"صوتية" (sawtyeh)، "لربما يصل صوتي": واحد من النشاطات المدنية المستقلة التي يقدم أصحابها من خلالها إضاءة فنية وجمالية للانتفاضة السورية التي تجمع بين رقي الفن وقوة الانتفاضة في آن، في محاولة تعكس إبداع السوريين وشغفهم الكبير بالحرية، الذي يتجلى بأن ولعهم الكبير بالحرية والشعارات الكبيرة لم يبعدهم عن التفاصيل اليومية الصغيرة وضرورة الاهتمام بها والإضاءة عليها، في سعي واضح للبناء مقابل الهدم الذي تقوم به السلطة على الصعيدين العسكري والبشري.
ويتجلى إبداع القائمين على مشروع "صوتية" في الاسم وطريقة اختياره، إذ تكاد تكون قصة الاسم تعبيرا مكثفا عن التفاعل الحي للسوريين بين الحدث اليومي بضغطه الكثيف وبين مقاومة الذات لعدم الانجراف للحدث والغرق فيه، بل تجاوزه باتجاه حالة أرقى لا تكتفي من التجربة بتوثيقها وفضح القائمين بها إن كانت سيئة أو تمجيدهم في حال كانت جيدة، بل تجعل منها رسالة وعي لقراءتها في ضوء تجاوزها والبناء عليها باتجاه الأعلى/ الأرقى.
لاختيار الاسم "صوتية" قصتان: الأولى تأتي من القنبلة الصوتية التي دخلت حياة السوريين بعد أن أصبحت أمرا يوميا ومعتادا، بحيث أصبح السوريون قادرون على تمييز صوت القنبلة الصوتية من أصوات أسلحة أخرى، إلا أنهم لم يتعودوا عليها، بمعنى أن القنبلة تبقى قادرة على تنبيه من يسمعها، والاستحواذ على فكره ولو لدقيقة واحدة أو ثواني، ليعود ويتابع حياته. من هذه الدقيقة أو الثواني التي تتمكن بها القنبلة الصوتية من جذب انتباه من يسمعها، تأتي فكرة "الصوتية" لتأخذ الحالة باتجاه أرقى، حيث ستقدم مادتها خلال زمن قصير لا يتجاوز الدقائق، لإيصال رسالة إلى المتلقي وتنبيهه لأخذ موقف إيجابي بدلا من السلبية والخوف اللذين تحدثهما القنبلة الصوتية لحظة سماعها.
والثانية تأتي من كون السوريين اعتادوا طيلة عقود سابقة أن يتحدثوا بأصوات عالية، "إلا أننا لم نشعر في حياتنا بأن صوتنا مسموع، وهذه ميزة سورية بامتياز"، كما تقول ندى أحد مؤسسي مشروع صوتية، ولهذا فإن المشروع يأتي كـ "محاولة بسيطة منا لإعادة المعنى لكلماتنا، والقيمة لأصواتنا". الدلالتان اللتان انطلق منهما اسم صوتية، إن اجتمعا معا وهو ما يحصل، يأخذان صيغة التنبيه ومن بعده البناء من خلال مخاطبة العقل، فإن كانت القنبلة الصوتية تهدف إلى التخويف والتنبيه السلبي وإبقاء الناس في بيوتهم فإن "الصوتية" تهدف إلى البناء والتنبيه الإيجابي وتحريض الوعي للتفكير بما يحدث ولم يحدث وكيفية الخروج من تأثيره باتجاه الفعل بدلا من الركون لليأس.
https://www.youtube.com/watch?v=EYwLuDOMz70
الصوتية، هي "تجسيد بالصوت لشخصيات من خارج الاستديو" عبر شريط فيديو مصور يعتمد قصة واقعية مأخوذة من الحياة العامة، بحيث يتم مكسجتها وإنتاجها مرفقة بموسيقى وصور ولوحات لإخراج العمل بأفضل طريقة، حيث يستعين فريق العمل المكون من ثلاثة أشخاص( ندى، ربيع، سفسطائيوس) بمصممي غرافيك وأشخاص آخرين، لإخراج العمل بأفضل طريقة مناسبة، ليتم بعدها رفعه على الصفحة الخاصة بهم على الفيسبوك ويوتيوب.
انطلق مشروع صوتية في السادس عشر من أيار تزامنا مع عيد الشهداء، حيث قدموا أول إنتاجاتهم ضمن حملة "أنا مشروع حياة"، بالتعاون مع حركة وعي ، وهي مهداة إلى الطفلة الشهيدة رهف عبد الجليل بطيخ استشهدت برصاص قناص على شباك منزلها نيسان 2011 في مدينة اللاذقية. ولعل اسم الحملة يدل على القيمة المدنية والإنسانية التي يحملها باكورة صوتية، حيث يتم العمل على تعزيز قيمة الحياة بمواجهة قيمة الموت، في محاولة شجاعة لعدم تحول الإنسان إلى مجرد رقم بين أرقام، أو مجرد شهيد بين شهداء أو معتقل بين معتقلين، أي العمل على ما يعزز قيمة هذا الإنسان، ويعلي من شأن حياته و إنسانيته.
يختار فريق صوتية مواضيعه من الحياة العامة مع محاولة النظر من جهة مختلفة للحدث تجعله أكثر إضاءة وقدرة على التأثير. يستمع فريق العمل لحكايات أصدقائهم وتجاربهم وقراءتهم ولأصواتهم الداخلية، بغية البحث عما يضيء المشهد السوري ويكثفه في صوتية، تكون قادرة على إحداث تغيير ما، وحين تعوزهم القصص يجدون في سرديات المواطنين السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي عما يحصل معهم في يومهم العادي، ملتقطين الجوهري في القصة، ليبدأ العمل على إعادة صياغتها بعد أن يستأذنوا أصحابها.
تتنوع المواضيع التي تناولتها الصوتيات من الحديث عن العام المشترك بين كل السوريين مثل العدالة الانتقالية و الشهداء والمعتقلين والشهداء الأطفال واللاجئين وحكايا الجامعات والمعتقلات، إضافة إلى التجارب الشخصية التي تحصل مع أي فرد سوري، ليتم العمل على إضاءتها من جديد، لتمثل قيمة فنية وتعليمية من جهة، كهذه الصوتية التي تتحدث عن استدعاء أحد الطلاب في الجامعة إلى أحد مكاتب الاتحاد الوطني لطلبة سورية الذي تحول إلى فرع تحقيق مهمته مراقبة الطلاب بدلا من حمايتهم، حيث تعبر الصوتية ببراعة عن ثقافة مسؤول الطلبة بمواجهة ثقافة الطالب الحقيقي، والتي تحمل عنوان" موقف جامعي".
https://www.youtube.com/watch?v=hXhGxQlh04w
يوزع فريق العمل ( ندى – ربيع – سفسطائيوس) العمل فيما بينهم، حيث تقوم الفريق بالتشاور حول الأفكار المطروحة، ثم يختارون فكرة، لتبدأ ندى بكتابة المسودة، ثم النقاش حولها مع زملائها، إلى أن يتم اعتماد الصيغة النهائية، ليتم بعدها تسجيل الصوت الذي لن يكون بالضرورة صوت أحدهم، بل قد يستعينون بأحد الأصدقاء، ليعمل ربيع على كل ما يخص الجزء المسموع من العمل، في حين تقوم ندى وسفسطائيوس باختيار الصور و اللوحات أو الاستعانة بمصمم غرافيك.
ويتعاون فريق العمل مع مجموعات أخرى، يشاركها حملاتها ويقدم إضاءة لها، حيث شاركت صوتية بحملات: " أنا لست رقم" من خلال صوتية "المعتقلx و"شعب واحد، مصير واحد"، وشارك مع حركة وعي في إطلاق أول عمل لهم (أنا مشروع حياة) وتعاونوا مع "كوميك لأجل سوريا" لإنجاز الغرافيك الخاص بالصوتية في "كرافة صفرا"
ولعل أهم ما يميز صوتية هو أسلوبها السهل البسيط، ومخاطبتها لكل شرائح المجتمع السوري بما في ذلك المؤيدين، إذ رغم أنها لا تخفي صوتها المعارض الذي يمكن تلمسه من طبيعة المواقف المختارة وطبيعة التعبير عنها، إلا أنها بذات الوقت تعبر عن مشاكل الموالين أو الجيش أو أولئك الذين لازالوا يقفون مع النظام (سواء مجبرين أو مقتنعين)، حيث تخاطب دواخلهم لتلتقط الإنساني الكامن فيها، وهذا ما تدل عليه الصوتية التي تتحدث عن جنديين يطلبان بطانية من معارضين.
المشاكل التي يعانيها فريق العمل تتعلق بالدرجة الأولى بمخاطر انكشافهم ومعرفة الصوت، لهذا لا يتم الاعتماد على صوت واحد، ويسعون قدر الإمكان إلى العمل بحرص شديد وسرية شبه تامة، وهو ما يقيد عملهم أحيانا، إضافة إلى مشاكل الأنترنت وبطئه وهو ما يعوق عملهم في سرعة التحميل، خاصة أن النت هو صلة الوصل الوحيدة بينهم وبين الانتفاضة من جهة والرأي العام من جهة أخرى، عدا عن المشاكل الطارئة كحصار الجيش للمنطقة التي يعيشون فيها وتوقف النت بشكل كامل وغيرها، وهو ما عبر عنه أعضاء الفريق خلال حوار أجراه معهم موقعنا بالقول: "في العديد من المرات اضطررنا إلى تأجيل التسجيل لأننا لم نستطع الاجتماع بسبب صعوبة الوصول والحواجز، وفي أحيان أخرى بسبب أصوات القصف، إضافة إلى بطء الانترنت وصعوبة التحميل".
أمام زخم القصف والدمار يرى فريق صوتية أن صوتهم لم يعد مسموعا كما يريدون، الأمر الذي دفعهم نحو تطوير عملهم باتجاه إطلاق(Sawtyeh Mute) كسلسلة "تعتمد على الصورة البسيطة بدلا من اعتمادنا في السلسلة الأولى على الكلمة المسموعة لأننا يوما بعد يوم نشعر أن كلماتنا لم تعد تستطيع التعبير"، الأمر الذي يعكس في الجوهر عقل يبدع كلما ضاقت به السبل، منتجا أفكارا جديدة تتحدى القصف والدمار.
ليس لدى القائمين على صوتية أي هم حالي سوى خدمة الانتفاضة السورية عن طريق بناء الوعي بما يعني ذلك من بناء الإنسان والبقاء على قيد الحياة، أملا في تحقيق الانتفاضة لأهدافها حتى يتمكنوا من العمل تحت ضوء الحرية وبلا خوف.