اسمها "فصل الربيع". شخصيةٌ حقيقية تعيش بيننا، ليست مختلَقة ولا اسماً مُستعاراً. فصل الربيع، التي تبلغ اليوم ثلاثةً وأربعين عامًا، كرهت اسمها طويلًا في طفولتها. حاولت تبديله وتطويعه، حتى أنّ أباها ناداها بـ"غصن البان"، وكانت تفضّل اللقب على الاسم.
لم تكن تدري أنّ هذا الاسم الغريب سيكون طوق نجاتها فيما بعد، وأنه سيمنحها القدرة لتقول: "أنا فصل الربيع" وتضحك. تضحك في وجوه مجرمين مختلفين، وفي سياقاتٍ مختلفة، فيضحكون معها، وكأنّ الاسم يفرض عليهم لحظةً إنسانيةً عابرة وسط الرعب.
يُقال إنّ لكلّ امرئٍ من اسمه نصيب. والربيع في بلادنا ليس مجرّد فصلٍ عابر، بل معنىً يتجذّر في الأرض والذاكرة. بلادنا تعني سوريا، سوريا بجبالها الترابية وسهولها اليابسة. في الشتاء تتحوّل إلى لونٍ أصفر قاسٍ، وفي الربيع تنفجر خضرةً تتوالى ألوانها فتأسر العين والعقل، حدّ أنّ السوري القديم عبد هذه الطبيعة واحتفل بها. كلّ من عاش هنا وجد لنفسه طقسًا للربيع: في حمص "خميس الحلاوة"، لدى الكرد "النوروز"، وعند العلويين "عيد الرابع". الربيع جامعٌ لا يفرّق، كأنّ الجميع على هذه الأرض ينتظر انفجار الحياة بعد مواتٍ طويل.
ويبدو أنّ أباها، حين سمّاها، كان سورياً إلى أقصى حد. أطلق دهشته على اسمٍ حملته ابنته، فحملت معها دائماً الأخضر بعد الاصفرار، والابتسامة بعد العبوس، والدورة الأبدية بين الفناء والخصب. أينما دخلت كانت تقول: "اسمي فصل الربيع" وتضحك، كأنّها تُعلن في كلّ مرّة بداية حياةٍ جديدة.
باب عمرو.. نهاية زمن الصمت
عاملة منزلية... تخلّت عنها الطوائف
تبدأ حكاية فصل الربيع، بملامحها ولهجتها البدوية في حي السلطانية الملاصق لبابا عمرو. عندما بدأت المظاهرات ضدّ الأسد في الحي (بدءاً من إبريل/ نيسان ٢٠١١)، لم تكن تفهم كثيراً ما يجري. كلّ ما كانت تعرفه أنها أمٌّ لثلاث بنات، كبراهنّ من ذوي الاحتياجات الخاصة، والباقيتان تجريان خلف المتظاهرين في شوارع الحي. كانت تراهنّ من الشرفة وتضحك، وفي داخلها يقينٌ غريب: هذا لن يدوم. النظام لا يُهزم، وهذه مجرّد "هوشة عرب" وستنتهي.
لم تكن "فصل الربيع" مهتمةً بالثورة، بل لم تكن تعنيها إذ تقول لسوريا ما انحكت: "ما شعرت ولا مرة أنو الثورة بتعنيلي، وكنت أسأل نفسي شو عم يصير مع الشعب؟ كيف هيك فعلاً قدرانين، معقول مو خايفين؟ ورغم كلّ خوفي من النظام ما كنت اتخيل أبداً أنو ممكن توصل للسلاح والقتل".
تضيف بعد هدوءٍ قصير: "رؤية المظاهرات كانت بتضحّك، وخصوصي وقت شوف بناتي ورا المظاهرات، وكانت بنتي الصغيرة نغم تقول أنو في قناص يلاحقها، ونضحك".
وعن تلك الأيام تخبرنا ابنتها نغم، التي كانت في الثامنة من عمرها عند بدء الانتفاضة: "ذكرياتي ضبابية متل المنام. بس ما بتذكر إني خفت أبداً. كنت أمشي ورا المظاهرات واهتف معن، ما كنت فهمانة شو عم يصير، بس الخوف ما كان براسي أبداً. بعد شوي صرت قول في قناص بدو يقوصني، يمكن كنت سمعانة القصة من حدا، وكانوا أهلي يضحكوا. بعد سنين طويلة، فهمت شو كانت المظاهرات، وشو كنا عم نقول."
كانت نغم، وهي تروي، تبتسم كما لو أنها تستعيد مشهداً جميلاً من ذاكرةٍ جميلة؛ طفلةٌ تمشي خلف الحشود، لا تعرف السياسة ولا الخطر، لكنها تعرف أن الخوف لا مكان له بين أعمامها ومَن تحبّ.
الضحك هذا كان ستراً؛ لم يكن موقفاً سياسياً، بل ردّ فعل بدائيّ على حدثٍ لم تهضمه بعد.
زوجها في الإمارات لأجل العمل، إخوة زوجها في قلب المظاهرات، وبناتها الصغيرات يصرخن "الشعب يريد" بأصوات أكبر من أجسادهن. وحين وصلت الأخبار عن رصاص الجيش، لم تصدّق. كان ذلك أوّل جرحٍ في وعيها: هل يمكن للعسكريّ السوريّ أن يُطلق النار على أطفاله؟ بالنسبة لها، كان ذلك انكساراً في صورة الأب/الأخ/الابن الذي يحمل السلاح. الخيبة الأولى لم تكن سياسية، بل نفسية: انهيار صورة "الأمان" التي ربطتها بالجيش.
"اسلّبيها" لم تكن مجرّد كلمة عابرة، بل سلاحها السري؛ "اجعلي نفسك غبية، بلا علم ولا حيلة". كانت تحفظها كتعويذة، تُردّد: "اسمي فصل الربيع. ذاهبة لزيارة بيت حماي… أو لقراءة القرآن لابنتي المريضة عند شيخ يشفي الجميع." كلّ كذبة تُقال، كتميمة حماية، شفرة للنجاة وسط الجنود والرصاص.
تدريجياً ضاق الحصار. نفد الطعام، انقطعت الكهرباء. الجوع لم يكن مسألةً عامة فقط، بل خطرٌ وجودي يهدّد حياة ابنتها الكبرى آيات، التي تحتاج خلّاطاً ودواءً لتبقى. هناك، في أحياء بابا عمرو رأت الدبابة لأوّل مرّة، وعرفت معنى أن تعبر شارعاً يرأسه قنّاص، حيث "بدأ النظام يفرض حصاراً قويّاً على الحيّ من جميع المداخل، وخاصّةً من جهة ملعب بابا عمرو، الذي سيطر عليه النظام وجعل منه ثكنةً عسكريةً لآليّاته وعناصره وقنّاصته التي تقوم باستهداف المدنيين في الحي، وعلى الأخصّ بعد اتخاذ القنّاصة للأبراج المطلّة على الحي موقعاً استرتيجياً تقوم من خلاله بقنص المدنيين مزاجيّاً" وفق تقرير لصحيفة القدس العربي. كان هذا في الربع الأخير من عام ٢٠١١.
وعن الدبابة قالت "فصل الربيع" بصوتٍ يلهث بين الذهول والتهكّم الشعبي: "أول مرة شفت دبابة ما صدقت عيوني، خصوصي أنو بيتي بيطلّ عالشارع".
وكرّرت "ما صدقت" بلهجتها البدوية مرّات، كأنّها تحاول أن تُثبت لنفسها أنّ ما رأته ليس حلماً. بعدها مباشرة تروي: "أول مرة ضربت رصاص، إجت طلقة عندي بالحيط، حسيت إنو طلعت القصة جد جد مو مزح وتركت البيت فوراً."
الهروب من بابا عمرو.. بحثاً عن نجاة
هربتْ قبل بدء العمليات العسكرية على بابا عمرو إلى بيت أهلها في الكسوة في ريف دمشق. فجأةً وجدت نفسها مُحاصرة، تتساقط الرصاصات على جدران البيت، تجوع وتفرّ. لم تستوعب ما حدث. كيف استطاع أهالي بابا عمرو كسر الخوف؟ وكيف تجرّأت بناتها على الهتاف بما لم تجرؤ هي يومًا أن تفكّر فيه؟
بين أواخر ٢٠١١ وبداية ٢٠١٢ عادت من الكسوة لتأخذ بعض أغراضها من بيتها. على الحاجز قدّمت نفسها: "اسمي فصل الربيع". لم يكن الاسم مجرد بطاقة تعريف، بل قناع حياة: ضحكت وضحك الجنود معها، كأن السخرية تحميها.
نساءٌ يُحاورن الحجر ويكسرن تابوهات الحاضر
10 حزيران 2025
حذّروها من "المسلحين" في الداخل، قالوا لها "منفوّتك خالة.. بس شو بيعملولك المسلحين جوا، مالنا دخل". تتذكّرهم اليوم بوضوحٍ مدهش: شبابٌ صغار، يبدون صادقين في خوفهم، كأنهم يؤمنون فعلاً أن في الداخل وحوشاً تتربّص. لكنها كانت تعرف أنّ "الداخل" هو حيّها القديم الآمن، حيها القديم الذي تحوّل إلى مدينة أشباحٍ فارغة.
على الطرف الآخر، كان ينتظرها إخوة زوجها، الذين ساعدوها على نقل الأغراض حتى ما قبل الحاجز. كلّما تروي القصة، تصمت قليلًا ثم تضحك، تقول مستغربة: "ما قدرت أتأقلم مع كلمة المسلحين... كانوا أولاد الحارة، نفس الشباب، كيف صاروا مسلحين؟".
سألوها عند العودة: هل رأيتِ المسلحين؟ أجابت: "لم أرَ أحداً". كانت تعرف الحقيقة، لكنها صمتت. في داخلها رغبةٌ في أن تصرخ: إنهم مثلكم! أولاد الحارة، الجيران، إخوة زوجي!
هنؤوها بالسلامة مع سعادةٍ حقيقية على وجوههم، وغادرت مع فكرة أنها ستعود، مجرّد فترة وتمرّ.
اعتُقل فيما بعد حموها وأخواه وآخرون، ثم اختفوا. بعد أيّامٍ ظهر بعضهم على شاشات الدنيا يردّدون اعترافاترتيبة عن الإرهاب والتمويل، اعترافات مصنوعة وممسوخة. كان ذلك كافيًا ليعود زوجها من الإمارات في الثلث الأخير من عام ٢٠١٢، فالانقطاع عن أهله كاد يقتله.
العودة إلى بابا عمرو… البيت لم يعد بيتاً
في دمشق لم يحتمل الزوج العيش، هوية بابا عمرو التصقت به أينما ذهب. ظلّ يُهان على الحواجز حتى حسم أمره بالعودة إلى حمص. بالنسبة لها لم يكن ثائراً ولا مُقاتلاً؛ كان ضحية حرب، ضحية الذلّ أكثر من ضحية الرصاص.. لذلك لم تجادله، بل تبعته.
في أواخر ٢٠١٢ دخلت لأيّام قليلة إلى حي السلطانية، الذي كان زوجها يدخله عن طريق خطوط الساريكو تحت الأرض.
رأت بيتها المدمّر لأوّل مرّة: البيت الذي بنته حجراً فوق حجر، ولم تسكنه إلا قليلًا، صار أثراً على الأرض. بيتٌ سُرِق بابه وبقي منه المفتاح الذي احتفظت به. لم تتوقف عنده ولم تبكِ، كانت تردّد "مثلي مثل هالناس" كتميمةٍ تواسي نفسها بها.
ومع الوقت بدأت تفهم كيف يُكسَر الخوف؛ إن كان قصد النظام أن يجعل الناس أكثر رعباً، فقد حدث العكس تماماً. صارت تلك الصور تعني مزيداً من العداوة، ومزيداً من التصميم على أن لا عودة ممكنة. ومع ذلك، سمعت مراراً في محيطها: "زوجك وإخوته خرّبوا البلد، ماذا استفدتم؟" وكان جوابها دائماً ثابتاً، مثل حجرٍ لا يتحرك: الكرامة، وليسوا نادمين.
في تلك المرحلة وحتى قبلها بدأت تتكوّن لديها عداوةٌ صامتة ضدّ النظام، يقابلها خوفٌ أشدّ جعلها تصمّ أذنيها عن أيّ تفصيلٍ يتعلّق بالجيش الحرّ أو الثورة. لم تعرف أبداً، ولم تحاول أن تعرف: كيف تشكّل الجيش الحرّ؟ أين يتمركز؟ ماذا يفعل؟ حتى إن أصيب شخصٌ قريب لم تسأل كيف حاله ولا كيف أصيب. كان ذلك موقفاً مُتعمّداً، مقاطعةً كاملة لما يجري، وكأنّ المعرفة بذاتها عبءٌ قد يعرّض بناتها للخطر؛ آيات ذات الاحتياجات الخاصة (جسدياً وذهنياً)، وبتول ونغم. لذا أغلقت أذنيها واختارت استراتيجية الصمت: أن تحمي ما تستطيع، وأن تُقصي نفسها عن عالمٍ يبتلع كلّ من يقترب من تفاصيله.
الرحيل مرة أخرى..
وبعد اشتداد القصف على بابا عمرو، غادرت مرّةً أخرى هربًا إلى تلّ الشور في ريف حمص، حتى أنها تذكر أنّ البيت الذي كانوا يقيمون فيه قُصِف بعد ساعاتٍ من خروجهم. ومن تلّ الشور عادت إلى دمشق بعد عدة أيّام، بينما غادر زوجها وأقاربه نحو ريف القصير.
وكانت هذه محاولتها الأخيرة لدخول الحيّ والاستقرار فيه، لأن النظام تمكن في آذار/ مارس ٢٠١٣ من السيطرة عليه، لتتوقف محاولات العودة.
بعد عودتها إلى دمشق، كانت مهمتها واضحة: حماية الفتيات، تدريسهن، وعزلهن عن هذا الرعب الذي صار هواءً يومياً. بينما كانت الشاشات تعرض المجازر كإعلانات موت: جثث ودماء، صرخات ورماد. ومع الوقت بدأت تفهم كيف يُكسَر الخوف؛ إن كان قصد النظام أن يجعل الناس أكثر رعباً، فقد حدث العكس تماماً. صارت تلك الصور تعني مزيداً من العداوة، ومزيداً من التصميم على أن لا عودة ممكنة. ومع ذلك، سمعت مراراً في محيطها: "زوجك وإخوته خرّبوا البلد، ماذا استفدتم؟" وكان جوابها دائماً ثابتاً، مثل حجرٍ لا يتحرك: الكرامة، وليسوا نادمين.
حوصر ريف القصير أشهراً من قبل النظام السوري وقوات حزب الله اللبنانية، وحوصرت هي كأنّها معهم، بدأت تعيش الفقر الحقيقي. وجود آيات جعل الأمر أكثر قسوة: لا عمل ممكن، لا مورد ثابت. جرّبت، فشلت، وأعادت التجربة.
تحدّت الحروقَ والإهمال.. لتنقذ ابنتها وحياتها أيضاً
03 أيلول 2025
كل وظيفة كانت تصطدم بالواقع نفسه: آيات، ابنتها من ذوي الاحتياجات الخاصة، كانت تضطر لتركها في المنزل أو عند الأقارب، ومع كلّ ساعة تمرّ كان ذهنها مشغولاً: هل أكلتْ؟ هل شربت دواءها؟ هل تشعر بالألم؟
وكان أكثر ما يُخيفها هو أن تتعرّض آيات لنوبة اختلاج، نوبة لا يعرفون كيفية التعامل معها، فتخشى أن تموت بين أيديهم.
هذا الخوف كان يمنعها من التفكير حتى في بتول ونغم وإن كانتا تحتاجان إليها وهي في العمل.
حين وصل زوجها إلى الريما في ريف يبرود، بعد اجتياح القصير ومغادرتهم لها في الثلث الأخير من ٢٠١٣، تبعته مرّة أخرى. قرّرت في تلك اللحظة أن تستسلم إلى حقيقةٍ ما: لن تتركه، ستبقى بجانبه أثناء القصف مهما كان الثمن، فالحرب الجماعية مهما بدت أهون من حربها الفردية مع الفقر. لكن سرعان ما جاء القصف الجنوني، وصارت الملاجئ تحت الأرض بيتها الجديد. عاشت خوفاً يتجاوز الجسد: ارتجاف حتى الشلل، غثيان وإقياء، وهروب يومي إلى ملجأٍ لا يتّسع حتى لأنفاسها هي وآيات.
تراجعت بعد مرور قرابة الشهرين ثانية إلى دمشق، إلى مدارسها وأمانها النسبي، وإلى الفقر نفسه. هناك بنتْ مطبخاً صغيراً إلى جانب غرفةٍ في بيت أهلها، سقفه توتياء يقرع المطر عليه كإيقاعٍ بارد، إيقاع لم يُذكّرها إلا بشيءٍ واحد: أنّ الفقر يُلاحقها حيثما ذهبت. وتحت هذا السقف، اكتشفتْ أنها حامل ببنت رابعة.
وكأن نيران الحرب لا تكفي… سكاكين المجتمع أيضاً
مع أواخر ٢٠١٣، أخذت حياتها منعطفاً آخر، منعطفًا يحكمه سقف التوتياء وفتياتٌ يُطلق عليهن اسم لاجئات. مجتمعها لم يكن أرحم من الحرب: يذكّرها دائماً بأنها بعيدة عن زوجها، وأنه بالطبع سيتزوّج عليها. لم يحاول أحدٌ أن يفهم السياق، لم يسأل أحد: ماذا يعني أن تُربّي طفلاتٍ وحدها في قلب حرب؟ كلّ ما رآه المجتمع أنها امرأة "مقصّرة"، "عاقّة"، "زوجة سيئة".
هناك، في لحظات الليل الطويلة، كانت تسأل نفسها فعلاً: هل أنا زوجةٌ سيئة؟ هل خذلته بعودتي إلى دمشق؟ هل كان عليّ أن أتحمّل الحرب، وأن أبقى إلى جانبه مهما حدث؟ كانت تعرف في سرّها أنّ الفقر ليس مجرّد قلّة طعام، بل قلّة كرامة، قلّة إمكانية، عجزٌ يومي عن تأمين حاجاتٍ أساسية. كانت الحرب الخارجية تقصف المدن، لكن الحرب الأشدّ كانت تُقصف بها من المجتمع: حرب الأسئلة التي لا إجابة لها، والاتهامات التي تُلقى عليها وكأنها قذائف لا تهدأ.
بين شعور الذنب تجاه زواجها، وحصار الفقر، وضغط المجتمع الذي لم يفهم شيئًا، قرّرت في عام ٢٠١٤ أن تغادر دمشق وتحمل فتياتها إلى دير الزور التي كانت تحت سيطرة داعش، بعد أن سبقها زوجها إلى هناك بسبب مخاوفهم المتزايدة، وبسبب محاولات النظام فرض سيطرته على ريف يبرود.
كانت الحرب الخارجية تقصف المدن، لكن الحرب الأشدّ كانت تُقصف بها من المجتمع: حرب الأسئلة التي لا إجابة لها، والاتهامات التي تُلقى عليها وكأنها قذائف لا تهدأ.
في لحظةٍ ما، بدا لها أن داعش (على وحشيتها) قد تكون أهون من هذا العالم المزدوّج: حربٌ تقتل من الخارج، ومجتمعٌ يجلد من الداخل. على الأقل هناك، في دير الزور، ستحيا إلى جانب زوجها. على الأقل ستصمت الأصوات التي تتهمها وتشكّك بها.
عادت مرةً أخرى إلى الطريق الطويل، ذاك الذي يبدو في لحظاتٍ وكأنه لا ينتهي: حرّ الصيف، خوف الحواجز، تعبٌ يتراكم طبقة فوق طبقة، وكأنّ الطريق نفسه يُثقلها نفسياً قبل أن يثقل جسدها.
حواجز النظام لم تكن تخيفها كثيراً، وحتى الآن لم تعرف سبب تلك الراحة الغريبة؛ لم تفعل شيئاً، بريئة، ولم تؤذِ أحدًا، فممن تخاف إذاً؟
كانت ابنتها بتول تسألها: كيف سنعبر يا أمي؟ فترد ضاحكةً بجدّية: "اسلّبيها."
"اسلّبيها" لم تكن مجرّد كلمة عابرة، بل سلاحها السري؛ "اجعلي نفسك غبية، بلا علم ولا حيلة". كانت تحفظها كتعويذة، تُردّد: "اسمي فصل الربيع. ذاهبة لزيارة بيت حماي… أو لقراءة القرآن لابنتي المريضة عند شيخ يشفي الجميع." كلّ كذبة تُقال، كتميمة حماية، شفرة للنجاة وسط الجنود والرصاص.
تعلّمت أيضاً أن تتعامل مع العساكر كأنّهم بشر؛ تقترب منهم بابتسامةٍ وارتجاف في آن واحد، تطلب ماءً ساخناً لحليب آيات، فيتردّد الجندي لحظة ثم يملأ الزجاجة. لحظةٌ قصيرة، لكنها تحمل إنسانيةً وسط الفوضى، فاصلةً بين البقاء والموت الرمزي.
ذات مرّة، على حاجز في حماة، وقبل مواجهة خطرٍ وشيك، ظهر فجأة "سومر"، صديق زوجها القديم، ليُمكّنها من المرور. وفي مرّة أخرى، قبيل اعتقالٍ محتمل، رفعت "طوبى" (البنت الرابعة) الصغيرة أصابعها نحو كأس المتة وقالت للضابط ببراءة: "ماما كمان بتشرب متة." ارتسمت على وجه الضابط ابتسامةٌ عابرة، وأشار لها أن تذهب. المتة هنا صارت جواز سفر، طقساً صغيراً للحياة وسط الجنون.
"اسلبيها".. لم تنفع مع داعش
وفي تلك الرحلة واجهت داعش للمرّة الأولى. لم تنفع معها استراتيجيتها المعتادة: "اسلّبيها". أوقفوا الباص لساعاتٍ طويلة، مع خطبةٍ طويلة عن الخمار والتبرّج، والحر خانق، وآيات تبكي. في النهاية، سمحوا لها بالمرور، بعد أن أدركوا أنّ الطفلة لن تصمد أكثر.
في دير الزور عام ٢٠١٤، قرّرت البقاء بجانب زوجها. لم تعد تتحمّل العودة إلى سقف التوتياء أو جلد الأقارب.
هناك، على الأقل، روتينٌ يشبه الحياة: آنسة تعلّم بناتها (بسبب عدم استقرار الوضع على الأرض وإغلاق معظم المدارس)، زوجٌ يتحمّل مسؤولية العائلة. لكنها كثيراً ما كانت تفكّر في دمشق الآمنة نسبياً، في شوارع الكسوة التي تشتاق إليها، في تعليم الفتيات، وتتساءل: هل تكفي الآنسة؟ هل سيستمر التعلّم وسط بيئةٍ غير مستقرّة، قصفٌ من السماء، وتنظيمٌ متشدّدٌ يحاول السيطرة على الأرض.
لكن الحياة في دير الزور لم تمنحها مهلةً طويلة للاختيار. الحرب بين داعش وجبهة النصرة بدأت تحت شرفتها مباشرة، في البصيرة في ريف دير الزور في الثلث الأول من ٢٠١٤. اشتباكاتٌ دامية بين عشائر تجمعها صلة قرابة، ويفرّقها النزاع على السيطرة والموارد. ابنتها بتول كانت تصرخ مرعوبة، وبقية الأطفال يضعون أصابعهم في آذانهم ليمنعوا أصوات ما لا يطاق.
حكاية الساعات الأخيرة في حياة الحزب القائد
29 آب 2025
أخذ زوجها قراراً بإخراجهم من البصيرة (ناحية في دير الزور) بعد أن قضوا فيها قرابة الشهرين. اقتحمت سيارتهم النيران. المشهد محفورٌ في ذاكرتها: بناياتٌ تطلّ على الشارع الرئيسي، تحتها اشتباكاتٌ متبادلة. أطفالٌ صغار يحملون السلاح، وسيارةٌ وحيدة تندفع وسط اللهيب، تفرّ من الموت والخوف معاً. كلّ ما كان يدور في رأسها آنذاك أنها أخفقت في الاختيار، وأنّ عليها أن تغادر هذا المكان إلى الأبد.
أقاموا لفترة قصيرة في حيّ قريبٍ من البصيرة عند صديقٍ قريب للعائلة، وبعدها عادت إلى ريف دمشق، وبألف واسطة استطاعت إعادة الفتيات إلى مدارسهن. هناك، بدأت الحكاية نفسها من جديد: الفقر، الجلد، والعقاب.
كانت تُعاقَب لأنها لم تمت كما ينبغي، ولم تصبر كما يُفترض، ولم تبقَ كما يُملى عليها.
عبرت كلّ الحواجز: النظام، داعش، فصائل المعارضة، وقسد
قصّتها المتبقية سلسلةٌ من رحلات التهجير: أورم في حلب، الدانا في إدلب، الباب، ثم عفرين. عاشت نصف عمرها على الطرقات، بين المهرّبين والسماسرة، وفي كلّ معبرٍ كانت الحرب تخلع قناعها وتطلّ بوجهها الحقيقي.
كانت تحتاج إلى "مهرّب" لتقطع من محافظةٍ إلى أخرى. لم تعد سوريا واحدة، بل سوريتان تتقاذفانها. العبور لم يعد حقّاً، بل صفقةٌ تُشترى بالمال والخطر.
يدخل المهرّب المشهد بسلطةٍ فورية، يمارس هيبته في اللامكان واللاقانون: "امشي. قفي. هاتي الهوية. أطفئي الهاتف." أوامر قصيرة، صادرة عن خوفٍ يتنكّر في هيئة سلطة.
كلّ طرق التهريب متشابهة، وكلّ المهربين متشابهون، وكلّ السوريين الذين يعبرون تلك العوالم يتشابهون أيضاً: في تعبهم المُتراكم، في خوفهم، وفي شعورهم بأنهم أرقامٌ ومال، لا أرواحٌ ولا حيوات.
لو روت قصص رحلاتها كلّها، لبدت الحكاية غير حقيقية. تلك المرأة تعرف جيداً حواجز النظام، داعش، الفصائل، وقسد. تعرف الخوف من العسكر، وتعرف الأمان أيضاً. ضاعت مراراً، ووجدت دائماً من يمدّ يداً، من يحمل طفلتها على معبر، أو يواسيها في ليلٍ طويلٍ من الخوف.
وهكذا أدركت، بعد كلّ ذلك، أن العدوّ الحقيقي ليس على الحواجز، ولا في الزيّ العسكري، بل في الحرب نفسها. وهذا ما علّمته لبناتها، بوعيٍ أو من دون وعي.
لكنها حين تسرد قصتها الآن حيث تجلس مع فتياتها في منزلها المستأجر في الكسوة في ريف دمشق، تتوقف أكثر عند الحربٍ الأخرى، الحرب الأكثر قسوة من تلك التي في الخارج: حربها مع المجتمع الذي دفعها دائماً لتكون المرأة التي "على الطريق"، من دون تضامنٍ حقيقي، ومن دون نظرةٍ تفهم أو نظرة احتضان. كانت تُدفَع في كلّ مرة إلى الرحيل، لا بحثاً عن النجاة، بل هرباً من يأسٍ متراكم، من نظراتٍ تحاسبها لأنها ما زالت على قيد الحياة.
قبيل اعتقالٍ محتمل، رفعت "طوبى" (البنت الرابعة) الصغيرة أصابعها نحو كأس المتة وقالت للضابط ببراءة: "ماما كمان بتشرب متة." ارتسمت على وجه الضابط ابتسامةٌ عابرة، وأشار لها أن تذهب. المتة هنا صارت جواز سفر، طقساً صغيراً للحياة وسط الجنون.
لا تعرف تماماً كيف تصف مشاعرها، ولا كيف تحلّل ما جرى. لم تكن يوماً بارعة في الكلام عن نفسها، وربما تحتاج إلى عمرٍ كامل آخر لتفهم عمق ما عاشته. لكنها اليوم تعرف شيئاً واحداً على وجه اليقين: أنها خاسرة، وأنها متعبة، وأن النجاة لم تكن يوماً انتصاراً. تتذكّر قصّتها كأحداثٍ متسارعة، متقطّعة، كأنها حُلُمٌ نجت منه؛ آيات ماتت بالكورونا، وفي العام الأخير قبل سقوط الأسد خَسِرت زوجها بعدما تزوّج، وانتهت معركتها الشخصية بهزيمةٍ صامتة: لا بيتها آمن، ولا زواجها مستقرّ، ولا مال لديها لترميم ما تهدّم. لكنها خرجت بانتصارٍ آخر، أعمق، أنظف، وأكثر بقاءً، انتصارٍ أخلاقيّ حقيقي على الأسد، ضدّ الحرب والعنف، ضدّ الحقد، ضدّ الطائفية والسلاح.
وعن هذا تقول لسوريا ما انحكت: "مشاعري بشكل عام فرح، أكيد فرحت عند سقوط النظام، مع أني كنت خايفة ومتوترة ببداية ردع العدوان، ولم أتخيل أبداً وصولهم إلى دمشق. لكن عند ما صاروا بحمص تأكدت إنهم رح يوصلوا، وأنه بشار الأسد رح ينهان، فرحت لخروج الناس من السجن، عودة الناس لبيوتها. وأفرح بشكل خاص لإهانة بشار الأسد، لأني انظلمت ولأنه عدوي الأساسي والوحيد، أنا وكثير نساء مثلي شفتهم عالطرقات والحواجز، بشار الأسد عدونا، ناجيت ربي كثير اني أشوف هاليوم وشفته، معاناتي ما راحت هباء، والشخص يلي عانينا لأننا ضده، هرب وانهان، صح يمكن حياتي نفسها ما تغيرت، بس شفت يوم هروب بشار".
اليوم، خرجت "فصل الربيع" بفتياتٍ متعلّماتٍ نذرت عمرها لأجلهن. فيما بقيت هي المرأة نفسها بين عالمين متناقضين، كلّ طرفٍ يحسبها على الآخر. امرأة لا تنتمي إلا لذاكرتها، وذاكرة ابنتها بتول.
بتول أي أنا، أنا التي أقول دائماً أنّ الحياة لا تنجب أبطالاً، لكنها تنجب شخصياتٍ بطولية، وأمي حتماً إحداهن.
بكلّ تلك المغامرات، بتلك الحنية والقسوة، بالخوف الذي كان حمايةً، وبالحماية التي كانت خوفاً.
كثيرون ينسبون قوتي إلى أبي، وربما في ذلك شيءٌ من الصحة. لكنّني تعلمت معنى القوة من أمي: أمي التي عرفت دوماً من هو عدوها، وعرفت كيف تنطق اسمها بوضوحٍ صادق. أمي التي تنطق اسمها باسمةً بكلّ اليأس والتعب الذي تحمله، فتعلن بكلّ نطق جديد بداية جديدة:
-أنا فصل الربيع.
وتضحك.











