حالة استقطاب شديد يعيشها المجتمع السوري حاليًا، بسبب الاختلاف حول شكل الدولة القادمة ما بين دولة إسلامية ودولة علمانية. شهدت الأيّام السابقة، بُعيد التجمّع المُطالب بالعلمانية في ساحة الأمويين في دمشق (19/ كانون الأول/ يناير ٢٠٢٤)، هجومًا شديدًا ضدّ العلمانية من قبل العديد من الأطياف. لم يأتي ذاك الهجوم من الإسلاميين فحسب، بل أيضًا من أشخاص محسوبين على المعارضة العلمانية، ربطوا بشكل غير مباشر بين العلمانية و"الفلول" والنظام السابق، وكأنّ هدف العلمانية شقّ الصف السوري وتخريب منجزات الثورة وصولاً إلى اعتبارها بابًا لعودة النظام السابق عبر المقارنة بما حصل في مصر، واستغلال الجيش المصري لحركة "تمرّد"، لبناء ديكتاتورية جديدة. المنتقدون/ات يتناسون ربما أنّ الإخوان في مصر ركبوا الثورة ولم يساهموا فيها، كما وصلوا السلطة عبر انتخابات وليس عبر السلاح، والجيش في مصر هو من قاد الانقلاب على السلطة المُنتخبة في حين إنّ الجيش السوري تمّ تدميره فِعلياً.
بالنسبة لي، هذه المقارنة عبثية ولا تملك أيّ مبرّرٍ فعلي. ولابُدّ من الإشارة هنا أنّ هناك طرفاً آخر أقل تهجّمًا يتحدث عن الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا مقدّماً منطق تعالوا "نحبّ بعضنا البعض ونثق ببعضنا البعض". حول هذا الخلاف أودّ مقاربة بعض النقاط الأساسية:
أولاً، من منا ضدّ أن نحبّ بعضنا؟، لكن الفكرة بغضّ النظر عن عاطفيتها تبقى سطحية فعلًا. فالحبّ، ورغم أهميته، لا يبني دساتيرًا ولا يصوغ قوانينًا. كما أنّ مساواة المتدينين مع العلمانيين غير منطقية، فهناك طرف كان جزءًا من تنظيم القاعدة، ويمتلك السلاح فيما الطرف الآخر أعزل. بالتأكيد، تُمتدح وتُشكر سلطة الإسلاميين الآن من ناحية الحفاظ على السلم الأهلي، السماح بحرية التعبير وإخلاء السجون في سوريا (ما عدا السجون في إدلب!). ولكن هذا لا يعني أنها ستصوغ القوانين مستقبلًا بصيغة تشاركية تضمن احترام كلّ المكونات والحريات في المجتمع السوري. ما يمكن اعتباره والأخذ به هو الأفعال فقط، وليس الأقوال أو الوعود.
ثانيًا، بالفعل كنّا أقلية، حتى يمكن وصف العلمانيين من قبيل المزاح ب"الطائفة" الأقل عددًا في سوريا، لكننا اليوم نتحدّث عن السوريين في الداخل والخارج، وفي ظلّ غياب مشروع وطني جامع يحدّد تعريف الناس لذواتها خارج الأقليات والانتماءات ما تحت الوطنية. ومع هذا التقسيم "المُسيء" لسوريا على أنّها سنة ومسيحيون وعلوية ودروز وإسماعيليون وأكراد ومرشدية، تغدو العلمانية اليوم أكثر أهمية لأنّها ترتبط بمفهوم المواطنة، وترتبط بالديمقراطية وبناها المؤسسية، وتتقل البشر إلى اعتبارهم مواطنين/ات متساويين/ات في الحقوق والواجبات وليس أقليات وأكثريات، دينية وقومية. ومن المهم فهم أنّ قسمًا من الأقليات الدينية متعاطف بشدّة مع الإسلاميين ومؤمن بأنهم سيكملون برنامجهم لبناء ديمقراطية ما في سوريا. ولكن هناك قسمًا من السنة أيضًا، في المدن الكبرى بشكل خاص، قلقون من تاريخ التطرْف الإسلامي أيضًا.
تغدو العلمانية اليوم أكثر أهمية لأنّها ترتبط بمفهوم المواطنة، وترتبط بالديمقراطية وبناها المؤسسية، وتتقل البشر إلى اعتبارهم مواطنين/ات متساويين/ات في الحقوق والواجبات وليس أقليات وأكثريات، دينية وقومية.
ثالثا، الشعب السوري عاش عقودًا تحت القمع والخوف، وهذه هي المرة الأولى التي يمتلك فيها الناس فعلًا إمكانية التعبير عن أفكارهم وهواجسهم دون خوف، وأخذ الاعتقال في الحسبان. وبالتأكيد، إنّ دعاة العلمانية ليسوا من مشربٍ واحد، فالعلمانية ليست حزبًا أصلًا، فهناك قوميون سوريون علمانيون وهناك أحزاب قومية علمانية وهناك أكراد علمانيون وهناك مسيحيون مثلاً يطالبون بالعلمانية خشية الدولة الإسلامية التي يكونون فيها مواطنين من الدرجة الثانية، وهناك بالتأكيد فئات لا تمتلك تصوّرًا واضحًا ولكنها تخشى من العنف الإسلامي. إذًا، المشاركون لا ينتمون لتيارٍ واحد ومطالبتهم بالتنظيم السريع تحمل نفس فوقية المثقفين التي مورست تماماً على الشعب السوري سابقًا. لا بُدّ من فهم أنّ المجتمع يحتاج وقتاً لهضم الأفكار وإعادة بلورتها، وأنّ الناس بحاجة لبعض الوقت للتعلّم، وذلك لا يعني أبدًا عدم نقد الحراك، كأن تتم أولاً المطالبة بالمحاسبة عبر المؤسسات القانونية لكلّ من تلطخت يداه بالدم بشكل مباشر أو غير مباشر، والـتأكيد على قيم الحرية والديمقراطية كبنيةٍ مؤسّسيّةٍ في وجه أيّة ديكاتورية سابقة أو لاحقة. بمعنى آخر هناك حراكًا مضطربًا في سوريا التي عاشت طويلًا في مستنقع القمع، المياه تتحرّك بقوّة في كلّ الاتجاهات، لكن لا توجد خبرات أو أحزاب أو مشاريع وطنية تضبط هذا الجريان. لذلك تمارس الناس ما عرفته سابقًا وهو المظاهرات التي كانت في دمشق تحديدًا مظاهرات طيّارة لا أكثر.
لا بُدّ من إدراك أنّ الضغط الواضح في المجتمع من طرف العلمانيين، والمقربين منهم، يشبه خطّ دفاع أو رقابة من الشعب على ممارساتِ الإسلاميين، وهذه الرقابة هي الضامن الثاني والأهم للحدِّ من إمكانية تسلّطهم على المجتمع، على اعتبار أنّ الضامن الأوّل هو للأسف القوى الخارجية الدولية مثل تركيا وأميركا. ولعلّ نتائج الثورة الإيرانية مازالت حاضرة بقوّةٍ في أذهان السوريين، لذلك تأتي التهم المُعدّة ضدّ العلمانيين واتهامهم بالعمالة للنظام الديكتاتوري سلوكًا ديكاتوريًا وقمعيًا. ويشبه اتهام الحراك بالعمالة وبأنّه غير وطني، لانضمام بعض المؤيدين لنظام الأسد إليه، باتهام نظام الأسد المتظاهرين بالعمالة، وتسميّتهم بالمندسين والمخربين أيّام الثورة السورية. إنه نفس المنطق الإلغائي القمعي. ولابُدّ من التأكيد على أنّ العلمانية في هذا السياق شرط لازم، لكنه غير كافٍ، لمنع حرب أهلية، وبناء ديمقراطية، فالحزب النازي في ألمانيا كان علمانيًا، لكنه أباد عشرات الملايين من البشر. العلمانية المُرتجاة هنا تتكامل مع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
رابعاً، أتفهم، وبقوّة، ضرورة اقتراب مكوّنات المجتمع من بعضها وتقديم تنازلات، ضمنًا، من كلّ الأطراف، ومن الممكن استقدام كلمات (بلا معنى واضح) مثل "الدولة المدنية" والتوافق الصريح على تعريف واضح لها، وخلق نوع من التوافق المجتمعي حولها. هذا يجب أن يتم في هدوء ووضوح، وهو في مصلحة الجميع، بما فيهم الإسلاميون إن أرادوا أن يبقوا في الحكم وعدم خسارة التوافق الدولي على التصالح والتعامل معهم.
الحفاظ على الديمقراطية وعدم السماح بأسلمة القوانين والدستور هو الأولوية التي قد تُعطي فرصة لإزاحة الإسلاميين بشكلٍ سلمي في الانتخابات التي تلي الانتخابات التي قد يفوزون بها
خامساً، مشكلتي مع المتدّينين (من كلِّ الأديان) أنّ الحوار الشخصي معهم معقد لأنّه ينطق بالمطلق. هذا لأنّ مرجعيته لا تقبل الخطأ وإلا انتفت صفة القدسيّة عن المطلق، وهذا ينطبق على موقف الأديان من المرأة وكفاءتها وضرورة ارتدائها الحجاب مثلًا. هذا لا يلغي ضرورة الحوار معهم بالمعنى السياسي على أساس تسويات وتوافقات تُتيح لسوريا الاستقرار، ولكن من المهم إيضاح أنّ المرجعية الدينية لا تَقدُر ولا تملك حقّ احتكار القرار باعتبارها المرجعية الوحيدة للمجتمع. وأقصى أملي أن تكون حقوق الإنسان مثلًا جزءًا مهمًا من أيّ دستور قادم، على الأقل نحن متساوون في الحقوق بحسب حقوق الإنسان باعتبارها حقوقًا مُكتسبة، ولا توجد منة لأيّ إنسان في منحها، بل ذلك واجب ينطبق علينا جميعاً. جميعنا يعلم أنّ الإسلاميين سيفوزون ربما بأيّ انتخابات قادمة، وعلينا جميعاً أن نقبل بما ستأتي به الانتخابات مع كامل الانتقاد لانتخاباتٍ تأتي على أساس طائفي، وليس على برامج سياسية واضحة لتحسين الاقتصاد والصحة والبنى التحتية مثلًا. لكن الحفاظ على الديمقراطية وعدم السماح بأسلمة القوانين والدستور هو الأولوية التي قد تُعطي فرصة لإزاحة الإسلاميين بشكلٍ سلمي في الانتخابات التي ستليها. وبالمناسبة، لو جاء الإسلاميون بحكومة تكنوقراط تنقذ البلد، لا بحكومة من طرفهم فقط، وسمحوا بدستور مرن يحافظ على حقوق الجميع وقبلوا بالحفاظ على الديمقراطية سيزول هذا التناقض الحاصل أصلًا وسيتلقون دعم غالبية المجتمع، ولن يجدوا نفس المعارضة التي نشهدها الآن.