لم يَعُد السوريون يُعْتَقلون على يد النظام السوري فقط، ولم يعودوا يطالبون الحريَّة لمعتقليهم في سجون النظام السوري فحسب.
لم يعد السوريون يعتصِمون ضِدَّ استبداد السلطة السورية فحسب، إذ لم تَعد السلطة الواضحة الظاهرة هي سُلطة النظام السوري التي كانت تعتقل الناس سابقاً، بل استطاع السجَّان أنْ ينْسَخ سجَّانين يشبهونه، يعتقلون الناس باسم "الثورة" التي خرجَ من أجلها الناس، إذْ بعد انسحابِ النظام من كثيرٍ من المناطق في الشَّمال السوري، ووقوع تلْكَ المناطق تحت سيطرة أنواع مختلفة من السلطات البديلة، منها مَحليُّ أهلي، ومها إسلامي مثل سلطة "دولة العراق والشام الإسلاميَّة" والمسمَّاة "داعش"، التي ورثت نفسَ الأدوات والأساليب المتَّبعة لدى النظام السوري، من اعتقالٍ تعسفي للناس، وكذبٍ إعلامي، وقمع للاحتجاجات.
لا شيءَ تغيَّر تقريباً. إذ بقيَ الخوفُ خوفاً والخائِفُ خائِفاً، من تغيرَّ هو الذي يخيفُ النّاس فقط، انتقلنا من استبدادٍ خُوذةٍ إلى شرعيَّة عَمامة، وحاجِزُ الخوف الذي قيل أنَّه كُسِر، يتم إعَادة بناءِه من جديد.
في مدينة حلب التي تخضعُ إلى سلطتين مختلفتين، اختفى في أحد الأيام الناشط "وائل ابراهيم" المعروف بـ"أبو مريم"، ومن لا يعرف "أبو مريم" في حي بستان القصر في حلب؟! ( سبق و التقينا به في سيرياأنتولد في حكاية سابقة عن بستان القصر).
المتظاهر السلمي العنيد والثائر المغنَّي، اختفى في المنطقة التي تسيطر عليها "دولة العراق والشام الإسلاميَّة"، مما جعل الناشطين يبدأون بإطلاقِ دعواتٍ على صفحات الانترنت للاعتصام المَفتوح أمام مقر "داعش" للمطالبة بإطلاق سراح أبو مريم، وكانت تلك الدعوات شبيهة بدعوات الناشطين إلى التجمع للاحتجاج ضد النظام السوري منذُ انطلاق شرارة الاحتجاجات.
ولأنَّ شَكْل السلطة اختلف ولكنَّ المضمون واحد، كان التأييدُ الشعبي لهذه الدعوات ضَعيفاً في البداية بسبب خوف الناس الصريح من معارضةِ فَصَائل القاعدة، وكما هو متوقَّع فقد قُوبل الاعتصام بالاستنكار والرفض من قبل "داعش"، إذ انتشرَ في البداية جوُّ من التوتر والحنق وحاولوا فضَّ الاعتصام بالقوة في طقسٍ يُذكِّر باعتصامات السوريين أمام مبنى وزارة الداخلية منذُ بداية الاحتجاجات، ولكنهم لم يتمكَّنوا من إنهاء الاعتصام بسبب إصرار الناشطين وتصميمهم، حيثُ حاولوا مُصادرة الكاميرات، ونزلَ الأمير "أبو دجَّانة التونسي" إلى الاعتصام للحديثِ مع الناشطين، وقال لهم بأنه لم يرَ أبو مريم على الإطلاق، ولكن المعتصمين بإدراكهم لكذب "داعش" أصرَّوا على الاعتصام، فأصدر الأمير "أبو دجانة" بياناً ينفي علاقة دولة العراق والشام باعتقال أبو مريم، في منطقة خاضعة لسيطرتها،، وهو الأمر الذي لم يصدقه الناشطون، إذ لا أحد غيرها يمتلك النفوذ والتحكم بهذه المنطقة، بمن يذكَّرنا ذلك؟.
أدخِلَت دولة العراق والشام والإسلاميَّة إلى الشمال السوري نتيجة فلتان الحدود وغياب الأمن، حيثُ "لا تمثُّل هي ولا جبهة النصرة ولا غيرها من فصائل القاعدة، الثورة السورية ولم تمتلكها يوماً، وسيسقطها الشعب فور إسقاط النظام الذي مهَّد لدخول هذه الجماعات إلى بلدنا والقضاء على الثورة، سيسقطون لأنَّ الشعب السوري بكل أفكاره لا يقبلهم" هكذا يقولُ أحد المشاركين بالاعتصام لموقعنا سيرياأنتولد Syriauntold الذي الذي تابع الاعتصام أمام دولة العراق والشام الإسلاميَّة، إذ استمرَّ المعتصمون بالوقوف والاحتجاج أمام مبنى "داعش"، وردَّدوا الشّعارات التي تندد بخطف الناشطين كـ" ابراهيم غازي" و"فراس الحاج صالح" في الرقَّة، وهما ناشطان مُحتجزان لأسباب غير معروفة في سجون "داعش"، ومن أهم اللافتات التي رفعها المعتصمون، اللافتة القائلة:"الاختطاف، الاعتقال، القتل، نقطة التقاطع مع النظام"، أو "ولا تحسبَّن الله غافلاً عما يفعلُ الظالمين"، أو "للبعض في المناطق المحررَّة رائحة كريهة كرائحة البعث"، أمَّا أهمُّ الشّعارات التي نادى بها المُعتصمون، فيقول أحد المشاركين في المظاهرة لموقعنا "شعارات تنادي بتدخل الجيش الحر وحماية المدنيين، والكفُّ عن اختطافِ الناشطين".
https://www.youtube.com/watch?v=kbAN7FCLKUM
وعندما تأكَّد الناشطون والمعتصمون بأنَّ "أبو دجانة" الذي ينكرُ اعتقال "أبو مريم"، قد اختفى بعد اعتقاله في سيارة أبو دجانة نفسه، ظهر كذب داعش ومرواغتهم، وبدأ الناشطون يدعون إلى اعتصامٍ ثانٍ يطالب بالإفراج عن أبو مريم، وقد لبى كثيرُ من الناس الاعتصام هذه المرة، وبدأ الاعتصام يكتسبُ الحشد والدعم والتأييد الشعبي، بعد أن اعترف أبو دجانة في الاعتصام الثاني بأنَّه أخذ أبو مريم بسيارته بعد مظاهرةٍ في بستان القصر من أجل حمايته من التوتر، وبأنَّه أنزله من سيارته بعدها بدقائق، مما زاد من غضب المعتصمين.
الناشطون مصممون على فضح كذب ودجل هذه السلطات الإسلاميَّة التي تطبق القمع والاعتقال في المناطق التي تنتشر فيها، إذ لا يبدو أن ثورة الشعب السوري سوف تنتهي بإسقاط نظام الأسد، لأن إسقاط الاخير هو الخطوة الأولى والأسهل، إذ "لا علاقة لتنظيمات القاعدة بثورتنا: ثورة الحرية والكرامة" كما يقول أحد الناشطين، مما يحتّم على الناشطين الاستمرار في العمل المدني والمقاومة السلميَّة من أجل مقاومة قمع واضطهاد هذه الجماعات وكشف الانتهاكات التي تقوم بها، والعمل على توعية الناس بخطر انتشارها.
أبو مريم الذي قال لنا في مقابلة سابقة "تبا للجميع.. وسنواصل التظاهر" يدفع اليوم ثمن عناده ومقاومته لـ"سلطات الأمر الواقع"، الأمر الذي يجعل "أبو مريم" هو أي واحد منّا، إذ قد يتعرّض أي ناشط لما حصل معه، لذا تبقى المقاومة مستمرة دفاعا عن ثورة الحرية وعنّا.