(ينشر هذا المقال بالتعاون والشراكة بين حكاية ما انحكت وموقع نوى على أوبن ديموكراسي)
تياران سلفيان
لقد كانت هناك دائماً سلفية من نوع ما، وهي تمثل إيديولوجيا تتلوّن كلّ مرة بثوب جديد والقالب نفسه لا يتغيّر ويمكن تصنيفها في تيارين كبيرين لكلّ منهما جزئيات كثيرة متفرعة.
(1): السلفية التراثية المتعايشة التي ترقد في الوعي الشعبي ويمكن رؤيتها من خلال اللاوعي الجمعي، وفي أعماق الذاكرة الشعبية مستندة إلى التفسير الغيبي والمتوارث من النص الشفهي، معتمدة على محدّثي القصص الديني والوعاظ البكّائين والجهل المتلوي من على المنابر، من مشايخ وخطباء الخوارق والمنوّمات الدينية، وهذه سلفية شعبية.
هذه السلفية نشأت في بلاد الشام حتى أصبح البعض يتحدث عن فقه شامي يمتاز بالسهولة والتعايش، لكنها كانت تدعو إلى التخلّف والعودة إلى الماضي المناقض للحاضر، وكان هدفها استنساخ تجارب الماضي وتطبيقها على الحاضر. هذه السلفية عاشت مع الدولة العثمانية ونادت باستمرار الخلافة الإسلامية، وتعايشت مع الحكومات كلها بعد الاستقلال، ولم تخمش ولم تجرح ورضيت بالانخراط بالسياسة والبرلمان وهادنت السلطات باستمرار.
تكاد المؤسسة الدينية التي تخضع لسلطة الحاكمين وسياساتهم أن تنضم إليها، وهي سلفية توظيفية ملحقة بالحكومات، وظيفتها تكييف المجتمع سياسياً وفق الهوى السلطاني في كلّ العصور، سواء أكان ملكاً أو أميراً أو رئيس دولة، وهذه المؤسسة تراتبية لها نظام في الدولة، كأي دائرة فيها ويتم تعيين ممثليها بمرسوم.
من هذه السلفية المتعايشة تخرّجت سلفية إصلاحية سعت إلى تجديد الدين معتمدة على النص المؤسّس، تقرؤه في كلّ مرّة على هدي التطوّر وبعيون العصر المعاش، وكانت تعنى بالرجوع إلى سيرة السلف الصالح وليس الرجوع إلى الوراء، وكان شعارها هو التحديث، كما أنّها وقفت في وجه الاستعمار والاستبداد. وقد تبنت هذه السلفية الحداثة بتحفّظ وناضلت ضد الاستعمار وحملت السلاح في مناطق عدّة، واستطاعت أن تحصل لبلادها على الاستقلال. وكانت بالتالي نموذجاً للسلفية الإسلامية التي أخذت بالتحديث من جهة ونالت الاستقلال السياسي من جهة أخرى.
كانت المدرسة الإصلاحية من هذه السلفية التي نراها قد عادت إلى التعايش مع الأنظمة بعد الاستقلال. هذه السلفية الإصلاحية انبثق عنها الاصلاح الديني أو ما سمّي بعصر الإحياء مع بدايات النهضة وولادة البرجوازيات العربية بشكلها الهجيني وتنامي الطبقات الوسطى التي سعت إلى التأليف بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين التراث والعصر، متمثلة بالرواد الذين كان أغلبهم من المشايخ، بدءاً من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي، مروراً بطه حسين وعلي عبد الرازق الذي كان كتابه الإسلام وأصول الحكم، من أجود ما كتب في مجال الإصلاح في النظرية السياسية التي تؤسّس لعلمانية عربية لا تتنافس مع الإسلام.
(2): السلفية التراثية المحاربة وكانت تعنى بالتراث، وشعارها الاستنارة به والتمسّك به مع محاربة الأفكار التنويرية التي جاءت من أوروبا. ونادت باستمرار الخلافة الإسلامية نكاية بالاحتلال البريطاني لمصر. وحاربت هذه السلفية الحداثة وأفكارها، وبفضلها تحقّق قيام مجموعة من الأحزاب السياسية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وكانت تنشد الحكم وإعادة نهج الخلافة، ومن ثم تفرع عنها مجموعات كثيرة من الجماعات الإسلامية الإرهابية التي تكاثرت وتنوّعت في النصف الثاني من القرن العشرين.
هذه السلفية ومثالها السلفية المصرية والسلفية الخليجية التي تتمسّك بالعصر الذهبي والعودة إلى سيرة السلف وإحياء التراث، وترى الدين قد اكتمل فلا جديد، بما في ذلك النص السياسي، ولا بدّ من الدولة الدينية لتطبيق مبادئها، أما هدفها فكان القضاء على الطقوس الدينية، وقد ناصبت العداء للدولة العثمانية وثارت عليها واعتبرتها عدوة للدين الصحيح. وحقّقت هذه السلفية قيام كيان سياسي ديني سلفي بقيادة آل سعود، وكانت بذلك أوّل حركة دينية استطاعت أن تحقّق أهدافها السياسية كاملة وتنشر دعوتها خارج منطقة منشئها في المملكة العربية السعودية التي لم تعرف الحداثة. وتصدّت لها بشكل شرس وخاصة في الربع الأخير من القرن العشرين. وكان أبرز هذه التصديات ما صدر في السعودية من كتب وأشرطة من قبل الأصوليين، مثل عائض القرني وسعيد الغامدي اللذين أكدا في كتبهما أنّ دعاة التجديد وكتابها (الحداثة) وشعراءها ومفكريها في العالم هم كفرة يجوز قتلهم. وأنّ الحداثة والعلمانية ما هي إلا سموم فكرية ومفاهيم ضلالية وخمور فكرية، وأنّ الذين ينتمون لهذه الأفكار همّهم "ترويج أصناف الزيف"، وقد ضربت عليهم عماية الجهل، وأنّ هؤلاء الممسوخين قضيتهم الكبرى استيراد الآراء الغربية والنظريات المتناقضة وتخدير إحساس الأمة بالمسرحيات والرسوم والمقالات النقدية وغير النقدية من خلال الإثارة والجاذبية والمتعة الفنية عبر الشعر والرواية والقصة وتهريج الموضة وصناعة النجوم.
وهذه السلفية يتنازع فيها تياران، تيار الخلافة وتيار الولي الفقيه، فهما خصمان متفقان على الغاية ذاتها من قيام الدولة الدينية لتحقيق الأهداف السياسية.
أثر الفكر السلفي في عطالة التحديث
السلفية، إما دعوة صارخة لقيام الدولة الدينية (الثيوقراطية)، أو مبطنة تدعو للخلافة بثوب عصري دون أن تختلف في مآلاتها. وجميعها ساهمت في محاكمة المحاولات التجديدية عند طه حسين وعلي عبد الرازق ومحاربة المحاولات التوفيقية لدى سلامة موسى والعقاد والحكيم وهيكل الذين اضطروا لإعادة قراءة الدين وأحداثه وشخصياته بمناهج متطوّرة، وساهمت في فسح المجال أمام نشأة الجماعة الثيوقراطية الحديثة جماعة الإخوان المسلمين، والتي رفعت شعار، الإسلام هو الحل، وكانت الخلافة محط نظرها وهدفها السياسي والنظر إلى الغرب، أنّه مقرّ الخلاعة والانحلال، وأنّه في طريق الفناء خلال عهود قليلة. هذه الجماعة رافقها تأسيس جماعات شوفينية أخرى، مثل الكتائب اللبنانية ومصر الفتاة وغيرها من التنظيمات المتأثرة بالأحزاب الشوفينية في الغرب، ومن بعد بروز التيارات القومية التي أضافت ثغرة في البناء الجديد تمثلت في غياب الديمقراطية واستمرت إلى العصر الحديث في تكفير المحاولات التجديدية فحكمت بالردة على مفكرين وقاتلت آخرين وقامت بأعمال الاغتيال للمخالفين.
هذا الاتجاه نحو الماضي كان له دلالة واحدة هو انتصار الجناح الثيوقراطي وغياب التوّجه الديمقراطي بعد الثورة القومية التي تجلّت في فكر وأداء البعث وعبد الناصر اللذين وظفا الدين في خدمتهما دون أي خدمة للدين. هذا البعد الذي انسحب إلى صراع طائفي أكثر من مرّة بسبب الخلاف على المرجعية، فبرز التنافس السني الشيعي بعد التنافس المذهبي، وكان لبروز الوهابية الحديثة بوجهها السلفي الإخواني، ومن بعده الثورة الإيرانية، البعد الجلي للتنافس بين المذهبين حول شكل الدولة الدينية وتراجع النهضة التي بقي من جذورها التوفيق بين الدين والعلم، ومن ثم مع العالم وفتح الطريق أمام علمانية مستنيرة متميزة لمنطقة عاشت على التنافس الديني وعلى المرجعية الدينية منذ التأسيس.
مسار الإصلاح انكسر لأنّ مسار التحديث لم ينتقل نحو القيم الجديدة التي يحملها السوق، وبقي ينهج مناهج السلف ومنظورهم للسياسة وللحياة وبرزت القوى الجديدة مستنكرة العقلانية ومدافعة عن المنقذ من الضلال، وهو نهج الغزالي وابتعاده عن الفلسفة وتقريره بأنّ المنقذ ما نقل في الشرع دون تحاذق ومن غير ابتداع، والذي عادت مدرسته لإحياء علوم الدين خلال مسيرة الصحوة الإسلامية التي برزت معالمها بعد نكسة حزيران. ما حصل إثر هذا التحول، أنّ ملامح المجتمع الرئيس نحو الدولة الدينية لم يبق مع الممثلين السياسيين وحاملي الإيديولوجيا السلفية، بل أصبحت له قاعدة من العلاقات الاجتماعية والقيم التي هي على استعداد دائم لاستقبال الدولة الدينية (الثيوقرطية) ما يجعل الدعوة إلى الدولة الدينية أقرب للانسجام والمصداقية.
المجتمعات العربية باستمرار كانت مجتمعات ثيوقراطية بسبب البنى الفكرية التي تتحكم في فكر وسلوك الطبقات والفئات وكافة الشرائح، وإنّ تاريخ الثيوقراطية العربية يبدأ مع تحول الإسلام إلى إمبراطورية وأخذه شكلاً متزمتاً لها مع الدول التي تحكم بالمذاهب، فالفاطمية أخذت بالعقيدة الإسماعيلية، والدولة الأيوبية حكمت بالمذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية، والصفوية بالمذهب الجعفري والعقيدة الشيعية الاثني عشرية، والعثمانية بالأشعرية والمذهب الحنفي، إلى الدولة السعودية التي دانت بالعقيدة السلفية والمذهب الحنبلي. وهكذا فإنّ المجتمع بعد زوال الخلافة لم يتخلص من الثيوقراطية في المجتمع، وإن تخلّص منها جزئياً في الدولة وما زالت معظم الدول العربية تثبّت ولأسباب طائفية في دساتيرها أنّ دين الدولة هو الإسلام ودين الرئيس هو الإسلام، وأنّ التشريع الإسلامي مصدر رئيسي أو المصدر الرئيس للتشريع في الدولة.
لقد كان لطول الفترة التاريخية من الحكم بالإسلام، وهو القيمة الاجتماعية بل هو الحياة ذاتها عند البعض، ما يجعله وسيلة الحكم وأداة التعبير عن العلاقات، واختلط الدين بالنشوء القومي للعرب فصارت العروبة والإسلام جسداً وروحاً حتى اختلط الدين بالقومية وصار أداة توحيد ووسيلة دفاع، وبالتالي هدفاً لرسم العلاقات السياسية ومشروعاً لأيّة دولة تنشأ، وحتى صار الإسلام بمنظورهم ديناً ودولة، وديناً ودنيا.
وفي ظلّ المواجهة مع الغرب، لم يكن الدين على صدام مع العلم كما حصل في أوروبا، بل ذهب التوفيقيون إلى البحث عمّا يحتويه القرآن متوافقاً مع الكشوفات العلمية والجغرافية والفلكية والتطور البشري، وبذلك صار الدين أداة علمنة من باب العلم. وهذا ما سعى لإثباته الإصلاحيون الأوائل الذين اطلعوا على نتائج عصر النهضة الأوربية، وراحوا يقلدونه وبقي الوجه الآخر للعلمنة متمثلاً في نظام الحكم الذي دخل مشاريع متنافسة وبسببها قام الثيوقراطيون المؤمنون بدولة الخلافة بتكفير كلّ دعاة العلمانية الذين يدّعون للفصل بين الدين والدولة.
بعض الزعماء خرجوا من المعادلة بتبني مواقف أكثر جذرية ومواجهة التيار الثيوقراطي التكفيري مثل بورقيبة التونسي ونظام الوحدة الذي لم يضمن دستوره جزئية (دين الدولة الإسلام)، وحكومات البعض التي لم تلتزم بالنص رغم تشميله للدستور إلا شكلاً، وسارت في تجديد المناهج وتغيير العلاقات مع الدين ليأخذ شكل التابع لمسارات الدولة مؤيداً ومباركاً خطواتها. وعاد الدين تابعاً للدولة، والمفتي مستخدماً لدى السياسي والزعيم، والخطباء يمجدون بحمد القادة والرؤساء. وفي حين كانت العلمانية ضرورة لتخليص الدولة من سيطرة الدين والكهنوت في الغرب، صارت ضرورة لدى الدول الإسلامية لتخليص الدين من سيطرة الدولة وتحكمها.
لقد كانت الثيوقراطية المجتمعية (الحكم الديني) تؤسس للأوتوقراطية (نظام التأبيد والتوريث) ومنذ أن صار الحكم عضوضاً، بدأ نظام التوريث والحاكم الذي يحكم إلى الأبد، ووجد له تأسيساً عند الفقهاء، إذ صار ثوباً يلبسونه من الله لا يجيز لهم خلعه.
وسرت الأوتوقراطية على نظام الحكم ونظام الحزب والنظام العسكري إلى ولاية الفقيه والخليقة والأمير، وإلى مرشد الثورة ومرشد الإخوان ورئيس الدولة وبعضها يحكم بالشريعة الإسلامية وبعضها يسترشد بها.
ميزة المجتمع الثيوقراطي استعداده الدائم لتقبّل حكم المستبد والاستبداد ينتهي إلى الظلم، ولذلك وجد من يروّج للمستبد العادل الذي لا وجود له، لكنه قد يعني تقنين الاستغلال واستخدام العنف وحماية الحكم بالقمع عبر "آلة الدولة".
تلتقي بالأوتوقراطية النخبة التي تقود مراحل التغيير، لكنها تمارس السياسة مع الاستعمار الجديد من وجه آخر، إذ تحتكر العمل السياسي، فهي أوتوقراطية سياسية وإذا ما أسّست حزبها الجامع استفردت بالمؤسسات والاقتصاد وجعلتها وسائل للتحكم ولمزيد من السيطرة، وحين ترفع لها زعيماً يمثلها وشخصية تاريخية تدعيها، تكون قد سقطت في فخ الثيوقراطية مهما أبدت من مظاهر متحضرة وتصرفات حداثية وبدل تحكم الكهنوت ورجال الدين يقوم الأمن بكافة صلاحياتهم الإعلامية والدعائية والقمعية مادياً ومعنوياً.
الحاجة للعلمانية
كلما ارتبطت الدولة بالكنيسة امتد عمرها وطال، وفي غياب الكنيسة يحتاج المستبد إلى إيديولوجيا وحزب حاكم. وهذا ليس مقصوراً على المجتمع الثيوقراطي الديني مثل ماو في الصين، وأتاتورك في تركيا، ففي بلادنا استمر الخلفاء يستمدون شرعيتهم من الفقهاء، ممثلي الحق الإلهي ومفسّريه، وبعضهم ادّعى الانتساب العرقي إلى الرسول لنيل الشرعية، ومن لم يكن كذلك أطلق لحيته أو أعلن إسلامه ورفع شعارات الأسلمة وحملات الإيمان وافتتح معاهد لتحفيظ القرآن، أو حمل صفة دينية ليصبح الحاكم هو الدولة والدولة هي الحاكم.
وبغياب مفهوم الدولة الوطنية يصبح تمثل صورة القائد هو الوطن، وإيديولوجيا الحزب هي الوطنية، ويغيب مفهوم المجتمع لصالح وحدات متعايشة بتوازنات محسوبة عائلية أو عشائرية، قبلية أو طائفية، ترتبط جميعها بالقائد الرمز.
لقاء اللاتاريخية (الثيوقراطية) واللاعقلانية (الأوتوقراطية)
مهما استوردت هذه العلاقة من تكنولوجيا العصر، تبقى في أدنى صورها وأقل مراحل التطوّر، وتبقى علاقات التقييم على الحلال والحرام ويصبح القانون صورة والدستور يمكن أن يبتلعه "حمار غوار" دون أن يحس به أحد.
بالطبع منذ الحكم العضوض، بدأت ثورة مضادة للإسلام الذي كان أداة توحيد قومي وكان مصدراً لقانون بشري يمكن تطويره مع الزمن. المشكلة في التاريخ الذي أرسى الثورة المضادة للإسلام فهو تاريخ الكهنوت الإسلامي والكنيسة الإسلامية والخلافة البابوية.
أثبتت الدولة الإيرانية إخفاق الدولة الدينية، وهي مشروع معاصر، وأثبتت تجربة التعايش العلماني بين الحاكم والشيخ في التجربة الوهابية فشل التأسيس الديني للدولة، وأنّ السياسة طوّرت منه نموذجاً قاتلاً ممثلاً بالإيديولوجية السلفية ونتائجها الجهادية ونراها تؤسّس للدويلات الطائفية بحكم تصنيفها للولاء وأهل البراء.
خلقت الثيوقراطية في الدولة والمجتمع النعرات القومية والفتن الطائفية التي تهدّد باستمرار الوحدة السياسية والاجتماعية في البلد، حيث يشتد التنافس على أساس انتمائي وهوياتي، ويتم التصنيف على أساسه، وغالباً المحاسبة من خلاله، ولا قيمة للفرد ولا لدوره إلا من خلال محسوبيته.
وتتحكم الأوتوقراطية في المصائر وتصبح السلطة أبوية من رب العائلة إلى رب العمل، إلى شيخ القبيلة وزعيم الحزب والأب القائد، ومن ثم تسلّط العقلية الذكورية على هذا المسار وعبادة الفرد تصبح جزءاً من بنية ثقافية تعيش داخل المثقف والشخص العامي.
البديل العلماني
بعيداً عن المناكفة والاختلاف في حق تبني العلمانية من غير اتهام بأنّها مستوردة، فإنّ لهذه الصيغة مجالاً للتبيئة إسلامياً عبر حديث أو آية، ويمكن إعادة التفسير على أساسها لنجد أنها لا تتناقض مع المشروع الإسلامي كنظام، ولا أقول كدين، وفي هذا محاولات رائدة نحتاج إعادة ترسيخها عبر دراسات محمد أركون ومحمد شحرور وآخرين.
العلمانية دعوة إلى توحيد قواعد المجتمع الحقوقي والقانوني وعلى شرعة حقوق الإنسان مصدراً للسيادة، وعلى نظرة تؤكد استقلالية العالم بكل أبعاده ومقوماته وقيمه وسلوكياته وقوانينه، أي الأحداث المعاشة واليومية وترك الفلسفات الماورائية لمجالها البحثي والإيمان الفردي.
ترتكز العلمانية على مفهوم الوطن كقاعدة قانونية، وعلى توحيد سياسي يقوم على الحرية والمساواة، بدءاً بالدستور وانتهاء بقوانين الأحوال الشخصية، وعلى المواطنة مقياس ولاء وانتماء وعلى قاعدة حقوق الإنسان، وأنّ مصدر الحكم على العلاقات الاجتماعية وليس على الانتماءات. ويبقى الانتماء الإثني والطائفي من حقوق الأفراد والجماعات شرط ألا تؤثر على حقوق المواطنة ولا تقسم الوطن ولا يقوم التنافس على أساسها.
في مسألة المصطلح وأنه مستورد وادعاء المناهضة بسبب ذلك، فهو لا أساس له، لأن الرافضين استوردوا كلّ شيء من الغرب، من أشكال التعبير الجمالي والثقافي والسياسي إلى التكنولوجيا المنزلية، ومن ثيابهم الداخلية وعطورهم إلى المدافع والطائرات والصواريخ التي يقتلون بها بعضهم وحتى تراثهم الذي يعتزون به هو من كشف رواد الاستشراق الغربيين.
والعلمانية إذا وضعت في سياقها لا تعود مشروعاً مستقلاً ولا هي مؤمنة ولا ملحدة، وإنما تصبح إحدى الصيغ لحماية الوحدة الوطنية فتعمل على تحرير الدين من هيمنة الدولة بدل أن يكون موظفاً في بلاط الملوك، ويصبح أداة وعي وبناء ضمير وإعداد الفرد ليكون كائناً مستقلاً غير مرتبط بولاء لشخص أو لفكرة، حر التقرير والمصير والتعبير.
وتكون العلمانية أحد العناصر الديمقراطية التي تساهم في البناء الاجتماعي على أنقاض الطائفية والعرقية والعشائرية، وأكثر من ذلك تكون نقطة في مواجهة الدكتاتورية وتحرير الدولة من كل قيد لتكون دولة المواطنين الأحرار المتساوين.
(الصورة الرئيسية: تصميم: كوميك لأجل سوريا. خاص حكاية ما انحكت)