نتاج الظروف السياسية، لجأ عدد كبير من السوريين/ ات خارج سوريا، وصل عدد كبير منهم إلى بلاد أوروبية عديدة، كانت برلين إحداها. انتقلتُ إلى العاصمة الألمانية بداية نيسان/ أبريل 2017، ومنذ وصولي، وخلال زياراتي السابقة أيضاً، تعرفت إلى أصدقاء وصديقات من سوريا. وجودي هُنا، أتاح لي لأول مرة في حياتي، أنا الفلسطينية ابنة عكا، أن ألتقي وجهاً بوجه بسوريين وسوريات (عدا عن أصدقائي السوريين في الجولان السوري المحتل)؛ أن أحتسي قهوة مع صديقة سورية أو أن أذهب لمشاهدة مسرحية لكاتب سوري أو لتلبية دعوة عشاء في بيت صديق قادم من حلب، حيث تمتد الدعوة إلى سهرة أغاني تنزعنا من المكان الحقيقي الذي يحصل فيه كل هذا، وتنقلنا جميعاً إلى حي من أحياء دمشق أو السويداء. وبالنسبة لي أصبح كل لقاء مع سوريين/ ات، بمثابة رسم لخريطة لأماكن لم أرَها يوماً ما.
تتنوع الأحاديث، ولسوريا حصة كبيرة منها، كما الذكريات، وتأخذ رحلة اللجوء أيضاً حيزاً متواصلاً من الحكايات التي يسردها الأصدقاء والصديقات، بما في ذلك رحلات البحر القاسية. بالإضافة إلى التفاصيل، لاحظت أن عدداً كبيراً من الأصدقاء يسرد قصته مع "البلم" (القارب المطاطي)، والتهريب، والبحر، بحس فكاهي ما وسخرية، أو أنهم يسردون مواقف مضحكة وكوميدية مع الحكاية، حصلت معهم على مستوى شخصي أو لأشخاص يعرفونهم، وغالباً، هي قصص درامية، سياقها مؤلم ونابعة من كارثة وخوف، لكن ينجح البعض أن يلتقط منها الكوميديا التي أضحكته أولاً، من ثم الآخرين.
الخوف والضحك
قبل عام، تعرفت على محمد سعد الدين، مواليد عام 1991 في حلب. عند أول لقاء معه، حدثني عن رحلة البحر، وكان يحكي قصصاً ويضحك بصوتٍ عالٍ. أبهرتني هذه القدرة على رؤية التفاصيل المضحكة داخل القصة المأساوية، وعندما سألته لماذا يسردها بكوميديا، نجح بأن يضحكني أيضاً، إذ أجابني: "ما بعرف، منحكي شو صار معنا، ومنضحك. يمكن تعودنا نخبي شي تحت هالضحك، مع إنه المواقف فعلياً كانت بتضحك".
يروي محمد سعد بأنه مع صعودهم إلى القارب المطاطي، تولى شخص السواقة، "ما عرفان شي"، قال محمد، وتابع: "وبعدين قعد يسوق البلم ويرسم إشارة دائرة، الله سترنا وقتها! المهم، وقتها المهرب سأله إذا بيعرف يسوق، وهداك جاوبه: أنا ابن البحر! بس بعد شوي منكتشف إنه الشاب من السويداء، والسويداء ما فيها بحر! شايف البحر يا دوب مرتين بحياته!".
لم تنته قصة الشاب وسواقة "البلم" عندها، يتابع محمد سعد: "الشاب بيلبس نظارات، وطلع معه انحراف وضعف نظر، وقبل يومين ثلاثة من الطلعة ع البحر، انكسرت نظارته. فعملياً، لا بيعرف البحر ولا شايف! أقسم بالله، الشي الوحيد اللي خلانا نوصل على البر هو دعاوي أهلنا، ماشين كنا على الدعوات". (يضحك محمد).
يقول محمد إنه عادة تحصل مواقف ومغامرات مضحكة في القارب المطاطي، "من أوله الموضوع فيه مغامرة"، يقول. ويتابع: "الأشخاص اللي بيشتغلوا مع المهرب إجوا بدهن يشغلوا البلم، والدنيا عتمة والساعة خمسة الصبح، وما فينا نعمل ضجة ولا نستخدم الضو، وواحد ورا الثاني لازم نطلع على البلم، بلشت هون قصة شغل المحرك، ما عم يشتغل المحرك. المهم، نحنا العرب منحب نتفزلك، محرك البلم شغال على نفس مبدأ مولد الكهرباء، وفي حبل لازم يشده، الشاب حرام عم بحاول يشد ويشد وما عم بشتغل معاه، قام نط واحد من الشباب القاعدين وقلو بصوت عالي: حط الطقعة على الأون! (on)، لأنه بعده مفكر إنه الطقعة على الأوف! (Off). المهم، بعد ما مشينا، وعمل السواق دائرة بالمي، كملنا.. هلق بتصادفي حالات بالبلم إنه لما الواحد يشوف شرطة تركية، لازم يهرب منها لحد ما يوصل للشط ليضمن ما يرجعوه، إلا إحنا! شفنا الشرطة ركضنا عليها! ما عارفين مين هدول، مسلمين حالنا ورايحين"، (يقول محمد ويضحك).
وصل القارب المطاطي إلى الشواطئ اليونانية، استغرقت رحلته حوالي الساعتيْن، لكن المواقف الكوميدية، بالنسبة لمحمد، لم تنته مع وصول "البلم" إلى البر. "ما لحقنا نوصل، وطلع الضو شوي، بلشت العالم تتصور سيلفي! إنه طولوا بالكم عَ شو مستعجلين؟ ما وصلنا لسه!"، يقول محمد.
يرى محمد سعد الدين، أن المواقف المضحكة الآن، هي مشاهد كانت مزعجة وقت حدوثها، لكن النظرة البعيدة عنها اليوم، تجعلها كوميدية. "الخوف تحول إلى ضحك"، يقول محمد. ويتابع: "لحتى اليوم، كتير بحكي مع أصدقاء عن مواقف مضحكة صارت معهن على البلم، في صديق حكتيله المواقف تبعتي، لما سمعها، ومقارنة بالمواقف تبعته، قالي قصتك حزينة، لازم ترجع تعملها مرة ثانية!".
"كانت أيام حلوة"
محمود فارس (18 عاماً)، من سوريا، مقيم في ألمانيا اليوم، يرى أن المواقف الصعبة تتحول مع الوقت إلى كوميديا، "بتصير أشياء بتضحك"، يقول. من سوريا ذهب إلى مصر، ثم قرر أخوه أن يرحل إلى أوروبا، فأراد محمود الانضمام إليه كي لا يبقى وحده في مصر. تواصلا مع المهرب، ومن القاهرة ذهبا إلى الإسكندرية.
أكثر ما يراه مضحكاً في تجربته، حصل في البر قبل وصوله إلى البحر، وخاصة قصته مع الدجاج، يروي محمود ويضحك: "وصلنا على إسكندرية، غلفونا وحطونا بالزريبة تبعت الجاج، وكانوا يشغلوا المي منشان يعيش الجاج، ولما يمر الأمن، بشغلوا المي منشان ما ننكشف! مرق يومين على هالحالة، بعدين إجينا وحكانا المهرب إنه لازم نطلع، حطونا بسيارة، ومنشان ما ننكشف، غطونا بشوادر، وحطوا فوق الشوادر خضراوات، عشان ما تبين روسنا".
أستاذ الإنجليزية
عرفت محمود من أخيه طارق فارس، صديق أعرفه منذ فترة قصيرة، وأعرف مدى قدرته المميزة على سرد القصص، بالأخص تجربته مع الثورة السورية ومحطات اللجوء المتعددة حتى وصوله إلى ألمانيا. فالقصص التي سمعتها من طارق، خاصة المواقف الكوميدية منها، كانت محفزاً إضافياً لكتابة هذا التقرير. وعندما تواصلت معه حول الفكرة، قال: "أغلب اللي بنفد من هيك حالة، بياخدها كوميديا"، ويتابع: "هذه لحظات خوف، الإنسان بيكون عايش بحالة ما عارف يترجمها، نحن متلبكين وخايفين، كل ما نقطع مرحلة، منتذكر اللي قبلها ومنضحك. مواقف ما في إدراك للواحد شو عم يعمل، وهاي بحد ذاتها مواقف كوميدية كمان".
مع إني سمعت قصصاً كثيرة منه، لكن عند حديثنا عن الموضوع هذا تحديداً، كان من الصعب على طارق استحضار موقف كوميدي محدد، حسبما يراه. فجأة تمحور حديثنا حول موقف واحد استمر على مدار الرحلة، "كنا منحاول ننزل من الجبل، طلعنا بسيارات تهريب لينزلونا من محل قريب من أزمير، أول شي كدسونا بسيارة صغيرة وكنا 11 واحد، قطعنا من نقطة ما، الناس معها سترات نجاة، إلا واحد جايب دواليب سيارة لأنه بخاف من المي كتير، وما عارف يمشي منهن ومتلبك. فجأة حكالنا المهرب إنه 10 دقايق منصير بالبحر، قام هاد الشخص سمع كلمة بحر، وما عاد يتحرك! المهم، صرت أمشيه، لأنه ما منحسن نتخلى عنه، هو أستاذ إنجليزي والمترجم اللي معتمدين عليه! ما فينا نمشي ونتركه لأنه بدنا إياه لحد ما نوصل ألمانيا"، يقول طارق ويضحك.
ويتابع: "صرنا نسايره، أنا ماسكه من إيده مثل الولد الصغير وهو أكبر واحد فينا، بلشنا ننزل على البلم، قعدت على الراس وماسك الحبل شاده منشان يضل بوز البلم مرتفع، وهو ماسك برجلي حاضنها ومن الطرف الثاني كان معنا ولد عمره 7 سنين، ابن بنت عمتي، حاطينه بيناتنا بالنص، وهداك الكبير ماسك فيه من الخوف كمان. صرنا بنص البحر وهدوء وما شي، وصلنا لمنطقة بالنص صار الموج عالي والبلم يميل، وصار يقولنا منشان الله لبسوني البوالين، بقله فوت إيديك ألبسك إياهن، قال لا من رجلي. قام تسطح منشان ما يفلت إيديه"، يقول طارق.
بعد وصولهم إلى البر، نزل الجميع من القارب، وانتبه طارق أن حقيبته لا زالت في الداخل، فعاد لإحضارها، وتفاجئ بأن الرجل نفسه لا زال نائماً فيه. "قلتله عمي وصلنا، قال ما قدران لسه خايف. قلتله نحنا على التراب، وما طلع لحد ما رفعناه ووصلناه لبرا. تقريباً هذا أكثر موقف مضحك، مش لشي، بس لأنه نحنا بحالة خطر وهو عم بخلينا نضحك لأنه حاسينا حالنا قبضيات بوجوده!"، يقول طارق ضاحكاً.
فكاهة الوجع
بالطبع، تبقى هذه القصص فردية، بلا انعكاس على الجماعة، هي ممتدة من عمق الألم والمأساة المستمرة للشعب السوري، الفردية والجماعية في آن، كأن طبيعة البشر قادرة دوماً على الاستمرار بأشكال متنوعة، على الاستيقاظ في اليوم التالي، فالسخرية والضحك والبحث عن المواقف الكوميدية في ظل الخراب، هي آلية من آليات الاستمرار والبقاء، أو كما قال الشاعر بشارة خوري (الأخطل الصغير): "يبكي ويضحك، لا حزناً ولا فرحاً/ كعاشق خط سطراً في الهوى ومحا"، وهي بالتأكيد آلية لمقاومة كل منظومات تدمير الإنسان، بما في ذلك تدمير قدرته على الضحك من الألم، لكنهم، لن ينجحوا بذلك في كلا الحالتين: "إذا تبسم وجه الدهر أو كلحا"، سيعرف الناس كيف يواصلون الضحك دوماً.
(الصورة الرئيسية: تصميم "كوميك لأجل سورية". وهي صمّمت خصيصا لهذه المادة. خاص حكاية ما انحكت)