النملة والوحش


لحسن حظ وافي، لم يكن الخاطفون وراء حياته، بل كانوا وراء ذَهَب أمه. اتصلوا بها، جمعت لهم الفدية سراً، رموا وافي مكبلاً ومطمش العينين في ضاحية نائية. ذهبت مع أقربائها لالتقاطه. طلب وافي منهم ألا يذهبوا إلى المشفى، وأن يعالج سراً في البيت، لأنه لم يكن يرغب أن يَعلم فرعُ الأمن بأنه قد عاد حياً.

12 حزيران 2018

(لوحة من تصميم كوميك لأجل سورية، وهي رسمت خصيصا لهذه المادة/ خاص حكاية ما انحكت)
أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

(تأتي هذه الحكاية بالتعاون مع راديو سوريالي، ويمكنكم سماع هذه الحكاية على برنامج "حكواتي سوريالي")

عندما كان عمر وافي (اسم مستعار) ثماني سنوات، قام بتعذيب نملة حتى الموت. قد يتساءل القارئ، كيف لإنسان أن يعذب نملة؟ ما هي الطريقة التي اتبعها؟ أن تقتل نملة شيء، وأن تعذبها محافظا على حياتها أطول فترة ممكنة قبل أن تموت يتطلب مستوى آخر من التفكير والابتكار.

وضع وافي النملة على راحة يده، وأمسك بشعرة طويلة من شعر أمه، وراح يخنق النملة ببطء، وهو يشاهدها تتلوى وتنثني وتحرك قوائمها الدقيقة، قبل أن تخف حركتها، عندها وبأطراف أظافره قام بانتزاع قوائمها واحدة تلو الأخرى ثم قام بهرسها بإصبعه الصغير.

كان عمر وافي حينها، لم يتجاوز ثماني سنوات، لكنه وبعد تلك الحادثة مباشرة، أيقن عدّة حقائق، الأولى، أنّ الإنسان كائن مفرط في الشر، ويتطلب احتواء شره جهداً كبيراً. والثانية، أنّ جانباً مظلماً من الإنسان، حتى في طفولته، يستمتع بهذا الشر، ويستمتع التسبّب في آلام الآخرين والتحكم بمصيرهم، مهما ادعى غير ذلك. والثالثة، أنّه أمام خيار مصيري الآن، إما أن يستمرئ الشعور الذي انتابه وهو يشاهد النملة تنازع وتُسحق تحت جبروته، وإما أن يختار نبذ هذا الشعور تماماً، والسيطرة عليه وحبسه في صندوق حديدي سميك الجدران ورميه في قاع أعماق نفسه.

لحسن حظ وافي، لم يكن الخاطفون وراء حياته، بل كانوا وراء ذَهَب أمه

كانت أم وافي مسلمة من أتباع مجموعة دينية نسائية (القبيسيات) تجتمع في البيوت سراً في دمشق ظناً منها أنها تقوم بنشاط لا ترضى عنه الدولة. كان وافي يجبر على الجلوس مع والدته في هذه الحلقات قبل أن يكبر ويصبح من الممنوع عليه أن يجلس مع نساء الحلقات. كان وافي يستغرب حالة التكتم المصطنعة التي كانت النسوة منخرطات بتمثُّلها. كانت عشرات الكنادر والأحذية على باب البيت كل يوم إثنين تدل على أنّ هناك تجمعاً دوريا داخله. لم يكن لدى وافي شك بأنّ كل الحارة تعلم أنّ هناك اجتماعاً دينياً في منزله.

في الجلسات التي كان يحضرها كان يشاهد أمه تبكي مرتجفة أثناء ذكر الله، كان يتابع النساء وهن يرتعشن. سأل أمه مرة: لماذا أنتن خائفات؟

همست أمه: إنه خشوع، وليس خوفاً؟

سألها عن الفرق، قالت: الخشوع هو خوف من الله وتبجيل لحضرته.

قال لها: إذا هو خوف. قالت له: سد حلقك وروح جيب العصير.

كان يذهب وافي إلى المطبخ وهو يتخيل الجالسات في حلقة الذكر نملات بدينات ويعود محمّلاً بالضيافة وهو يكتم ضحكاته. كانت الضيافة جزءأ هاماً جداً من الجلسات الدينية. كمغريات حسية للإقناع بما لا يمكن الاقتناع به.

عند ذكر الشيطان وحماية النفس من إغرائه ومكائده في تلك الحلقات، كان وافي دائما يتذكر حادثة النملة. هل كان الشيطان من أغراه بتعذيبها؟ لقد كان واعياً لكل شيء ومستمتعاً، لقد كان خياره الحر بعد تلك الحادثة أن لا يطلق العنان للوحش في داخله وأن يحتجزه في زنزانة بلا مفتاح. لم يكن شيطاناً أو ملاكاً من أملى عليه أي شيء.

في إحدى الحلقات أيضاً ذكرت مديرة الحوار في الجلسات الدينية، أن هنالك أشخاصاً صم بكم عمي لا يفقهون ما يقال، ولا تصلهم رحمة الله، ولا يقتنعون بأي شيء، مغرورون يمنعون تغلغل الإيمان إلى دواخلهم، يبحثون عن تفسير فلسفي ولا يجدونه.

    فكر وافي حينها، وكان عمره أحد عشرة عاماً، هل هو ملعون ومنبوذ من رحمة الله حقاً؟ هل الغرور وحده ما يمنعه من الإيمان؟ تسلّل بعض الشك في داخله، ثم عادت حادثة النملة إليه، فطرد الشك، واختار أن يكون حر القرار لا يتحكم فيه شيطان أو إله أو مجموعة نسوة مهمهمات باكيات تجتمعن في منزله كل اثنين.

    كبر وافي، ولا شيء يزعزع حجر اليقين بقدرته على الاختيار. وعندما حان الوقت ليختار عملاً، اختار أن يكون عنصر أمن!! أراد أن يتحدّى نفسه إلى أبعد درجة، ما الذي سيحصل عندما يكون في يده سلطة مطلقة، هل يمكن أن يستطيع المحافظة على الوحش داخل الزنزانة؟ لقد كان سؤالاً وجودياً بالنسبة له، وأكبر من سلوك عملي ومهني. وعندما اندلعت الاحتجاجات في سوريا بعد فترة قصيرة من بدء عمله، وتوافد المعتقلين والمحتجزين على فرع الأمن العسكري في مكان عمله، لم يكن لديه أي موقف سياسي شخصي.

    (لوحة من تصميم كوميك لأجل سوريا/ خاص حكاية ما انحكت)

    كان محايداً في داخله، يتابع كمتفرج ويدرس الطريقة التي يتعامل فيها عنصر الأمن والشبيح مع المعتقل الأعزل الواقع بين يديه. كان دائماً ما يتذكر النملة في راحة يده. كان يحبها ويبجلها كإله فتح له باباً نورانياً. هل كان ذلك ملاكاً حقاً؟ لم يضرب وافي أحداً، كان يجد طريقة ليتجنب أوامر التعذيب، كان يقوم بالواجبات الإدارية، يختار أن يمرّر بعض الماء للمعتقلين، وأن يتوسط للجلاد أن يخفّف وتيرة التعذيب كي لا يموت المعتقل بين يديه وتحدث جلبة. كان يعلم أن ذلك لم يكن ليثني الجلاد عن الاستمتاع بتعذيب وسحق ضحيته جسدياً ونفسياً. وكان يراقب كيف يفقد الجلاد السيطرة بعد أن يختار أن يطلق العنان للوحش الذي لم يحبسه يوماً في زنزانة بل تركه ليتغذى ويترعرع ويكبر فيه. وكان يراقب كيف ينظر المعتقل المدمّى والمهزوم إلى السجان عندما يكون الأخير ملتفتاً في اتجاه آخر، هناك وحش آخر بدأ يجتر الكره ويترعرع في داخل الضحية. كان يفكر وافي، يا ترى، ماذا كانت النملة لتفعل به لو انقلبت الأدوار؟ هل ستأكل جسده قطعة قطعة؟ هل ستغرس قوائمها الدقيقة في كبده؟ تخيّل نفسه أمام حشرة ضخمة مرعبة بقوائم مكسرة وعين مقلوعة. كم سيكون انتقاماً ممتعاً للنملة لو حصل؟ فكر وافي. وأصبح يتصور المعتقلين برؤوس نمل ضخمة تطقطق بفكها.

    بعد شهور قليلة بدأ وافي يفقد قدرته على تحمّل وجوده في ذلك المكان ويفكر بطريقة ما للخروج. لكن الفرص لم تكن مواتية. كان وافي متكتماً قليل الكلام مع باقي العناصر، لكنه كان يستمع منهم إلى قصص انشقاقات وهروب فاشلة أودت بحياة الهاربين. كان العناصر يتحدثون عن المنشقين على أنهم خونة، وكانت قصص مصيرهم مرعبة أكثر من مصير المعتقلين المعارضين.

    ما الذي سيحصل عندما يكون في يده سلطة مطلقة، هل يمكن أن يستطيع المحافظة على الوحش داخل الزنزانة؟

    مع التسليح وازياد العنف من كل الجهات المتصارعة على الأرض زاد التعذيب والموت ضراوة في فرع الأمن العسكري، وأصبح صيته الإجرامي ذائعاً في كل مكان. بالنسبة لوافي لم يعد هناك مناص من الخروج بأي ثمن. بات يعلم بمستويات جديدة من الشر يستطيع الإنسان ممارستها. مع أن المعتقلين كانوا يعاقبون عقاباً شديداً إذا طرقوا باب زنزانة حتى ليعلموا السجانين بموت أحدهم في الداخل، كان وافي يستمع إلى أصوات وحوش تزمجر داخل زنزانات من نوع آخر، زنزانات في أعماق نفوس المعتقلين، تبحث عن مخرج لتواجه الوحوش التي تتجول بحرية وصخب خارج المهاجع. تساءل وافي عن هامش حرية الاختيار في هذه الحالة. هل بإمكان الإنسان أن يختار عندما يغذي كل محيطه من كره وظلم وحقد ذلك الكائن اللزج القميء في داخله؟ قد يصبح هامش الاختيار ضيقاً جداً عندما تختار بين وجودك وأن لا تنتقم.

    القرار الصعب.. لا عودة إلى الفرع

    خرج وافي من فرع الأمن بعد منتصف الليل في أحد أيام عام 2014، ورائحة الدم والقيء والجثث والمرض تكاد تعطّل منعكس التنفس لديه، وقد قرّر أن لا يعود مرة أخرى مهما كانت النتائج. عندما توقفت سيارة بجانبه في الشارع الفارغ، وناداه أحدهم من شباكها الأمامي: يا أخ، قديش الساعة؟ نظر وافي بشرود في ساعته، قبل أن يعاجله أحدهم بضربة على رأسه أفقدته الوعي.

    أفاق وافي في صندوق السيارة، تقيّأ بسبب الصداع الشديد. حاول الصراخ لكن أحداً لم يجبه. مر وقت طويل، يوم كامل ربما، قبل أن يفتح ملثم باب السيارة ويخرجه منها. وينهال مع مجموعة من الملثمين عليه بالضرب في كل مكان من جسمه، سمع صوت تكسر في أضلاعه وساقه. وبدأ يتوسل: والله ما قتلت حدا. والله ما عملت شي.

    الأفضل أن تكون في قمة الهرم الغذائي حتى لا ينهش الآخرون لحمك، وأن تختار ألا تنهش الآخرين هو شأنك

    صاح أحدهم وهو يلهث: عنصر بالأمن العسكري أنت يا نجس. والله لنقطعك مية شقفة.

    انقلبت الأدوار إذاً وأخيراً. بعد ساعات من الضرب فقد وافي وعيه، وعندما أفاق كان مربوطاً بطريقة مؤلمة، فكر وافي: ربما كان خياره في أن يصبح رجل أمن في يوم من الأيام لم يكن بسبب رغبته في اختبار قدرته على لجم نزوته في استغلال السلطة، بل كانت ليحمي نفسه من أن يكون ضحية للآخرين. الأفضل أن تكون في قمة الهرم الغذائي حتى لا ينهش الآخرون لحمك، وأن تختار ألا تنهش الآخرين هو شأنك. وتذكر وافي للمرة الأولى أن اختياره لعمله كان بسبب همسات سمعها في داخله، أوَّلَها بطريقته. هل ذلك هو الشيطان الذي تحدثت عنه والدته وصديقاتها؟ ما كان وافي ليؤمن بالشيطان الآن. لم يكن ذلك الصوت سوى الوحش المحبوس منذ زمن بعيد في الصندوق الحديدي. أن تكون في موقع سلطة في هذا العالم بغض النظر عن مبرراتك يحمل في طياته خبثاً بشكل أو بآخر. كم من أصوات يسمعها الإنسان في داخله ما كان يجب عليه أن يصغي إليها.

    لحسن حظ وافي، لم يكن الخاطفون وراء حياته، بل كانوا وراء ذَهَب أمه. اتصلوا بها، جمعت لهم الفدية سراً، رموا وافي مكبلاً ومطمش العينين في ضاحية نائية. ذهبت مع أقربائها لالتقاطه. طلب وافي منهم ألا يذهبوا إلى المشفى، وأن يعالج سراً في البيت، لأنه لم يكن يرغب أن يَعلم فرعُ الأمن بأنه قد عاد حياً.

    توارى في منزله حتى تعافى، ثم اغتنم أول فرصة وهرب من البلاد إلى إحدى الدول الأوربية، وهناك أصبح لاجئاً يعمل في عمل لا علاقة له بسلطة أو قرار يخص حياة الآخرين. لكن كوابيسَ أبطالها بشر برؤوس نمل يسحقون بعضهم بعضاً لا تزال تراوده حتى هذه اللحظة.

    هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

    تصميم اللوغو : ديما نشاوي
    التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد