لا يخفي الكاتب والباحث الكردي "بدرخان علي" قوميته الكردية التي يدافع من خلالها عن قضية عادلة تعرضت للتهميش والإقصاء من ثقافة طالما احتكمت للواحدية ضد التنوع، و للديني العميق ضد المدني الحديث، وللقومي الرافض للتنوع ضد القومي المنفتح، جاعلا من نفسه "مثقفا عضويا" في خدمة أناس يقاسمونه الانتماء القومي والإنساني على السواء.
إلا أن دفاعه عنهم وارتباطه العميق بقضاياهم وحقهم بتحصيل حقوقهم لا يدفعه نحو إغماض عقله النقدي عما يمكن أن تجنح له القوميات في لحظة صعودها، وهو ما ينطبق اليوم على القضية الكردية في الشمال السوري، رافضا بذلك تغيير الوقائع والحقائق التاريخية بنفس الحدة التي يدافع فيها عن قضاياهم، لأن القومية حين تضاد مع الإنسانية لا تغدو أكثر من فكرة شوفينية، وهو ما يحاربه "بدرخان" في حواره مع "حكاية ما انحكت" الذي يناقش فيه إشكاليات الساعة من توتر كردي – عربي في شمال سوريا انطلاقا من أحداث تل أبيض.
أجرى الحوار محمد ديبو
(1): لنبدأ من قصة مدينة "تل أبيض " كونها كانت محط أنظار السوريين والإعلام هذه الأيام. هل لك أن تحدثنا قليلاً عن هذه المنطقة ، نبذة عن تكوينها الإثني وتاريخها . هناك جدل حول اسم المدينة تل أبيض – أو كري سبي وأنها ذات غالبية كردية أو عربية كيف تنظر للأمر في ظل الجدل الساخن حالياً حول هوية المنطقة إثنياً؟
"تل أبيض" منطقة سورية تتبع إدارياً لمحافظة الرقة وتقع في شمالها بحوالي 100 كيلومتر، على الحدود السورية الشمالية مع تركيا. تركيبتها السكانية اليوم أكثر من النصف عرب ، وحوالي 30%/40% كرد وتوجد أقلية تركمانية صغيرة جداً ومثلها أرمنية . أي هي منطقة عربية- كردية – أرمنية- تركمانية مختلطة مثل الكثير من المناطق السورية في الجزيرة وغيرها.
تسمية "تل أبيض" نسبة لتل أثري، وهي تسمية حديثة لها من العمر أقل من قرن من الزمان. مثل المدينة الحديثة نفسها. وأنا استخدم هذا الاسم "العربي" وليس الترجمة الكردية للاسم "كري سبي" لعلمي أن أهل المنطقة الأكراد أنفسهم يستخدمون تسمية "تل أبيض " دون حرج. إلا أنه مؤخراً بدأ الترويج للتسمية الكردية "كري سبي" لمحاولة التأكيد على "كردية" المنطقة أو التواجد الكردي فيها وهذا خطأ برأيي. لكن هناك بالفعل تسميات كردية بحتة موجودة قبل إطلاق تسمية "تل أبيض" الرسمية ، تطلق على تلال ونقاط علامة ضمن المنطقة نفسها مثل اسم "بوزاني" الذي يطلقه الكهول الأكراد على ناحية "عين عيسى"، التابعة لمنطقة "تل أبيض" جنوبي غربها بحوالي 30 كلم. بما معناه أن تسمية "تل أبيض" العربية الرسمية لا تنفي الوجود الكردي إلى جانب العربي في المنطقة كما قد يستنتج البعض. لكن هذا الخطأ الذي يرتكبه النشطاء الكرد مؤخراً ينبغي ألا ينسحب على قضايا أخرى مثل حقيقة الوجود الكردي في المنطقة، أو أن يعني ذلك أن تل أبيض "منطقة عربية" بحتة ليس فيها أكراد. ومن المهم القول أنه كان للأرمن دوراً رئيسياً في مدينة تل أبيض الناشئة حديثاً في أوائل القرن المنصرم.
فالمنطقة التي سميت حديثاً بـ "تل أبيض" والمتمادية مع ريف عين العرب – كوباني من جهة الغرب ( المسافة بين تل أبيض وكوباني حوالي 80 كلم)، ورأس العين-سري كانيه في محافظة الحسكة من جهة الشرق. هذه السهول الواسعة كانت لقرون متواصلة، وقبل ترسيم الحدود السورية التركية بكثير، غير مسكونة بشكل مستقر ومزمن، إنما ارتحال شبه دائم للقبائل الرحل العربية والكردية والتركمانية، سيما بعد تدمير معظم المدن والمراكز الحضرية في الجزيرة السورية بعد هجمات المغول المتلاحقة على المنطقة. وكانت الصراعات والتحالفات تجري بدوافع المصلحية المعيشية والصراع على الموارد والهيمنة الشخصية والزعاماتية والقبلية ولم تكن صراعات قومية بمفهوم اليوم: عرب متحالفين مع أكراد ضد عرب متحالفين مع أكراد ..حصل ذلك أكثر من مرة في الجزيرة السورية. كما حصل تعريب لعوائل وأسر كردية، وتكريد لعوائل عربية الأصل، وتعريب وتكريد للعديد من القبائل التركمانية على مدار القرون الماضية في هذه المنطقة المختلطة إثنياً ودينياً.
كردياً كانت منطقة "تل أبيض" وخصوصاً جانبها القريب من كوباني- عين العرب، مجالاً حيوياً لأهم تجمعين كرديين كبيرين بارزين، ومتنافسين بنفس الوقت في هذه المنطقة، وهما "البَرَازية " وهو تحالف عشائري كردي مُهيمن في المنطقة وما زال إطاراً قبائلياً لمعظم السكان الكرد في المنطقة المشار إليها حتى اليوم. في الواقع كان ثقل البَرَازية في منطقة عين العرب- كوباني القريبة من تل أبيض ويبدو أن العديد من الأسر والعوائل انتقلت إلى تل أبيض من عين العرب- كوباني في وقت ليست بعيد في أوائل . وبحسب الباحث "جوردي غورغاس تيجيل" المتخصص في شؤون أكراد سوريا فإن "الكرد احتلوا في أوائل القرن السابع عشر الضفة اليسرى من الفرات وبعض أراضي من الضفة اليمنى، وذلك بعد تهجير السلطان لهم وتشكل على هذا النحو " التجمع البرازي الكردي" الذي كان يضم في الواقع جماعات متنوعة، بعضها يدعي الأصل العربي. كان البرازيون قبل وصول الفرنسيين وترسيم الحدود التركية السورية، يمارسون البداوة بين سهل سروج وجرابلس وهي منطقة جبلية قليلاً" ( عن كتابه "الحركة الكردية التركية في المنفى") ومدينة سروج التي هي مركز سهل سروج المتمادي على جانبي الحدود بين سوريا وتركيا، كانت مركز "التحالف البَرَازي"و تقع ضمن الحدود التركية وتبعد عن شمال عين العرب-كوباني بـ 8 كلم. و التجمع الثاني هو "الاتحاد القبلي المللي" الذي أدى أدواراً تاريخية وسياسية بالغة الأهمية والخطورة في تاريخ شمال سوريا وبلاد الشام وكردستان بدءاً من القرن 16 من عمر السلطنة العثمانية، حيث شمل نفوذ التحالف المللي المنطقة بين مناطق دياربكر، ماردين، عامودا، رأس العين، أورفا، الرقة، وحتى حلب بدءأ من القرن 18م . أي بما يشمل بالطبع منطقة "تل أبيض" الحالية .
" الاتحاد القبلي المللي" المكوّن من تحالف متنوع إثنياً- عشائر كردية وعربية وتركمانية- ودينياً وطائفياً مسلمين مسيحيين إيزيديين ، بقيادة عائلة من عشيرة "ملان - milan" الكردية التي كانت نواة الحلف وقيادته. كان نموذجا مميزاً من التشكيلات القبلية. عاصمة هذا الاتحاد القبلي الملي كانت مدينة "ويران شهر" التاريخية وهي مركز عشيرة "ملان" الكردية الواقعة ضمن الحدود التركية حالياً، وهي لا تبعد سوى خمسين كيلومتراً عن مدينة رأس العين-سري كانيه السورية ، وحوالي 140 كلم عن معبر تل أبيض على الحدود السورية التركية. هذا الاتحاد الذي كان على تحالف وثيق مع المركز العثماني في منفعة متبادلة بين الطرفين ، حيث استفاد العثمانيون من قوة هذا التحالف وانتشاره في التصدي لهجمات البدو "عنزة، طي، شمر" من الجنوب ، وثم تشكيل "الفرسان الحميدية " لمؤازرة السلطنة العثمانية في حروبها. واستفاد قادة الحلف "عائلة إبراهيم باشا المللي الكردي" في ترسيخ نفوذهم واستملاك أراضي واسعة في السهول الممتدة في المنطقة المشار إليها ضمن سياسة "الاستيطان العثمانية" لهذه المنطقة شبه الخالية من السكان. وفي شمال سوريا خصوصاً بين رأس العين-سري كانيه وحتى تل أبيض وجرابلس ، وفي الرقة أيضاً، حيث صار تيمور بك المللي والياً على مدينة الرقة التي كانت تتبع ولاية أورفا العثمانية في عام 1800م...( بعض المعلومات الواردة هنا بخصوص المللّيين مستقاة من دراسة د.آزاد أحمد علي بعنوان " الدور السياسي لعائلة ابراهيم باشا المللي في غرب كردستان وشمل بلاد الشام" صدرت عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ).
الأراضي الشاسعة العائدة ملكيتها لعائلة "إبراهيم باشا المللّي" بين منطقة رأس العين وتل أبيض وريف الرقة تم الاستيلاء عليها من قبل الدولة في عهد الوحدة السورية المصرية1958م ، ووزعت على مواطنين معظمهم عرب، وكذلك أراضي عائلة "آل كردو " في تل أبيض على سبيل المثال التي خسرت مساحات كبيرة..ومن المفهوم أن تتم ترجمة هذه العملية كردياً على أنها تعريب سياسي وديمغرافي وليس عملية "إصلاح زراعي".
(2): نريد أن نتوقف هنا حول النقطة التي أثرتها عن إطلاق التسميات الكردية بدل أسماء عربية على بعض المدن والمناطق؟ الحقيقة كنا نسمع عن تعريب الأسماء الكردية في سوريا . وهذه أول مرة ربما أسمع من مثقف كردي ينتقد هذه الظاهرة المعاكسة ؟ هل لك أن تذكر دوافع ذلك؟ وما موقفك من ذلك؟
الكرد ، بحكم الدين الإسلامي بما يتضمن ذلك من تعامل يومي مع اللغة العربية ، والمجال الثقافي المشترك مع العرب والغياب شبه الكامل للمدوّنة اللغوية الكردية طويلاً لأسباب عديدة، كانوا يطلقون تسميات عربية على أولادهم ومناطقهم طيلة قرون. عشرات القرى الكردية في مناطق كردية لها مسميات عربية تبدأ ب "تل"و "عين" و " أبو" و"أم". لم يبدأ الانحياز الواضح نحو التسميات الكردية البحتة إلا في العقود الأخيرة مع تصاعد المد القومي الكردي في المنطقة.
وفي حالة "تل أبيض" لا أعني أن الأكراد هم الذين أطلقوا تسمية "تل أبيض" على المنطقة ، بل أقول أن التسميات العربية شائعة جداً ومفهومة في الوسط الكردي، ولا معنى للبحث عن اسم كردي بدل التسمية العربية الأصلية. في العقد الأخير بدأ نزوع كردي نحو الابتعاد عن المسميّات الرسمية "العربية" للمدن والمناطق. وهي قد تكون تسميات أصلية فعلاً، وقد يكون من أطلقها هم الأكراد أنفسهم. من جهة أخرى هذا النزوع "التكريدي" أي الابتعاد عن التسميات الرسمية، هو من أعراض الاغتراب الوطني السوري كردياً، وفشل تحقيق وطنية سورية شاملة .
لكن بسبب الشعبويّة والسياسويّة المفرطة للخطاب القومي الكردي ترى أن بعض ممثلي هذا الخطاب من نشطاء سياسيين أو مثقفين يرتكبون أخطاء فاضحة وتجاوزات لا يمكن القبول بها تحت أي حجة. نشرت مقالاً حول هذا الموضوع من حوالي عشرة سنوات، وتلقيت انتقادات كثيرة من محيطي الثقافي قبل السياسي، قلت فيه عن مثال قامشلو- قامشلي أن البعض يظن أنه "كلما ابتعدنا عن التسمية الرسمية للمدينة كان ذلك اقتراباً من الحقيقة القومية الأصلية" . و انتقدت أكثر من مرة هذا الميل والرغبة مثل الإصرار الخاطئ على أن كلمة القامشلي هي "تعريب" لكلمة قامشلو، وهذا غير صحيح . المدينة حديثة جداً عمرها أقل من قرن من الزمان واسمها كذلك. اللفظة الأخيرة " قامشلو" هي بالفعل طريقة لفظ قسم كبير من سكان المدينة وريفها لاسم مدينتهم، لكنها ليست الاسم "الكردي الأصلي" للمدينة، بل بالعكس، كلمة "قامشلي" أكثر تماشياً مع الصرف اللغوي الكردي . حيث أن كلمة قاميش هي كلمة تركية-على الأغلب- أو كردية –احتمال أضعف- تعني القصب الذي ينمو على ضفاف الأنهار ( هنا نهر جغجغ الذي ينبع من شمال المدينة ضمن الحدود التركية). و"لي" لاحقة كردية تفيد "في" أن تصبح المدينة التي "فيها القصب" . أو قد تكون الكلمة من اشتقاق تركي على وزن " دياربكرلي ، اسطنبولي ...". لا يمكنني الجزم . في الوثائق الفرنسية إبان الانتداب الفرنسي ترد المدينة باسم "قامشلية". وهناك تسمية "رأس العين" كمثال آخر . يجري القول هنا أن تسمية "رأس العين" هي تعريب ( وأحيانا يقال "تعريب بعثي"!) لكلمة "سري كانيه" الكردية التي تأتي بنفس المعنى بالضبط . وهذا غير صحيح على الإطلاق . تسمية "رأس العين " قديمة جداً من قرون ومذكورة في كتب البلدانيين والرحالة (مثل ياقوت الحموي). أهل المنطقة الأكراد يلفظونها بكل بساطة سري كانيه بالكردية ( أي دون تكلف) ما يعني أن التسمية الكردية قديمة أيضاً، وليس تكريداً للاسم العربي. هناك داخل الأراضي التركية مدينة في مقابل رأس العين –سري كانيه السورية، معظم سكانها أكراد يلفظونها "سري كانيه" ورسمياً تسمى بـ "جيلان بينار". ما يرجح أن الاسم الكردي أيضاً دارج وغير مصطنع وليس تكريداً للاسم العربي . ولا الاسم العربي القديم جداً هو " تعريب" للاسم " الأصلي" الكردي. وهذا معقول لأن الاسم في الحالتين جاء نسبة للعيون (الينابيع) الموجودة في المنطقة. وبطبيعة الحال يميل الناس إلى تسمية مناطقهم بأشياء مميزة في الطبيعة أو في محيطهم الجغرافي. لكن هذا شيء مختلف عن القول أن اسم المدينة أو المنطقة جرى تعريبه لـ"رأس العين".
أظن أن هذا المسعى السياسوي الواضح يسيء لمصداقية الخطاب الكردي، فهناك في الواقع عشرات القرى بل المئات من الأسماء الكردية جرى تعريبها بالفعل خلال العقود الماضية. مثل مدينة "ديرك" في أقصى شمال شرقي سوريا (منقار البط كما تسمى تلك الزاوية في المثلث السوري التركي العراقي) التي جرى تعريبها إلى "المالكية". أو "جل آغا" التي عُرّبت إلى "الجوادية" وهناك عشرات الأمثلة وربما المئات عن عمليات تعريب مؤكدة للأسماء الكردية أو ذات دلالات كردية.
(3): وسائل التواصل الاجتماعي بينت أن ثمة مكبوتا عربيا كرديا عبّر عن نفسه بشكل سيء في الفترة الأخيرة، كيف تنظر للأمر؟ وهل تخشى أن يكون الأمر مقدمة لحرب كردية عربية؟ انفجار المكبوت هذا إعلامياً كان بالتوازي مع الصراع الحقيقي على الأرض وانعكاساً له.
الحقيقة هناك حروب أهلية متعددة تجري في سوريا منذ 4 سنوات وأكثر . من بينها صراع عربي- كردي. وقد رصدت مقومات هذا الصراع في الجزيرة السورية ، بناء على متابعة دقيقة في الواقع وفي الإعلام وكتبت عنه من حوالي ثلاث سنوات. في الواقع هناك اختلاف بالأولويات لدى أبناء القوميتين. الكرد بغالبيتهم يريدون أولاً الابتعاد عن "الحرب العامة" في البلاد – إن جاز التعبير- و ثانياً تعزيز ذاتيتهم القومية وكيانيتهم الثقافية المستقلة والحفاظ على وجودهم القومي في هذه الحرب الطاحنة التي تمر بها سوريا . أما عرب الجزيرة منقسمون بين الولاء للنظام ( في القامشلي وريفها لازال الولاء للنظام ملحوظاً حتى تبيّن لي في زيارة أخيرة أن العرب يرسلون أبنائهم للخدمة العسكرية النظامية ودون ضغوطات كبيرة من السلطة المحلية التي باتت ضعيفة كثيراً بشكل ملحوظ علماً أنه بات معدوماً في الوسط الكردي)، والانتماء لفصائل إسلامية الطابع أو إسلامية عروبية.
الوسط العربي المسيّس في الجزيرة السورية كان "بعث عراقي" الهوى لفترة طويلة، ومازال مدخله الأساسي للسياسة والشأن العام مناهضة النفوذ الكردي ومحاربة النهوض الكردي المتجدد والهيمنة على السلطة المحلية في محافظة الحسكة إدارياً وسياسياً وثقافياً ويريد الإبقاء الأوضاع على ما هي عليه أي وضعية "المواطن" درجة ثانية بالنسبة للكرد. وهذا التيار تشكل تحت مسميات وطنية بدءأ من انطلاق الانتفاضة السورية وهو نفسه مصدر الكثير من الأخبار والتقارير التي ترد في الإعلام العربي عن الواقع الكردي في الجزيرة السورية بلغة تحريضية في الغالب. وهناك نسبة غير قليلة من عرب الجزيرة بعيدة عن التوترات السياسية تماماً وتعيش حالة وئام مع جيرانهم الكرد كما في السابق من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بعيداً عن المواقف السياسية. وفئة أخرى دخلت في تحالفات سياسية وعسكرية مع الكرد من خلال "الإدارة الذاتية الديمقراطية" و"وحدات حماية الشعب". بخلاف الوسط الكردي المسيّس بدرجة عالية جداً وشاملة والذي بات يمتلك نبرة قومية عالية تتكلم عن "غرب كردستان" والفيدرالية القومية لكردستان سوريا ويثير المخاوف لدى العرب والسريان والآشوريين في الجزيرة. الصراع الكردي- الجهادي تحوّل بالتدريج إلى صراع كردي- عربي ( غير شامل بالطبع) لأسباب عديدة، إن لم يكن يضمر في الأساس جذراً إثنياً . وهذه نتيجة متوقعة. وما زال هناك إمكان من أجل لجم تطور هذا الصراع نحو الأسوأ .
(4): لنعد إلى موضوع "تل أبيض " ، انتشر في الآونة الأخيرة روايات تفيد بأن هناك تطهير عرقي كردي في تل أبيض وأنت قلت في مقال لك وفي تصريحات أنه ليس هناك تطهير عرقي. ولكن هناك معلومات تقول بأن ثمة قرى غادرها أهلها وثمة أحداث توثق من قبل البعض تقول أن ثمة ما يحدث؟ هل تنفي هذه الأحداث وإن حدث بعضها كيف توصفه ضمن سياقه أو بما تسميه؟ ولاحظت أنك تنفي ذلك بشكل أقرب لليقين. قلقي ناجم من كوني رأيت فيه نزوعا قوميا ينحو نحو تبرئة القومية كما يبرئ أنصار كل طائفة طائفتهم. وليس حديثك ما يقلقني لأني أعرف في النهاية كيف يكفر شخص مثل بدرخان. ولكن قلقي نابع من توّسع هذا الخطاب القومي الذي أراه لدى قوميين كرد يذكرونني بالقومية العربية في عز شوفينيتها، ما يجعلني أخشى على الكرد قبل غيرهم، لأن الخطاب القومي الشوفيني يرتد على صاحبه في نهاية المطاف قبل أي شيء آخر؟ كيف تنظر للأمر؟ هل يقلقك أمر كهذا؟ هل تشعر أن نشوة القوة بدأت تظهر على الكرد؟ شخصيا أرى ذلك وأخشى على الكرد من أن يذهبوا ضحية هذه القومية المنتفخة كما ذهب العرب ضحيتها؟
كان تفاعلي في الأيام الأخيرة مع هذه الأنباء عن التهجير والتطهير العرقي مليئاً بالغضب، المشروع حسبما أعتقد. لأنني أعلم العواقب الناجمة عن الترويج لرواية "التهجير العرقي" المزعوم ضد العرب أو "الإبادة الجماعية" أو "التطهير العرقي". أعني العواقب السياسية والاجتماعية راهناً وعلى المدى البعيد ، و العواقب الإنسانية قبل كل شيء. ليس لأني أنتمي لقومية منزّهة عن أعمال القتل و الجرائم و ما شابه كما في تشكيلة اجتماعية أخرى على وجه الأرض. الحقيقة الكرد قتلوا من بعضهم بالمئات والآلاف في عدة مراحل وحقب في التاريخ المعاصر، كي لا نتكلم عن القرن الماضي مثلاً. نتذكر مثلاً ضحايا الحرب الأهلية الكردية في كردستان العراق في نصف القرن المنصرم مثلاً. فلماذا لا يمارسون أعمال القتل والتهجير ضد غيرهم؟ لكني أزعم أن رواية التطهير العرقي الكردي ضد العرب في تل أبيض وغيرها، جرى تركيبها وترويجها في ظروف بالغة الحساسية والخطورة. وهي غير صحيحة في الأساس، أو هي تضخيم مقصود لانتهاكات في ظروف حرب طاحنة .
نعم أرفض بشكل مطلق هذا التوصيف " تطهير عرقي كردي ضد العرب" كواقعة في تل أبيض خصوصاً ، وفي شمال سوريا عموماً، لأسباب عدة. أولها أن معظم أكراد المنطقة تم تهجيرهم بالفعل من قبل. وهذه هي المفارقة هنا. حين تنوي قومية أو طائفة تهجير نظيرتها، من الأولى أن تمسك بالأرض، أرضها هي بالأول. ولكن هذا ليس متوفراً. وما هو متوفر هو نقيضه بالضبط. فالغالبية العظمى من أكراد تل أبيض وريفها هجروا على دفعات بدءا من تموز 2013 على يد فصائل مسلحة أغلبيتها إسلامية التوجه. قرى الأكراد في الريف خاوية على عروشها تماماً، والأحياء الكردية في تل أبيض محتلة من قبل داعش وعناصرها ومؤازريها. وفي بعض الحالات جرى بيع بعض المنازل بموجب عقود شراء وبيع بين "داعش" وصاحب البيت الجديد باعتبارها غنائم! ووقائع التهجير هذه موثقة في تقارير الأمم المتحدة لعام 2014 وليس من بنات أفكاري. أقدمها الآن لمواجهة المزاعم الحالية عن" التطهير العرقي الكردي ضد العرب" علماً أن تهجير الأكراد بدأ قبل بروز تنظيم "داعش" وعلى يد فصائل جهادية إسلامية يصنفها البعض "معتدلة" و"ثورية" وهذا أيضاً له معنى . في هذا الصدد يمكن الرجوع إلى "تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية" الصادر عن الأمم المتحدة رقم A/HRC/25/65 تاريخ 12 February 2014 الفقرة هاء ، حيث تصنف لجنة الأمم المتحدة الخاصة بسوريا ما جرى بحق الأكراد في تل أبيض والرقة وتل عرن وتل حاصل- الأخيريتان تابعتان لحلب- تحت بند التهجير القسري وتختتم بمايلي " ويشير نمط سلوك الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة في الرقة وحلب في تموز/يوليه إلى وجود حملة منسقة ومخطط لها تستهدف تشريد المدنيين الأكراد قسراً. وتُبين الأساليب المتبعة والتهديدات بالعنف وما تلاها من عمليات الاختطاف تعمُّد تشريد السكان على أساس الهوية الإثنية. ويشكل ذلك السلوك جريمة الحرب المتمثلة في التشريد القسري" . وليس من المفهوم لماذا سوف تعمل القوات الكردية وحدات الحماية الشعبية على مشروع لتطهير عرقي في مناطق رخوة بالنسبة لها بسبب قلة الوزن الديمغرافي للكرد فيها واحتمال الخسارة كبيرة، كتل تمر وتل أبيض وتل حميس ، مقارنة مع مناطق لها حاضنة شعبية أقوى بكثير بحكم الثقل الديمغرافي الكردي فيها؟ ولماذا لم يتعرض أي شخص من "المغمورين العرب " لأي اعتداء من أي نوع في مناطق ذات غالبية كردية، وهم كما تعلمون عرب من خارج المنطقة استجلبوا بموجب قرار من الجهات الحكومية وأسكنوا في أراضي غالبيتها منتزعة من فلاحين وملاكين أكراد في منطقة الجزيرة السورية؟
هذا ينفي لدي وجود مخطط منظم لسياسة قومية تطهيرية من أي نوع. أعتقد أيضاً أن الوزن الديموغرافي للكرد في سوريا وانتشارهم لا يسمح لهم على الإطلاق ممارسة سياسة منظّمة في هذا الاتجاه.
أيضاً، بين المتحالفين مع القوات الكردية فصائل من أهل المنطقة من العرب (غير الجهاديين ) ، كلواء ثوار الرقة ولواء التحرير شكّلت مع القوات الكردية "غرفة عمليات بركان الفرات ".
بالتأكيد كل ما ذكرته أعلاه لا ينفي أن تحدث عمليات انتهاكات أو إجراءات قاسية أو ممارسات خاطئة أو حتى عمليات انتقام فردية أو واسعة بسبب التداعيات الخطيرة لما جرى لأكراد تل أبيض سابقاً، وكلّها مدانة؛ لكن وضعها تحت عنوان التطهير العرقي والتهجير القومي توصيف سياسي وليس حقوقي مبالغ به و غير صحيح. ولا ينسجم مع الوقائع المضادة. نعم سمعت ببعض الانتهاكات من أشخاص متواجدين قريبين من المنطقة. لكنها انتهاكات وليست عملية تطهير كما يقال بسهولة. أي انتهاك لأي إنسان مدني هو يجب أن يوثق ونعمل جميعاً على إنصافه. بالمقابل رأينا في وسائل إعلام عديدة، بعضها لا تكن أيّ ود للأكراد وتشجّع الجماعات الإسلامية المسلحة بما فيها تنظيم القاعدة في سوريا (جبهة النصرة) مثل فضائية الجزيرة- نقلت شهادات مشجّعة من أهل المنطقة أنفسهم مناقضة لما تم ترويجه، كبدء عودة الأهالي ببطء إلى منازلهم، والتشديد على تحميل تنظيم داعش مسألة الفتنة الحاصلة في المنطقة، وتفنيد مزاعم التهجير العرقي وما شابه. وتبيان حجم الخراب في البيوت والنهب الحاصل من قبل داعش. أكثر من هذا، عرضت إحدى القنوات تقريراً مصوّراً من أجل تثبيت رواية "التهجير العرقي الكردي ضد العرب"، وإذا به يؤدي غرضاً معاكساً، فأي مشاهد يدقق في الشهادات المعروضة سيخرج بزيف هذه الرواية ويتوصل إلى أن معظم الناس هربت خوفاً من المعارك، ومن خلال متابعتي لشهادات عديدة توصلت مبدئياً إلى أن خوف الناس من المعارك كان عاملاً أساسياً للهروب والنزوح، سيما هناك طيران جويّ مشارك لا يرحم، ورأى الناس بأعينهم صور الدمار الشامل في كوباني –عين العرب وغيرها جرّاء القصف.
المشكلة الآن، وفي واقع عسكري وميداني معقد ومتداخل وهذا الكم من النازحين العرب والكرد، وهذا الشحن الإعلامي الكثيف يصبح أي إجراء أمني احترازي لضرورات عسكرية بحتة أو لشبهات بحق أشخاص ساندوا داعش ( وعدهم غير قليل) أو يشتبه أنهم ساندوا، بحيث يصبح توقيف أي شخص للتحقق منه جزءاً من عملية "التطهير العرقي الكردي ضد العرب" المزعومة، وتهمل كل الأعمال المشجعة من قبل وحدات الحماية الكردية وحلفائها في "الجيش الحر". أعني هناك مبالغة كبيرة وسهولة إطلاق مصطلحات الإبادة والتهجير والتطهير" لغايات سياسية لئيمة.
في ظل الهجمة الإعلامية المنسقة والكبيرة التي تشاع في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بلغ التحريض والشحن العنصري لحد وصف الأكراد بالصهاينة وعصابات الهاغانا ويراد لهذا الوصف أن يصبح عادياً في الأذهان. هذه الحملة وراءها الكثير من السياسة والقليل جداً من الغاية الحقوقية الإنسانية، من بينها تحضير لإبادة عرقية ضد الأكراد. سيما وأنه صدرت فتوى شرعية من قبل "المجلس الإسلامي السوري" ، الذي يضم كبرى الهيئات والجمعيات الإسلامية السورية، تشرعن أي هجوم على الأكراد تحت شعار محاربة ما أسموه "داعش الأكراد" أي وحدات الحماية الشعبية الكردية، ولم ينسوا بالطبع الإشارة إلى "ماركسية" هذه الوحدات- يقصدون علمانيتها- إمعاناً في التشويش ومزيداً من التحريض الديني-السياسي. و بالتأكيد الطابع العلماني لهذه القوات والمشاركة الفاعلة والبارزة للنساء فيها هي سبب إضافي للتحريض ضدها. كما صدرت العشرات من "الفتاوى القومية الوطنية" من قبل "قوميين علمانيين" أيضاً، ممن يدعون الحكومة التركية علناً لاحتلال شمال سوريا من 5 سنوات!. و"فتاوى عشائرية" أيضاً. الأمر مريب ومنسق لهذا علينا التصدي لهذه الحملة المنسقة. أما حكام تركيا باشروا باللحظة الأولى لتحرير تل أبيض من داعش بإطلاق تصريحات من أعلى المستويات تعبّر عن توتر عالٍ جداً لمجريات الأحداث، وروّجوا لرواية التطهير العرقي ضد العرب والتركمان، مع تضخيم مقصود لحجم الثقل السكاني للأقلية التركمانية الصغيرة جداً في تل أبيض (صحفيّ تركي أبدى دهشته للكلام عن التركمان الهاربين من الأكراد إلى الأراضي التركية حين لم يجد تركماناً بين النازحين من تل أبيض). وأود التنويه هنا إلى حجم تلاعب الحكومة التركية بالنسيج الاجتماعي الداخلي السوري، فالرئيس التركي أردوغان ورئيس وزرائه داوود أوغلو خصّا مراراً في الإعلام التركمان السوريين كفئة سورية مميزة، وأردوغان أعترف بنفسه مؤخراً بتسليحه للتركمان السوريين في معرض محاولة نفيه تقديم الدعم لـ"داعش"، ومن اللحظة الأولى للأزمة السورية كان للحكومة التركية، إلى جانب دفع المعارضة للتسلح والخيارات الانتحارية الحدية ودعم الحركات الإسلامية ، الدور الأكبر في تشكيل هيئات سياسية تركمانية لم تكن موجودة في سوريا أبداً. لم تكن في سوريا "قضية تركمانية" يوماً ما مع الاحترام الكامل للخصوصية الثقافية التركمانية وللأخوة التركمان، ولم تكن هناك حركة سياسية أو حتى ثقافية للأخوة التركمان، ولا مطالب خاصة بهم كتركمان بل مواطنين سوريين مندمجين تماماً في النسيج السوري. حتى الأقلية الشركسية الصغيرة جداً في سوريا كانت لها بعض الأندية والجمعيات الثقافية، وكذلك الأرمن. أما التركمان لم أسمع ولم أر ذلك. أعني لم يكن هناك هوية تركمانية ثقافية خاصة في سوريا. التركمان لم يتشكّلوا كقومية في سوريا، بسبب الاندماج الكامل و قلة العدد والتبعثر السكاني وعوامل أخرى. هذا تلاعب خطير من قبل الأتراك، لا يتوقف عنده الإعلام السوري المعارض المهووس بخلق "وحش كردي" في أذهان السوريين. لا أقول أنه يجب وضع الأخوة التركمان السوريين موضع التشكيك الوطني والتحريض بدل الكرد، ليس هذا هو المطلوب، بل التنويه إلى الأجندة العديدة التي تفعل فعلها على الساحة السورية. وخصوصاً تركيا التي هي اللاعب الخارجي الأكبر في شمال سوريا منذ خمسة سنوات أي منذ اندلاع الأزمة السورية.
هذه الحملة هي التي أحاربها في الأيام الأخيرة، حملة تثبيت وصف "التطهير العرقي وإبادة الأكراد للعرب" وجعله وصفاً طبيعياً وتمرير هذا الوصف عبر ضغط إعلامي مكثف، و محاولات تثبيت تسمية "الصهاينة" وعصابات "الهاغانا" على الشعب الكردي والمقاتلين الكرد، وتحريف اهتمامات وأولويات أهل تل أبيض و الرقة وريفها في العودة إلى بيوتهم وتوفير أبسط شروط الحياة التي باتت مفقودة تماماً في مناطق سيطرة داعش.
على أنه ينبغي القول أنه حين أواجه مزاعم "التطهير العرقي الكردي ضد العرب" بوقائع مثبتة عن تهجير الأكراد واقتلاعهم ونهب منازلهم، فإني أولاً : لا أقول أن ما جرى سابقاً كان "تطهير عرقي عربي ضد الأكراد" رغم مشاركة أهل المنطقة من العرب في عملية التهجير والنهب إلى جانب الفصائل الجهادية. وثانياً: لا يعني أنه يغطي أي ممارسات كردية تالية من ردود فعل فردية أو جماعية حصلت أو قد تحصل، وصوتي سيكون مرفوعاً بعد التأكد منها من مصادر مختلفة ومحايدة نسبياً وغير مشاركة في الحملة الإعلامية السياسية ضد الكرد ككرد.
أخيراً في هذه النقطة و بدل الانشغال بمحاولة تركيب رواية لا تبدو متماسكة حتى اللحظة عن "التهجير والتطهير" المزعومين الأولوية الآن للعمل على إيجاد بيئة مناسبة ولو على نحو أولي مشجعة على عودة جميع الأهالي بكافة انتماءاتهم إلى منازلهم عبر نزع الألغام التي زرعتها داعش خلفها عن قصد وتوفير أبسط مقومات الحياة من ماء وخبز وكهرباء وتشكيل مجلس محلي لأبناء المدينة والريف، وتشكيل قوات أمن و حراسة. وثم التفكير بعملية عسكرية من أجل إنقاذ مدينة الرقة من براثن "داعش" على غرار ما جرى في كوباني-عين العرب، وتل أبيض.
وأود التذكير في هذا السياق، أن سكان منطقة كوباني-عين العرب وريفها الكرد كلهم باتوا مهجرين في تركيا، وأصبحت المنطقة أنقاضاً تماماً. وأن أكبر نسبة من النازحين من محافظة الحسكة السورية هم من الأكراد. وأن منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية المطلقة في شمال حلب، أصبح التواجد العربي فيها ملحوظاً بسبب نزوح السكان العرب من ريف حلب إليها بسبب المعارك، وكذلك بسبب نزوح نسبة كبيرة من سكان المنطقة الأكراد إلى خارج سوريا بسبب الحصار المطبق على المنطقة من قبل الفصائل الإسلامية المسلّحة منذ أكثر من عامين. و أن استهداف الأكراد بدأ من قبل جبهة النصرة وفصائل معارضة أخرى في عام 2012 في رأس العين – سري كانيه ونهبت بيوت المواطنين الأكراد في حينها تحت مسمى "التحرير" . أعطي هذه الأمثلة كي يكتمل ملف "تهجير الأكراد للعرب" في شمال سوريا للمهووسين بروايات التغيير الديمغرافي في شمال سوريا وتحضيرات إقامة دولة كردية في سوريا ...بلا سكان أكراد!!
(5): هل تعتقد أن وحدات حماية الشعب لديها مشروع خاص تعمل على تحقيقه مستغلة ما تحدثه داعش من توتر وتشطي في المنطقة، أم أنها لا تفعل إلا أن تقف بوجه داعش حقا؟
تشكلت "وحدات الحماية الشعبية" الكردية قبل ظهور داعش، وواجهت تنظيمات متطرفة أخرى كجبهة النصرة- شقيقة داعش- وجماعات أخرى في رأس العين-سري كانيه- من عام 2012. وفرضت الظروف القاهرة ومجريات الحرب السورية القذرة وتحولها لحرب أهلية وميليشاوية والتضحيات الكبيرة التي بذلتها هذه الوحدات، وهشاشة التنظيمات الأخرى المنافسة وتشرذمها مقابل تراص البنية الشعبية الموالية لهذه الوحدات، وقلة استعدادها للتضحية وعدم خبرتها في المجال العسكري في حين أن لقادة وحدات الحماية الشعبية الكردية ، كجزء من المنظومة العسكرية لحزب العمال الكردستاني الذي حظي بوجود كبير بين كرد سوريا مراس عسكري طويل، وأداء هذه الوحدات التنظيمي والعسكري، فرضت الالتفاف الشعبي حولها واعتبارها قوات كردية، لا جناحاً مسلحاً لحزب وحسب.
رغم الحساسيات الحزبوية الكردية المتفشية في الوسط الكردي، ورغم الأخطاء الصغيرة والكبيرة والانتهاكات المتكررة الصغيرة والكبيرة التي ارتكبتها هذه القوات في المجال الكردي، خصوصاً قبل مأسستها و تحوّلها من "ميليشيا سرية" إلى قوّة عسكرية علنية لها مكاتب وناطقين وممثلين علنيين.
أصبحت هذه القوات تمثل "إرادة كردية" في سوريا، إن لم يكن بنظر عموم الأكراد، بسبب ما ذكر أعلاه آنفاً، فعند غالبية الأطراف السورية غير الكردية. وهنا لأول مرة تتشكل قوة عسكرية كردية في سوريا بعد جلاء الانتداب الفرنسي، بخلاف الحالة الكردية في باقي البلدان حيث الكفاح المسلّح لم ينقطع طيلة القرن الماضي إلا لفترات متقطعة. وهذا التمثيل القومي هو محل الاستهداف السياسي بشكل أساسي برأيي والمطلوب كسر شوكتها وقوتها. وهذا هو السبب الأساسي في التحريض الممنهج والمنسق بين دوائر عدة سورية وخارجية – تركية على وجه الخصوص- . هذه القوات على درجة كبيرة من التنسيق والمركزية والانضباط العسكري، والقابلية للتضحية أيضاً. إذ أنها ضحّت بآلاف الشباب حتى الآن من أجل قضية يراها الأكراد أنها تعنيهم جميعاً، وهي حماية مناطقهم من الجماعات المسلحة- الإسلامية خصوصاً- وضمان تمثيل سياسي عادل في سوريا المستقبل وقوة لحماية مناطقهم في ظل التفكك الوطني المريع وانتشار العصابات المنفلتة و خضوع المناطق السورية جميعاً للجماعات المسلحة وأمراء الحرب.
و تحت ضغط الخطر الجهادي الداعشي نجحت "وحدات حماية الشعب" في استقطاب مكونات المنطقة الأخرى من بعض العشائر العربية ضمن قوامها، وهناك تحالف ميداني وثيق وتنسيق بين هذه القوات وقوات عربية تسمى "الصناديد" تتبع لزعيم عشيرة شمر العربية الشيخ "حميدي دهام الهادي"، الرئيس المشترك لحاكمية مقاطعة الجزيرة في "الإدارة الذاتية الديمقراطية" المعلنة في مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين. التي أصبحت بمثابة الغطاء السياسي السوري لهذه القوات.
ومع أن الكلام عن مستقبل هذه الوحدات الكردية مبكر إلا أنه من المؤكد أنها لن تزول بمجرد انتهاء الحرب السورية أو انتهاء الخطر الإرهابي، وقسط كبير من الكرد يراهنون على هذه القوات من أجل تعزيز نفوذهم في النظام السياسي القادم والدولة الجديدة، و إن لم تكن جزءاً من الجيش الوطني السوري المستقبلي ، سيكون لها دور أساسي في وظائف الأمن المحلي والشرطة المحلية على الأقل...هذا إن لم تدم هذه "الحالة المؤقتة" التي نحن فيها الآن لعقد آخر أو عقود أخرى!