يعود عمر النسوية في تاريخ شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى ما يزيد عن قرن، فإذا كان تاريخ السادس عشر من آذار عام 2023 يشير إلى مرور قرن على تأسيس "اتحاد النساء المصري" (والذي يعدّ أول منظمة نسوية مستقلة ومعلنة بشكل صريح تحت قيادة هدى شعراوي)، فإنّ نشاط المرأة في المجال الثقافي والاجتماعي سعياً لتحقيق المساواة في النوع الاجتماعي قد سبق هذه اللحظة التاريخية.
لقد شاركت الملهمات من النساء واقعياً في النهضة العربية منذ انطلاقتها في أواخر القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين كانت الكتابة الإبداعية والصحافة، هما الوسيطان اللذين شاركت المرأة من خلالهما في الجدل العام، متخطية العقبات التي فرضها السياق المحافظ المرتبط بعدم المساواة في النوع الاجتماعي، وقد سلطت هاتي النساء الضوء على الرباط الوثيق بين المجالين الخاص والسياسي.
شكلت النساء جزءاً من الحركات القومية وحركات مناهضة الاستعمار التي تنامت في شمال أفريقيا والشرق الأوسط خلال القرن العشرين، وتوّلت أحياناً مناصب قيادية، كما شاركن في تشكيل الحركات السياسية في فترة بعد الاستعمار على مختلف أطيافها، من الليبرالية إلى الماركسية، وصولاً إلى الإسلامية، وساهمن بأفكارهن النسوية في الحركات القاعدية التي كنّ جزءا منها، والتي تضمنت الحركات الطلابية والعمالية والحقوقية.
ورغم الإشادة بالنساء، فقد نالهن أيضاً النقد على نشاطهن السياسي، إذ حاولت الأنظمة تدجين البعض منهن كما تعرّضت أخريات للرقابة والسجن والقتل والنفي، حيث حاولت النساء في العالم العربي، وبشكل أوسع في الشرق الأوسط، تحقيق توازن دقيق بين الاستقلال والتأثير في مساحات صعبة للغاية، مما يوّضح أنّ ثنائية المقاومة والتدجين لا تعكس دائماً الواقع على الأرض.
حققت الحركات النسوية إنجازات هامة، خصوصاً على مستوى الإقرار بحقوق النساء السياسية في ظلّ سياقات اتسمت بالتبعات التاريخية (والمستمرة في حالة فلسطين) للاستعمار، وبالحروب المتعدّدة والتهجير والممارسات العنيفة التي أنتجها تحالف أنظمة ما بعد الاستعمار والرأسمالية العالمية. ومع ذلك، تقرّ تلك الحركات النسوية، بأنّ هناك بعض الجوانب التي تحتاج إلى المزيد من التحسّن (مثل إصلاح قوانين الأحوال الشخصية)، كما حدثت على مدار الزمن انتكاسات متكرّرة يمكن من خلالها القول: إن ّ كلّ أزمة جيوسياسية قد تميّزت بإنتاج خطاب معادي للنساء، محرّض على التحكّم في أجسادهن، حقوقهن، دورهن في المجال العام وبالطبع في حرياتهن.
يبني هذا الملف على الإرث النضالي الطويل للمرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي معركة من أجل المساواة تتقاطع مع خطط متعدّدة، عادة ما تتخطّى حقوق المرأة وتتبنّى أهداف أوسع.
تُظهر المقالات الست التي تمّ جمعها في هذا الملف الرابط الوثيق بين الإنتاج الفكري والنشاط القاعدي الذي يميّز النسوية المعاصرة عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتوّضح هذه المقالات معاً ضرورة التساؤل حول التعريف العام للنسوية ككلمة يجب على المرء من خلفها، أن يقرأ نظريات، تطبيقات وتطلعات متنوعة ومتعدّدة.
فليس هناك نسوية موحدة القياس بل إن مفردة "نسوية" (والتي لم تعمم في اللغة العربية سوى في فترة ما قبل التسعينات) لم تتبناها المفكرات والناشطات السياسيات بالإجماع عالميا في إشارتهن لأنفسهن.
توّضح فرح يوسف، وهي واحدة من كاتبات هذا الملف في مقالها الانطباعي المتأمل للذات، أنّ النسوية طريقة للنظر إلى الذات والعالم لا ينبغي موضعتها تاريخياً أو سياسياً أو جغرافياً فقط، بل إنها بالغة الشخصية تتطوّر أهميتها ومعناها على مدى العمر كذلك.
تكمن داخل الشخص الواحد موضوعات نسوية متعدّدة، تستجيب للطرق المتعدّدة التي تتطوّر بها الناشطة النسوية منذ أن كانت طالبة في المرحلة الثانوية تحت حكم نظام سلطوي، مروراً باللحظة الثورية ووصولاً إلى المنفى. مواقع مختلفة، مراحل مختلفة في حياة شخص واحد، وأولويات مختلفة، تؤثر جميعها في كيف تنظر المرأة إلى النسوية.
النسوية هي رؤية يمكن لها أن تغيّر طريقة تفكيرنا، ليس فقط في علاقات النوع وموازين القوى والعلاقات الأسرية، كما يمكن لها أن تلهم نقد الأطر القانونية، ومن أجل هذا تشتبك كاتباتنا في نقاش مثمر مع كاتبات معاصرات أخريات من الجنوب العالمي.
فمقال سلمى الطرزي الذي يركز على مصر، يتساءل حول الإطار القانوني من خلال علاقتها الشخصية وعلاقة رفاقها بمواجهة وإدانة التحرّش الجنسي والاغتصاب، حيث تدعو لإعادة التفكير في شرعية نظام التقاضي الذي يشكّك في سردية الناجيات/الضحايا بدلاً من المعتدين.
"النسوية يمكن لها أن تنقذ حياتك" تؤكد هندا شناوي عندما تتذكر خبرة النساء الثوريات في تونس، خبرة من الحماس خلال أيام الثورة تحوّلت إلى أسى بعد الرحيل والوفاة المبكرة للينا بن مهنى، والتي كانت نقطة مرجعية لكلّ الحراك الثوري، إلى درجة أنّ عائلتها ورفاقها قرّروا تأسيس مدرسة نسوية تحمل اسمها تخليداً لذكراها، ذكرى ثرية تهدف إلى إحداث تغيير في حياة النساء الصغيرات المشاركات في المشروع، وليس مجرّد تخليد بسيط.
في كلمات المجموعة الأولى المشاركة في هذا الملف تعني النسوية الارتباط بين الأرض والأسلاف، وهو ارتباط يلهم تجارب الزراعة الإيكولوجية والسيادة الغذائية. فكما وثقت ولاء القيسية خلال المقابلة التي أجرتها مع الناشطة البيئية لينا إسماعيل، نتعلّم كيف قام نضال المرأة الفلسطينية عبر الأجيال بتشكيل أجيال جديدة معنية بالزراعة الإيكولوجية والسيادة الغذائية كمشروع للتحرّر.
في هذه العملية تطالب الناشطات الفلسطينيات الشابات بهويتهن المحلية ويشككن في النماذج الحداثية لـ"تمكين المرأة" التي تمّ دسها خلال توّسع الرأسمالية العالمية.
من تونس إلى مصر إلى فلسطين والجزائر، تمكنّنا الخبرات المتعدّدة التي تمّ سردها في مقالات هذا الملف الافتتاحية من فهم أعمق أيضاً للاحتجاجات المستمرة في إيران، كما تمكن القارئ من الاطلاع على بطولات المرأة خلال الانتفاضات الثورية الإيرانية التي اندلعت في سبتمبر 2022 كفصل أحدث في تاريخ ممتد من الحراك متعدّد الجوانب.
تسلط مقابلة باهار أوجلائي مع مجموعة جيان الضوء على أنّ هذه المجموعة قد قامت على أكتاف تراث نضالي ممتد، كما تحمل في نفس الوقت سمات جديدة، أهم ما يميّزها هو الرابط بين مسألة المرأة وكلّ نضال الشعب الإيراني من أجل التحرّر.
تدعو المقابلة القارئ إلى النظر إلى الحراك الثوري في إيران من منظور أوسع، كما أنها تلقي الضوء على كيف صيغت مطالب الشعب في سطور متعدّدة، يتقاطع فيها النوع مع الطبقة والإثنية ومناهضة القومية، إذ تقترح مجموعة جيان (مجموعة نسوية انبثقت من الأنشطة السياسية والاجتماعية لعدد من الناشطات في إيران بعد ثورة المرأة - الحياة – الحرية) الحاجة إلى النظر عن قرب إلى هذه النضالات النسوية وتقاطعها مع النضالات الوطنية للأقليات الدينية والعرقية، مستنتجة هذا في تصريح نجده ملائم للمنطقة عامة، وربما العالم كله، عندما تؤكد قائلة "هذه لحظة مصيرية للحركة النسوية، يمكن لها أن تتجاوز حدودها الذاتية وبالتحديد أعباء القومية والعنصرية".
تهدف المقالات المنتقاة داخل هذا الملف إلى النظر إلى الأفكار والممارسات التي طوّرتها النسويات عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر ما يتجاوز الإثنى عشر عاما التي تفصل انتفاضات الربيع العربي عامي 2010 و2011 عن الانتفاضة الثورية في إيران عام 2022 من خلال سلسلة مداخلات أنتجتها ناشطات ومثقفات الأجيال الجديدة، ونأمل أن تسلّط بعضا من الضوء على الرؤى السياسية للناشطات والمثقفات، كما نأمل أن تتيح نقاش موّسع عن دور الكيانات الغير حكومية واللامؤسسية، مستكشفة للنسوية كمجموعة من الأفكار وليدة تقاطع النظرية مع ممارسات عايشتها حركات النساء المستقلة التي تعمل على هوامش المؤسسات السياسية، منتجة لنظريات، لا تشكل فقط النسوية المعاصرة العربية والشرق أوسطية، ولكنها تسهم في جوهر وشكل النسوية العالمية في القرن الحادي والعشرين.