(اللاذقية)، يتجول محمد السقّا "أبو محمد" ـ (65 عاماً) تاجر التبغ الحموي في قرية "دوير بعبدة" الساحلية السورية دون خوف اعتراضه أو توقيفه من قبل أي من سكان البلدة الصغيرة، باحثاً عمن يبيعون خيطان التبغ على "المنشر" يرافقه مالك الأرض متلفتاُ من ألا يراه مراسل التبغ الحكومي ويشي به إلى الشرطة.
قدم أبو محمد من مدينة "حماة" السورية (وسط البلاد) عبر طريق "بيت ياشوط" مستخدماً سيارته "الكيا"، وهي شاحنة متوسطة يطلق عليها شعبياً اسم 2400، مارّاً بالطريق الدولي دون اعتراضه من أي من الحواجز المنتشرة على الطريق، إلى هذه القرية الأولى ضمن جولته التي يبدأها عادة من عند "الأصدقاء" أي من "الدوير". وبلهجة حموية ترن في تلك القرية الجبلية يقول: "لازم نجيب معنا هدايا للأصدقاء، الجبنة الحموية لا يعلى عليها، وكمان التبغ المنتج هون لا يعلي عليه"، مضيفاً: "الجميع بعد الأزمة يدخّن التبغ الجبلي، موالاة ومعارضة".
تاريخ وعلاقات قوية
تعود العلاقات الحَموية مع الجبال إلى عهد العثمانيين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين حيث كان مُلّاك حماة من الإقطاعيين (السنة) يمتلكون قرى (علوية) بأكملها خاصة في ريف حماة، لدرجة أن "مصطفى العظم" كان يمتلك 46 قرية عام 1919، ويبلغ عدد سكانها جميعاً ما ينوف عن الأربعين ألفاً، وقد اغتاله ثوار الجبل بعد ذلك سنوات، وفق ما يقول محمد هواش في كتابه "تكون جمهورية".
يسجل توثيق مؤرخ معاصر (محمد هواش) من وثائق الخارجية الفرنسية أن ثورة الشيخ "صالح العلي، المثير للمتاعب والقلاقل ومفجر أول ثورة سورية ضد الفرنسيين عام 1919، تلقت دعماً من تجار مدينة حماة حيث أرسل بعض وجهائها، ومن بينهم رئيس الحزب البلشفي، الدكتور محب زاد (وفق ما يذكر الكاتب محمد هواش في كتابه "تكون جمهورية، ص 27)، والحاج "محمد الكبال" والشيخ "سعيد زيمور" والدكتور "عمر الدلال" والشيخ "طاهر النعسان" وآخرون حمولة (سبعة بغال) من الذخيرة إليه عن طريق الغاب أيام كان مستنقعاً يصعب اختراقه، في حين لم تتلق وقتها أي دعم من مدن الساحل ذات الأغلبية السنية.
ليس التبغ فقط بوابة للعلاقات بين الجبل والغاب وحماة المدينة، بل يحتل زيت الزيتون، بأنواعه، مساحة جيّدة أيضاً في ظل انقطاع تواصل حماة إلى حد ما مع إدلب
هذه القرية تحديداً تعتبر عقدة رئيسية في القسم الغربي للجبال، وهي ليست بعيدة عن الذاكرة السورية مثلما تبدو الآن منسيةً، فمنها كان عدد من أبزر القادة السوريين قبل انقلاب عام 1970، منهم صلاح جديد (الأمين القطري للبعث) وغسان جديد، القائد القومي السوري الذي شارك في حرب فلسطين عام 1948 قائداً للكتيبة العلوية.
على المستوى الأهلي في القرن العشرين بقيت العلاقات بين حماة والجبل محصورة في شقها الاقتصادي غالباً دون نسيان أن ما جرى في حماه عام 1982 تسبب في حدوث شقاق نوعي بين أهل المدينة والجبل لم تتعافى منها للوقت الحاضر بسبب التعتيم الحاصل في الذاكرة الجمعية على ما جرى بالدقة، وبالطبع أضافت المقتلة السورية الأخيرة أبعاداً مضافة لهذه القطيعة، إلا أن الباب الاقتصادي قد يساهم في ترميمها.
لماذا يهرّب هذا التبغ؟
في هذا العام وكما في الأعوام السابقة وفي عز تظاهرات حماة، صيف العام 2011، لم يتوقف مجيء تجارها إلى الجبل، يخمنون ويشترون الدخان العربي (التنباك والمفروم) ويسربونه إلى حماة خفية عن الدولة وجهاز الريجي (الاسم الفرنسي لمؤسسة التبغ التي أنشأها الفرنسيون) ومراسليها وعبر الحواجز المنتشرة (تتبع للدفاع الوطني في الغالب)، وهؤلاء يأخذون نصيبهم من "التهريبة" مبلغاً بسيطاً من المال.
يعتبر التبغ المنتج في الجبال الساحلية واحداً من أفضل أنواع التبوغ، إذ يذكر الباحث السوري المرحوم "جبرائيل سعادة" في كتابه "المختصر تاريخ اللاذقية" أنه قد عُرف منذ نهاية القرن التاسع عشر بعد إضراب قام به المزارعون احتجاجاً على تدني أسعاره شتاء عام 1890، ورفضوا بيعه وخزّنوه في بيوت ترابية وأشعلوا قربها النار فأصاب التبغ الدخان وأصبح ما يعرف لاحقاً باسم "التبغ المدخون".
لم تلبث أن حلت المشكلة ورفعت أسعار التبغ. إلا أنّ التبغ المدخن ذاك، أصبح فيما يلي من الأيام مطلوباً في أسواق أوروبا لطعمه الطيب، وحتى اليوم ما يزال يعرف باسم التبغ اللاذقاني عالمياً، فهو مثلاً في اللغة البرتغالية lattaquee tobacoo.
تقدر الكميات المنتجة في سوريا عموماً بحوالي 27 ألف طن متري، ويشكّل إنتاج الساحل أكثر من 77% من مجموع إنتاج سوريا في حين تشكل المساحة المزروعة نسبة 63 % من إجمالي المساحات المزروعة سوريّاً (إحصاءات عام 2011) حيث يزرع أنواع مختلفة منه في السهول الساحلية من نوع (البصمة) الذي يخلط مع النوع البلدي (شك البنت كما يسمّى)، ويوفر هذا القطاع فرص عمل لأكثر من مئة ألف إنسان على الأقل عدا عن العمال في المؤسسات التابعة لهذا القطاع.
يصرّح المزارعون عن الكميات التي سوف يزرعونها وعلى أساسها يتم تقدير كمية الإنتاج المتوقعة (تسمى هذه العملية تخمين يقوم بها أشخاص يسمون مراسلين)، وغالب المزارعين يزرعون فوق ما تقدره لهم مديرية الزراعة بغاية بيع الزيادة في السوق الحرة التي ترتفع أسعارها عن أسعار الدولة بأكثر من الضعفين.
وتعتبر حماة من المراكز المهمة لتصدير التبغ المفروم إلى مختلف الأنحاء السورية، إذ تتوافر فيها عدة مناكل (أداة تقوم بفرم التبغ بعد ترتيب أوراقه وتجهيزه للفرم)، ويتم نقل التبغ المفروم عبر قنوات تهريب خاصة إلى العاصمة التي يرتفع فيها سعر الكيلو المفروم إلى ما فوق 8 ألاف ليرة سورية (تقريباً 12 دولار)، وقد ازداد عدد مدخني هذا النوع بعد ارتفاع أسعار مختلف أنواع التبغ المحلي أو المستورد إثر انخفاض قيمة الليرة الشرائية.
أسعار أعلى ونخبة الإنتاج:
يتحدث "أبو محمد" فيقول وهو يشارك في تعزية في القرية: "شو يعني؟ ليش جايين لهون؟ لحتى نشتري الدخان، دخان دوير بعبدة والقدموس والدالية ما في متلو للتنباك وللدخان المفروم كمان، أنا ما بتدخل بالسياسة، جدي كان يشتري من هنا منذ قرن مضى وأنا أفعل مثله، ابني سيفعل ذلك أيضاً، نحن توارثنا هذه العلاقات منذ قرن ولا مجال لنترك للسياسة أن تخربها".
ساعد "أبو محمد" في نقل معلومات عن جنود ومدنيين اختطفوا في مدينة حماة على خلفية الأحداث لاعباً دور وسيط محتمل، يقول: "قدر استطاعتنا ساعدنا الناس على الوصول إلى الأطراف التي فعلت فعلها الشنيع ذاك، من الصحيح أن المدينة نجحت في الهرب من الحرب إلى حد ما، لكن ريفها تعرض لويلات الحرب، وهناك مخطوفين ومفقودين لا علاقة لهم بما جرى".
يتدخل في الحديث "إبراهيم حنا" وهو تاجر آخر من مدينة السقيلبية (تتبع مدينة حماة) قائلاً: "مع بداية الأحداث ـ كما قال ـ لعبنا دور وسطاء مع أهل القرى هنا وعبر مناطق الجبل وذلك بسب وجود خوف كبير من القدوم إلى الجبل بعد انتشار أخبار وإشاعات شعبية عن قتل كل "سني" يفد إلى الجبل، وبالعكس، قتل كل "علوي" ينزل إلى مدينة حماة، الأمر الذي لم يحدث، لكن الخوف "يعمي العيون".
يقول إبراهيم (55 عاماً): بعد أن تدخلنا وتوضح لدينا أن لا أحد ينوي قتل أحد وأنها مجرد إشاعات مصدرها بعض المستفيدين من التجار الصغار، عدنا إلى الاجتماع واللقاء والمتاجرة، فجئنا إلى هنا (دوير بعبدة) ومنها إلى بقية القرى الأخرى دون أي تدخل من أحد.
بالطبع تدخلت الحواجز أول الأمر، يقول إبراهيم، حيث أعلنوا عدم مسؤوليتهم عما قد يحدث لنا في القرى الغاضبة من موت أبنائها، إلا أنهم على "استعداد" في حال وجود إشكال للتدخل.
وعلى الرغم من أن الحكومة قد رفعت أسعار التبغ إلى أكثر من الضعفين نهاية العام الفائت لبعض الأنواع، إلا أن أسعار تجار حماة ما تزال تتفوق على أسعار الحكومة، فهؤلاء يدفعون مثلاً سعراً لكيلو من نوع فرجينيا (الأفضل والأعرض ورقاً) ثمناً يقترب من أربعة آلاف ليرة (9دولار) بزيادة الضعف عن سعر الحكومة، وللتنباك (يستخدم للأراكيل) خمسة آلاف ليرة (10 دولار) كذلك ضعف سعر الحكومة.
يشكل التجار بالتالي حالة إغراء تعجز الحكومة السورية عن مجاراتها مما يدفع كثير من المزارعين إلى عدم التصريح عن كميات إنتاجهم الحقيقية من التبغ، لدرجة دفعت ببعض المزارعين إلى طرد "مراسلي الدخان" ذوي السلطة المعروفة هنا، أو إلى رشوتهم مقابل ضمان سكوتهم عن الأرقام الحقيقية للإنتاج، حيث يسلمون الدولة كمية قليلة والباقي يباع إلى التجار.
شهدت إحدى قرى بانياس القريبة أول حالة زواج مختلط طائفياً لم تشهدها المنطقة منذ سبع سنوات تقريباً كان عرابها أحد التجار الحمويين.
"لم تتغير علاقاتنا بهم" يتحدث المزارع "محمود ابراهيم" (35عاماً) من أهالي دوير بعبدة مضيفاً: "المسافة من هنا إلى حماة بالسيارة لا تتعدى الساعة مع كل صعوبة الطريق وتواجد الحواجز الكثيرة، نعم، نحن نبيع لتجار حماة، ولتجار إدلب في المقام الثاني، منذ زمن بعيد ولو أن تواجد تجار إدلب هنا قد اختفى تقريباً، إلا أن تجار حماة مستمرون بالتعامل معنا".
يغطي طيف الشراء أغلب المناطق التي تنتج التبغ في الجبل الساحلي، فتجد التجار منتشرين وفق علاقات قديمة أسسها الزمن الماضي في الدالية ومعرين والقدموس وبطموش وجبل الشعرة وحرف السيري ووادي القلع وجرد بانياس الممتد حتى أطراف حماه، حيث يزرع التبغ البلدي كزراعة بعلية دون استخدام سوى قليل من المبيدات الحشرية الأمر الذي يجعل الإنتاج متمتعاً بجودة ونقاوة مفقودة في إنتاج المناطق المروية.
لا مناوشات ولا اعتراضات
لم تشهد هذه المناطق أية حالات اعتداء لا على الأفراد ولا على الممتلكات الخاصة بهؤلاء التجار، سوى حادثة نافرة في قرية (حرف السيري) التابعة لجبلة حين تصادف وجود تاجرين من حماة في الوقت الذي وصلت فيه جنازة شابين من الجيش إلى القرية، مما دفع بعض الشباب إلى محاولة إيذائهم. إلا أن مدرّسين في القرية تصدوا لهم ووضعوا التاجرين تحت حمايتهم وأخرجوهما من القرية بعد أن اعتذروا منهما.
طريق حماة الغاب، من جهة طريق مصياف، لم ينقطع إلا أيام خلال السنوات السبع الماضية. واليوم، ومع تواجد حواجز للجيش السوري واللجان الشعبية وقوى تابعة للمعارضة المسلحة، لم يتغير المشهد سوى بوجود حذر مرتقب مخافة الاختطاف حيث حدثت عدة حوادث كادت أن تشعل فتنة بين الجارين القديمين، اللذين لا يكنا الود لبعضهما بالتأكيد، إلا أن الخوف من الماضي وثقل جراحه ونتائج الحرب والرغبة المضمرة في رعاية المصالح الاقتصادية تجعل الأمور هادئة بعض الشيء.
ليس التبغ فقط بوابة للعلاقات بين الجبل والغاب وحماة المدينة، بل يحتل زيت الزيتون، بأنواعه، مساحة جيّدة أيضاً في ظل انقطاع تواصل حماة إلى حد ما مع إدلب، الأمر الذي يجعل من الاقتصاد بوابة حقيقة لردم الهوة بين الجانبين ليس من منطلق التجارة فقط التي تساهم لاشك في ذلك، بل ومن بوابة إفادة الجانبين من فوائدها في توسيع العلاقات المجتمعية، فقبل وقت شهدت إحدى قرى بانياس القريبة أول حالة زواج مختلط طائفياً لم تشهدها المنطقة منذ سبع سنوات تقريباً كان عرابها أحد التجار الحمويين.