"أنا سوري، آه يا نيالي"
لأول مرة (منذ زمن طويل) يصبح لمقولة "انا سوري، آه يا نيالي" معنى إيجابي ما، عند كثير من السوريات والسوريين.
بعد أن (كدنا أن) نفقد الأمل
معظمنا فوجئ بالأحداث العظيمة المتسارعة والسقوط السريع للنظام الأسدي إلى الجحيم. ولم يكن أحد (حرفيًّا) يتوقع أن يحصل ما حصل، بهذه السرعة والطريقة. ولم يجد كثيرون عيبًا في أن يعترفوا بتفاجئهم وبأن يراجعوا تنظيراتهم وتقييماتهم للأوضاع و(بعض) الأطراف المنخرطة فيها. واعترفت بعض أهم الدول المؤثرة في سوريا (روسيا، الولايات المتحدة الامريكية، إيران، ... إلخ) بأنها تفاجأت بما حصل وبكيفية حصوله. في المقابل ثمّة حفنة قليلة من المنظرين النخبويين و/ أو أصحاب المواقف السياسية الجامدة ما زالوا يصرّون أنهم كانوا دائمًا على حق على الرغم من أنّه ثبت مرارًا وتكرارًا، أنّهم كانوا على خطأ، بل على خطيئة أيضًا.
المستقبل في سوريا مفتوح على احتمالات (إيجابية) كثيرة للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة، وبعد أكثر من 54 عامًا من حكمٍ أسديٍّ لم يشهد التاريخ السوري (الحديث) جرائم تضاهي جرائمه، كمًّا وكيفًا. وقد أصبح الوضع في السنوات الأخيرة سيئًا ومتجمدًا إلى درجة فقد كثيرون أو كادوا أن يفقدوا لأمل في حصول أي تحسن. لكن مي سكاف، إحدى أبرز أيقونات الثورة السورية، كانت على حق، حين قالت: "لن أفقد الامل، لن أفقد الأمل، إنها سوريا العظيمة، وليست سوريا الأسد". ويبدو أنّ أمالها وأماني (معظم) السوريات والسوريين في طريقها إلى التحقّق.
فكرة موجزة عن "سوريا الأسد"
أرى، مع كثير من السوريات والسوريين، أنّ ما حصل في سوريا منذ السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، إيجابي رغم كلّ السلبيات القائمة والمخاوف المشروعة. ولفهم هذا الرأي ينبغي ألا نقارن الوضع الحالي بالوضع المثالي أو الأمثل المتمثّل في قيام دولة سورية ديمقراطية تحمي الحريات الفردية لجميع مواطناتها ومواطنيها بغضّ النظر عن انتماءاتهم الجندرية او الإثنية أو الدينية أو الطائفية، وتكون دولة مواطنة وقانون منصف إلخ، لأنّ الوضع الحالي لسوريا للسوريات والسوريين كارثي إذا قارناه بالوضع المثالي المذكور.
لفهم هذا الرأي ينبغي فهم وضع سوريا في ظلّ حكم النظام الأسدي خلال الأربع والخمسين سنة الماضية عمومًا، وخلال السنوات الأخيرة خصوصًا. فقد قتل هذا النظام مئات الآلاف من السوريات والسوريين وهجّر الملايين منهم، والغالبية الساحقة والمسحوقة من السوريات والسوريين التي بقيت في سوريا تحت سيطرته كانت تعاني الأمرين من كلّ النواحي، ووصل الوضع الاقتصادي إلى درجة من السوء بحيث إن راتب الموظف الحكومي أصبح لا يكفيه لإطعام عائلته لبضعة أيام على أبعد تقدير، إضافة إلى فقدان أبسط مقومات الحياة من كهرباء ووقود وقدرة على شراء أتفه المستلزمات الضرورية.
سوريّات وسوريين كثر تذوقوا مرارة طعم الاستبداد مصمّمون على ألا تقوم له قائمة في سوريا بعد الآن؛ وهم يعون إمكانية وضرورة الإسهام في تحديد مصير سوريا، بدلًا من الركون وجعل هذا المصير قدرًا أحمق الخطى تسحق هاماتهم خطاه.
وفي السنوات الاخيرة، ازداد الطابع المافيوي للنظام وتكاثرت عصابات الأمن والشبيحة التي تفرض الإتاوات وتمارس عمليات الخطف والسلب والنهب والقتل والقمع من دون حسيب أو رقيب. وكان هذا الوضع مستقرًّا أو جامدًا أو مجمدًا في السنوات الأخيرة بطريقة فقد معها الكثيرون أي أمل وأصبحوا في حالة مواتٍ صامتةٍ. أما النظام فأصبح اقتصاده يعتمد على تصنيع الكبتاغون وما يشابهه من مواد مخدرة وتصديره، إضافةً إلى عمليات نهب الدولة وسلب المجتمع. والطريف أن بعض العروبيين يؤيدونه رغم أنه حليف أو تابع لإيران التي فعلت ما فعلت في العراق واليمن وسوريا ولبنان وعاثت في هذه البلدان تدميرًا وفسادًا. كما يؤيده بعض أنصار المقاومة والممانعة رغم أنّه لم يطلق أي طلقة على إسرائيل حتى بعد تعرّضه وتعرض سوريا لعشرات، بل مئات، الغارات والاعتداءات الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية فقط، وكان حامي حدودها، واقتصر على ترديد الشعارات الفارغة من أيّ مضمون فعلي. وربما يكفي أن نذكر للمتعاطفين، بحسن نية، مع هذا النظام بوصفه نظامًا علمانيًّا وممانعًا، أنه، خلال العقد الأخير فقط، قتل من السوريين (والفلسطينيين واللبنانيين)، المتدينين والعلمانيين، أضعاف ما قتلته إسرائيل وفرنسا وداعش وكلّ التنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية، منهم، منذ أكثر من قرن ...!
الشعار الوحيد والأصدق الذي رفعه هذا النظام، ونفذه بكل طاقته هو "الأسد أو نحرق البلد". وإضافة إلى إسقاط النظام الأسدي، فإنّ الإيجابية الأكبر في الحراك الحالي هو وجود هذا الحراك أو الحركة وانتهاء حالة الموات البطيء والاستقرار المميت. وفي هذه الحركة كلّ البركة. وإضافةً إلى تحرّر كثير من السوريات والسوريين من حكم النظام الأسدي وإمكانية تحسّن أحوالهم المعيشية والاقتصادية والأمنية، فتحت التغيّرات الأخيرة المجال لعودة مئات الآلاف وربما ملايين السوريات والسوريين إلى بيوتهم وبلداتهم ومدنهم التي تمّ تهجيرهم منها منذ سنوات بدت أنها أطول من الدهر. وبعض هؤلاء النازحين كانوا وما زالوا يعيشون في خيام ومخيّمات تفتقر إلى البنية التحية للحياة البنيآدمية. فلنتصور فرح هؤلاء بعودتهم إلى بيوتهم ومدنهم.
الفرح الذي أظهره كثير من السوريات والسوريين في الأسبوعين الأخيرين لم يكن يتعلق بكونهم وجدوا بديلًا مناسبًا للنظام الأسدي، بل كان تعلق بوجود إمكانية فعلية للتخلص من حكم نظام الأسد، بعدما كاد كثيرون منهم أن يفقدوا الأمل ويفقدوا حياتهم من جراء ذلك. لكن ذلك كله لا ينفي أنّ البوصلة التي، كان وما زال، يتمسك بها سوريات وسوريون كثير هي بناء دولة مواطنة للجميع ونظام سياسي ديمقراطي يحفظ للجميع كراماتهم وحرياتهم في إطار مؤسسات ملتزمة وقوانين منصفة.
"الله يعطينا خير هالفرح/ هالضحك"
هذه مقولة منتشرة في كثير من بلاد "العالم العربي"، وقد كانت في بالي وبال سوريات وسوريين كثر حتى في ذروة فرحي بأخبار سقوط النظام الأسدي. وهناك إدراك أنّ نتائج حكم العائلة الأسدية لسورية التي استمرت لأكثر من نصف قرن لن تنتهي وأن بعضها سيتفاقم بعد إسقاط هذا الحكم. وهذا ما حصل.
فمن جهةٍ، ما زالت الفرحة العارمة تملأ قلوب ملايين السوريات والسوريين والانتشاء بزوال هذا النظام هو السائد بقوّة، وخصّص معظمنا مكانًا خاصًّا في قلبه للفرحة بتحرير المعتقلين (السياسيين) وعددهم بآلاف تصل إلى أكثر من أصابع اليدين. وخرج معتقلون بعد سجن استمر لسنوات طويلة بلغت عند عدد منهم 42أكثر من أربعين عامًا. واستمرت عملية تنظيف المدن والقرى السورية من الأصنام والصور الأسدية التي تملأ أرجاء سوريا في ترسيخ لثقافة عبادة الفرد التي كان النظام الساقط ينشرها. وهناك الكثير الكثير من المبادرات والاخبار الإيجابية، والقصص الفردية والجماعية في هذا الخصوص.
بعد أن سارت سوريا لمدة طويلة في طريق عمودي واحد نحو هاوية لا قرار لها، مع النظام الأسدي الساقط، أصبحت الآن في مفترق طرق، بعضها بالغ الإيجابية وبعضها الآخر بالغة السلبية.
ومن جهةٍ أخرى، سقط النظام وتوقفت بعض مؤسساته/ مؤسسات الدولة عن العمل، لأنّ الرئيس الساقط هرب من دون أن يتواصل حتى مع أعضاء جيشه ومؤسسات الدولة والحكومة. وقد أدى ذلك إلى فراغًا كبيرًا وشكّل تحديات كبيرة تتضمّن تهديدات خطيرة على الدولة والمجتمع ومستقبلهما. فمن ناحية أولى هناك عدد من عمليات السطو والنهب والتعفيش، وحرق مؤسسات الدولة وإتلاف ملفات ووثائق مهمّة وضرورية (كحرق مبنى إدارة الجوازات) ومباني المربع الأمني في دمشق. وهذا العدد كبير نسبيًّا، لكنه يبقى في الحدود المتوقعة و"الطبيعية"، في مثل هذه السياقات. ومن ناحيةٍ أخرى، هناك ازدياد في الاعتداءات الإسرائيلية المتمثلة في اجتياح لبعض الأراضي السورية (القنيطرة وجبل الشيخ) ومئات الغارات الجوية، وقصف مكثف للكثير من الواقع العسكرية، لأنها تخشى وقوع بعض الأسلحة "الاستراتيجية" في يد قوى أمر الواقع اليوم، ولا تأمن جانب هذه الجماعات كما كانت تأمن جانب "النظام الساقط".
بعد أن سارت سوريا لمدة طويلة في طريق عمودي واحد نحو هاوية لا قرار لها، مع النظام الأسدي الساقط، أصبحت الآن في مفترق طرق، بعضها بالغ الإيجابية وبعضها الآخر بالغة السلبية. الآمال كبيرة بقدر الآلام الهائلة التي عاناها الشعب السوري، في ظلّ النظام الأسدي، لكن المخاوف كبيرة أيضًا. ويشدّد كثيرون على أنّ الإسهام الإيجابي في تحديد المسار المقبل واجب على كلّ من استطاع إلى ذلك سبيلًا.
سوريا والإسلام السياسي
ثمّة من يرى أنّ الإسلام السياسي هو المشكلة (الأكبر) وليس مجرّد مشكلة أو ظاهرة فيها سلبيات، ومثل هذا الشخص لم يفرح، على الأرجح، ولن يرى أو يتوقّع أيّ إيجابية من سقوط النظام الأسدي وإسهام الإسلام السياسي/ الجهادي في هذا السقوط/ الإسقاط، ولن يكون أمامه سوى التبشير بحرب سورية أهلية وبديكتاتورية دينية لا تقل سوءًا وديكتاتورية عن ديكتاتورية الأسد بل تزيدها سوءًا وديكتاتورية. وحتى إذا خذلته (بعض) أقوال وأفعال الإسلام السياسي المذكور، لكونها تبدو من وجهة نظره أو وجهة نظر كثيرين آخرين جيّدة، فسيظل مصرًّا على رأيه أنّ الإسلام السياسي هو الشيطان (الأكبر)، ويمكن كثيرًا أن يتمنى (لا أن يتوقع أو يبشر فقط) أن تحصل أسوأ الشرور من الإسلام السياسي، وأن يتوافق الواقع مع مخاوفه وتوقعاته. وهذا ما هو حاصل لدى بعض أصحاب النظرة الجوهرانية السلبية للإسلام السياسي.
هناك من يرى أنّ الإسلام السياسي هو الحل (الوحيد) وليس مجرّد حل أو أحد الأطراف التي يمكن أن تسهم في صياغة الحل (في سوريا)، ومثل هذا الشخص يرى مشروعية لكل توجه استبدادي أو أحادي لهذا الإسلام، ويرى أنّه صاحب المشروعية الوحيدة، شاء من شاء وأبى من أبى، وهو ينفي أو ينكر وجود أيّ سلبية (مهمة أو كبيرة) فيه. وانطلاقًا من هذه النظرة الأحادية الضيقة، ينظر بإيجابية لكل محاولات الإقصاء التي يمارسها هذا الإسلام السياسي على الأطراف المخالفة له أو حتى المختلفة عنه، وليس مستبعدًا أن يمارس، هو نفسه، هذا الإقصاء عمليًّا، إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا. وهذا ما هو حاصل لدى بعض أصحاب النظرة الجوهرانية الإيجابية للإسلام السياسي.
الواقع موجود بين قطبي هذه المثنوية أو الثنائية الأيديولوجية، لكن كثيرين يصرون على البقاء في إحدى قطبي هذه المثنوية، وهذا حقهم، لكن المشكلة أنهم يسخرون من أصحاب النظرات المختلفة عن نظرتهم ولا يرون فيها إلا أوهامًا أو مؤامرات وما شابه، وينفون حتى مشروعية أو معقولية الاختلاف عنهم في هذا الخصوص. والمشكلة الأكبر والأخطر هي أن يكون لديهم القدرة على تنفيذ رؤيتهم الأحادية وممارسة عمليات الإقصاء الفعلي على أساسها.
انحسار خطر التهجير الطوعي
إضافة إلى قصف الطيران الذي يشبه منايا زهير بن أبي سلمى كان الخطر الأكبر على سوريا والسوريات والسوريين يتجسد تحديدًا في "التهجير الطوعي". ويبدو مصطلح التهجير الطوعي متناقضًا مع نفسه، فكلمة التهجير تعبر عن قيام طرف ما بتهجير طرف آخر، في حين أنّ الطوعية تعني أنّ الطرف المُهجّر يهجر بيته ومنطقته طوعًا، لا كرهًا.
على الرغم من التناقض النظري المذكور، فقد حصل هذا التهجير عمليًّا في الفترة الحالية. فبسبب الخوف من القوى المهاجمة أو بسبب الخوف من قصف الطيران على المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام، أو لأسباب أخرى، اختار كثيرون وكثيرات ترك بيوتهم وبلداتهم ومدنهم والهرب من المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام الأسدي أو ميليشيات قسد أو غيرها من الميليشيات.
لم أجرؤ على تقديم النصيحة لأي من الأشخاص الذين فكروا بالنزوح من مناطقهم، لكن كنت أتمنى ألا يقوموا بذلك. ومن المؤكد أنّ كثيرين ممّن نزحوا وتعرّضوا للتهجير الطوعي المذكور قد ندموا. وثمّة من يعانون الأمرين أو أكثر بسبب نزوحهم غير الضروري. ولحسن الحظ بدأت الأوضاع بالتحسّن وسمحت لكثيرين بأن يعودوا إلى بيوتهم ومناطقهم التي نزحوا منها.
إسقاط النظام كان نهايةٍ سعيدةٍ للثورة السورية التي انطلقت عام 2011، لكن تلك النهاية ليست مطلقة، بل ستكتمل وتكتسب معناها وقيمتها مما سيحصل لسوريا والسوريات والسوريين بعد ذلك.
طبعًا، هناك في المقابل عشرات الآلاف ممن عادوا مسبقًا إلى بيوتهم التي هجروا منها، وهناك مئات الآلاف أو الملايين ممّن يتحضرون للعودة إلى بيوتهم بعد تهجير قسري طويل. وقد شملت حركة النزوح عشرات الآلاف من السوريات والسوريين، من كلّ الأطياف والانتماءات، لكن ثمّة خصوصية كبيرة في نزوح الأقليات الإثنية والدينية والطائفية تحديدًا (الكرد، الإسماعيلية، العلوية، المسيحية ... إلخ). وللأسف هناك قوى خبيثة تشجع على حصول هذا التهجير لمآرب في نفسها، لتستفرد كلّ قوة بسورياها المفيدة النقية والخالية من أيّ تعددية.
بغض النظر عما حصل ويحصل، ثمة كتلةٌ سوريةٌ وازنةٌ ترى ضرورة أن يكون أو أن يبقى الهدف، بعد التخلّص من النظام الأسدي، هو قيام سوريا الديمقراطية ودولة المواطنة الحاضنة لكلّ السوريات والسوريين، بغضّ النظر عن اختلافاتهم الإثنية والدينية والطائفية إلخ. ويرفض كثيرون قيام "منطقة مفيدة" على غرار سوريا المفيدة الأسدية، ويشدّدون على أهمية أن يبقى التنوّع والاغتناء به في كلّ المناطق السورية الثقافات السورية الفرعية المتعددة وفي ثقافة كل سورية وسوري أيضًا.
في مستقبل سوريا ومستقبل الجولاني وهيئته
لم ينقشع غبار معركة إسقاط النظام، بعد، لكن برزت بسرعة تساؤلات مهمةٌ وملحةٌ عن مصير أحمد الجولاني، المسمّى حاليًّا أحمد الشرع، وعن جبهة النصرة، المُسمّاة حاليًّا بهيئة تحرير الشام. فهذه الهيئة، التي يرأسها الجولاني، كانت القوّة القائدة والمهيمنة في العمليات العسكرية التي أفضت إلى إسقاط النظام الأسدي، وعلى الرغم من أنّ الجولاني قد أعلن منذ بضعة أيّام إمكانية حل الهيئة، يبدو أنه يخطّط ليكون "القائد" لسوريا في المدى المنظور. وليس واضحًا الصفة والمدة والطريقة التي سيحكم بها سوريا؟، ولا ماهية أو طبيعة الفترة الانتقالية ومدتها والعملية السياسية التي ستتضمنها والنظام السياسي الذي تفضي إليه، ومن سيكون المسؤول عن تلك العملية والمشارك فيها والمعايير التي سيتم الاستناد إليها لتحديد ذلك. وقد ظهرت تلك التساؤلات وغيرها بعد أن قام الجولاني بتعيين أو تشكيل حكومة انتقاليةٍ يُخشى أنّها من لونٍ إسلاميٍّ ورجاليٍّ/ ذكوريٍّ واحدٍ، على غرار حكومته في إدلب، من دون أيّ تشاورٍ مع أيّ طرفٍ سياسيٍّ محليٍّ آخر، ومن دون شفافية أو معرفة الشرعية التي يرى أنها تمنحه الحقّ في هذا التعيين، بهذه الطريقة.
من وجهة نظر كثيرين، أظهر الجولاني وهيئته الكثير من الإشارات الإيجابية في أقوالهم وأفعالهم في الفترة الأخيرة، لكن توجد في المقابل الكثير من الإشارات السلبية ، ليس خلال الأيام الأخيرة فحسب، بل خلال سنوات حكمه لمناطق في إدلب وحلب في السنوات الماضية فحسب. فهيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني أسهمت في تحرير آلافٍ من المعتقلين السياسيين في السجون الأسدية، لكنها لم تقم بتبييض سجونها هي ذاتها في إدلب وحلب. وتلك الهيئة التي أصبحت "بقدرة قادر" فصيلٍ في الثورة السورية متبنٍ لقيمها وأهدافها، ورفعت علم الثورة/ علم الاستقلال خلال الأيام الأخيرة، سبق لها أن رفضت هذا العلم واستنكرت رفعه وداسته بأقدام مجاهديها في مراتٍ كثيرةٍ. والهيئة ذاتها، بقيادة الجولاني ذاته، التي أصدرت بيانات تعترف فيها بحق الاختلاف وبوجوب احترام الحريات السياسية والحريات الاجتماعية عمومًا، قمعت قمعًا شديدًا أي اتجاه سياسيٍّ مختلف مع اتجاهها أو معارضٍ (صريحٍ) له، وفضَّت بالقوة المظاهرات التي حصلت ضدها، بما في ذلك، على سبيل المثال، مظاهرة نسائية كانت تطالب بالإفراج عن أقاربهن بعد قضاء أشهر طويلةٍ في سجون أو معتقلات الهيئة/ الجولاني، لمجرّد انتقادهم للجولاني وهيئته. فكيف ولماذا يمكن للسوريات والسوريين أن يتوقعوا أن يكون الجولاني، بوصفه قائد هيئة تحرير الشام، قد أصبح متبنيًّا للديمقراطية ومؤمنًا بالتعددية والتشاركية؟
"لا تؤجل مواجهة استبداد اليوم إلى الغد"
يبدو الجولاني وهيئته الطرف المنظّم الأكثر قوةً وتأثيرًا في سوريا اليوم، فهل سيحاول الاستفراد بالسلطة مع تهميشِ أو تهشيم للمعارضة القائمة حاليًّا أو التي يمكن أن تقوم مستقبلًا؟ ليس ثمة إجابةٌ قاطعةٌ ومؤكدةٌ \في هذا الخصوص، لكن سوريّات وسوريين كثر تذوقوا مرارة طعم الاستبداد مصمّمون على ألا تقوم له قائمة في سوريا بعد الآن؛ وهم يعون إمكانية وضرورة الإسهام في تحديد مصير سوريا، بدلًا من الركون وجعل هذا المصير قدرًا أحمق الخطى تسحق هاماتهم خطاه. فهم يدركون من تجربتهم المريرة مع الاستبداد الأسدي أنّ التهاون مع مثل هذا الاستبداد اليوم سيجعله أقوى غدًا، وسيجعل مهمة التخلص منه تزداد صعوبةً إلى أن تقترب، تدريجيًّا، من الاستحالة. ولهذا، فشعارهم "لا تؤجل مواجهة استبداد اليوم إلى الغد". ويمكن لنوايا الجولاني وهيئته مع نوايا السوريات والسوريين المذكور أن تتقاطع وتتكامل أو أن تتواجه وتتصادم. وقد يتحدد المستقبل المنظور لسوريا على أساس نتيجة هذا التقاطع والتكامل أو تلك المواجهة وذلك التصادم.
سوريا: المثل والنموذج أم العبرة والدرس
بدأ الربيع العربي بحراكٍ تونسيٍّ وجد صدىً إيجابيًّا وتراكميًّا له في معظم أرجاء العالم العربي (وغير العربي)، وأصبح نموذجًا يحتذى ويقتدى به، ومثلًا أعلى يُتطلع إليه. وقد استلهمت الثورة السورية انطلاقتها مما حدث في تونس ومصر خصوصًا. لكن الخسائر الهائلة التي تعرّض لها الشعب السوري بعد ذلك جعلت كثيرين يحذرون من الثورة على الأنظمة، لأنّ نتيجة الثورة يمكن أن تفضي بهم إلى حال مماثلٍ لحال الشعب السوري، الذي قُتل قرابة مليون شخصٍ من أفراده، ونزح أكثر من إثني عشر مليونًا منهم، وتقسَّمت دولته وتدمرت مدنه ومنطق عمرانه، وانهار اقتصاده، وتفتت مجتمعه، وتدهورت أو توترت العلاقات بين معظم أفراده وجماعاته.
"هيئة تحرير الشام" التي أصبحت "بقدرة قادر" فصيلٍ في الثورة السورية متبنٍ لقيمها وأهدافها، ورفعت علم الثورة/ علم الاستقلال خلال الأيام الأخيرة، سبق لها أن رفضت هذا العلم واستنكرت رفعه وداسته بأقدام مجاهديها في مراتٍ كثيرةٍ.
ما حدث في الأيام الأخيرة من إسقاط النظام الأسدي بعد حراكٍ لمدة إثني عشر يومًا هو حصيلة نضالٍ مستمرٍ ضدّه، بدأ منذ سبعينيات القرن الماضية، واتخذ منعطفًا حاسمًا مع قيام الثورة السورية في آذار 2011. ويمكن لما حصل ويحصل في سوريا في الفترة الحالية أن يصبح مشعل نورٍ يهتدي به آخرون (في العالم العربي)، أو أن يصبح شرارة نار تحرق أيّ رغبة في الثورة لدى كثيرات وكثيرين. لا شك أنّ إسقاط النظام كان نهايةٍ سعيدةٍ للثورة السورية التي انطلقت عام 2011، لكن تلك النهاية ليست مطلقة، بل ستكتمل وتكتسب معناها وقيمتها مما سيحصل لسوريا والسوريات والسوريين بعد ذلك. فإذا سارت الأمور في اتجاهٍ إيجابيٍّ، أصبحت أشبه بمثلٍ أعلى ونموذج إيجابي يمكن العمل على محاكاته وتكراره في سياقات عربية أخرى، مع مراعاة خصوصية تلك السياقات، ومحاولة تجنّب سلبيات النموذج السوري قدر المستطاع. أما إذا سارت الأمور في اتجاهٍ سلبيٍّ، فسيبقى الوضع السوري أشبه بفزاعةٍ يتم استخدامها لتخويف الناس من أيّ حراكٍ ثوريٍّ ضدّ النظام السياسي القائم. المشكلة والتحدي الأكبر الذي يواجهه الشعب السوري في هذا الإطار أنّه ليس متروكًا لوحده لاختيار مصيره وتحديد الاتجاه الإيجابي أو السلبي الذي سيسير فيه، بل هناك قوى خارجية تعمل جاهدة للتأثير في الاختيار المذكور. وبعض هذه القوى والدول تعمل جاهدة لجعل ما حصل في سوريا عبرةً لشعبها بحيث يفكر ألف مرة قبل أن يثور على من يحكمه. فهل يصبح النموذج السوري مثلًا أعلى ملهمًا لشعوبٍ أخرى، ودرسًا لأنظمة أخرى، أم (يبقى) نموذجًا لتجنّبه والاعتبار منه، ودرسًا تلقنه الأنظمة الحاكمة لشعوبها المحكومة والمكلومة؟