برزت المناصرة كإحدى أدوات التأثير والتغيير ضمن العمل الإنساني والمدني السوري خلال الأعوام الماضية، حيث عملت على توجيه السياسات الإنسانية وتحديد أولويات الاستجابة للاحتياجات المتزايدة. كما وظفت في إطار جهد حقوقي ومدني هائل سعى للتفاعل مع المطالب السياسية والاجتماعية التي برزت مع بداية الثورة السورية.
ومع سقوط النظام السوري، تبرز تساؤلات حول التغيّرات المُحتملة في أدوات المناصرة وجمهورها المستهدف. فمن التركيز المكثف على الخارج وصنّاع القرار الدوليين، قد يتحوّل الاهتمام تدريجيًا، وبشكل أكثر صحة، نحو الداخل السوري، بما يشمل المؤسسات الحكومية والقوى السياسية والمجتمعات المحلية.
لفهم هذا التحوّل، لا بدّ من العودة إلى بدايات العمل المدني والإنساني المرافق للحراك الثوري. في تلك المرحلة، انخرط الفاعلون السوريون، سواء كانوا أفرادًا أم مؤسسات حديثة التشكيل، في مجال المناصرة دون خبرات سابقة. كان العمل يعاني من غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة، وغلبت عليه أحيانًا العاطفة أو الاعتماد المفرط على خطابات عامة تفتقر لكثيرٍ من الحرفية المهنية، مع التباس في تحديد الجمهور المستهدف، سواء كانت الخطابات موجهة إلى صانعي القرار أو إلى الرأي العام.
إلى جانب ذلك، أدى اختلاف السوريين أنفسهم حول تعريف المناصرة وحدود تأثيرها إلى انقسام الجهود. وفي بعض الحالات، تداخلت المناصرة مع أهداف العلاقات العامة أو عمليات التشبيك.
مع مرور الوقت، تطوّرت أدوات المناصرة السورية ونضجت. أصبحت اللقاءات الثنائية والموسّعة مع المسؤولين الأمميين والسياسيين الغربيين جزءًا أساسيًا من العمل المناصر، وشملت هذه اللقاءات جميع مستويات العمل الإنساني في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى أروقة المؤسسات الأممية في جنيف ونيويورك وحتى لاهاي.
كما لعبت الجاليات السورية دورًا كبيرًا في تأمين لقاءات مع ممثلي البرلمانات الغربية، ومكاتب وزارات الخارجية، والوكالات الوطنية للتنمية والإغاثة. لعب إتقان اللغات الأجنبية دورًا مهمًا في القدرة على الانخراط في العمل المناصر.
وشكّل ضعف الإلمام بها عائقا أمام الكثيرين، مما حدّ من الاستفادة من الخبرات المحلية أو جعل عملها أكثر صعوبةً. قد يشهد هذا الواقع تحوّلًا جذريًا اليوم، مع إعادة التموضع الجغرافي للعديد من العاملين في المناصرة إلى الداخل السوري، خصوصاً في العاصمة دمشق ومراكز المحافظات الأخرى.
إن قدرة السوريين على تجاوز خلافاتهم الداخلية وتوحيد رؤاهم حول أولويات المناصرة والعمل المدني تمثل مفتاح النجاح
يتيح هذا التحول لشريحة جديدة من السوريين -الذين حالت ظروفهم السابقة دون المشاركة- فرصة الإسهام الفاعل في هذا المجال.
في السابق، أدرك الفاعلون في المناصرة الإنسانية السورية، بعد تعثر مستمر في تحديد الجمهور المستهدف، أن قدرتهم على إحداث تغيير داخل البلاد، تنبع - وللمفارقة- من قدرتهم على التواصل الفعّال مع صانعي السياسات في الخارج بشكل رئيسي، وذلك مع تعذّر أي وسيلة للتواصل أو التأثير على الحكومة السورية التي نعتتهم بصفات الخيانة والعمالة.
وبشكل ما، يغدو هذا الإدراك متسقًا مع حالة التهجير والعمل من خارج البلاد التي فُرضت على السوريين بفعل الظروف. لكن هذا الواقع يبدو مرشحًا الآن للتغيير وبقوة، مع احتمال ازدياد مساحات حرية التعبير والانتقاد، والتواصل مع سلطات الحكومة المؤقتة دون الخوف من التدابير القمعية. يفتح ذلك آفاقًا جديدة لتفاعل المناصرين مع الحكومة، سواء عبر تقديم توصيات للسياسات أو الضغط لإصدار قوانين تلبي الاحتياجات الإنسانية والمدنية.
المؤسسات المناصرة قد تجد نفسها في حوار مباشر مع ممثلي القوى السياسية وأعضاء الهيئات التشريعية مثل مجلس الشعب، مما يتيح إمكانية استصدار تشريعات جديدة أو تعديل القوانين القائمة بما يحقق مصالح السوريين ويحفظ حقوقهم. على صعيد الأدوات، وبعد سنوات من الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، من المتوقع أن تشهد المناصرة ثقلًا متزايدًا للنقاشات الحية في الحيز المادي داخل سوريا. اللقاءات المفتوحة والفعاليات العامة ومبادرات الحوار المجتمعي قد تصبح أدوات رئيسية لتحديد الأولويات وبناء التوافقات.
ومع تراجع مرجح للقيود الأمنية التي كانت تعيق العمل المدني، يمكن أن تعود أدوات التحشيد المجتمعي إلى الواجهة، بما في ذلك تنظيم حملات ومسيرات سلمية لدعم تحسين الخدمات، محاسبة المسؤولين، أو الدفع بإصلاحات تشريعية وإدارية. إضافًة إلى ما سبق، وبعد سنوات من إصدار الرسائل والبيانات الصحفية الموجهة إلى صنّاع القرار الأممي ومخاطبة وسائل الإعلام العالمية، قد يصبح من الضروري إعادة توجيه الجهود نحو الإعلام المحلي، بما يشمل الصحف المحلية والتلفزيون الرسمي بشكل أكثر توازنًا مما سبق، مما يسهم في إيصال الرسائل بطرق أكثر واقعية وتأثيرًا داخل المجتمع السوري.
كما قد يشهد دور المناصرة تحولًا عكسيًا مقارنة بما كان عليه سابقًا. فبدلًا من أن يقتصر دورها على نقل الرسائل إلى الخارج، قد يصبح السوريون مطالبين بنقل توصيات السياسات الغربية إلى دوائر القرار في بلادهم. هذا الدور، الذي كان يُنظر إليه بعين الريبة ويُتهم بالعمالة، يحتاج إلى فهم أعمق للطبيعة المتشابكة للعلاقات الدولية ولدور المنظمات غير الحكومية في تعزيز الدبلوماسية الإنسانية.
ساهمت المناصرة السورية خلال العقد الماضي في الحفاظ على الصوت السوري المستقل ضمن المساحات الإنسانية الدولية، رغم التحديات ومحاولات التسييس. هذه الجهود مكنت من استمرار التدخلات الإنسانية في المناطق الأكثر احتياجًا، خاصة الخارجة عن سيطرة النظام، بما يخفف من احتمالات استخدام المساعدات الإنسانية كأداة للعقاب أو القمع.
بالرغم من ذلك، فإن المرحلة المقبلة، ورغم الفرص الكبيرة التي تحملها، لا تزال محفوفة بالتحديات. إن قدرة السوريين على تجاوز خلافاتهم الداخلية وتوحيد رؤاهم حول أولويات المناصرة والعمل المدني تمثل مفتاح النجاح.
ومع استمرار غموض مراكز القوى السياسية والحكومية خلال المرحلة الانتقالية، يظل تحديد "حدود التأثير" مسألة جوهرية. يبقى الأمل معقودًا على قدرة السوريين على إعادة تصور المناصرة وأدواتها وجمهورها المستهدف، بما يتيح لهم إعادة تعريف دورهم كفاعلين رئيسيين يمتلكون القرار الوطني. هذه فرصة فريدة لتقليل الاعتماد على الخارج، وبناء نموذج أكثر استقلالية وصحة للعمل المدني والإنساني.