كيف نفهم العدالة في سوريا بعد عامٍ من سقوط نظام الأسد؟


شهدت سوريا في العام التالي لسقوط نظام الأسد غياباً لمسار عدالةٍ انتقالية طال انتظاره. بل وتشكلت طبقات جديدة من الجرائم، خاصة في منطقة الساحل والسويداء. الكاتبة ياسمين نايف مرعي، التي تتحدر من قلعة الحصن في ريف حمص الغربي، تقف عند مخاطر التطبيع مع العنف الانتقامي، وتشارك معنا في شهادتها هذه، أفكارها حول العدالة الانتقالية الغائبة، مقدمة خلاصةً عن بحثٍ أجرته على الأرض، ومبادرة ذاتية قامت بها في هذا المجال.

06 كانون الأول 2025

ياسمين نايف مرعي

صحيفة وشاعرة سورية، من فريق حكاية ما انحكت، عملت ونشرت في عدد من وسائل الإعلام السورية والعربية

ما أصعب أن يبدأ سوريٌّ حديثاً عن العدالة، إذ من له أن يدعي اليوم وفي بلدٍ كسوريا أنه وحده يطلب العدالة أو يحيط باحتياجاتها.

أربعة أشهرٍ ونصف قضيتها متقطعةً بين مناطق مختلفة في سوريا إثر سقوط النظام، الذي ظننته لن يسقط يوماً. حمص غارقة بالدمار والفرح وفي بعض أحيائها بالخوف، السويداء تحت مزيد من الحزن، تودع قتلاها تحت التعذيب وهي لم تصحُ بعد من توديع ضحاياها من المدنيين في تموز/يوليو الماضي. فيما الساحل غارقٌ بدوره في الخوف والتحريض، وبجزءٍ منه في إرث الأسد وظلٌّ ثقيل لمنتهكين عفا عنهم الرئيس الحالي الذي قال: ”اذهبوا فأنتم الطلقاء“، فيما لم يعفُ عنهم الناس، وكأن الكراهية اليوم هي الزرع الوحيد الذي ينبت ويربو في تربة سوريا. يقول الكهل الذي أقلني الأسبوع الماضي من ريف حماه إلى ريف حمص: ”يا عمي لو بتعصري هالتراب بينزل منه دم“..

كيف نصف مشهد العدالة التي نريد؟ كيف نحصي الحاجة إليها؟ تسعة آلاف مصابٍ ببترٍ في ساقٍ أو يد أو كليهما في مدينة الرقة وحدها، سوريون يعودون إلى بقايا بيوتهم في حمص وريفها دون إمكانية لإعادة الإعمار في المدى المنظور، فينكفئون على حلم عودةٍ لائق… سوريون في كل أنحاء البلد يبحثون عن ضريحٍ لفقيد فلا يجدون، لا سيما أن السجون فرغت فيما ظلّ من ماتوا تحت التعذيب دون شواهد قبورٍ شاهقة بقدر حزن ذويهم.

لقد انتظرت أجيالٌ من السوريين أن يغرب زمن الأسدين الأب والابن. على مدار أربعة عشر عاماً هشّمتنا عبارة ”شهيد تحت التعذيب“ وحاصرنا تعبير ”مختف قسرياً“ حتى في مناماتنا.

مرّ عامٌ على "ردع العدوان"، بعض المناطق في سوريا تحتفل بتحريرها من حكم الأسد، لكن مَن مِن أهاليها احتفل فعلاً بالعدالة له وللضحايا من ذويه؟

قلعة الحزن

في قلعة الحصن، ريف حمص الغربي، حيث أصغر انتماءاتي الجغرافية وأعمقها وجدانياً، حدثت عام ٢٠١٤ واحدةٌ من أوائل عمليات الإخلاء في مدينة حمص، أجلى نظام الأسد حينها مدينة كاملة بعد حصار دام سنتين وشهراً عاشها الأهالي في انقطاع ليس للكهرباء والاتصالات فقط، بل لموارد الحياة الأساسية، الطبابة، التعليم، وقضوا أيامهم يواجهون حتى الأيام الأخيرة احتمالات الموت اليومية، تحت القصف والقنص الذي تنفذه قوات الدفاع الوطني من أبناء القرى المحيطة. لاحقاً فقد المئات من السكان بعد أن سلموا أنفسهم على حواجز الدفاع الوطني إثر تحذير النظام من موجة قصف بالطيران تقتل من لا يخرج.

كان ذلك في آذار ٢٠١٤. أحصي منذ شباط/فبراير الماضي أعداد ضحايا تلك المرحلة وأجمع شهادات الأهالي. خسرت المدينة التي كان عدد سكانها في ٢٠١١ قرابة ثلاثين ألف نسمة، خسرت ما يزيد عن ستمائةٍ وخمسين ضحية، حوالي ثلاثمائة منهم قضوا في سجون الأسد، أو في مواجهاتٍ مسلحة مع قواته، لكن العدد الأكبر منهم فقدوا وهم يسلمون أنفسهم على حواجز الدفاع الوطني في قرى المشاية وعنازْ وعمار الحصن في وادي النصارى، أغلبهم من النساء والأطفال، أو قُتلوا جراء قصفٍ أو قنص قوات الدفاع الوطني للمدينة، أو ماتوا مسمومين بأغذية وصلت للأهالي في فتراتٍ مختلفة بين ٢٠١٢ وآذار/مارس ٢٠١٤.

على مدار الأشهر التسعة الماضية سجلت عشرات الشهادات مع ناجياتٍ وناجين، وبشكلٍ خاص مع ذوي الضحايا. في كل مرة كنت أظن أنني سمعت ما يمثل حداً أقصى من الألم، لأسمع في المرة التالية ما هو أشد.

عادت ميادة قبل أشهر إلى بقايا منزلها في قلعة الحصن، بدت السيدة أكبر بعشرين عاماً من سنها الحقيقي، وبدت أكبر من ذلك بكثير مقارنة بصورة وجهها قبل ٢٠١١ في ذاكرتي. في أواخر ٢٠١٣ دفنت السيدة شقيقها الأصغر، الذي قضى بقذيفة، وشاركت في احتضان العديد من الجرحى وتلقينهم كلماتهم الأخيرة. لم يكن هناك مكانٌ يسعفونهم إليه. تحكي ميادة بارتياح عن مشاهد بالغة القسوة، وهو ما قد يكون أقسى ما يسِم شهادات السوريين والسوريات؛ درجة الطبيعي في القسوة، أو ربما درجة التأقلم والتماهي مع الجوانب المريرة.

أم خالد سلمت نفسها مع أطفالها الثلاثة بعد نقاشاتٍ طويلة مع زوجها الطبيب الميداني، احتجزت في الفندق نفسه ثم اقتيدت إلى فرع الأمن السياسي في تلكلخ، وبقيت يومين قبل أن يسلم زوجها نفسه، فأطلقوا سراحها مع أبنائها. تبدي يقيناً بأنه قتل وهي تقول بين كل جملةٍ وأخرى :الله يرحمه. حدث ذلك لأنه كان طبيباً في مدينة ثارت على نظام الأسد.

أما فاطمة التي التقيتها في لقاءٍ نظمناه مع مجموعة من أهالي المفقودين ورجال الدين والنشطاء من أغلب الجغرافيا السورية، فقد بادرتني بالسلام والبكاء، قالت: أنا أعرفك، ثم غرقت في بكاءٍ طويل، وأضافت: قتلوا زوجي وابني. كنت قد قرأت أسماء الضحايا والمفقودين في مدينتي مراتٍ ومرات لكن لم يخطر في بالي أن أياً منهم يخصّ فاطمة، أو أنني قد أرى فاطمة بعد غياب ثلاثة عشر عاماً بوجهٍ كسير بهذا القدر.

أم قاسم سلمت نفسها في آذار/مارس ٢٠١٤ على حاجزٍ للدفاع الوطني فاحتجزوا ولديها وأطلقوا سراحها مع زوجها المسن وكنتها وأحفادها. منذ ذلك اليوم لم تعرف عن ولديها شيئاً. حين قابلتها ظننت أني سأستمع إلى واحدةٍ من أقل الشهادات ألماً، لكن السيدة بدأت الحديث عن مغادرتها باقي عائلتها المحتجزة في فندق الخضر في المشتاية، حيث غاب عشرات المفقودين، لتمشي سبع ساعات مسافة عشرة كيلومترات إلى قرية وادي المولى القريبة، أهانتها خلالها حواجز الطريق وجرّدوها هي مع العابرين من ملابسهم للتأكد من أنهم دفعوا آخر ليرة سورية يحملونها للحاجز، أذلوهم وهددوهم مراراً بالقتل لدرجة أنهم تمنوا الموت فعلياً للخلاص.

أم خالد سلمت نفسها مع أطفالها الثلاثة بعد نقاشاتٍ طويلة مع زوجها الطبيب الميداني، احتجزت في الفندق نفسه ثم اقتيدت إلى فرع الأمن السياسي في تلكلخ، وبقيت يومين قبل أن يسلم زوجها نفسه، فأطلقوا سراحها مع أبنائها. تبدي يقيناً بأنه قتل وهي تقول بين كل جملةٍ وأخرى :الله يرحمه. حدث ذلك لأنه كان طبيباً في مدينة ثارت على نظام الأسد.

المضي المتعثر قدماً

عن حال الإعلام السوري المستقلّ خلال عام ما بعد السقوط.. تغطية اختطاف النساء مثالاً

03 كانون الأول 2025
التحقيق الذي نشرته وكالة رويترز في ٢٧ يونيو/حزيران، عن اختطاف النساء في الساحل، دفع البعض من الجمهور السوري إلى طرح تساؤلاتٍ تحمل في طياتها انتقاداً وتوبيخاً، عمّا إذا كان عليهم...

في أيلول/سبتمبر ٢٠٢٥، اقترحتُ مبادرة ظننت أنها قد تشكل أرضيةً مقبولة لبدء التحرك في منطقة وادي النصارى باتجاه أهالي الضحايا في قلعة الحصن، للاحتواء العاطفي ومحاولة رأب الصدع على المستوى المحلي - الذي أراه الأنجع في كل منطقةٍ سورية تعرضت للانتهاك على حدة. جاءت المبادرة للبحث عن مصير مفقودي ومفقودات أهالي قلعة الحصن ممن سلموا أنفسهم إلى مجموعات الدفاع الوطني، حملت إحدى المجموعات بقيادة بشر يازجي اسم "أسود الوادي" في مرمريتا وكفرة وقرى أخرى، وحملت أخرى بقيادة جورج السليم اسم "نسور الزوبعة".

لا تمثل تلك المجموعات كل أبناء الوادي، الذين يُعرف الكثيرون منهم بوطنيتهم ونبلهم ورفضهم للظلم بكل أشكاله، كما يعرف عنهم وعن المنطقة مستوى عالٍ من التعايش والاحترام. لكن حادثة احتجاز ومن ثم إخفاء العشرات من أهالي قلعة الحصن في فندق الخضر/ السان جورج في قرية المشتاية، في آذار/مارس ٢٠١٤ من قبل مجموعة "أسود الوادي" ما تزال جرحاً مفتوحاً لدى أهالي قلعة الحصن.

يحتاج أهالي الوادي إلى التعايش بكرامةٍ واحترام بينما يريد أهالي الحصن المحاسبة العادلة. اقترحتُ أن يتم العمل على مجموعة نقاط كنموذج لتعاطي أهالي المناطق ذات الاختلاف الطائفي في سوريا، ممن وقع من إحداها انتهاكات ضد أخرى، في سياق حماية التنوع السوري وبناء مساحات جادة للسلم الأهلي، تشمل هذه النقاط:

  • إصدار بيان من أعيان الوادي بتقدير مشاعر وخسارة أهالي قلعة الحصن وإدانة الأفراد المسؤولين عنها بكل صراحة والمطالبة بمحاسبة قياداتهم، والتعبير عن دعم الأهالي لبعضهم بعضاً.
  • زيارة جماعية لأهالي المفقودين في قلعة الحصن تتضمن شخصياتٍ اعتبارية من الوادي، وشخصيات رسمية.
  • إقامة وقفة يشارك فيها أهالي الوادي ترفع فيها لافتات بأسماء من فقدوا من فندق السان جورج.
  • وقفة صلاة في ساحة دير مار جرجس على أرواح الضحايا.
  • إقامة نصب يحمل أسماء المفقودين عند موقع الفندق.
  • وأي اقتراح لتعويضات مالية يجب أن يتم عبر صندوق تبرعات لجبر الضرر يدار من قبل جهة منتخبة، ولا تأخذ أية تبرعات صيغة "الدية" أو التعويض عن الدم.

اضطررت لاحقاً لنشر نص المبادرة علناً مرفقاً بقوائم أسماء الضحايا. كانت ردود الفعل صاخبة، الداعم منها والمستنكر، وكانت هناك تلميحاتٌ لطيفة وأخرى مباشرة بألا نفتح ملفاً يتعلق بالمسيحيين الآن، وهو لأمر مؤسف ومؤلم، فلن تصان كرامة طائفة سياسياً وإنسانياً بالتغاضي عن المنتهكين منها أو استرضائها بذلك.

من جهة أخرى فإن أخطر ما يقدمه السوريون لبعضهم اليوم هو الإنكار والاستخفاف بالألم، لم يغضبني كل ما سمعته أو رأيته بدءاً من بيتنا المحروق وقبر أبي بقدر ما أغضبتني عبارات موالين سابقين لنظام الأسد وهم يقولون: لم نكن نعرف ماذا حدث معكم. واليوم أخشى أن نعيد ممارسة هذه القسوة ونقول أننا لا نعرف.

غيابٌ حاضرٌ بعنف

يورث غياب مسار العدالة الانتقالية أو على الأقل عدم الإخطار بانطلاقة فعلية قريبة أو بعيدة له فعلاً انتقامياً شهدناه منذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد، وما زلنا نشهده يتصاعد حتى اليوم. غضب الناس مفهوم لكن من غير المقبول أن يتكرس فعل القتل العشوائي كجزء طبيعي من المشهد السوري وكإجراء عادي أيضاً تحت عين السلطة التي تعرف وتسمع وترى، والتي باتت في بعض المناطق السورية تكيل بمكاييل غير متساوية، وتعطي انطباعاً أنها تقوي فئة سورية على أخرى.

من جهة أخرى فإن أخطر ما يقدمه السوريون لبعضهم اليوم هو الإنكار والاستخفاف بالألم، لم يغضبني كل ما سمعته أو رأيته بدءاً من بيتنا المحروق وقبر أبي بقدر ما أغضبتني عبارات موالين سابقين لنظام الأسد وهم يقولون: لم نكن نعرف ماذا حدث معكم. واليوم أخشى أن نعيد ممارسة هذه القسوة ونقول أننا لا نعرف.

هناك انتهاكاتٌ جديدة تكاد تمحو انتهاكاتٍ وحقوقاً سابقة عليها، انتهاكات تضعنا كل يوم أمام استحقاق أخلاقي قبل أن يكون وطنياً، استحقاق ألا يقبل سوري واجه نظام الأسد الاعتداء على سوري آخر أياً كان منبته ومشربه.

نخسر اليوم ونحن نقول ما في داخلنا صداقات حقيقة أو نكاد، تماماً كما حدث في بداية الثورة السورية. لا يمكن أن نفكر بالعدالة من دون عينٍ منصفة ترى من جهة أن جزءاً من السوريين فقدوا أحبة وأماكن وبلاداً وذاكرة، ينتظر أكثرهم خبراً عن مفقود يرفضون الاعتراف أنه لم يعد موجوداً، وترى من جهة أخرى أن هذا لا يبرر أن يتكرر ما واجهوه بحق سوريين آخرين. لو أن مسار العدالة بدأ لما ذهب بنا الطريق نحو الانتقامات.

على مدار أشهر تم تشكيل هيئتين وطنيتين للعدالة الانتقالية والمفقودين، وحتى اللحظة يبدو عمل الهيئتين في طور المأْسسة وبناء قاعدة أولية من استيعاب حجم الفقد والاحتياج للعدالة في سوريا ثم المتاح في سبيل تحقيقها، إن كانت هناك نوايا حقيقية لذلك. فرحتنا بعام من تحرير سوريا من نظام الأسد وتوابعه كبيرة، لكنها فرحة تشوبها غصة قلوب الأمهات المنتظرة للاشيء سوى شاهدة قبر يهدهدنها. للواتي لا يؤمن بعدالة السماء، هذا حملٌ ثقيل، أما للواتي يؤمنّ، فما أثقل موازين مَن قد يسامح بحقهن.

مقالات متعلقة

بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة العاشرة

02 كانون الأول 2025
شارك وتفاعل المجتمع المدني السوري مع مؤتمر "يوم الحوار" (بروكسل 9)، الذي انعقد لأول مرة داخل سوريا. وفي حين شارك فيه عددٌ كبير من النشطاء والمنظمات المدنية السورية، مع حضورٍ...
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوري: الحلقة التاسعة

03 تشرين الثاني 2025
يتفاعل المجتمع المدني السوري باستمرار مع حوادث قتلٍ وخطف على أساسٍ طائفي/هوياتي، تستهدف بشكلٍ أساسي أبناء الطائفة العلوية في مدن وأرياف حمص وحماة والساحل السوري. وبينما ركّزت العديد من المنظمات...
ذنب أن تنجو بعد أن تفقد رضيعك في مجزرة

30 تشرين الأول 2025
حاولت نوال أن ترضعه، لكن الحليب جفّ في صدرها، "من كتر الرعبة انقطع الحليب، ابني عم يضعف وما قادرة طعميه". قالت لنا باكية، وهي تشعر بالعجز ينهش قلبها، والذنب يثقل...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد