إذا كان لكل نوع من الآداب والفنون موطنٌ مُحَبَّب، فإن موطن الإبداعات الساخرة المُحَبَّب هو: البلاد أو الدول أو الأقاليم المحكومة بالـ (استبداد)، أو تلك التي تعاني من التخلف والاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار.
من هنا نستطيع أن نفهم لماذا لا تزدهرُ الفنونُ الساخرةُ في الدول الاسكندنافية، مثلاً، وتزدهر بشكل كبير في دولة صغيرة، نامية مثل سورية!... فكون البنية الاجتماعية في الدول المتقدمة منفتحة، وكون المجتمع ينعم بالازدهار الاقتصادي والسياسي، ويسوده احترام الحريات العامة والفردية، هذا كله لا يُعطي للأديب مجالاً للتهكم، أو تقديم صور كاريكاتيرية فكهة في سياق إبداعاته..
لوحة ذات خصوصية شرقية:
دعونا نأخذ مثالاً على ذلك. فلقد صَوَّرَ أحدُ الأدباء السوريين، في إحدى قصصه القصيرة التي أبدعها إبان الثورة، امرأةً تخرج من بيت صديقها الفتى، في الطابق الثالث، وهي تضع حذاءها تحت إبطها وتمشي حافية لئلا يقرقع الحذاءُ على السلم أثناء نزولها؛ فتَلْفُت قرقعتُهُ انتباهَ الجيران؛ لأنه من المحتمل أن يُخْبِروا أخاها بما رأوا، فيذبحها!... ويذهب الأخ المجرم إلى المحكمة ليجد أمامه حكماً قضائياً مُخَفَّفَاً بحجة أن الذبح كان من أجل الـ (عِرْض)!..
ههنا تكمن أولى المفارقات القائمة بين المجتمعات المتخلفة والمجتمعات المتقدمة، ذلك أن مفردة(عِرْض) غير موجود في الثقافة الأوربية أصلاً، ولاتوجد كلمة تقاربها في المعنى!... وأما المفارقة الثانية فهي توجد في احتمال أن يكتشف عناصرُ الحاجز العسكري القريب من المكان أمرَ المرأة فيضاجعوها عنوةً لأنهم أمسكوا عليها زَلّة! والمفارقة الثالثة هي أن يُبْلِغَ أولئك الجيرانُ عناصرَ من تنظيم داعش(ISIS) بأن الفتاة زنت، بدليل خروجها من شقة الشاب الأعزب، فيرجموها، في ساحة عامة، حتى الموت! (ملاحظة: مفردة "زنا"، هي الأخرى، غير متداولة في الثقافة الغربية).
قلت لذلك الكاتب: لو كنتَ أنت كاتباً ألمانياً- على سبيل الافتراض- وكتبتَ القصة نفسها لضحك عليك القراءُ الألمان وتساءلوا: لماذا يجعل هذا الكاتبُ الفتاةَ تمشي حافية على السلالم؟ ألن يتسخ جورباها من جراء ذلك؟!
برلمان قرقاشي:
إن بنية الأنظمة الديكتاتورية، وقوامها، ولحمتها، هي التسلط، ومخالفة القوانين، أو إصدار قوانين شاذة تشبه قوانين قاض عثماني قديم اسمه "قرة قاش"، كان مشتهراً بإصدار الأحكام التي تصيب صاحبَ الحق المشتكي بالأذى، وتُفيد المُشْتَكَى عليه، المحقوق!
هذا النموذج ليس ببعيد عما يجري هنا على الأرض السورية، كما سنرى. ففي معظم دول العالم المتقدم يَنْتَخِبُ أبناءُ الشعب أعضاءَ البرلمان الذين سيمثلونهم ويدافعون عن حقوقهم؛ إلا في سورية،.. فقد درجت العادةُ أن يُعَيِّن الجنرالُ حافظُ الأسد (ووريثُه بشار الأسد من بعده) أعضاءَ مجلس الشعب (أي: البرلمان) تعييناً، من خلال إدخالهم في قائمة الجبهة الوطنية التقدمية التي تنجح بالتزوير؛ إذ ينتخبها المواطنون الأحياءُ الذين يذهبون إلى صناديق الاقتراع، والذين لا يذهبون، والأموات، والأرانب، وكراسي مركز الاستفتاء!
هؤلاء الأعضاء المُعَيَّنُون لا يكتفون بإصدار القوانين التي يريد الرئيسُ إصدارَها وحسب، بل يتربصون له عند مدخل البرلمان ليبادروه، لدى وصوله، بالهتاف والتعييش، وبعضهم يمد يديه ويلمس على جسده كأنما أمامه قديس أو نبي يشفي التَبَرُّكُ به من الأمراض السارية والمستعصية!
ولعل من أظرف القوانين (القرقاشية) التي أصدرها هذا المجلس السوري القانون 49 في سنة 1980، وينص على إعدام كل من كان منتسباً لجماعة الإخوان المسلمين، بـ (أثر رجعي)!!... ومفهوم الأثر الرجعي مضحك للغاية، فهو يعني، حرفياً، أن الشخص الذي كان منتسباً لجماعة الإخوان المسلمين في سنة 1960، فرضاً، ثم انسحب منها، وأصبح حيادياً لبضع سنوات، ثم استهوته أفكار ماركس وأصبح قائداً شيوعياً كبيراً.. يُعدم بتهمة الإخوان المسلمين!
(ملاحظة: خلال ملاحقة عناصر تنظيم الإخوان المسلمين، في الثمانينات، اعتقلت الأفرعُ الأمنية بعضَ الشبان المسيحيين ذوي الأسماء الملتبسة مثل: عبد الله، ابراهيم، شادي، خليل... على شبهة أنهم إخوان مسلمون!.. وبما أن التحقيق مع المعتقلين في سورية لا يبدأ قبل مضي عدة أشهر، فقد مكثوا في المعتقل طويلاً، وأثناء التحقيق عرفوا أنهم مسيحيون فأطلقوا سراحهم)!
رئيس العالم:
تصاعدت الحالة الديماغوجية عند أركان النظام السوري بعد انطلاق الثورة السورية، فبعد حوالي أسبوعين من بدايتها قرر بشار الأسد أن يوّجه خطاباً للسوريين، من تحت قبة مجلس الشعب.
وقبل أن يصل بشار الأسد إلى المجلس سارع العضو صباح عبيد (الذي كان نقيباً للفنانين في السابق) إلى عَقْد حلقة دبكة مشتركة بين أعضاء المجلس وبعض عناصر المخابرات المكلفين بحراسة المكان!! ولدى وصول الأسد أخذت أيدي الأعضاء تمتد إلى جسمه، لتلمسه!.. وتَحَمَّسَ أحد الأعضاء، وهو صاحب محطة محروقات في بلدة "قلعة المضيق"، وقال له:
- يا سيدي الرئيس، والله إن قيادة سورية والوطن العربي قليلة عليك، أنت يجب أن تكون رئيس العالم!
في الأدب الساخر، حينما يستطيع الكاتب أن يحشد كماً كبيراً أو سلسلة من المواقف التي تبعث على الضحك، يمكننا أن نقول إننا قد بلغنا مرتبة (الهَزْل) الفني، وهذا نوع راقٍ من الأدب الساخر يحتاج إلى خيال خصيب ومهارات عالية (أو: معلمية).. ويبلغ الهزل قمته حينما يجري على أرض الواقع، وبطريقة جد غريبة.
فحينماعاد عضو مجلس الشعب الذي تحدى إرادة السوريين، وكال المديح المجاني لبشار الأسد إلى بلدته، وبينما كان يهم بالدخول إلى محطة البترول التي يمتلكها، إذ انهال عليه الشبان الثائرون بالضرب وهم يقولون له:
- أنت قليل عليك أن تكون مجرد مالك لمحطة وقود صغيرة! أنت يجب أن تكون وزيراً للنفط! بل يليق بك أن تكون رئيس منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"!
اغتصاب النساء:
خلال الحقبة الديكتاتورية الأسدية الممتدة منذ سنة 1970 حتى الآن، كان السوريون يمنعون نساءهم من التعاطي في الشأن السياسي العام، لأن القادمين من المعتقلات كانوا يبلغونهم أن ضباط المخابرات يغتصبون النسوة المعتقلات!
وحينما ذهب رجال درعا، في أول الثورة إلى رئيس فرع الأمن السياسي اللواء عاطف نجيب (ابن خالة بشار الأسد) مطالبين إياه بإطلاق سراح أبنائهم، كان صريحاً معهم في هذا الشأن، إذ قال لهم:
- انسوا هؤلاء الأولاد واذهبوا إلى نسائكم وضاجعوهن ليُخَلِّفْن لكم أبناء غيرهم، وإذا كنتم عاجزين عن ذلك أبلغونا لننوب عنكم!
هذا الأمر، في الحقيقة، ينتمي إلى جنس السباب المُهين، ولا يندرج تحت مفهوم السخرية، فهو خال من أي دعابة أو فكاهة، ولكن، حينما اعْتُقِلَ أحمد الصياصنة (وهو شيخ أعمى عمره 68 سنة) الذي كان يحض الناس على الثورة، وقُتل الفتى حمزة الخطيب (12 سنة) تحت التعذيب، سارع الإعلام السوري إلى تبني رواية تقول إن قوات حفظ النظام ألقت القبض على الشيخ الصياصنة والفتى الخطيب متلبسين بجرم اغتصاب زوجات الضباط!
ليلة الجمعة:
إن الإبداعات الساخرة، في الحقيقة، هي إبداعات نبيلة، إذ لا يمكن أن يسخر المرءُ من الشعب؛ أو من ثورة الشعب؛ أو من الحرية؛ أو من قضية المرأة؛ أو من الوطن؛ أو من العدالة..
من هنا نقول إن وقوف الفنان العالمي علي فرزات مع الثورة، ضد النظام السوري وخياراته الأمنية أمرٌ طبيعيٌّ، فالرجل كان ينتقد حكم العسكر وعبادة الفرد وغياب الحياة السياسية في سورية منذ زمن طويل.
وكان قد صور، ذات مرة، محنة الرئيس السوري بشار الأسد مع مظاهرات يوم الجمعة بطريقة فريدة إذ رسمه وهو يقتلع ورقة يوم الخميس من الروزنامة مشيحاً بوجهه عنها لئلا يراها!
وبما أن الكاريكاتير من أكثر الفنون الساخرة مقدرة على اللذع والإيلام، فقد اضطر رجال الأمن السوريين إلى اختطاف علي فرزات وضربه على وجهه وأصابعه التي تمسك بالريشة، وإهانته بكلام معيب، انتقاماً منه لقاء لوحاته المؤلمة للنظام المستبد.
هزل سوري مبتكر:
تحدث الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، في كتابه الشهير "الضحك"، عن خصوصية الشعوب تجاه الفعل المضحك. فما يضحك شعباً ما، قد لا يضحك شعباً آخر.
فهناك الإبداع الساخر الاجتماعي المضحك الذي برع فيه الأديب حسيب كيالي (1921- 1993)، إذ نجح في رسم نماذج اجتماعية ذات طبيعة متحجرة؛ وهناك الإبداع الساخر السياسي الذي تألق فيه الأديب الراحل محمد الماغوط الذي كان يكتب هزليات مدهشة عن الحكام والمسؤولين الذين يلقون الخطابات الإنشائية الفارغة من أي محتوى..
وهناك مبدع آخر رهيب هو الشعب السوري.
فبمجرد ما انطلقت الثورة السورية، وتحرّر الشعب من عقدة الخوف المزمنة، بدأت تتشكل، في الشوارع والساحات، لوحات بشرية لا يمكن لأي مخرج سينمائي قدير أن يجاريها في الروعة، وكانت تنتج عن هذه التجمعات لقطات كوميدية ساخرة فريدة.
فعدا عن عيد الميلاد الذي أقامه متظاهرون في إحدى الساحات لمؤسس الاستبداد في سورية حافظ الأسد، وغنوا له، على إيقاع أغنية (Happy birthday to you): يلعن روحك يا حافظ؛.. هناك أغنية "يلا ارحل يا بشار" للمغني الشعبي ابراهيم القاشوش التي حفظها معظم منشدي الثورة وأخذوا يرددونها في المظاهرات، كل على طريقته..
وذات مرة كان أحدهم يغني:
يا بشار يا مندس
تضرب انت وحزب البعث
روح صَلِّحْ حرف الـ (S)
ويلا ارحل يا بشار.
وإذا به يردد كلمة (تضرب) عشرات المرات، إلى أن انفلت جميع المتظاهرين بالضحك.. لأن هذا كان يشبه ما يسميه أهل الطرب (السَّلْطَنة).. وهي، أي السلطنة، تحتاج إلى مطرب يتقن النغمات الموسيقية والإيقاعات، ويجيد العودة إلى النغم الاصلي الذي خرج عنه، ويقال له (الوَزَّان)..
إصلاحات بشار الأسد:
بمجرد ما بدأت الثورة السورية بدأ نواب بشار الأسد ومستشاروه يظهرون على وسائل الإعلام ويقدمون الوعود للشعب بأن رئيسهم المفدى الذي يحب شعبَه ولا ينام الليل وهو يفكر في إسعاده سوف يقدم للشعب، في الأيام القادمة، مجموعة كبيرة من الإصلاحات.
ومضت الأيام، ومضى بشار الأسد في قمع الشعب، وبدأ الجيش العربي السوري يقصف المدن والقرى السورية بالمدافع والطيران والبراميل المتفجرة..
وبعد كل قصف كان أبناءُ الشعب يقفون أمام الأبنية المتهدمة والجثث والأشلاء ويقولون: هذه إصلاحاتك يا بشار؟!
أخيراً:
إن موضوع الإبداعات الساخرة في سورية، وعلاقتها بنظام الاستبداد، وبالثورة، هو موضوع أثير، ويغري بتأليف مجلدات ضخمة عنه.. وبالنسبة إلي، أنجزت كتابين في هذا السياق، وربما يتقدم باحثون آخرون لتقديم ما لديهم.