لم يكن السوريون/ات قد استيقظوا بعد صباح يوم التاسع من كانون الأول/ديسمبر من "سكرة" احتفالاتهم العابرة للعالم بسقوط نظام هجرهم إلى مختلف بلدانه، حتى فاجئهم قرار عدة دول أوروبية، بينها ألمانيا، بوقف البت في قرارات اللجوء، قاذفين سؤالاً مزعجًا، سابقًا لأوانه، على الطاولة: ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لي، العودة؟.
وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر التي أقرت بعدم إمكانية التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في سوريا، وبأنه من غير الجدي التكهن حيال عودة السوريين/ات في هذا الوضع المتقلب، رأت في الوقت نفسه أن قرار وقف البت في حوالي سبع وأربعين طلب لجوء قدمه سوريون/ات صحيحًا، حتى يصبح الوضع أوضح (القرارات المتخذة لن تتأثر).
عوض مشاركة مواطنيهم/ات السوريين/ات أفراحهم، سارع ساسة من حزب "البديل" اليميني المتطرف، والاتحاد الديمقراطي المسيحي، المرشح بقوة ليقود الحكومة القادمة، عند إجراء الانتخابات في شباط/فبراير القادم، أحلام يقظتهم مع السوريين/ات، بترحيل مئات الآلاف منهم. وزير الصحة السابق ينس شبان، تحدث عن استئجار طائرات تنقل السوريين/ات إلى بلادهم، مقترحًا تقديم عرض لهم، مبلغ ألف يورو مكافئة المغادرة طوعًا. واقترح في خطوة ثانية، تنظيم ألمانيا والنمسا وتركيا والأردن مؤتمر عودة وإعادة إعمار ربيع العام القادم. فيما دعا مسؤول السياسة الخارجية في الحزب، يورغن هاردت، المستشار أولاف شولتز للإسراع في التواصل مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للتعاون في هذا الشأن. زميلته أندريا ليندهولز، نائبة رئيسة كتلة الاتحاد، دعت لإيقاف فوري لاستقبال السوريين/ات.
السياسية الألمانية في حزب الخضر، من أصل سوري، لمياء قدور، انتقدت هذه الاقتراحات "المخجلة للغاية"، متسائلة كيف يمكنها أن تتوافق مع "القيم المسيحية" التي يتحدث عنها ساسة الاتحاد المسيحي عادة، معتبرة أن الأمر لا يتعلق بالنسبة لهؤلاء الساسة، بالبشر والمسألة، بل "بحملة انتخابية"، مؤكدة أن "الوضع في سوريا ما زال غير مستقر البتة وليس آمنًا. هناك حاجة لبعض الوقت قبل أن يصبح بإمكان المرء الحديث بجدية عن الأمر". ليلى الزبيدي، من مؤسسة هاينريش بول الألمانية اعتبرت أن دعوات شبان تفتقد إلى الاحترام، "بينما لا يزال السوريون/ات في جميع أنحاء العالم خائفين على مفقوديهم والمحاولات جارية على الأرض لإنقاذ الناجين دون أي مساعدة خارجية". فيما أوضحت هبة زيادين، المحققة في شأن سوريا في منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية، أن إيقاف فرنسا وألمانيا والنمسا منح الحماية المؤقتة للسوريين سابق لأوانه وغير مسؤول، " لا تزال سوريا تمر بمرحلة انتقالية هشة، ومستقبل الحكم فيها وسلامتها واستقرارها غير مضمون على الإطلاق". ودعت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك إلى عدم الإسراع في الوصول لخلاصات، مجادلة بأن من يستغل الوضع الحالي في سوريا لأغراض حزبية، فقد الصلة مع الواقع في الشرق الأوسط، في إشارة إلى إمكانية تبدله.
وتقدر أعداد السوريين/ات المقيمين في ألمانيا بقرابة مليون شخص، حصل قرابة خمسة آلاف منهم على حق اللجوء السياسي، وقرابة ٣٢١ ألفاً منهم على وضع اللاجئ، وقرابة ٣٣٠ ألفاً على ما يسمى الحماية الفرعية المؤقتة. وكان السوريون/ات أكبر مجموعة بين طالبي اللجوء هذا العام، قرابة ٧٢ ألفًا. ويعد الحاصلين على الجنسية الألمانية منهم أقلية، يصلون إلى قرابة ١٧٥ ألفًا منذ العام ٢٠١٠.
وتسيل مشاهد طوابير السيارات العائدة بالسوريين/ات من دول الجوار إلى سوريا، لعاب الساسة الغربيين فيما يبدو، دون الأخذ بالحسبان، أنّ هذه العودة ليست مدفوعة فقط بمشاعر ملتهبة، عن حق، عن العودة للوطن، بل للأحوال المعيشية الكارثية التي يعيشونها هناك، وأن العيش تحت سقف وأربعة جدران، لا يُخشى من أن تحطمها الصواريخ، مقبول أيًا كان مقارنة بخيمة لا تقي البرد أو الحر، وأن العنصرية الفجة، التي تحوّلت في بعض الأحيان إلى حملاتِ ملاحقة مخيفة في تركيا ولبنان، ستجعل الكثير من السوريين/ات يفضلون العودة إلى وطن، ذو أوضاع اقتصادية كارثية عليها.
العارف بكيفية اتخاذ أيّ قرار بخصوص منح اللجوء، والبتّ في تمديد الإقامات الممنوحة لمئات الآلاف من السوريين/ات، الذي سيستند على وضع تقييم جديد للوضع الأمني فيها من قبل الخارجية الألمانية، وأيّ ترحيل محتمل، يدرك بأننا أمام فترة انتظار طويلة.
العارف بكيفية اتخاذ أيّ قرار بخصوص منح اللجوء، والبتّ المحتمل في تمديد الإقامات الممنوحة لمئات الآلاف من السوريين/ات أو إلغائها، الذي سيستند بالضرورة على وضع الخارجية الألمانية تقييمًا جديدًا للوضع الأمني في سوريا، والمطلع على تعقيدات أي ترحيل محتمل، يدرك بأننا أمام فترة انتظار طويلة. لن تستطيع الخارجية الألمانية وضع تقييم للوضع بناء على أحداث أسبوع، عن بلد لا تعرف سلوك الحكومة القادمة فيها، وتعاملها مع الأقليات الدينية والأثنية، وسط توقعات أولية هنا في ألمانيا، بحدوث موجة هجرة من الساحل السوري.
متحدث باسم الداخلية الألمانية، أوضح أن إلغاء الحماية الممنوحة للسوريين/ات ممكن إذا تحسن الوضع في موطنهم "بشكل دائم"، أي ليس على الأمد القصير، “ينبغي أن نستطيع الاعتماد على أن هذه التغيرات دائمة".
مع ذلك، ومهما تأجل هذا النقاش، سيجد أزيد من مليون سوري/ة في غرب أوروبا، خاصة ألمانيا، أنفسهم في وقتٍ ما أمام واقع جديد، يجرّدهم فيه الساسة من حرية اتخاذ قرار البقاء في ألمانيا أو العودة. في السنوات التالية للثورة، أجبرهم نظام الأسد الساقط، على الفرار من البلد، وضغط زر "ريستارت" لحياتهم، وما يعنيه ذلك من تغيير المهنة ومحاولات لسنوات للتأقلم في بلد لا يتقنون لغته أو نمط حياته. ليصبح السؤال المؤجل الآن، هل هناك مكان في هذا العمر ل “ريستارت" آخر، والبدء من جديد في محاولة التأقلم مع سوريا، لم تطأها أقدامهم منذ أكثر من عقد؟. كيف سيتعامل أطفالهم، مع انتزاع دولة ألمانية من واقعهم وإرسالهم إلى بلد لا يعرفونه سوى عبر الصور وحكايا الوالدين؟ ومن ثم إن أرادت هذه الحكومة الألمانية ذلك، هل عليها التفاوض مع تركيا بشأن السوريين/ات؟
مهما تأجل هذا النقاش، سيجد أزيد من مليون سوري/ة في غرب أوروبا، خاصة ألمانيا، أنفسهم في وقتٍ ما أمام واقع جديد، يجرّدهم فيه الساسة من حرية اتخاذ قرار البقاء في ألمانيا أو العودة.
إن كان السوريون/ات قد أسقطوا النظام فعلًا، عليهم أن يستشعروا تبعات ذلك على حياتهم، وإلا ستفقد مشاهد إسقاط تماثيل الأسدين الأب والابن قيمتها. إن كان السوريون/ات قد أسقطوا النظام فعلًا، عليهم أن يشعروا ربما للمرة الأولى بأن حكومتهم تغلب مصالحهم، على إرضاء الدول المانحة.
على المعارضة "السابقة"، أن تكون من الجرأة بمكان لأخذ زمام المبادرة بنفسها، وأن تخرج من عباءة الدول الداعمة، وأن تكون حريصة منذ هذه اللحظات على أن تكون أي عودة للسوريين/ات، لائقة وآمنة، وتبدأ بتوجيه الخارجية السورية، والسفارات التي ما زالت تعمل كالمعتاد على دعم السوريين/ات عن حق.
يحق للسوريين/ات توقع، أن يوجه وزير الخارجية السابق، غسان الصباغ، الموجود على رأس عمله، والذي كان حتى قبل أسابيع يسعى لإنقاذ رأس الأسد، السفراء أولًا، بإصدار جوازات سفر لهم بالمجان مدة عام على الأقل، تعويضًا على نهبهم من رئيسه السابق بشار الأسد، بمبالغ فلكية.
يحق للسوريين/ات، توقع أن تعمل هذه السلطة المؤقتة، حتى انتقال السلطة، على التواصل مع الحكومات الأوروبية، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتقديم صورة محدثة عن الأوضاع على الأرض، عن البيوت المدمرة التي لا يستطيع المرء ببساطة العودة إليها، عن الحاجة إلى تأسيس صندوق يقدم منحة معقولة، تدعم الاندماج في الحياة من جديد في سوريا، تتجاوز المبلغ السخيف الذي يلوح به السياسي الألماني شبان للسوريين/ات. صندوق من بين عدة صناديق ينبغي على أي حكومة قادمة تأسيسها، كصندوق لتعويض المعتقلين/ات والمهجرين/ات.
على الدولة السورية، إن كانت دولة حقًا، أن تعوّض مواطنيها عن جرائم أحد ديكتاتورها السابق. تمنح الدولة الألمانية السجين/ة تعويضًا عن كل يوم قضاه دون وجه حق خلف القضبان، إن ثبتت براءته.
على المعارضة "السابقة"، أن تكون من الجرأة بمكان لأخذ زمام المبادرة بنفسها، وأن تخرج من عباءة الدول الداعمة، وأن تكون حريصة منذ هذه اللحظات على أن تكون أي عودة للسوريين/ات، لائقة وآمنة، وتبدأ بتوجيه الخارجية السورية، والسفارات التي ما زالت تعمل كالمعتاد على دعم السوريين/ات عن حق.
ما سيحتاجه السوريون/ات في ألمانيا وباقي دول غرب أوروبا أيضًا، نشاطًا أكبر من منظمات المجتمع المدني والناشطين في مجال حقوق الإنسان، يقدمون رؤية تفريقية، أكثر وضوحًا عن سوريا، غير تلك التي يسوقها ساسة البلاد الشعبويين، على وسائل الإعلام. هناك حاجة أيضًا إلى تواصل الناشطين/ات مع الساسة على المستوى الأوروبي في هذا الصدد، مجهود ينبغي أن يلقى دعمًا من أي حكومة سورية مؤقتة قادمة.
كان من اللافت ظهور السياسي السابق في حزب الخضر، طارق الأوس، الذي يعمل لصالح منظمة برو أزول، المعنية بالدفاع عن حقوق اللاجئين، على القناة الألمانية الثانية، ليعبر عن تأثره كشأن الكثير من السوريين/ات بسقوط هذا النظام، ولكن أيضًا ليوضح أن مستقبل مقلق، في ظل تسيد زعيم ديني، مرتبط بالقاعدة سابقًا، المشهد الآن، وعدم ثقته بكلامه المنفتح الموزون في الأونة الأخيرة. هل يمكن للمرء الثقة به على المدى الطويل؟. هل يستطيع طيف واسع يعيش حياة منفتحة في أوروبا، تصور نفسه يعيش في دولة متزمتة دينياً؟. الأوس أوضح أيضًا في مقابلة إذاعية مع شبكة "إن دي إر" العامة أن في هذا النقاش السياسي الألماني حول عودة مستعجلة للسوريين/ات، مخاطرة بتعريض المجتمع السوري في ألمانيا، الذي سبق وأن مر بتجربة مريرة مع أجهزة الأمن، لتراوما جديدة، وهو يخشي الترحيل فجأة.
"أنه لمن السخيف مطالبة أناس، ربما قد عملوا بجد على بناء موطن لأنفسهم في ألمانيا بالاختفاء ببساط. ينبغي للسياسيين الذين يطالبون بمثل هذا الأمر أن يمروا هم أنفسهم بنفس الموقف. عندها ربما سيبقون صامتين إلى الأبد"، تقول ديرشبيغل في رسالتها الإلكترونية اليومية.
ولأننا نعلم بأن الساسة الألمان لن يتخيلوا أنفسهم البتة محل السوريين/ات، نحن بحاجة إلى حكومة سورية قادمة، داعمة بحق لمواطنيها، وإلى جهود سوريون/ات في ألمانيا من أمثال طارق، لجعل قرار العودة أو البقاء آمنًا ولائقًا قدر المستطاع.