفلام كان عرضها في زمن النظام السابق ضرباً من التهلكة. كانت فرصة اللقاء مع صناع تلك الأفلام والحوارات التي فتحت عن الثورة والحرب وسقوط النظام، لحظة حرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لقد شكّل هذا اللقاء مع الجمهور تجربة إنسانية وثقافية فريدة، وكرّس النادي كفضاء معرفي متميز، مدفوعاً بشخصية مديره المنفتحة.

 "الأمن كان يحضر معنا العروض المثيرة للجدل"، يقول الدكتور أحمد، موضحاً كيف كان عناصر الأمن يندسون بين الحضور لمشاهدة الفيلم وحضور النقاش، وكم كان من المضحك اهتمامهم الواضح بالفيلم المعروض، ليتحولوا إلى أعضاء دائمين في نادي أبو رمانة السينمائي مع مرور الوقت.

وعن واقع النادي اليوم، بعد المجازر التي وقعت في الساحل والسويداء، بدا الحزن طاغياً على حديث ناصر، فقد تراجعت قدرة النادي على التأثير، إذ انشغل أعضاؤه والمتطوعون بتلبية الحاجات الإنسانية العاجلة للمنكوبين، وسط أجواء سياسية مشحونة يغلب عليها التجييش الطائفي والمناطقي.

ومع ذلك، يبقى شغف ناصر وإيمانه بقدرة الفن على إعادة تشكيل الوعي السياسي المحرك الأساسي للمشروع، الذي ظلّ قائماً بعيداً عن أيّ دعم حكومي أو مؤسساتي. وضع ناصر ضمن خططه المستقبلية، تنظيم عروضٍ سينمائية في محافظات ومدن سورية أخرى، بهدف فتح الأبواب بين السوريين وتعزيز ثقافة الحوار والاختلاف.

نادي "سينما من أجل التغيير"، نادي "سينما بناء"

في حوارٍ لحكاية ما انحكت عن ظروف إنشاء النادي السينمائي في منطقة أبو رمانة في دمشق، عاد الدكتور أحمد حسن إلى البدايات، وكيف بادر كعاشقٍ للسينما إلى عرض أفلام على أصدقائه في منزله في جرمانا، قبل الثورة بقرابة عام، تحت مسمى "موفي نايت"، وكيف غلبت النقاشات السياسية على نشاط النادي بعد تفجر الثورة وبدء النظام حملاته العسكرية.

كان أحمد يسعى إلى مشاركة سينما بديلة ذات مضمون فكري وفني عميق مع الأصدقاء أسبوعياً، وخوض نقاشٍ عن الفيلم بعد العرض، مع تناول بعض المشاريب. عندما اقتحمت قوات الأمن المنزل، يفتشون عن أغراض لأصدقاء من الناشطين في الثورة، توقف نشاط "موفي نايت"، خشية التبعات.

عندما فقد أحمد، الذي كان يمتلك مخبراً في زملكا، عمله في بداية العام ٢٠١٣ بسبب حصار الغوطة، بات يبحث عن أي نشاط مفيد. هنا أقترح عليه صديقه أنس جودة، تنظيم نشاط ثقافي في مقر تيار بناء الدولة،الذي كان يتزعمه حينها لؤي الحسين، المنتمي لما كان يسمى بالمعارضة الوطنية.

اقترح أحمد حينها إنشاء ناد سينمائي، تحت مسمى "سينما من أجل التغيير". كُلف أحمد ببرمجة عروض سينمائية لهذا النادي، ليستقر رأيه عند عرض أفلام تتناول مواضيع الانتقال السياسي والاجتماعي، والحديث عن القمع الفكري والسياسي كأفلام الإيراني جعفر باناهي كشأن فيلمه "هذا ليس فيلماً".حضر عرض هذا الفيلم أربعة أشخاص لا غير. كان عدد الحضور محدوداً وفقاً لنوعية الفيلم، في البداية. لكن ما إن شعر الجمهور بالثقة أكثر، حتى بدأت العروض تحظى بعدد معقول من المشاهدين المهتمين بالسينما البديلة، وخاصة من جيل الشباب، وفقاً لأحمد. كان النادي منصةً حرة للنقاش حول المواضيع الملحة السياسية والاجتماعية، وخلق النقاش الفني جواً فكرياً مهماً. وافق المخرج محمد ملص في العام 2013، على عرض أفلامه في أمسية في النادي، وانخرط في نقاش مع الجمهور حول الفن والسينما، ليصبح حضوره شبه دائمٍ في فعاليات النادي.

نضال الدبس:لماذا نحن دائماً وراء الكاميرا، بينما السلطة تقف أمامها؟ (17)

23 كانون الثاني 2021
"البلاد كانت تتغيّر والمتلقي تغيّر، بينما كانت السينما ما تزال داخل المكعب. وباتت الفوارق بيني وبين جدي وأبي والجيل الذي تلانا صغيرة جداً، وهذا غير حقيقي أو واقعي" و"قلت في...

يشير أحمد إلى عرضهم أفلاماً فلسطينية، وأفلاماً لـ محمد رسولوف، كشأن فيلم "المروج البيضاء"، واستخدامهم للإعلان عن هذا الفيلم بوستراً يحمل صورة رسولوف مع رموز داعمة لثورة الإيرانيين على حكم الملالي، في محاولةٍ لرفع سقف الحرية في عروض النادي السينمائي. وعرض النادي أيضاً أفلاماً صينية كفيلم "العودة إلى البيت" ،الذي يعالج قصة معتقل سياسي صيني في فترة الثورة الثقافية الصينية، وكيف أنه عاد إلى بيته بعد الاعتقال ليجد أن زوجته الحبيبة غير قادرة على التعرف عليه بسبب فقدان الذاكرة.

"الأمن كان يحضر معنا العروض المثيرة للجدل"، يقول الدكتور أحمد، موضحاً كيف كان عناصر الأمن يندسون بين الحضور لمشاهدة الفيلم وحضور النقاش، وكم كان من المضحك اهتمامهم الواضح بالفيلم المعروض، ليتحولوا إلى أعضاء دائمين في النادي مع مرور الوقت.

مع توقف "تيار بناء الدولة" عن النشاط، أسس صديق أحمد، أنس جودة، العضو في التيار المنهار، تياراً سياسياً جديداً تحت مسمى حركة البناء الوطني، في العام 2016، وكانت إحدى نشاطات مشروعه الثقافي، تأسيس "نادي سينما بناء"، ليكون بمثابة استمرار لنشاط نادي "سينما من أجل التغيير".

تركيز النادي في هذه المرحلة تغير نحو استكشاف السينما السورية، ودعوة الفاعلين فيها للحضور في أمسيات العرض للقاء الجمهور. كان من بين ضيوف النادي الممثل بسام كوسا، الذي حضر عرض فيلم "الكومبارس" للمخرج نبيل المالح، وشارك في النقاش مع بعض المشاركين في الفيلم. كان من أصدقاء النادي أيضاً، المخرج والكاتب محمد قارصلي، الذي كان يحضر دوماً ويشارك في النقاشات الدائرة حول الأفلام، وأقام ورشة للجمهور، عن قراءة الفيلم السينمائي وأدوات تحليله، وكيفية استنباط المعنى من العمل الفني.

ركّز النادي فيما بعد على الحركات والموجات السينمائية، التي كانت تستجيب لمتغيراتٍ سياسية واجتماعية كالحركة السينمائية التشيكية الجديدة، التي انطلقت بعد ربيع براغ، والموجة السينمائية الألمانية الجديدة، وسينما أمريكا اللاتينية، التي تعالج مواضيع الحكم الديكتاتوري وقمع الدولة للحريات، يعرض الأفلام ويناقشها، رغم الرقابة المستمرة للأجهزة الأمنية.

عند سقوط النظام، اهتم الدكتور أحمد بعرض أفلام المخرجين السوريين الذين أنجزوا أفلامهم في المنفى، وكان فيلمي "المشهد الأخير"، أحدها، حيث التقيت بجمهورٍ متعطش للأعمال التي أنتجت خارج سوريا. كانت ردة الفعل والنقاشات غنيّةً للغاية.

أُغلق النادي في منطقة أبو رمانة بسبب الصعوبات المالية.

تجمع كراسي

ولا يتسع المجال لذكر جميع المبادرات الأهلية لإنشاء نوادي سينمائية في سوريا خلال عهد النظام السابق وبعده، في ظل اهتمام عدد كبير من الشباب اليوم بخلق فضاءات ثقافية، من بينها تجمع "كراسي" الفني في حلب، الذي أسسته ناتالي بحادي مع مجموعة من الفنانين والفاعلين الثقافيين في مدينة حلب في العام 2022، بغاية خلق مساحة آمنة وملهمة للحوار والابداع، في لحظة مفصلية، كانت فيها حلب، كما سوريا بأكملها، تبحث عن سبل لإعادة تخيّل مستقبلها بعد سنوات، على حد توصيفها. وتعتبر بحادي أنهم يسعون لاستخدام الفن كأداة للتشافي والتحوّل، وفي نفس الوقت فتح المجال أمام الجيل الجديد من المبدعين لدخول الحقل الثقافي.

انشغل النادي خلال السنوات الماضية في تقديم المعارض الفنية والأمسيات الموسيقية، إلى جانب العروض السينمائية، وصولاً إلى التغيرات الجذرية التي حصلت في سوريا في نهاية العام 2024،  ودعوتي للذهاب إلى حلب لمشاركة فيلمي الوثائقي الطويل "المشهد الأخير" مع جمهور المدينة، وهو ما حصل.

قائمة المراجع

  1. الخليل، محمد قاسم. ذاكرة السينما في سوريا. دمشق: وزارة الثقافة السورية – المؤسسة العامة للسينما، 2003.
  2. Smoodin, Eric Loren. Paris in the Dark: Going to the Movies in the City of Light, 1930–1950. Durham; London: Duke University Press, 2020.
  3. ArteEast. "Nadi al-Sinama in Damascus, or When Cinema Wielded Power to Threaten the Social Order." ArteEast Quarterly. 2006. [https://arteeast.org/quarterly/nadi-al-sinama-in-damascus-or-when-cinema-wielded-power-to-threaten-the-social-order/](https://arteeast.org/quarterly/nadi-al-sinama-in-damascus-or-when-cinema-wielded-power-to-threaten-the-social-order/).
  4. الصافوري، نور. "نضال الدبس يتحدث عن نادي سينما دمشق." ناس – شبكة الشاشات العربية البديلة. 26 تشرين الأول 2022. [https://malaffatnaas.com/نضال-الدبس-يتحدث-عن-نادي-سينما-دمشق](https://malaffatnaas.com/نضال-الدبس-يتحدث-عن-نادي-سينما-دمشق).
  5. Fédération Internationale des Ciné-Clubs (FICC). “History of the International Federation of Film Societies.” [https://ficc.info/history](https://ficc.info/history).
  6. مقابلة شخصية مع ناصر منذر (مؤسس نادي جرمانا السينمائي)، دمشق – جرمانا، كانون الثاني 2025.
  7. مقابلة شخصية مع الدكتور أحمد حسن (مؤسس نادي أبو رمانة السينمائي)، دمشق، كانون الثاني 2025.
  8. مقابلة شخصية مع نتالي بحادي (مديرة تجمع "كراسي" الفني في حلب)، شباط 2025.
  9. Rasha Salti and Omar Amiralay, “Nadi al-Sinama in Damascus, or When Cinema Wielded Power to Threaten the Social Order,”

مقالات متعلقة

مقابلة مع المخرجة مادونا أديب، عن فيلمها "ليلة" عن ناشطي/ات ثورة ٢٠١١

12 آب 2025
منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر ٢٠٢٤، تغيب قضايا المجتمع الكويري السوري عن رادار الصحافة السورية عموماً. مع عرض تلفزيون آرتيه الألمانيّ الفرنسيّ فيلم "ليلة" للمخرجة مادونا أديب، الذي يدور...
حوار مع مدير التصوير التلفزيوني سامر الزيات (١)

11 كانون الثاني 2025
"في جنازة حافظ الأسد كانت الكاميرا التي أحملها هي الكاميرا الوحيدة القادرة على التجوّل حول مشفى الشامي التي كانت فيها جثة حافظ الأسد، وحول القصر الجمهوري في حي المالكي بدمشق....
حلا عمران: التمثيل مساحة حرّة وفيها الكثير من اللعب

19 نيسان 2022
في سعيه للإلمام بكافة الكواليس والأجواء وآليات العمل التي رافقت فيلم "صندوق الدنيا" للمخرج أسامة محمد، وللوقوف على الطريقة التي أْنتج وصُوّر بها هذا الفيلم الذي وصل إلى مهرجان كان...
محمد الرومي: السينما دائمًا ضروريّة

07 كانون الثاني 2022
في هذا الحوار الغني يسأل إياس المقداد المخرج السينمائي والمصوّر الفوتوغرافي محمد الرومي عن طفولته في الجزيرة السوريّة ومحطات من حياته ولا سيما في مدينتي دمشق وحلب، إضافة إلى أوضاع...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد