في الأول من تموز 2011 ذهبتُ إلى قريتي لأنجز بعض الأعمال فيها خلال العطلة القضائية، وقبل يوم من عودتي إلى دمشق في مساء 13/7/20011 وردني اتصال من زوجتي وهي مرتبكة وخائفة، أخبرتني أن ابنتينا (نور ويارا) تستعدان للمشاركة في تظاهرة المثقفين في حيّ الميدان، شعرتُ بالخوف لحظة سماعي ذلك، ولا أخفي إنّني لا أريدهنّ أن يُشاركنَ في المظاهرات، لخوفي عليهنّ من الخطر على حياتهنّ، إذْ سبقَ أن شاهدتُ بأمّ عيني كيفَ كانوا يقمعون المتظاهرين، ويشحطونهم بالضرب.. قفزت إلى مخيلتي صورة الدكتور طيب تيزيني، وهو يُضربُ ويُشحط في ساحة المرجة خلال مشاركته في اعتصام وزارة الداخلية في 16/3/2011، وأيضاً منظر زميلتنا المحامية سيرين خوري، عندما شدّوها من شعرها وقذفوا بها إلى سيارة الأمن دون أيّ رحمة.
حاولتُ عبثاً إقناعهنّ بعدم المشاركة، تملّكني شعور بالعجز عنْ فعلِ أي شيء، فأنا بعيدٌ عنهنّ مسافة أكثر من 220 كم.. لم يمضِ وقت طويل، حتى عاودتْ زوجتي الاتصال لتعلمني هذه المرّة بصوتها المتهدج، أنهنّ خرجتا من البيت للمشاركة بالتظاهرة، فقلتُ لها: "لم يعدْ في وسعنا فعل شيء الآن سوى الدعاء لهنّ بالسلامة".
بعد ذلك حاولتُ الاتصال بهنّ دون جدوى، ومع تكرار المحاولة ردّتْ عليّ ابنتي الوسطى "نور" وكان عمرها أنداك 18 عاماً، وسألتها أين أنتما؟ أجابتني: "في أول الميدان".. فقلتُ لها: "انتبهي يا ابنتي على نفسك، لا تتركي أختك.. كوني معها كظلها ولا تتفرقا أبداً، والله يحميكون".. وهنا صاحت : "يا أحلى أب في الدني"، وأنا في حالٍ كمنْ اشتعلت النار في جسده.. دقاتُ قلبي تتسارع، كأنها في سباق مع الزمن، شعرتُ حينها أنّ قلبي قد تحوّل إلى جمرةٍ من نارٍ متقدةٍ، كيفَ لا؟ وهُنّ فِلذةَ كبدي، وأرى الخطر يُحْدقُ بِهُنً.. لن أُسامحَ نفسي إن حَدثَ أي مكروهٍ لهنّ.
بقيتُ على تواصل مع زوجتي القلقة أكثر مني.. مرّ الوقتُ ثقيلاً جداً.. ساعة ساعتان دون أي خبرٍ عنهنّ، وأنا أحاولُ الاطمئنان عليهنّ دونَ جدوى، انتهت التظاهرة وسمعتُ عن تعرّض الكثير من المشاركين فيها للضرب والاعتقال.. وفُرِجتْ أخيراً، عندما أخبرتني زوجتي أنهنّ بخير، وكأنّ جبلاً كبيراً قد انزاح عن كاهلي فور سماعي صوت زوجتي وهي تزفُّ خبرَ عودتهُنّ إلى البيت.
وبعد أن هدأتْ نفسي قليلاً، أخذتُ أفكر وأتساءل في نفسي: ما الذي دفعهما إلى المشاركة في التظاهرة؟ لاسيما وأنهنّ لم يبدين أيّ اهتمام ملحوظ بما جرى طيلة الأشهر السابقة، ولم يكن لديهنّ أيّة اهتمامات من هذا القبيل؟ في الحقيقة لم أجد جواباً لتلك الأسئلة..
مضت الأيام دون أن أعلم أنّ المياه كانت تجري من تحتي، وأنا غيرُ مدركٍ لما يجري من تحوّلات في بيتي. كنتُ في الحقيقة منشغلاً تماماً بمتابعة أمور المعتقلين، حيث كنتُ أخرج من البيت الساعة الثامنة باتجاه القصر العدلي، ولا أعود إلى البيت إلاّ في وقت متأخر بين الرابعة والخامسة، حيثُ أكون منهكاً من الجوع والتعب، وبالكاد أتحدثُ كلمتين أو ثلاثة مع عائلتي، أتناول طعام الغداء وبعدها أستلقي لساعة أو ساعتين، ثم أعود لمتابعة الرد على اتصالات الناس على الهاتف ورسائلهم على الفيس بوك، وهكذا في كل يوم...
أعترفُ هنا إنني ظلمتُ عائلتي كثيراً، وخاصةً زوجتي التي أتعبتها معي كثيراً، وبهذه المناسبة أنحني تحية وإجلالاً لها على تحمّلها مشقة العيش معي، كما ظلمتُ نفسي أيضاً عندما انجرفتُ في قضايا حقوق الانسان والشأن العام ، ونسيت نفسي وواجباتي تجاه عائلتي.
بعد ساعتين من اعتقال "يارا" في مساء 7 أذار 2012 فاجأتني ابنتي "نور" باعترافها أنّها وشقيقتها يارا كانتا تشاركان في التظاهرات، وبدأت تروي لنا عن بعض مشاركتهنّ في تظاهرات الميدان وبرزة خفية عنّا، ونحن مذهولين بما نسمعه، لم نصدق ما قالته، وأنا أسأل نفسي: أكّلّ هذه المياه كانتْ تجري في بيتنا ولم نلحظها؟
وعندما سألتها: لِما لمْ تخبروننا بذلك؟ أجابت بحرقة: ليش كنتوا رح تخلونا نشارك، وبعدين نحنا ما بدنا ياكم تقلقوا علينا؟ ثم سألتها: منذ متى تهتمون بمثل هذه الأمور؟ أجابت دون تردّد: "شو شايفنا بلا أحاسيس أو مشاعر.. ونحنا كمان عم نحس بالظلم مثلكم؟ وبعدين نسيت شو كنت تحكي بالبيت عن قصصك مع المعتقلين ودفاعك عنهم، وكم مرة جاء الأمن يسأل عنّك بالحارة وبالمكتب وكنتوا تخبّوا علينا؟
شغلني تمرّد ابنتينا.. سألت نفسي: هل يجب أن أبقى لوحدي متمرّداً على الظلم والقهر؟ ولماذا أنكرُ على بقية أفراد عائلتي أن يشاركوني هذا التمرد؟ أعترفُ أنني تمردتُ على طريقتي التي كنت لا أريدها في قرارة نفسي أن تنعكس على أولادي، ولا أن يشاركونني بها، وذلك خشية من أي مكروه قد يحصل لهم، كما تمرّد الكثير من السوريين طيلة الخمسين سنة الماضية، ودفعوا أثماناً باهظةً وقدّموا تضحيات جسام، كانت كافية لتحدث تراكماّ يؤدي في النهاية إلى إحداث التغيير الذي نطالب به، لكن للأسف هذا ما لم يحدث، لأنّنا في حقيقة الأمر كُنّا نُقْصِي أولادنا عن ذلك التمرّد لننفرد بها لأنفسنا بحجة الخوف عليهم، وفي الوقتِ نفسه كُنّا نُمارس عليهم نوعاً من التوجيه التسلّطي المستوحى من القمع الذي كان يمارسه النظام علينا بكل أجهزته الأمنية والسياسية والادارية والإعلامية، ولم يستطع أغلبنا ولا لحظة الخروج من عباءة النظام، لابل تماهينا معها في حلّنا وترحالنا.
وعندما حانتْ لحظة التغيير، وتفجرتْ ثورة السوريين، لم تجد من يحتضنها ويوجهها، فلا حامل سياسي موجود ولا قوى مدنية مؤهلة لقيادتها، وبدا معظم السياسيين المعارضين ومعهم الناشطين مشتّتين متردّدين وخائفين وأغلبهم تعدّوا عتبة الخمسين عاماً، وحدهم الشباب والشابات ومن غير أن نَحسب أو نتوقع قد اندفعوا إلى الميادين، فكسروا حاجز الصمت وقهروا الخوف المعشعش في نفوسنا، وأخذوا ينظمون أنفسهم بسرعة بعيداً عن الهياكل الحزبية البالية والمخترقة، غير عابئين بالمخاطر الأمنية، مما عرّضهم لسرعة استهدافهم من قبل الأمن.
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يكون أول المستهدفين في كل حملات الاعتقال خلال الأشهر الستة الأولى هي من الفئة العمرية الشابة من طلاب المدراس والجامعات وحملة الشهادات الجامعية، وقد شاهدتُ ذلك بنفسي عندما كنتُ أراهم في النظارة ومقيدين بالسلاسل أمام أبواب المحاكم في القصر العدلي..
لقد نجح النظام السوري، أولاً، في تحييد المحرّك الأساسي لثورة السوريين إلى حد كبير سواء بالاعتقال أو بالملاحقة أو بالقتل، وترافق ذلك مع إطلاقه سراح الإسلاميين الأكثر تشدداً من السجون لعمله الأكيد إنّ إطلاقهم في هذه الظروف سيخدمه كثيراً في مواجهة التظاهرات المناهضة له، وسيساعدونه أيضاً في حرف الثورة عن مسارها الوطني والشعبي، وهذا ما حصل لاحقاً، وبنفس الوقت كان النظام السوري يعبّد الطريق إلى عسكرة الثورة بكل قوته مستعيناً بكل ما يمكن أن يخدمه في هذا الاتجاه، مستغلاً مواقف بعض الحمقى ممن تصدّوا لقيادة العمل السياسي المعارض.. ليظهر أمام الرأي العام المحلّي والدولي بمظهر المحارب للإرهاب، ومبرراً في نفس الوقت لجوئه إلى استخدام السلاح واستدعاء قوات أجنبية، كل ذلك من أجل أن يبقى مستأثراً في حكم سوريا مأ أمكنه ذلك.
والآن بعد خمس سنوات، جرّت مياه كثيرة، وتشابكت الأمور وتعقدت كثيراً في سوريا التي تحولت إلى كرة يتقاذفها الجميع، ولا أملَ يلوح في الأفق ينهي مأساة السوريين، إلا ما قد تفرضه علينا روسيا وأمريكا والقوى الإقليمية من حلً لن يكون بالتأكيد في صالح السوريين، هذا إذا لم تحدث معجزة بين السوريين، ونحن في زمن ولّتْ فيه المعجزات...
(الصورة الرئيسية: كرتونة من دير الزور)