حصاد الدم: عن مجزرة مشقيتا

أرضٌ وعشائر وصراعات وانتقام ودولة غائبة


"استيقظتُ على صوت ياسر يقول لي أنت عايش روميل؟ عايش؟" هذا أخر ما يتذكّره الناجي الوحيد من مجزرة مشقيتا روميل زوباري، التي راح ضحيتها خمسة مواطنين سوريين بتاريخ 26 أيار/ مايو 2025، استُهدفوا بناءً على الهوية الدينية في قرية مشقيتا في ريف محافظة اللاذقية. نجا روميل، ربما مصادفة، ربما هو قدرٌ إلهيّ، إنما نجا في النهاية ليروي لنا وقائع عشر دقائق قاتلة، ولنروي بدورنا خلفيات هذه المجزرة من علاقةٍ بين البدو وسكان المنطقة من جهة، وتهجير السكان من عدّة قرىً في المنطقة من جهةٍ أخرى.

07 تموز 2025

كمال شاهين

صحفي وكاتب سوري

(اللاذقية). "استيقظتُ على صوت ياسر يقول لي أنت عايش روميل؟ عايش؟ هززت له برأسي أن نعم. نهضت ونهض، ومن دون وعي أنزلنا الحنطة من السيارة وحاولنا وضع الجميع فيها. أقلع ياسر بنا رغم إصابته  باتجاه المركز الصحي في مشقيتا. ومن هناك نُقلنا فوراً إلى مستشفى تشرين الجامعي حيث استغرقت الرحلة ما يقارب نصف ساعة. عند وصولنا نزل ياسر على قدميه. ولكن، وبسبب النزف الشديد فارق الحياة على باب المشفى. نجوت بفضل ياسر البطل. نجوت كي أكون الشاهد الوحيد والناجي الوحيد" من مجزرة مشقيتا التي راح ضحيتها خمسة أفراد بتاريخ 26 أيار/ مايو 2025.

هذا ما يقوله لسوريا ما انحكت، الناجي والشاهد الوحيد من المجزرة روميل زوباري، شاهدٌ بقي ليروي لنا الحكاية، ليس حكاية المجزرة وما حدث في تلك الليلة الرهيبة فحسب، بل أيضًا ما حدث قبل المجزرة من أحداث وصراعاتٍ وتعايش (وإن كان هشّاً، إلا أنّه كان موجودًا) بين سكان المنطقة والبدو قبل أن تتصاعد الأمور نحو الانفجار في قرى وحقولٍ هجرها أهلها خوفًا من الموت وهربًا من نيران الانتقام.

في بيتٍ متواضع، تظلّله عريشة عنبٍ بدأت ثمارها بالنضوج متحوّلةً إلى اللون الأحمر في قرية مشقيتا، تجمّع حولنا دزينة أطفالٍ يأكلون البوظة. وقبل الدخول في أيّ حديث، راقبنا مشهداً طفولياً، طرفاه طفلتان صغيرتان. انتهى النقاش بينهما سريعاً بأن قبلت الطفلة الصغرى نصف قطعة بوظة أعطتها إياها الطفلة الكبرى.

الساحل السوري... سقط النظام فتزايدت الهجرة!

22 أيار 2025
"لو بقينا هنا، سنكون إما جثثاً في أخبار عاجلة، أو أطباء بلا دوامٍ أو أدوية"، هذا ما يقوله الطالب في كليه الطب من مدينة بانياس، أحمد زاهر، في هذا التحقيق...

بطلتا هذا المشهد كانتا جويل (ست سنوات) بنت المرحوم علاء زوباري أحد ضحايا المجزرة، وتاج (أربع سنوات) ابنة الناجي الوحيد من المجزرة روميل زوباري وهو أخو المرحوم علاء زوباري. البقية هم ١٢ فردًا من أبناء الضحايا، أعمارهم بين ثلاث سنوات وثماني عشرة سنة، وقد باتوا جميعاً بلا معيل.

تتذكّر جويل أنّ أباها غادرهم من دون وداع، ولم يترك كثيراً من المال في البيت. وفوق هذا كلّه، فَصلت الدولة الجديدة أمها التي، كونها "أخت شهيد"، قضت ثلاثة عشر عاماً موظفةً في مقسم اتصالات مركز "القلّوف" (بلدة صغيرة قبل مشقيتا)، ولم تنفع محاولاتها في العودة إلى الوظيفة بتقديم تظلّمٍ للوزارة المعنيّة.

تشرح والدة جويل أم حاتم (هي من طلبت أن نسميها كذلك) ما حدث بين الطفلتين: "مرّ قبل قليل جارٌ لنا وأعطى لكلٍّ من الأولاد ثمن قطع البوظة. لم تكن تاج موجودة فلم تنل حصتها. وعندما عادت البنت من بيت جدها كان الجميع قد اشترى إلا هي. لم ترضَ جويل ابنة عمها أن تأكل قطعتها من دون أن تقسمها مع صديقتها".

تكمل السيدة الأربعينية في جلسةٍ جمعتنا معها في بيتها مع آخرين من أقربائها: "عائلة زوباري عائلة ذات سمعة حسنة في المنطقة. ليس لديهم ممتلكات ولكنهم عفيفو النفس والوجدان. يعملون بصدق مع الأهالي في الأعمال الزراعية التي باتت مصدر الدخل الوحيد للجميع في المنطقة. في هذا الصيف طلب الأهالي مساعدتهم في حصاد القمح كالعادة.. القمح نفسه الذي تسبّب في موت ملّاك الأرض والشغيلة جميعاً". يؤيّد رفيق الرحلة الناشط أحمد عيسى، ابن مشقيتا هذا الكلام مُضيفاً: "عندما يريد أهالي القرية والجوار تنفيذَ عملٍ مُتقن يتصلون بآل زوباري. ولم يختلف أحدٌ معهم يوماً، وهم لذلك مطلوبون لأيّ عملٍ هنا".

تتابع السيدة: "لا نعرف كيف سوف نطعم الأطفال الشهر القادم. كلّ يوم نعدهم أن الغد سيكون أفضل، ساعدنا فاعلو الخير من مشقيتا ومن مناطق أخرى قريبة ولكن "توب العيرة ما بيدفي". أضف أنّ العالم تعبانة ومش ناقصها هموم. بعد فورة الدم كل واحد يرجع لبيته وأولاده وعائلته ونحنا منرجع لحزننا وأملنا ب بكرا".

لا تتوقّع السيدة التي يظهر الحزن جلياً في صوتها وكلماتها، أن تفكّر "الدولة الجديدة" بهم: "لو بتفكر لا تترك السلاح بإيدين ناس معروفين وقوصت ع ناس لأن دافعت عن عرضها وبيوتها وأكلها وشربها". تقول من دون تردّد. "الدولة الجديدة متل الدولة القديمة لا يهمها الفقير ولا يهمها الناس، بيهمها بطنها وجيبتها".

وقائع عشر دقائق قاتلة

تحضر القهوة ويسحب روميل (الأربعينيّ، والناجي الوحيد من المجزرة) سيجارة ويروي لنا ماذا حدث بالضبط مغيب شمس يوم 26 أيار/ مايو 2025 الحزين، فيما يستند على عكازٍ يدعم قدمه اليسرى المُصابة: "مالك الأرض المرحوم ياسر معلا جاري، تقع الأرض المزروعة بالقمح في جورة الماء بعد مشقيتا. آل معلا من قرية الحمرات التي تبعد عن مشقيتا بحدود 16 كم، وبيوتها لا تتجاوز العشر بيوت، انتقلوا منها قبل عدّة سنوات، أي قبل سقوط النظام، إلى مشقيتا بعد الهجوم المتكرّر على القرية من المسلحين والبدو وغيرهم ممن لم يتركوا شيئاً في تلك البيوت. لقد قشطوها من كلّ شيء حتى من ملاط الحيطان".

يتابع "في ذلك اليوم انتقلنا صباحاً إلى هناك بواسطة سيارة نقل مكشوفة (كيا) وذهب معنا أخوة ياسر كلهم، كاسر ويامن وطلال ومهران، وهم بحياتهم ما راحوا مع بعض إلى الأرض إلا ذلك اليوم الكارثيّ وقد حصدوا معنا كما لو كنا عائلة واحدة. انتهينا من الحصاد السابعة مساءً. غادر مهران وطلال على الفور وبقينا نحن لتحميل الحنطة في السيارة، إذ لا يمكن تركها في الأرض كما جرت العادة مخافة السرقة. حمّلنا السيارة ب (شميلات الحنطة) (حزم أو أكياس الحنطة) قرب البيت القديم الذي انتشرت صورته". هذا البيت للتوضيح هو بيت آل معلا القديم قبل هجرتهم إلى مشقيتا وكان محطةً للفلاحين والمزارعين العرب والتركمان ومكاناً للمصالحات المجتمعية في المنطقة.

"لا نعرف كيف سوف نطعم الأطفال الشهر القادم. كلّ يوم نعدهم أن الغد سيكون أفضل، ساعدنا فاعلو الخير من مشقيتا ومن مناطق أخرى قريبة ولكن "توب العيرة ما بيدفي". أضف أنّ العالم تعبانة ومش ناقصها هموم. بعد فورة الدم كل واحد يرجع لبيته وأولاده وعائلته ونحنا منرجع لحزننا وأملنا ب بكرا".

يكمل روميل ونظراته في اتجاه الحقول القريبة: "فيما نستعد للصعود إلى السيارة، وصل شخصان ملثمان على دراجة نارية (موتور) بارت. يرتدي أحدهما لباساً أسود والثاني لباساً عسكريّاً مموّهاً، لا شيء واضحاً في وجوههم سوى العيون. أحدهما كان يحمل روسية ومجهّزها وموجهها علينا والثاني حاطط مسدس على خصره".

يتنهد روميل وهو يستعيد الدقائق العشر التي شاهد فيها شريط حياته عدّة مرات: "نزل الشخص المموّه عن الدراجة وبدأ حديثه معنا بالقول: "ش عم تعلموا هون؟ أجاب ياسر: أرضنا وعم نحصد الحنطة. أكمل المموّه: أنتو حرامية. ضحك ياسر وقال بلطف للمموّه: يا محترم هذه أرضي من مئة سنة. إذا أنتو أمن عام جايين تدوروا ع حدا نحنا نساعدكن فوراً. أكمل المموّه من دون اهتمام بالكلام المُقال له: "هاتوا هويتكم".. هنا حاولت الاقتراب منه فهدّدني صاحب البارودة أن ارجع وإلا بطخك. كانت لهجتهما حلبية على بدوية. ياسر لم يكن يحمل هوية ولا أنا. أعطى كاسر ويامن هويتيهما للمموّه. ألقى عليها نظرةً سريعة وسألنا السؤال القاتل: "أنتو علوية ما؟". أجاب ياسر: "نعم وتابعين ل ربيعة، وماذا في ذلك يا أخي؟". هنا يقول روميل أنه انفعل وقال للمموّه: وماذا إذا كنّا علويين. تفضّل طلاع إلى مشقيتا بيت السني حدّ بيت العلوي من مية سنة. مع محاولتي الاقتراب مرّةً ثانية هدّدني المموّه: "رجاع لورا وهاتو موبايلاتكم". أخبرته أني لا أحمل موبايلاً. وبسبب خوفه من هجومي عليه على ما يبدو سحب الموبايلات سحباً من الجميع.

لم أكمل العبارة حتى كان صاحب البارودة قد سحب بارودته وبدأ بإطلاق الرصاص علينا كلنا دفعةً واحدة، رشّاً. من أوّل واحد إلى آخر واحد. سقطت أولاً زوجة ياسر أم جعفر وهي تولول، فأعاد الملثّم إطلاق النار عليها أربع مرّات حتى ماتت. قبل إطلاق النار بثوانٍ، كان أولاد ياسر الشباب قد تمكنوا من الفرار وسط أشجار الزيتون. أصبتُ أنا في كتفي وقدمي وقلبت بالأرض. أصيب ياسر إصابة شديدة فيما فارق كاسر ويزن الحياة فوراً لإصابتهما برصاص بالقلب. أنا سقطت على الأرض وغبت عن الوعي. وحده ياسر بقي رغم إصابته واعياً".

يكمل روميل وهو يمسح دمعة حارقة: "استيقظت على صوت ياسر يقول لي أنت عايش روميل؟ عايش؟ هززت له برأسي أن نعم. نهضت ونهض، ومن دون وعي أنزلنا الحنطة من السيارة وحاولنا وضع الجميع فيها. على ما يبدو كان المسلحان قد هربا من المكان فوراً. بعد عشر دقائق تقريباً أقلع ياسر بنا، رغم إصابته، باتجاه المركز الصحي في مشقيتا. ومن هناك نُقلنا فوراً إلى مستشفى تشرين الجامعي حيث استغرقت الرحلة ما يقرب من نصف ساعة، عند وصولنا نزل ياسر على قدميه، ولكن، وبسبب النزف الشديد فارق الحياة على باب المشفى. نجوت بفضل ياسر البطل" يقول روميل "نجوت كي أكون الشاهد الوحيد والناجي الوحيد".

في التحقيق

طلاب التاسع في الساحل السوري: خوفٌ واستعدادٌ للمواجهة!

21 حزيران 2025
"أخاف من الطريق كما أخاف من الامتحان" هذا ما يقوله الطالب جعفر الذي يستعد لتقديم امتحان الشهادة الإعدادية لأوّل مرة بعد سقوط النظام السوري، وسط وضعٍ أمنيٍّ مهتزّ، ومخاوف يسلّط...

يكمل رفيق الرحلة الناشط أحمد عيسى (صاحب مشروع "حواكير" لزراعة الغار في الساحل السوري): "في الليلة نفسها، وبعد استنفار القرية بأربعتها (يعني من جهاتها الأربع) وانتشار خبر المجزرة على وسائل التواصل الاجتماعي وتحوّلها إلى قضية رأي عام، حضرت دورية للأمن العام بسرعة وسمعنا أنهم ألقوا القبض على المجرمين (الاثنين) ولم يتضح كيف فعلوا ذلك بهذه السرعة. ولكنهم أيّ الأمن العام حضروا خلال الجنازات ومن ثم التعزية ووعدوا بمعاقبة الفاعلين أشد العقوبة". يتدخل روميل ويكمل: "أبلغوني أن آتي إلى مركز الناحية للتعرّف على المجرمين الذين كانوا معصوبي الأعين وهناك تعرّفت عليهم، ساعدتني لهجتهم البدوية، التي تختلف كلياً عن لهجات سكان مشقيتا، على التعرّف عليهم بسهولة رغم تغطية أعينهم. أما في مركز الأمن الجنائي فقد رأيت وجوههم وعيونهم التي عرفتها فوراً. لما شافوني تطلعوا فيني وكسروا عينهن فوراً.. سألهم المحقّق: عرفتوا ما؟ أكملت أمامهم: نجاني الله كي لا تنجوا بفعلتكما".

حاولنا توفير شهاداتٍ مستقلة أو إجراء توثيقٍ رسمي حول طريقة القبض على الجناة أو تفاصيل دور الأمن في حادثة مجزرة مشقيتا. يتوقّع الناشط أحمد عيسى، وهو من أهالي مشقيتا ويعمل في الشأن العام فيها بكثافة "أنّ القائم بأعمال مدير المنطقة والمقيم في ناحية البهلولية، وهو ضابطٌ منشق سابقاً وذو سمعة ممتازة في المنطقة كلها، تحرّك بسرعة وكان لتحرّكه أكبر الأثر في منع وقوع تصادمٍ بين الأهالي والبدو، يعني لو راح شباب المنطقة العزّل إلى منطقة المجزرة كنا وقعنا بكارثة. وهو أكيد يعرف جميع البدو المقيمين في تلك المنطقة خاصة بعد عشرات الشكاوى التي قدّمها المزارعون قبل الحادثة. حكماً عمل اتصالات وعرف القصة". مع ذلك، ثمة غموضٌ ما يزال يحيط بطريقة القبض السريع على الجُناة، ناهيك عن كون أنّ عدم إعلان أسمائهم يخلق أزمة ثقةٍ بين الأهالي والسلطات، ويزيد من شعور الناس بأن العدالة ما تزال بعيدة المنال، خاصةً وأنّ أسماء الجناة لم تعلن على صفحات وزارة الداخلية.

يكمل روميل: "لم يذكر مدير الناحية ولا المحقّق أسماء الجناة، وهو أمرٌ أثار استغرابي. لكن عندما سألهم المحقّق عن منطقتهم، أجابوا بأنهم من ريف حلب، من منبج تحديداً. وعندما سألهم عن سبب وجودهم هنا، قالوا إنهم يقيمون في قرية الكنديسية، وهي قرية كانت تسكنها عائلاتٌ علوية قبل التهجير، واليوم لا يوجد منهم أحد".

وقرية الكنديسية هي إحدى القرى التي هجرها أهلها بعد سقوط النظام خوفًا من الانتقام. يقول السيد محمد سليمان (اسم مستعار، رفض ذكر اسمه خوفاً من الانتقام أو أيّة تبعاتٍ أمنية) وهو من سكان الكنديسية ومقيم خارجها "بعد سقوط النظام استمر أهالي قرية الكنديسية في عملهم بشكلٍ طبيعي. كما بدأ توافد الأمن العام إلى القرية بشكلٍ هادئ من دون أيّة مضايقات وكان تعاملهم جيّداً ولم تسجل أيّة مشكلة... في 8 آذار/ مارس 2025 حصلت مشكلة في قرية جورة الماء المتاخمة للكنديسية حيث أتت سيارةٌ ليلاً وقامت بقتل ثلاثة أشخاص كانوا نياماً في منزلهم. بعدها ترك الجميع الكنديسية وجورة الماء ولم يُعرف الفاعل.. وهنا بدأت العشائر البدوية بالتوافد إلى القريتين بشكلٍ متزايد وبدأ تخريب وسرقة المنازل بكافة محتوياتها وإلحاق أضرارٍ كبيرة بالمحاصيل الزراعية والأشجار، وخلال هذه الفترة كان بعض الأهالي يتردّدون إلى قريتهم من دون مضايقاتٍ من أحد لكن لا أحد ينام هناك".

العشائر البدوية وسكان المنطقة.. عقدٌ غير مكتوب

في صباح يوم الجريمة، ووفق شهادة ابن عمه (صلاح)، خمسون عاماً، اتصل أحد أفراد العشائر بكاسر معلا وطلب منه رزاً ودخاناً ومواد تموينية. قال كاسر له إنه اليوم لن يذهب إلى الحمرات ولكن من أجلك سوف أجيء. ذهب إلى هناك وأعطاهم ما طلبوا من دون مقابل. في المساء نفسه، قُتل كاسر".

تؤكد الشهادات المحلية أنّ علاقة كاسر وآل معلا بالعشائر كانت جيدةً عموماً، إذ كان يقدّم لهم المساعدة رغم علمه بأنهم مسلحون وارتكبوا أذىً بحقّه عبر قطع عشرات أشجار الزيتون والليمون خلال الأشهر التالية لسقوط النظام في محيط أرضه ورزقه، في ظلّ عجز المجتمعات المحلية عن الردّ أو الدفاع عن نفسها بسبب غياب الحماية الرسمية ووجود السلاح بشكلٍ دائم مع العشائر البدوية.

بعد تصاعد النزاع السوري (2014-2018) في ريف اللاذقية الشمالي، أُجبرتْ عشرات العائلات العلوية والسنية على ترك قراها بين ربيعة ومشقيتا، ومن هذه القرى: الكنديسية، الحمرات، المرّان وبيت حليبية، صغارو، جورة الماء، قصر جورة. أدى هذا النزوح الإجباري بفعل المعارك (سابقًا) بين قوات النظام السابق وقوات المعارضة إلى فراغ تلك القرى من سكانها القليلين أصلاً.

"الدولة الجديدة متل الدولة القديمة لا يهمها الفقير ولا يهمها الناس، بيهمها بطنها وجيبتها".

خلال الأشهر الستة التالية لسقوط النظام بدأت مجموعاتٌ عشائرية مسلّحة بالوصول إلى تلك القرى وفق عدّة شهاداتٍ من المنطقة ومن بينها شهاداتٌ من سكان قرية الحمرات مسقط رأس آل معلا الذين كانوا يعيشون في مشقيتا طيلة سنوات الحرب. لم يُثر هذا الانتقال اعتراض أحد، خاصة المجتمعات العلوية المحلية، بحكم كون هؤلاء العشائر مسلحين.

قدمت هذه العشائر من الداخل السوري الذي تنتمي إليه، وبالخصوص من ريف حلب. تزايد قدومها في الأشهر التالية لسقوط النظام وجرت عمليات النقل عبر شاحناتٍ كبيرة أحضرت عائلاتٍ بكاملها للمنطقة.

يروي لنا السيد قاسم البناوي (ستون عاماً)، وهو أحد قادة العشائر، مقيمٌ حالياً في محيط منطقة ربيعة (شمال اللاذقية)، القصة على الشكل التالي: "نحن من عشائر البدو في البادية، وصلنا إلى منبج منذ سبع أو ثماني سنوات، عندما كانت البادية تعجّ بالدواعش وقوات الأسد وكلٌّ منهم يريد حصةً من الحلال (الأغنام)، ولما زاد الضيق والجدب (يقصد الجفاف وانقطاع المطر) رحلنا شمالْ صوب منبج. وفي قسم راح على إدلب والبارة وجبل الزاوية".

يضيف البناوي الذي انتقل مع جماعته إلى منطقةٍ جديدة قريبة من "ربيعة": "قبل ما يسقط النظام بثلاث أو أربع سنين انتقلنا من منبج لجبل التركمان (شمال اللاذقية). كان بدنا محل نطعم بيه الحلال. إجينا هون نضمن (نستأجر) أراضي من الناس. الأراضي التي ضمناها (الواقعة بين ربيعة ومشقيتا) كانت مهجورة بسبب الحرب بين جماعة النظام والمعارضة، وأصحاب الأراضي ضمّنونا إياها ضمان سنوي لأن ما قادرين يرعوا أراضيهم ولا شجرهم خايفين من القذائف ونحنا ما نخاف".

في جوابه على السؤال حول ما جرى في مشقيتا قال البناوي: "هذول ولاد كلب من عائلة... (حذفت حكاية ما انحكت اسم العائلة) طول عمرنا ويا الناس هون كويسين. ما نريد أذى أحد والحمد لله كمشوهم وراح يربونهم الأمن العام". قدّم لنا الرجل معلومة أنّ القاتلين قريبين من بعض، الأول عمره 43 عاماً والثاني 27 عاماً واتهمهما بأنهما "حرامية طول عمرهم". وعن اتهامات الناس لهم بالتخريب أجاب الرجل: "ياخوي ماحدا يريد الأذى لحدا، ولكن ما فيك كل وقيت تضبط العيال وهذول لازمهم شرطة تضبّهم".

بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الأولى

08 نيسان 2025
أثارت موجاتُ المجازر في الساحل، التي استهدفت العلوييّن بشكلٍ خاص، ردّ فعلٍ قويّ من الناشطين/ات والجماعات، الذين وثّقوا الأحداث، وأعربوا عن تضامنهم وجمعوا الدعم المادي، ونددوا بالتضليل وانتهاكات حقوق الإنسان.

تأتي شهادات أهالي المنطقة مُعاكسةً لما سبق، إذ أفادت أنّ هذا الضمان الذي كان سابقاً مبنياً على حضور الرعاة في فصول معينة ومغادرتهم بعد انتهاء موسم الرعي تحوّل إلى إقامةٍ دائمة وتهديدٍ بالسلاح عدّة مرات في حال طالب الأهالي ببيوتهم وأرزاقهم. يقول إبراهيم (اسم مستعار بناءً على رغبته)، وهو مزارع من "الحمرات" مقيم خارجها: "قبل أقل من شهر عبرتْ مجموعة من أفراد العشائر القريةَ وهم يضعون على رقبة حمار بارودةً روسية كنوعٍ من التحدي للأهالي، في الوقت الذي يستنفر فيه الأمن وجماعته عند سماعهم بوجود بارودة واحدة في المنطقة. هذا الريف سلّم سلاحه، وعندما صارت مجازر الساحل لم تطلق رصاصة في هذه المناطق". لا توجد تقارير رسمية حول أعداد المهجّرين من تلك المناطق ولا أعداد الأفراد من العشائر التي حلّت محلّهم.

يقول المهندس ورد الخالد (أربعون عاماً، موظفٌ سابق في مؤسسة الحبوب) من سكّان منطقة الطلائع في اللاذقية، وقد كان شاهداً على أفعال الوافدين: "مع سقوط النظام، ازدادت أعداد الوافدين إلى الساحل السوري بمن فيهم القرباط والنّور خاصةً نحو الأحياء الهامشية، وبرزت ظاهرة انتشار السلاح بينهم، ما زاد من حدة الاعتداءات المسلحة، والسرقات، والتعديات على الممتلكات، حتى استولوا على أراضي وممتلكاتٍ عامة وخاصة من دون محاسبة. القرباط تحديداً كانوا من أبرز مَن سرق السلاح من الثكنات العسكرية وأثاث المؤسسات الحكومية، واستولوا على مساكن مؤقتةٍ للمتضررين من الزلزال كما هو الحال حولنا في منطقة الطلائع، وحولوها إلى مستودعاتٍ للمسروقات وتفضّل إذا كان حدا يسترجي يدخل إلى مناطقهم".

ليس البدو في الساحل السوري مجموعةً واحدة، بل هناك تمايزٌ واضح بينهم وبين مجموعاتٍ أخرى مثل القرباط والنّور، التي يخلطها الناس أحياناً مع البدو رغم اختلاف أصولهم وأدوارهم الاجتماعية والاقتصادية. ورغم الخلط الشعبي بين البدو والقرباط والنّور، إلا أنّ لكل مجموعة أصولها وتقاليدها المختلفة، ويظل البدو أكثر التصاقاً بثقافة الرعي وحمل السلاح، بينما يعمل القرباط غالباً في المهن اليدوية والنّور في الغناء والرقص.

البدو الأصليون، وهم عربٌ أقحاح، شكّلوا حتى التسعينيات نحو 10% من سكان سوريا، وكان لهم حضورٌ سياسيّ واجتماعي واقتصادي، وعُرف عنهم حمل السلاح بموجب أعرافهم، وقوانين العشائر الصادرة عام 1953، التي استمرت حتى بعد إلغائها رسمياً زمن الناصرية.

العشائر التي وصلت إلى شمالي اللاذقية وجبل التركمان استفادت من سقوط النظام واختفاء القوى الرسمية من شرطةٍ وأمن وغيرها. يقول الناشط أحمد عيسى إنّ "هؤلاء يشكلون خطراً كبيراً على السلم الأهلي، فالعلاقات التاريخية السابقة اتسمت بالتوازن بين استفادة العشائر والبدو من مواسم الرعي في الأراضي الزراعية والمشجّرة منها مقابل استفادة الفلاحين وملاّك الأراضي من روث الأغنام، ومقابل تنظيف الأراضي، فيما تبقى الملكياتُ لأصحابها. اليوم؛ يجب العودة إلى ذلك التوازن عبر ضغط الدولة".

تصاعدتْ تعديات العشائر البدوية على الممتلكات عدّة مراتٍ في منطقة مشقيتا وفي غيرها من مناطق الساحل السوري (كما في البرجان ورأس العين قرب مدينة جبلة وفق شهادات الأهالي هناك) وحصلت جرائم سرقةٍ وقتل وتعدٍّ على الممتلكات والأرواح بما في ذلك هجوم على دوريات الأمن العام الجديد جنوب جبلة.

الآن، وبتعليماتٍ مشدّدة من محافظ اللاذقية، غادر البدو منطقة مشقيتا وجوارها إلى مناطق أخرى. يؤكّد لنا السيد إبراهيم من الكنديسية: "الآن لا يوجد أحدٌ في قرية الكنديسية ومزارعها (المليك وقزل جورة وكذلك قرية جورة الماء). القرى والمزارع خاليةٌ تماماً من أهاليها ومن البدو.. بعد المجزرة مباشرةً غادر البدو المنطقة كلها. بعض أهالي القرية يترددون إليها ولكن لا ينامون فيها. تمّ توقيف عددٍ من البدو وهم موقوفون حتى الآن، لكننا لا نعلم تفاصيل عنهم. الآن القرية فارغة من البدو والأهالي. يتردّد بعض الأهالي إلى القرية نهاراً، بحذر، دون أن ينام أحدٌ هناك". ينطبق هذا الكلام على عددٍ من القرى الفارغة حتى الآن".

عند وصولنا نزل ياسر على قدميه، ولكن، وبسبب النزف الشديد فارق الحياة على باب المشفى. نجوت بفضل ياسر البطل" يقول روميل "نجوت كي أكون الشاهد الوحيد والناجي الوحيد".

مستقبل؟

اليوم، يعيش أهالي تلك القرى في حالة قلقٍ دائم، بين فقدان الأمان وغياب العدالة، وبين ذكريات التعايش القديمة وواقع التهديدات الجديدة وحوادث المجازر التي لم تتوقف. ففي 14 حزيران/ يونيو ٢٠٢٥ وقعت مجزرة جديدة في قرية "الميدان" في منطقة رأس البسيط، راح ضحيتها الشابان ابراهيم البحري (19 عاماً) وأحمد البحري (14 عاماً) من قرية الحسينية الواقعة بين سدّ بلوران وقسطل معاف، بإطلاق رصاصاتٍ مباشرة في الرأس من قبل مجهولين يقودون دراجةً نارية مساءً، بينما كانا يرعيان الأغنام. حدثت هذه الجريمة بعد مضيّ شهرٍ على مقتل ابن عمٍ لهما في المنطقة ذاتها بالطريقة نفسها، وفق الرابط السابق، أشارت كذلك إلى أنّ المتهمين بالجريمة من البدو، من دون صدور بيانٍ رسميّ أو توضيحاتٍ بهذا الخصوص.

غادرنا المكان تاركين أطفال عائلة زوباري ومعلا يلعبون، ومسحة حزنٍ تطفو في العيون، فيما تبحث النساء اللواتي فقدن معيل الأسرة عن مصادر دخلٍ لإكمال حياتهنّ. ترغب السيدة أم حاتم بمساعدتها في فتح دكانٍ تبيع فيه أي شيءٍ يساعدها في تربية أربعة أطفالٍ يتامى، ومثلها يحلم روميل أن يفتح كولبة لصناعة الفطائر على شطّ بحيرة مشقيتا بعد أن فقد كلّ أمل بالعمل في حصاد القمح مجدّداً نتيجة إصابته.

مقالات متعلقة

من القمع إلى البلطجة الممنهجة المبرّرة في سوريا الجديدة

02 حزيران 2025
"نام أهلي تحت سقف البيت بعد عدّة ليالي من النوم في البراري. كيف يشعرون الآن؟ لا أعلم. كيف لهم أن يشعروا بعد اليوم تحت سماء سوريا؟ لا أستطيع تخيّل ذلك...
لن أنادي بعد اليوم على أحدٍ يا بن عمي

28 حزيران 2025
خمسة رجالٍ من عائلتنا الصغيرة، خمسة رجالٍ دفنّا معا، ومئة قلبٍ من أقاربنا ما يزال ينزف وجعاً وحسرة. لن أنادي بعد اليوم على أحد يا بن عمي، لن يفتتح صباحي...
كان أمراً مؤلماً ومدهشاً؛ هذه ليست حمص إذاً

27 حزيران 2025
فجأة، بعد سقوط نظام الأسد صار بمقدوري زيارة مدينتي حمص، ورؤية منزل الطفولة، المكان الذي لن أشاهد فيه والدتي من جديد.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد