أعلنت مجموعة من "رجال الدين" خلال مؤتمر صحفي في التاسع من آب 2015 أنهم قرروا استخدام الليرة التركية بدلا من الليرة السورية في الشمال السوري، بعد أن أطلقوا على أنفسهم "اللجنة السورية لاستبدال الليرة السورية"، قائلين أن قرارهم هذا يأتي استنادا إلى "قرار الفصائل والمحاكم القضائية"، وبهدف الحفاظ على أموال المواطنين من الضياع نتيجة انهيار الليرة السورية، وإصدار النظام لأوراق نقدية لا رصيد لها، ولمحاربة نظام الأسد اقتصاديا، ولدعم استقرار أسعار السلع والمواد في المناطق الخارجية عن سيطرة النظام، كما جاء في المؤتمر الصحفي الذي عقدته اللجنة.
القرار أطلق موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين، مرفقة بسجال اقتصادي دار بين الصحفيين والخبراء في وسائل الإعلام حول واقعية القرار وشرعية مطلقيه أو "فائدته"، علما أن البعض أيد القرار أيضا لأنهم رؤوا أن "أحد أسباب ثبات سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي هو السوق السوداء في مناطق المعارضة التي يحول فيها المواطنون قطعهم الأجنبي إلى ليرة سورية".
غضب وسيادة وطنية:
أول ردود الفعل التي سجلها السوريون على القرار كان الغضب الواضح، لأن الأمر مس فعلا شيئا من كرامتهم وسيادتهم الوطنية، إذ قال المعارض والسجين السابق من حمص "محمد الصالح": "من يستدعي الليرة التركية ويحرم السورية بالشمال السوري، يحتاج إلى وصف لم أتعود كتابته على صفحتي. عذرا"، في حين قال "فوزي غزلان" من درعا: "شيوخ ولحىً في شمال سوريا، قررت خيانة الوطن بكلّ وقاحة"، حيث بدا لقسم كبير من السوريين أن القرار جاء خدمة لأجندة تركية أكثر مما هو أجندة وطنية، خاصة أن القرار تزامن مع تراجع في سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار وبدء إجراءات المنطقة الآمنة في الشمال، وهو ما انتبه له حزب "الجمهورية" حين قال في بيان له: "إن توقيت هذه الخطوة في ظل الحديث المتزايد عن منطقة آمنة في الشمال السوري، يثير لدينا ولدى أغلبية السوريين أكثر من سؤال عن الجهة الحقيقية التي تقف وراء هذا القرار، فهذه الجهة تقامر بالوطن وبوحدة سورية أرضاً وشعباً وكياناً من أجل تمرير مشروعها الخاص". وهو ما تقاطع جزئيا مع رأي رئيس المرصد السوري لحقوق الإنسان "رامي عبد الرحمن" حين قال في حوار له على قناة "بي بي سي": "الليرة السورية ليست هي عملة بشار الأسد. الليرة السورية هي عملة سوريا. هل نقوم باستبدال الليرة السورية بالليرة التركية! نتحدث عن نظام بشار الأسد الذي باع سوريا لإيران واليوم نتحدث عن الليرة التركية التي سوف تنشط في حلب".
الإحساس العالي بأن القرار انتهك السيادة الوطنية السورية دفع البعض إلى اتهام المسؤولين عن القرار بالعثمنة والدوران في الفلك التركي، حيث قال M-yaso Kermo: "هؤلاء صعاليك أردوغان. هذه أيضاً حرب اقتصادية لتفقد الليرة السورية قيمتها ليجوع الشعب السوري أكثر"، في حين اتهم "ثائر عبود" مطلقي القرار بأنه "ابن حريم السلطان وجواريه".
دين وسياسة وشرعية واقتصاد!
بعد الغضب بدأت الأسئلة والتحليلات تتوالى، إذ تركز الجدل على الشرعية التي يمتلكها من أصدر القرار، إذ ظهرت أسئلة تسأل: من هؤلاء؟ ومن أعطاهم مفاتيح القرار؟ وما مدى فهمهم بالاقتصاد حقا؟ حيث جاء في بيان حزب "الجمهورية": إن العملة النقدية رمز من رموز وحدة الوطن، وهي ليست عملة هذا “النظام” أو غيره من الأنظمة، فهي موجودة منذ توقيع معاهدة الاستقلال، وقبل ولادة حزب البعث والطغمة الحاكمة، وإن التذرع بأن هذه الخطوة تساهم في إسقاط الطغمة الحاكمة هو مجرد كلام صادر عن أشخاص لا يعرفون أوليات الاقتصاد"، إضافة إلى سؤال يتعلق بعلاقة رجال الدين بالشأن الاقتصادي أساسا؟ إذ يخفي السؤال الأخير قلقا من أن يكون أحدا أو جهة ما تخطط تدريجيا لتدخل الدين بالسياسة وقرارات المواطنين على هذا النحو السافر، بما يعيد سلطة رجال الدين ويضعها فوق سلطة السياسة التي يناضل السوريين لاستعادتها من نظام الأسد، خاصة أن أغلب الفصائل العسكرية المقاتلة في الشمال تطالب بدولة إسلامية وليس دولة مدنية، حيث ذهب البعض أبعد من ذلك معتبرا أن الخطوة تأتي بترتيب من تنظيم الإخوان المسلمين الذي يرتبط بعلاقة جيدة مع السلطات التركية، ويعمل على ترتيب المناطق الشمالية وفق الرؤية التركية، إذ سبق لقادة التنظيم أن دعوا للتدخل العسكري التركي في سوريا، رافضين اعتباره احتلالا، حيث يخشى البعض من أن يكون الإخوان ومن يعمل على فرض هكذا قرارات يعملون في فرض أمر واقع في الشمال السوري. ويزيد هذا الاحتمال حين ندرك أن اللجنة لم تنتظر رأي الحكومة السورية المعارضة، حيث نقلت وسائل الإعلام عن مصدر في الحكومة قوله: "لم يؤخذ رأينا قبل البدء بتطبيق الخطوة، واكتفت اللجنة ونقابة الاقتصاديين بإرسال الدراسة للحكومة مطلع الأسبوع".
تدخل رجال الدين هؤلاء في السياسة كان له نصيب وافر من سجالات السوريين الرافضة للأمر، حيث قال "فوزي غزلان": "أصحاب اللحى، متى أصبحوا رجال اقتصاد سياسي...! هم المسؤولون عن كل كوارثنا ومنذ البداية"، في حين نقلت الفنانة "لويز عبد الكريم" على صفحتها عن شاب اسمه "يحيى" قوله: " أعلن مشايخ اعتماد الليرة التركية بدل السورية. هلق طول عمري بسمع بالخبير الاقتصادي. بس شيخ اقتصادي هي الجديدة. بالله في شي ما دحشو أنوفهم فيه العمائم لسى".
هل يخدم القرار الأهداف المعلنة له حقا؟
بررت اللجنة قرارها بجملة من الأهداف التي تتوقع أن يحققها القرار، يقف على رأسها، الضغط على النظام وخدمة المواطنين، الأمر الذي يدفعنا لمناقشة الأمر بتفصيل.
الضغط على النظام ومخاطر التقسيم:
بررت اللجنة قرارها بأنه يهدف للضغط على النظام سعيا لإسقاطه، وهو الأمر الذي عارضه عدد من الخبراء وإن اعترف بعضهم بأن الأمر سيؤثر على النظام سلبا لجهة حرمانه من "ملايين الدولارات التي تدخل المناطق المحررة وتحول لليرة السورية"، إلا أن الأمر أعقد من ذلك بكثير لأنه سيولد الكثير من الإشكالات والمضار التي تجعل إمكانية تأثيره على النظام مشكوك فيها، حيث قال الخبير الاقتصادي "عماد الدين الخطيب" في حوار له مع "الاتحاد برس": "إن الأموال السورية التي سيتم استبدالها يجب أن تصب في النهاية لدى النظام لأنه لا يمكن أن يتم إتلاف تلك الأموال إلا إذا تبنت الدولة التركية حربا اقتصادية ضد النظام. وفي الحالتين لن يتأثر النظام لأنه سيعمد إلى ضخ كميات كبيرة من الليرات السورية في تلك المناطق بشكل غير مباشر لاستبدالها بالقطع الأجنبي"، في حين اعتبر عضو غرفة تجارة إدلب السابق، "نبيه السيد علي" أن "الأمر أعمق وأعقد من ذلك بكثير، وربما يصل لتقسيم سورية، وبالتالي ما الفائدة من استبدال العملة فقط وجزئيا مع بقاء الارتباط بالنظام على كافة الصعد ومنها الاقتصادي"، ليعود ويشير الخطيب إلى نقطة مهمة، ألا وهي أنه في حال "تم اعتماد هذا المبدأ في المناطق الخارجة عن سيطرته، يعني أنه تقلصت مسؤوليات الدولة تجاه الشعب وانحصرت في تلك المناطق الخاضعة تحت سيطرته، مما قد يؤدي إلى عمليات إنعاش بشكل غير مباشر، ولاسيما إذا اعتمد سياسة قاتلة بإلغاء التعامل بالليرة السورية واعتبارها باطلة وتعامل على سبيل المثال بـ “التومان” الإيراني أو إصدار عملة جديدة كرد فعل على مثل هذا الإجراء".
ولكن من جهة أخرى، افترض البعض أنه حتى لو كان القرار فعلا يؤدي إلى الضغط على النظام اقتصاديا، إلا أنه بذات الوقت يفتح خيار التقسيم على مصراعيه أو يمهد الأرضية اللازمة له، ما يجعلنا في حالة من رمى الطفل مع السلة في النهر، إذ ما فائدة سقوط النظام في حال تقسّم البلد، وهو ما حذر منه مصدر في الحكومة المعارضة حين قال أن الأمر "بحاجة لدراسة كي لا تشتغل من بعض الأطراف على أنها بداية لتفتيت سورية وتتبيع الشمال لتركيا"، في حين تساءل البعض: "إذ اعتمد الشمال المحرر المجاور لتركيا الليرة التركية، فهل يحق للجنوب أن يعتمد الدينار الأردني، وكذا المناطق المجاورة للبنان هل تتجه إلى الليرة اللبنانية؟".
وفي تطبيق القرار قال "الخطيب" أنه "لا يمكن ضبط العمليات التجارية بين مناطق النظام والمناطق الخارجة عن سيطرته؛ إلا من خلال بناء جدار فاصل، وهذا يكرس عمليات التقسيم في سوريا وهذه من أكبر مساوئ عملية الاستبدال".
هل يستفيد المواطنون حقا؟
بررت اللجنة قرارها بأن الهدف هو حماية المواطنين من أثار التراجع الدائم لليرة السورية أمام الدولار، ولتحقيق ثبات في أسعار المواد، حيث قال عضو اللجنة وعضو نقابة الاقتصاديين "محمد غياث دعاس" أن "استبدال العملة يخلق جوا من الاستقرار الاقتصادي في أسعار السلع والمواد في الأسواق بالمناطق المحررة".
إلا أن أغلب آراء المواطنين التي عكستها التقارير الإعلامية القادمة من أرض الواقع بينت أن الأغلبية لا ترى أنها مستفيدة، ناهيك عن تغليب أغلب المواطنين لعامل الكرامة والسيادة الوطنية على أي عامل آخر، حيث بدا تمسكهم بسيادتهم الوطنية أمرا يعلو على أي شيء آخر.
وبعيدا عن آراء المواطنين الذين قد لا يكون لهم اطلاع على الشؤون الاقتصادية بشكل علمي، فإن الخبير "الخطيب" قال أن "لعملية الاستبدال آثار سلبية على الحالة المعيشية للمواطن السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لاسيما إذا علمنا أن هناك تفاوت في المستوى المعيشي بين المواطن السوري والمواطن التركي، حيث أن دخل الفرد التركي أعلى من مستوى الدخل للمواطن السوري، ولا أعتقد أنه ستكون هناك حماية للسوريين في مناطقهم أو دعم للإنتاج لديهم من الحكومة التركية".
إضافة إلى أن القرار سيترك المواطنين السوريين تحت رحمة الصرافين في ظل عدم وجود "جهة اقتصادية ستجمع الليرة السورية وتعوّض السوريين عنها بالليرة التركية، أم سيضطر السوريون إلى اللجوء للصرافين لمزيد من الاستغلال"، إضافة إلى وجود مواطنين لازالوا يتقاضون رواتبهم بالليرة السورية، ما يعني أن عملية تحويلها إلى الليرة التركية ستؤدي إلى خسارة كبيرة لهؤلاء في ظل تراجع قيمة الليرة.
أغلب التجار والصرافين بدوا مرحبين بالقرار لأنه الليرة السورية تتراجع ما يعرضهم لخسائر في حين أن الليرة التركية أكثر استقرارا، وهو ما يساعدهم على شراء بضائعهم القادمة من تركيا في أغلبها.
أمر واقع!
ثمة رأي آخر يقول بأن أمر تواجد الليرة التركية في الشمال السوري هو أمر قائم منذ فترة عمليا، وهو أمر سيكون بحكم الواقع المفروض، حيث أن التعامل قائم بين تجار المدينة بهذه الليرة فعلا، ناهيك عن كون الخطوة تأتي استكمالا لما أعلنته نقابة الاقتصاديين السوريين المعارضة، بالتعاون مع المجلس المحلي في حلب (شمال غرب)، في 6 يوليو/تموز الماضي عما سمتها مبادرة لتبديل العملة التركية بالليرة السورية في الأراضي المحررة، ودعت حينها كل من يملك مبلغًا زائدًا عن 10 آلاف ليرة سورية إلى تحويله للعملة التركية.
خاتمة:
بعيدا عن الإجراءات الاقتصادية البحتة، وعما إذا كان الإجراء مفيدا للسوريين أم لا، وكونه سيضغط فعلا على النظام أم لا، فإن الخطر الأكبر لهكذا قرار يأتي من كونه يشكل خطرا على وحدة البلاد في مستوى أول، عبر ربط اقتصاد المنطقة الشمالية في سوريا بالاقتصاد التركي عمليا، وهو ما قد يشجع المناطق السورية الأخرى على اتخاذ نفس الخطوة، ليصبح هناك أكثر من عملة في سوريا، ولتصبح كل منطقة مرتبطة باقتصاد بلد ما، ما يجعل عملية توحيد الساحة الاقتصادية السورية لاحقا أمرا صعبا، ما سيؤثر على العملة السورية التي هي عملة البلد بعيدا عن النظام، ويعرقل عملية إعادة بناء الاقتصاد السوري من جديد، الأمر الذي يعني أننا أمام قرار يمس السيادة الوطنية والكرامة السورية، وهو ما يبدو أن متخذي القرار لم يأخذوه بعين الاعتبار.
في مستوى ثان، ثمة خطر آخر يتجلى بتدخل رجال الدين في الشؤون الاقتصادية ما يشكل كارثة بامتياز، ففي ظل الاستبداد كان الاقتصاد السوري مرهونا لصالح السلطة الحاكمة وخدمة بقائها في حين همّش الخبراء، فهل هذا يشكل مدخلا لإعادة الاستبداد بصيغة دينية؟