بالنسبة لأهالي شمال شرق سوريا لم يعد الوصول إلى دمشق مجرد رحلة، بل معركةٌ حقيقية يجربون فيها كل شيء، متحدين الوقت والخوف والمجهول، فبين قرار إغلاقٍ وآخر، تتحول الطرق في سوريا إلى خطوط فصلٍ قاسية بين المرض والعلاج، وبين الحياة وعدمها.
إغلاق الطريق المؤدي من مناطق الحسكة إلى العاصمة السورية لا يُعتبر حدثاً عابراً، بل مأساةٌ إنسانية متكررة تمسّ حياة المدنيين، من مرضى السرطان إلى الطلاب، إلى سائر المضطرّين لعبور هذه الطريق الطويلة، لاستخراج ورقةٍ أو ثبوتياتٍ شخصية، في ظل إغلاق المؤسسات الحكومية ودوائر الأحوال المدنية، منذ سقوط النظام السوري السابق وحتى الآن.
والدة إيفا مارديني، من مدينة الحسكة، مصابةٌ بسرطان الثدي وكانت تتلقى علاجها في دمشق بانتظام، "ذهبنا إلى دمشق من ثلاث إلى أربع مرات عن طريق الرقة، كان الطريق مريحاً وغير خطِر، نغادر عند السابعة والنصف صباحاً ونصل في السابعة والنصف مساءً دون أية صعوبات".
القامشلي .. محطّة السوريين الأخيرة بين الخوف والحنين
13 تشرين الثاني 2025
لكن في المرة الأخيرة، ومع اقتراب موعد جلسة الأشعة الأولى لوالدتها بتاريخ 8 تشرين الأول 2025، تغيّر كل شيء، "قطعنا التذاكر بتاريخ 6 تشرين الأول، وفي الخامس منه علمنا بحدوث خلافٍ بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات الحكومة السورية أدى إلى إغلاق معبر الطبقة، حاولنا كثيراً التواصل مع شركات النقل، لكن دون جدوى، وفاتنا موعد الجلسة".
بعد أيامٍ من الانتظار والقلق، سمعت العائلة عن وجود سيارات نقلٍ خاصة تعمل على خطّ دير الزور – دمشق، "لم نكن نبحث عن الراحة، كان هدفنا فقط الوصول إلى دمشق ومتابعة العلاج، سلكنا طريق دير الزور، تدمر، حمص، وصولاً إلى دمشق، كانت رحلةً طويلة ومكلفة".
تضيف إيفا: "أسعار بطاقات شركات البولمان كانت مناسبةً أكثر للمرضى والطلاب، أما سيارات النقل الخاصة فكانت في البداية تقول إنها لا تأخذ أجرةً من مريض السرطان، فقط من المرافق، لكن بعد قطع نصف الطريق طالبونا بالدفع، طلبوا 500 ألف ليرة عن كل شخص، أي 250 ألفاً من كل منا، وعند العودة كانت التسعيرة مختلفة أيضاً، 400 ألف عن كل شخص، لا توجد أية رقابةٍ على هذه الوسائل، كل سائقٍ يحدد السعر حسب عدد المقاعد في سيارته".
والصعوبات لا تتعلق فقط بالأمور المادية والراحة: "الحالة النفسية لوالدتي تدهورت بعد علمنا بإغلاق الطريق، فقد شعرتْ بالخوف من أنها لن تستطيع استكمال العلاج، وهي في المرحلة الثالثة وتحتاج إلى 15 جلسة شعاعية، وكل تأخيرٍ يهدد استقرار حالتها. بقينا على أعصابنا أسبوعاً كاملاً، والإعلام زاد التوتر، كنا نقرأ أنه تمّ فتح الطريق، ثم بعد ساعات يتمّ الإعلان عن إغلاقه من جديد".
ليلةٌ في الصحراء وخوفٌ من المجهول
أما سلمى، وهو اسمٌ مستعار لعاملةٍ في الشأن العام من مدينة الحسكة، فتصف آخر رحلةٍ لها إلى دمشق بأنها الأصعب في حياتها: "بعد سقوط النظام، ذهبت إلى دمشق من سبع إلى ثمان مرات، لكن في الرحلة الأخيرة واجهنا الذلّ والإهانة، كلامٌ بذيء ومعاملة سيئة وصراخٌ من عناصر الحاجز التابع للحكومة السورية المؤقتة".
تتابع سلمى: "قلت لأحدهم إنّ لدي موعداً للحصول على فيزا، لكنه ردّ عليّ بتوبيخ، وبإسلوبٍ مهين، بل وقام بحركاتٍ كالغَمْز والتحرش. شعرنا بالخوف الشديد، حيث قضينا ليلةً كاملة عند الحاجز في منطقةٍ مقطوعةٍ وسط الصحراء بعيداً عن الرقة، في بردٍ قارس. لم يستطع أحدنا النوم".
تصف سلمى تلك الليلة بأنها كانت مليئةً بالتوتر والإغماءات بين الركاب، حتى الصباح: "في اليوم التالي، فقد السائقون الأمل بالتفاوض مع عناصر الحاجز، الذين طلبوا منا التوقف عن المحاولات، لكن مع ازدياد عدد المسافرين صباحاً، قمنا جميعاً بالهجوم على الحاجز، ركابٌ وسيارات نقل خاصة، وتمكّنا من فتحه بالقوة، فقد كان عددهم قليلاً، بين عشرة وخمسة عشر شخصاً فقط، ودخلت السيارات دون تفتيش".
"قلت لأحدهم إنّ لدي موعداً للحصول على فيزا، لكنه ردّ عليّ بتوبيخ، وبإسلوبٍ مهين، بل وقام بحركاتٍ كالغَمْز والتحرش. شعرنا بالخوف الشديد، حيث قضينا ليلةً كاملة عند الحاجز في منطقةٍ مقطوعةٍ وسط الصحراء بعيداً عن الرقة، في بردٍ قارس. لم يستطع أحدنا النوم".
يهدد الإغلاق غالباً المضطرين للسفر، من طلابٍ ومرضى ومَن يحتاجون أوراقاً رسمية، ما يدفعهم لمحاولة العبور مراراً وبكل الطرق. عدنان، اسمٌ مستعار لرجلٍ من مدينة القامشلي، قام بالحصول على تقريرٍ طبيّ مزوّر ليتمكن من السفر في سيارة إسعافٍ ليصل إلى دمشق عبر مدينة دير الزور، التي لم يكن السفر عبرها متاحاً حينذاك. عندما حان موعد العودة، كان الطريق مفتوحاً للمسافرين، لكنه لم يعلم أنه سيخوض رحلةً صعبةً وطويلة ومتعبة حتى يصل إلى منزله، "حين وصلنا إلى دير الزور، أوقفنا حاجزٌ تابع للإدارة الذاتية، ومنعنا من المرور مبرراً ذلك بأن الجسر لا يحتمل عبور الآليات الثقيلة، وأخبرونا أنه علينا التوجه إلى مدينة الرقة ومن ثم الطبقة للتوجه للقامشلي، أي قضاء سبع ساعاتٍ إضافية على الطريق".
منعُ المرور كان مقتصراً على البولمانات فقط، أما السيارات المدنية فقد كانت تعبر، ولم تتلقّ حكاية ما انحكت رداً من مسؤولي معبر دير الزور عن سبب إيقاف السيارات لساعاتٍ طويلة، وتحويل مسارها حتى لحظة كتابة المادة.
الطريق المغلق.. مخالفةٌ دستورية وانتهاكٌ لحرية التنقل
دير الزور: بورتريه محافظة منسية .. يكافح سكانها للتأقلم مع واقعها الديموغرافي الجديد
01 تشرين الأول 2025
ترى روفند خلف، حقوقية من مدينة القامشلي، أنّ إغلاق الطرقات يعدّ مخالفةً واضحة للدستور السوري والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: "المادة الثانية من الدستور السوري لعام 2012 تنص على أنّ الحرية حقٌّ مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتصون كرامتهم وأمنهم، ولا يجوز تقييد حرية أحدٍ في التنقل أو الإقامة إلا وفقاً للقانون، أي بوجود أسباب منطقية وقرارٍ صادر عن سلطةٍ مختصة، مثل حالات الطوارئ أو الكوارث الطبيعية".
وتوضح: "في حالتنا، لا يوجد أيّ قرار رسمي أو قانوني يبرر إغلاق الطريق، كما أن قانون العقوبات السوري يجرّم تقييد حرية الشخص بغير وجهٍ قانوني، ويعاقب عليه بالحبس، وإذا كان السبب سياسياً أو طائفياً أو تمييزياً، فيُعدّ ذلك انتهاكاً واضحاً للدستور وللقانون الدولي، وجريمةً تقع ضمن إساءة استخدام السلطة".
يجد المدنيون أنفسهم عالقين في خلافاتٍ سياسية لا تخصهم، كسلاحٍ يُشهر ضدهم وحدهم، يدفعون ثمنه من مالهم وصحتهم وكرامتهم، وعينهم على قوانين لا تزال بعيدةً عن التطبيق، بانتظار توضيحاتٍ أو تصريحات لا تأتي.
آلافٌ من المرضى وطلاب الجامعات في قلقٍ مزمن على حياتهم ومستقبلهم، بسبب طريقٍ يُفتح ويُغلق ليذكرنا بأننا لا نزال في قلب صراعٍ غير معلن.






