(القامشلي)، "في صباح أحد الأيام (13 تموز/ يوليو ٢٠٢٢)، قمتُ بإشعال بابور الكاز في المطبخ لتسخين المياه استعداداً لأحمّم أطفالي. حينها طلبت ابنتي أن تكون الأولى لتكمل اللعب مع صديقاتها بعد أن تستحمّ. كان المطبخ حديث البناء ولم ننتهِ منه بعد، دخلتُ إليه مع ابنتي التي كانت تبلغ من العمر ثماني سنوات، وخلال دقائق، شعرتُ وكأنّ قنبلةً انفجرت في المنزل. استغرقتُ وقتاً لأستوعب أنني أحترق مع ابنتي بعد أن انفجر البابور داخل المطبخ، كان الخروج منه صعباً، لذا قمت برمي ابنتي، ورميت نفسي بعدها إلى الخارج."
هذا ما تقوله سميرة (٣٢ عاماً/ اسم مستعار)، التي استقبلتنا في منزلها في مدينة القامشلي، عن حادثة الاحتراق التي غيّرت حياتها وأحلامها، أو ما كان قد تبقى منها بعد أن كان زوجها قد حرمها مما حلمتْ به طويلاً، إذ "اشترطتُ على زوجي أن أكمل تعليمي بعد الزواج، إلا أنّ زوجي، وبعد أن حصلت على الشهادة الثانوية، منعني من إكمال تعليمي تحت ضغط عائلته"، لتصبح جلّ أحلامها قبل حادثة الحريق، وبعد أن تبخّر حلم الدراسة والتوظيف أن تعيش في بيتٍ في مدينة القامشلي "حين كنت أزور منزل عائلتي في القامشلي، كنت أشاهد المباني على جانبي الطريق، وأهمس لنفسي، هل سيأتي يومٌ أتمكن فيه من العيش في المدينة؟"، وذلك هرباً من عائلة زوجها التي حرمتها الدراسة لتعيش وتعمل معهم في تحضير المؤونة الفصلية في ريف مدينة القامشلي لإثني عشر عاماً.
لم تستسلم سميرة خلال هذه السنوات التي عاشتها في بيت زوجها؛ أصرّتْ وعملت كي تحظى ببعض الاستقلالية والخصوصية، وهو ما حصل عندما تمكّنت من بناء غرفةٍ ومطبخٍ مُنفصلين بجانب منزل العائلة الكبير، ولم تكن تعلم أنّ هذا المطبخ الذي سعت للاستقلال به سيكون كابوس حياتها، إنه المطبخ ذاته الذي احترقتْ داخله مع ابنتها التي وضِعت "في غرفة العناية المشدّدة، ووُضعت أنا في غرفةٍ أخرى. كنت أسمع صوت بكائها، ولا أتمكّن من الوصول إليها".
"حرقوا قلبي": عن أمهات سوريات غيّب الإعلام أحزانهن
23 تموز 2025
لم تحتمل سميرة سماع صوت ابنتها ناي (اسمٌ مستعار بناء على طلب الأم)، لذا طالبت برؤيتها، ولكن "حين جلبوها إلي، شعرتُ بأنني سقطت من مكانٍ عالٍ، فقد تضاءل حجمها كثيراً، كانت عبارةً عن كتلة من الشاش الطبي، ابنتي التي كانت تنتظر العيد لتحتفل مع إخوتها، حُرمت من النوم لسنةٍ كاملة بسبب الحريق في وجهها وصدرها وظهرها."
تقول سميرة التي فكّرت بالانتحار أكثر من مرّة في هذه الفترة بسبب وضعها، وأكثر بسبب وضع ابنتها الصعب، الابنة التي تبلغ من العمر الآن 11 عاماً، والتي خرجتْ لاستقبالي، أنا كاتبة هذه الحكاية، كي ترشدني إلى المنزل الذي تقطن فيه الآن مع والدتها وإخوتها وسط مدينة القامشلي. تملك ناي شعراً طويلاً لكن آثار الحريق لا تزال واضحةً على وجهها ويديها، ترمي السلام بخجل ثم تسبقني بخطوات. ولدى وصولها إلى المنزل، تدخل إلى غرفتها ولا تخرج منها إلى أن ينتهي اللقاء.
بعد مرور 20 يوماً على دخولها إلى العناية المشدّدة، طلب الطبيب أن تُنقل الطفلة إلى منزل العائلة لتتحسّن حالتها النفسية، ومن ثم تُعاد لاستكمال العلاج، إذ كان وجهها وجسدها بالكامل بحاجةٍ إلى علاجٍ طويلٍ وشاق، وكانت مهدّدةً بأن تفقد بصرها وصحتها العقلية نتيجة الحروق. ورغم كلّ هذا الألم الجسدي والنفسي الذي تعاني منه سميرة وابنتها، جاءهما ألمٌ أقسى وأشد، حين "رفضت عائلة زوجي أن أعود إلى دمشق لاستكمال علاج ابنتي، مبرّرين رفضهم بأن التكاليف باهظة، الأمر الذي دعاني إلى أن أستمر في معالجتها في مدينة القامشلي، في ظروفٍ طبية غير مناسبة لاحتياجات العلاج."
إهمال وتجاهل
خلال الأشهر الستة التالية، كانت سميرة عاجزةً عن الحركة تماماً، ملفوفةً بالشاش الطبي في يديها وقدميها، بينما ابنتها تعاني من آثار الحروق الجسدية والنفسية، وجسدها بالكامل ملفوفٌ بالشاش الطبي أيضاً، فيما طفلها الآخر البالغ من العمر ثلاث سنوات بحاجةٍ إلى رعاية لم تستطع تقديمها له. وكأنّ هذا الألم لم يكن كافياً "ففي الوقت الذي لم أتمكّن فيه أنا وابنتي من الحركة نتيجة الحروق، كانت والدة زوجي تقوم بوضع الطعام أمام باب الغرفة التي بقينا فيها، وتقوم بفتح الباب من دون أيّ حديثٍ أو مساعدة لنتمكّن من تناول الطعام."
كان هذا الإهمال وسوء المعاملة أشدّ وأقسى على سميرة من آلام حروقها، فإذا كانت النيران قد أكلت جسدها، فإنّ هذا الإهمال أشعل النيران في روحها حدّ أنها لم تعد تحتمل "هذا الإهمال، لذا فقد طلبتُ من زوجي أن أعود إلى منزل أهلي، وبعد عناء، وافق.
عدت إلى عائلتي التي تعيش ظروفاً معيشية صعبة للغاية، فالمنزل مكوّنٌ من غرفتين، يعيش فيها 15 شخصاً". لكن الحاجة إلى العناية الطبية والنفسية دفعت سميرة لاتخاذ هذا القرار، تقول: "أوصانا الطبيب بنوعٍ معين من الحليب والتمر لتغذية ابنتي خلال فترة العلاج، إلا أنّ زوجي كان يزورنا مرة في الأسبوع، يترك لي مبلغاً لا يتجاوز 25 ألف ليرة سورية، ويغادر من دون عودة إلى أسبوعٍ آخر أو أكثر، لذا كنت أضطر لتقديم المرتديلا والأندومي لها".
عودتها إلى منزل أهلها منحتها حريةً أكبر في اتخاذ القرارات، وكان أوّل ما قرّرته متابعة علاج ابنتها في دمشق، خوفاً من أن تفقد نظرها، إذ أدى انكماش العين إلى أن تبقى مفتوحة حتى حين تنام. وبعد الضغط الكبير من قبل سميرة، تكفّلتْ عائلة زوجها بإجراء عمليةٍ واحدة، في حين أنّ الطفلة تحتاج لأكثر من عشر عمليات حتى يزول الخطر.
تخلّي الزوج.. حتى عن مسؤولية الأطفال
وكانت المشاكل تتفاقم داخل العائلة في كلّ مرة يدفعون مبلغاً لعلاج الطفلة من جهة، فيما كان الأطباء "يخبرونني أنّ عدم إجراء العمليات قد يؤدي لتشوّه الفك والإصابة بالعمى" من جهةٍ ثانية. لم تستلم سميرة، إذ كان جلّ تركيزها واهتمامها منصبّاً على إنقاذ ابنتها، لذا واصلت الضغط على زوجها كي يقوم بتأمين التكاليف "إلا أنه ما كان بيده حيلة، لذا فقد أخذت موقفاً قاسياً منه، وبقيت في منزل عائلتي". ولكنه بعد مرور ستة أشهر، قرّر السفر إلى تركيا، ومن هناك كان يضغط عليّ للعودة إلى عائلته، و"مع رفضي أخبرني أنه لن يضغط بعد الآن، ولن يتكفّل بأية مسؤولية تجاهي وتجاه أطفالي."
بعيدا عن عيون داعش.. التعليم سرًّا
16 تموز 2025
وفيما هي تناضل وتقاوم ضد الوضع النفسي الذي وضعها فيه تخلّي زوجها، وتسعى لتأمين تكاليف العمليات لابنتها، علمت عن علاقةٍ تربطه بامرأةٍ أخرى، الأمر الذي تسبّب بانقطاع العلاقة والتواصل بينهما. وفي تلك الفترة، كانت سميرة في الشهر الثالث من حملها، تقول: "كنت أعلم أن زوجي في علاقةٍ عاطفية مع امرأةٍ أخرى، ولكن بات همي غير مقتصر على الحفاظ على هذه العلاقة، بل تحوّل بالكامل إلى كيفية علاج ابنتي من الحروق التي أصابتها، لذا لم أكترث، وعملت بكلّ ما أملك من قوة لأعالج ابنتي."
"أحلام صغيرة"... نقطة تحوّل
لم تكن سميرة آنذاك تدرك أنّ أحلامها المُجهضة بالدراسة ومواصلة التعليم دفعت نساءً أخريات لتأسيس مجموعة تُعرف باسم "أحلام صغيرة" هدفها مساعدة النساء من أمثالها. حصل اللقاء عندما أخبرتها أمها عن طلب المساعدة من الجمعيات الخيرية وهو ما فعلت لتحصل على مبلغٍ رمزيّ صغير يكاد لا يغطي شيئا، لكن ترافق مع كوّة أملٍ فتحت لها باباً جديداً، حين عرضت عليها إحدى السيدات أن تزور معرضاً قائماً في تلك الفترة، لتغيّر من حالتها النفسية كفُسحةٍ للراحة. وهناك، التقت بسهام أحمد، التي تعمل في إدارة مجموعة "أحلام صغيرة"، لم تكن تعلم سميرة أن هذا اللقاء سيكون نقطة تحوّلٍ في حياتها فيما بعد.
تضم مجموعة "أحلام صغيرة" أكثر من 70 امرأة من القامشلي، يعملن في المهن اليدوية، ويشاركن في معارض محلية، كما تنظّم المجموعة مبادراتٍ إنسانية لجمع التبرّعات ومساعدة العائلات المتضرّرة من الأوضاع الاقتصادية.
عن لقائها الأوّل بسميرة تحكي سهام "حين تواصلتُ مع سميرة، رأيتها امرأةً مكسورة، فاقدة الثقة بمن حولها، تعيش حالةً من العزلة مع ابنتها نتيجة التشوهات في جسديهما، وحالتها النفسية مُتعَبة مما عايشتْه مع زوجها وعائلته. تأثرّتُ بها كثيراً، لذا قرّرت أن أدعمها لتتجاوز محنتها تلك."
عودتها إلى منزل أهلها منحتها حريةً أكبر في اتخاذ القرارات، وكان أوّل ما قرّرته متابعة علاج ابنتها في دمشق، خوفاً من أن تفقد نظرها، إذ أدى انكماش العين إلى أن تبقى مفتوحة حتى حين تنام. وبعد الضغط الكبير من قبل سميرة، تكفّلتْ عائلة زوجها بإجراء عمليةٍ واحدة، في حين أنّ الطفلة تحتاج لأكثر من عشر عمليات حتى يزول الخطر.
تكفّلتْ سهام بكامل تكاليف العمليات الطبية لابنة سميرة، عبر تبرّع شخصٍ بالمبلغ المُخصّص للعمليات والأدوية، وخضعت الطفلة لأكثر من عشر عمليات علاجية، بينما بدأت سميرة تشارك في بعض الأعمال ضمن المجموعة، وتساهم جزئياً في المعارض التي تقيمها هذه المجموعة لعرض أعمال السيدات اللواتي يعملن ضمنها. ومن خلال هذه المشاركة، بدأت سميرة باستعادة الثقة بنفسها، وتعلمت مهنة صناعة الزينة والتوزيعات اليدوية، وأصبحت جزءاً من المجموعة وتشارك في جميع أنشطتها.
بدورها، حين بدأت سميرة بالحديث عن دور سهام في حياتها، ارتسمت البسمة على وجهها، وبدأت بالقول: "في البداية، حصلتُ على بعض الدعم من سهام عبر تقديم احتياجات أساسية من دون مقابل، ما أثار دهشتي حيث لم أعتد على رؤية أحدٍ يقدّم المساعدة تطوّعياً ومن دون مقابل، وبدأت الثقة تكبر بيننا، وشجّعتني على المشاركة في الأنشطة التي تنظّمها المجموعة، لتعيدني تدريجياً إلى الحياة الاجتماعية والعملية. شعرت بأمانٍ كبير حين بدأتُ التعامل مع سهام، ويمكنني القول إنّ حياتي الجديدة بدأت حين قادني القدر لأتعرف عليها." تقول سميرة.
الحيار: نساء العشائر يدفعن الثمن
05 نيسان 2024
التحسّن الذي طرأ على حياة سميرة انعكس بدوره على حياة ابنتها تدريجياً. ففي المرحلة الأولى كان خروج الفتاة بوجهٍ محروق يسبّب لها الإحراج ويدفعها للانكفاء بسبب تعليقات الأطفال والكبار. "ففي أحد المرات كنا في السرفيس، وسمعت الطفلة أحدهم يقول: يا حرام يا حرام ليش مطالعينها هيك من البيت؟"، الأمر الذي دفع ناي للإنكفاء وعدم الخروج. إلا أنها بدعمٍ من أمها وسهام بدأت تشارك في نشاطات المجموعة، ويوماً بعد يوم بدأت تحبّ المشاركة، بل وتطالب بها. وفي إحدى المرات قالت لأمها "خلينا نرجع للبيت مشي، ميشان الناس يشوفوني ويتعلموا على وجهي".
لاحقاً، ساعدت سهام في بناء غرفةٍ مستقلة لسميرة وأطفالها ضمن منزل عائلتها، وقدّمت لها ماكينة خياطة لتبدأ مشروعها الخاص، كما ساعدت أيضاً في توفير غرفةٍ أخرى لأخواتها البنات. ومع تحسّن الوضع الصحي والنفسي، بدأت الطفلة ناي بالاندماج في الأنشطة أكثر وأكثر، وتطوّرت لديها هواية التصوير، بينما بدأت الأم تتطلّع لتطوير مهاراتها في استخدام الحاسوب وتعلّم اللغة الإنجليزية، بهدف تحقيق استقلالٍ اقتصاديٍّ دائم. وهكذا "تمكنت سميرة من بناء شخصيتها من جديد، بعد أن عاشت في أجواء عائلية تضيّق على كل مفاصل حياتها، تعرّفت على تجارب لنساء عايشن التعنيف المجتمعي والمنزلي وتجاوزنه، وهي أيضاً امتلكت الإرادة لتغيير حياتها، كل ذلك ساعدها لتخطط شكلاً جديداً لحياتها." تقول سهام.
وكانت منظمة "سارا" لمناهضة العنف ضدّ المرأة (وهي منظمةٌ محلية تنشط في مناطق شمال شرق سوريا)، قد وثقت حالات العنف ضد النساء للعام 2024، حيث بلغ عدد الانتهاكات بحقهنّ 495 انتهاك ما بين القتل والانتحار وتعدّد الزوجات والاغتصاب والخلافات الزوجية والضرب والإيذاء وغيرها.
عودة الزوج
عندما علم الزوج من أقاربه بالتحسّن الذي طرأ على حياة زوجته وابنته، أعاد التواصل معها. قبلت سميرة بالعودة إلى زوجها الذي بقي في تركيا لظروفٍ تتعلّق بإقامته ومحاولة تأمين دخلٍ للعائلة. ورغم أنهما لم يلتقيا حتى الآن، ورغم أنّ الابنة الصغيرة لم تر والدها بعد، حدّ أنها تقول "بابا بابا..." حين ترى أطفال الجيران يرحبون بعودة آبائهم... إلا أنّ عودته منحت سميرة شيئاً من الراحة والاستقرار النفسي كما تقول.
تسكن سميرة اليوم في منزلٍ يعود لأحد أقارب العائلة وسط مدينة القامشلي محقّقةً بذلك أحد أحلامها التي تحدّثت عنها في بداية هذه الحكاية، وهي تعمل في أيّة فرصة تتاح لها ضمن المجموعة التي تديرها سهام، التي تقول إنّ أكبر التحديات التي تواجه "أحلام صغيرة" هي قلّة الموارد، كما أنّ العائق الأكبر في رأيها هو فقدان بعض النساء للإرادة، وتفضيل الاعتماد على المساعدة على أن يحقّقن استقلالهن على كافة الأصعدة، وتكمل: "من تريد التغيير، بإمكانها أن تصل. لا نملك الكثير، لكننا نملك الإصرار على صنع فرقٍ حقيقيّ." وهو الإصرار الذي امتلكته سميرة لتبدأ حياةً جديدة "أملك قرارها بيدي، أتحضر اليوم لتلقّي دوراتٍ تعليمية في اللغة الإنجليزية والحاسوب، وأشارك في مشاريع تديرها منظّماتٌ محلية في المنطقة، وأقوم بتزيين المرايا.. تلك الحياة التي حلمت بها دوماً."







