(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)
في حمص كانت جارتنا القريبة مسيحية، بعدها في دمشق كان جيراننا خليطاً من الغرباء والشوام، ثم في عفرين بالطبع كانت النسبة الأكبر من جيراننا أكراداً؛ عن طفولة غير مستقرة أتحدث.
في ذلك الترحال لم أكن أنتبه حقاً إلى تلك الاختلافات، بدا لي الأمر عادياً جداً. من ضمن التنقلات صادف أن كان لنا جارة شيعية، كلّما صادفتني تودّدت إليّ بلطف شديد ونادتني: علي.
كنت أصحح لها الاسم، لتعود وتخطئ في المرة التالية؛ في وقت متأخر جداً سأفهم أنها تتحاشى لفظ اسمي! بعد سنوات طويلة من صداقة الجامعة أيضاً سأكتشف، بمحض المصادفة ليس إلا، أن واحداً من شلّتنا علويّ، ولم يكن هذا ليعني لي شيئاً في وقتها. في الجامعة كان أصدقائي متنوعي المنابت؛ إسماعيليين وأكراداً، ريفيين ومدينيين،... إلخ.
لم يكن حديث الطوائف بالمعنى الذي سأعرفه فيما بعد متداولاً في محيطي الاجتماعي العام، لكن ذلك لم يكن نقياً وصافياً على الدوام. مثلاً لما كنت طالباً في المرحلة الثانوية جمعنا مدرب الفتوة، نحن الطلاب العرب، وطلب منّا مراقبة من سيتغيب من زملائنا في عيد النوروز وإبلاغه بأسمائهم؛ بعد خروجه من القاعة اتفقنا جميعاً على ألا نلبّي طلبه لأنه مهين لنا ولزملائنا الذين سيحتفلون بعيدهم. في الفترة نفسها تسبّبت زميلة كردية بغضبي، لأنها أثناء درس الرياضيات نظرت إليّ "باعتباري كنت صامتاً على عكس نشاطي المعتاد" وقالت بالكردية ما معناه: "لماذا يصمت صاحب اللسان الأعوج"؟
ضحك زملاؤنا في الصف، وشعرت بغضب شديد رغم اعتذارها فيما بعد، وربما خفّف من غضبي تجاهها تذكّري أنّ العرب قديماً كانوا يطلقون على الأجنبي وصف "الأعجمي" وكأنه يعاني من علّة في النطق.
التنميط لدينا هو مشروع سلطة، وهو مشروع حروب صامتة، أو علنية مؤخراً
ثقافتي الشخصية، جرّاء دأبي المبكر على القراءة، كانت في جزء معتبر منها غربية مترجمة إلى العربية. ذلك أيضاً جعلني غريباً عن قصص الطوائف، وغريباً عن التدين الذي لا بدّ أن يدفع في اتجاه معرفة الفوارق بينها، وعلى الأرجح اعتبار نوع التدين الذي يمارسه صاحبه هو الأصح مقارنةً بتديّن الآخرين. هذه لوحة "وردية" بلا شك، ونسيج ذاتها بخلاف الواقع الذي سأعرف لاحقاً أنه ليس كذلك. في المرحلة الجامعية سأشرع لحوالي سنتين في قراءة الأديان والأساطير السابقة عليها، بهدف سدّ النقص الذي أحسست به ثقافياً واجتماعياً. كانت غايتي في المقام الأول معرفة المحيط الاجتماعي، والذي هو سنّي بغالبيته، وبالطبع لا يمكن معرفة أي مذهب إسلامي من دون معرفة المذاهب الأخرى الكبرى، ومعرفة تاريخ العداء فيما بينها جميعاً.
في الوقت نفسه كنت قد قرأت كتباً لحسين مروة ومهدي عامل، وكتاب أدونيس "الثابت والمتحول"، وآنذاك كانت تسود موجة مراجعة التراث التي ستُتوّج بكتب محمد عابد الجابري. الجابري أتى فيما بعد وكان مختلفاً عن المذكورين قبله، ويمكن أن نضيف إليهم طيب تيزيني في مشروعه "من التراث إلى الثورة". الصبغة الأساسية للأوّلين وأمثالهم، باستثناء أدونيس، كانت اليسارية. أما ما يجمعهم فكان نقد الإسلام السني تحديداً باعتباره السلطة المهيمنة تاريخياً، وعدم التوقف عند ممارسات مشابهة لمذاهب أخرى حكمت في المنطقة. تأثرتُ إلى حد ما بتلك الموجة، وأظن أن صديقي الشاعر عبداللطيف خطّاب أول من لفت انتباهي إلى قراءة أكثر عمقاً، ففي إحدى الجلسات جادل في أن الروائي حيدر حيدر طائفي، وكانت روايته "وليمة لأعشاب البحر" أثارت ضجة لدى صدورها، حجة عبداللطيف كانت أنّ الكاتب قد اختار لأكثر شخصيات الرواية سلبية وسوءاً اسم "يزيد" الذي يبدو كأنه في الجهة المقابلة للشخصية المحبوبة "مهدي جواد". دافعت عن حيدر حيدر حينها، من منطلق أن نشأة المرء قد تترك في لاوعيه رواسب من هذا القبيل من دون أن تنسحب على وعيه، كأن يرى في اسم يزيد أو عمر مطلق الشر. الأمر إذا يستحق انتباهاً أعمق من تكرار خطأ جارتنا الشيعية، وهي تناديني باسم علي!
ما أرمي إليه أن الواقع، لا الواقع المعيشي البسيط وإنما الثقافي والسياسي أيضاً، لم يكن بعيداً عن الاصطفافات المذهبية والإثنية، وإن اتخذت التعبيرات عنها طرقاً ملتوية قصداً أو بفعل عوامل الكبت المختلفة. بل إن هذه المواربة عزّزت طوال عقود نوعاً من الفصام بين ما هو مكتوب وما هو مُعاش، وبين المُثُل التي يتم التظاهر بالإيمان بها ورواسب الماضي المقموعة سلطوياً وذاتياً. مثلاً لي قريب، لديه صديق وشريك عمل إسماعيلي، وصادف أثناء مرورهما معاً بالحواجز التابعة للسلطة السورية أن تساءل من يدقق في أوراقهما عمّا يجمع علوياً باسماعيلياً؟! وهما يحكيان لي ذلك في عام 2012 استطردت بالقول إنّ هذا التساؤل عادي جداً وأشرت إلى العداء القديم أيام صالح العلي، وهنا استعاد ابن مصياف تلك الذاكرة الأليمة، يوم هاجم صالح العلي مصياف وحاصر أهلها ونكّل بهم. صورة صالح العلي في الكتب المدرسية، وفي المسلسلات التلفزيونية الجديدة، هي صورة المناضل البطل ضد الاستعمار. بينما جرّب الاسماعيليون وجهاً آخر تماماً، بل تقول الرواية المناقضة أن صالح العلي اشتبك مع الفرنسيين لأنهم حاولوا ردع اعتداءاته على الاسماعيليين بما أن السلطة الفرنسية كانت مخوّلة بتطبيق القانون، أي لم تكن ثورته، لم تكن ذات دوافع وطنية أصلاً.
الواقع، لا الواقع المعيشي البسيط وإنما الثقافي والسياسي أيضاً، لم يكن بعيداً عن الاصطفافات المذهبية والإثنية، وإن اتخذت التعبيرات عنها طرقاً ملتوية قصداً أو بفعل عوامل الكبت المختلفة
في صيف عام 2012 أيضاً سأتعرّض لموقف لا يخلو من الدلالة، حينها كنت قادماً برفقة زوجتي وصديقة لنا من جهة صلنفة في اتجاه اللاذقية، وكانت قوات الأسد قد اقتحمت الحفّة وسيطرت عليها وهجّرت أهلها. في الحاجز الأول كان ثمة عنصر، ما أن أخذ هويتي من نافذة السيارة حتى ناولها لرئيسه ومدّ يديه ليفتشني وأنا في داخل السيارة. المسؤول عن الحاجز كان قد أمسك الهوية في هذه الأثناء وقال بلهجة محلية: "عمر! من حلب! شومتعمل هون؟!. لحسن الحظ بادر سائق السيارة الذي لا نعرفه إلى إجابته بالقول أنه أتى بنا من مزرعة العميد فلان، وهو عميد معروف في تلك المنطقة، وهنا تساءل المسؤول فوراً: "شو متعمل عند سيادة العميد؟ متشتغل عنده؟ أجبته بأنني كنت في زيارة إلى سيادة العميد" الذي لا أعرفه طبعا، فظهرت على وجهه علامات الحيرة المشفوعة بعدم التصديق، إذ كيف يمكن لشخص اسمه عمر أن يكون ضيفاً لدى سيادة العميد، بينما يُفترض به أن يكون عاملاً أو خادماً في مزرعته!.
بعد تلك الحادثة، لا بسببها طبعاً، سأحصل على هوية مزورة باسم عمار، قيد النفوس: طرطوس، إذ مَنْ من شبيحة الأسد سيخطر له أن يكون ابن طرطوس مطلوباً للمخابرات! هذه الهوية المزورة هي الذكرى الوحيدة المتبقية من وثائقي السورية.
على الصعيد السياسي المباشر؛ لا يصعب على من يدقق في التجربة الحزبية السورية رؤية الآثار الطائفية والمناطقية عليها. مثلاً لمدة طويلة كان يُنظر إلى التيار الناصري بوصفه تعبيراً عن عروبة سنّيّة، مقابل عروبة البعث التي تمثّل الأقليات. هنا لا بد أن تحضر في الأذهان كلمة "عدس"، التي استُخدمت كاختصار لما نُظر إليه كتحالف أقلوي لطرد السنّة من البعث والمناصب الفاعلة ضمن الجيش؛ الكلمة التي ظل استخدامها رائجاً للدلالة على تلك الأقليات اختزال لـ"علوي، درزي، سمعولي". وإذا كانت حركة الإخوان المسلمين التجربة الحزبية الوحيدة التي تجهر بأيديولوجيا مذهبية فلم تكن بقية الأحزاب عموماً خارج غلبة الطابع الطائفي أو الإثني وأحياناً المناطقي؛ لندع هنا شعارات هذه الأحزاب أو يساريتها أو علمانيتها المُدّعاة فالعبرة، كانت في عصبويتها الأساسية القائمة على اعتبارات تحت الإيديولوجيا وفوقها تأثيراً في آن واحد.
هذا لا يعني أن السوريين يهجسون بالطائفية صباحاً ومساءً، لكنهم حُرموا من الممارسة الديموقراطية التي تتكفّل مع الوقت بتعزيز فردانيتهم، وبجعل نظراتهم إلى الماضي أكثر تسامحاً، بعد أن يكون قد أصبح ماضياً حقاً.
لا شكّ في أن التنميط المتبادل بين المجتمعات أو المناطق المختلفة موجود بدرجات متفاوتة لدى شعوب العالم كلها، إلا أن ميزتنا عن الآخرين في أن التنميط لا يشتغل فقط في المجال الاجتماعي، وأيضاً لا يأخذ طريقه إلى الاضمحلال بفعل تقادم الزمن. التنميط لدينا هو مشروع سلطة، وهو مشروع حروب صامتة، أو علنية مؤخراً، أي أنه يشتغل ويتفاعل في الحقل العام، إما بصفته العامل الأكثر تأثيراً، أو ضمن العوامل الأكثر تأثيراً. هذا لا يعني مثلاً أن السوريين يهجسون بالطائفية صباحاً ومساءً، لكنهم حُرموا من الممارسة الديموقراطية التي تتكفّل مع الوقت بتعزيز فردانيتهم، وبجعل نظراتهم إلى الماضي أكثر تسامحاً، بعد أن يكون قد أصبح ماضياً حقاً.
الحقّ أنه ليس للسوريين، بخلاف ما يُحكى كشعار، تاريخ مشترك ما دام التاريخ الشفوي لكل جماعة مختلفاً عن شعارات التقية الوطنية؛ هذا التاريخ الجامع لتناقضاتهم لم يُعترف به ليُدفن كما يليق به. المشكلة قطعاً ليست ناجمة عن عدم معرفة الآخر، لتجد حلها بالمعرفة والتعارف بين المختلفين، إذ هناك شرخ قائم على معرفة كافية، وعن وعي وتصميم. في المجتمعات التي قطعت شوطاً في التجربة الديموقراطية بات يُنظر إلى كل أنواع التنميط بمثابة جريمة ثقافية، إن لم يكن هناك نص قانوني صريح يجرّمها. لكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة من الفردانية كانت الجماعات قد بدأت تسخر من ذاتها، ومن نظرتها النمطية إلى الآخر. نحن أيضاً، عندما نتحرر من هيمنة الآخر، ونبدأ في السخرية من مُتخيّلنا عنه، ونشرع في السخرية من أنفسنا بدلاً منه، حينها يجوز لنا القول إننا ندفن التاريخ، أي تحديداً عندما يصبح التاريخ السياسي الثقافي مادة بين القصة والمزحة. في ذلك الزمن لن يكون هناك حاجز عسكري أو مخابراتي يستنكر وجود شخص اسمه عمر في مدينة ساحلية أو يراه خادماً عند ضابط، وقد يكتب روائي جديد، ربما من حصين البحر نفسها، عن شخص يُدعى يزيد، فلا يكون يزيد شريراً ولا خيّراً، بل يكون شخصاً عادياً مثلنا فيه ما فيه من الخير والشر معاً.