أطباء ناشطون في الانتفاضة: لو ترجع السلمية!


حكاية أبو عبدو تسلط الضوء على حكاية المشافي الميدانية و نضال الأطباء في الانتفاضة. هذا النضال الذي لولاه "لكانت تأثرت الانتفاضة سلبا حيث ساهم هذا الكادر بدعم صمود الناس وإصرارهم على التظاهر، إضافة إلى قدرته كون أغلبه يحمل وعي مدني ومستوى تعليمي ما على التأثير إلى حد ما في قرارات التنسيقيات ومنعها من الانحراف الطائفي في كثير من الحوادث من خلال الضغط عليهم، بالإضافة إلى الجانب التوثيقي الهام".

30 كانون الأول 2013

(كرتونة من كرتونات مجموعة عمل كرتونة من دير الزور، والصورة تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

لم يكن الطبيب "أبو عبدو" ( اسم مستعار) يعتقد أن أيام اعتقاله الثلاث ستفتح عينيه مبكرا على الطريقة التي يمكن أن يخدم بها انتفاضة شعبه التي كان يتوقع انفجارها "من خلال خوف النظام الذي رأيته في شهري شباط وآذار 2011، حيث وزّع مبكرا الباصات الكبيرة في الشوارع الرئيسية وأمام الجوامع في خطوة تعكس خوفه واستعداده في آن، مما جعلني أحدس أن ثمة شيئا يختمر في القاع وتخافه تلك السلطات، وهو ما أكدته تعليمات صادرة للأطباء والممرضين والكادر الإدراي عن إدارة المشفى الذي أعمل به بوجوب الإبلاغ عن أي منشور أو كلام عن الثورة" كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold"، لتغدو حكايته حكاية ناشطين/ أطباء انخرطوا من موقعهم الطبي في الانتفاضة، فكان عملهم خط أمان خلفي ساعد على الصمود من خلال تأسيس المشافي الميدانية وإسعاف المتظاهرين بعيدا عن أعين الأمن وتقديم الوعي للكوادر الشابة، ناهيك عن التظاهر والمشاركة بالفعاليات، مما جعلهم بمواجهة مباشرة من قبل الأجهزة الأمنية التي استهدفتهم بالاعتقال والقتل والتصفية كما حدث مع الطبيب "أيهم غزول" وغيره.

وإذا كان حدس "أبو عبدو" بأن الانتفاضة ستنطلق قريبا قائما على مشاهداته النظرية، فإن اعتقال أحد أصدقائه الأطباء في 18/3/2011 بعد مشاركته في مظاهرة خرجت من الجامع الأموي بدمشق، ورؤيته بأم عينه قيام ممرضة بالتعاون مع الأجهزة الأمنية بتصفية متظاهر من درعا في غرفة الإسعاف عبر إعطائه دواء آخر، واعتقال طبيب آخر من المشفى، وتداعي الكادر الطبي في عدد من المشافي لتوقيع عريضة مرفقة باعتصامات تحتج على اعتقال الأطباء وتطالب بحمايتهم وإطلاق سراحهم، " لنفاجأ بأن الوثيقة وقع عليها حوالي 350 طبيبا وهو رقم لم نكن نتوقعه بصراحة. إلا أنه عكس أن ثمة قابلية موجودة للثورة ضد النظام، ليشكل هذا الأمر أول انخراط لي في الانتفاضة" بعد أن عززته العوامل السابقة التي أكدت لـ"أبو عبدو" مدى قسوة هذا النظام.

يوم الجمعة العظيمة ( 22/4/2011) كان يوما مفصليا في تاريخ "أبو عبدو"، إذ سمع فجأة أصوات تظاهرة بالقرب من منزله، فخرج وانخرط بين الجموع لمدة من الوقت ثم ابتعد عن التظاهرة قليلا وبدأ يصوّرها. ولم تمض دقائق من رفعه سلاحه/ كاميرته حتى وضع أحدهم المسدس في خاصرته طالبا منه التقدم بالحارة حتى نهايتها حيث كانت تنتظر سيارة الأمن التي أخذته إلى الفرع الأمني لتبدأ رحلة تحقيق استمرت ثلاثة أيام.

في الفرع الأمني سأل المحققون عن الأطباء والممرضين بين المعتقلين لكي يقوموا بعلاج الجرحى والمصابين فتقدّم " أبو عبدو" وبدأ يعالجهم " لأكتشف هنا أن مهنتي يمكن أن تساهم بشيء، إلا أن الأمر لم يأخذ وقتها شكل التفكير والانخراط الجديين، إلى أن دعيت للمشاركة في مظاهرة في الميدان، إلا أنني لم أتمكن من الدخول بسبب هويتي إذ منع الأمن دخول من ليس مولودا في الميدان، لأبقى أتجوّل في المنطقة إلى أن أتاني اتصال من صديقي، قال فيه أن ثمة إصابات ونحتاج إلى معالجتها فدلني على طرق فرعية صغيرة أوصلتني إلى حيث هم وتم معالجة المصابين، ليبدأ بعدها عملي يأخذ شكلا منظما بالتنسيق مع هذا الشخص، حيث أصبحت قبل كل مظاهرة أتواجد في المنطقة ومعي حقيبة فيها المستلزمات الطبية الضرورية لمعالجة أي شخص بشكل إسعافي سريع على أن يتولى آخرون نقله فيما بعد إلى مشافي ميدانية أو نقاط طبية معدة لهذا الغرض إذا كانت إصابته بليغة".

هنا بدأ العمل يأخذ شكلا منظّما جدا، حيث أحدث "أبو عبدو" و رفاقه عدد من النقاط الطبية في المناطق الخلفية للمظاهرات، ينتظرون بها ريثما يقوم بها شباب التنسيقيات بسحب المتظاهرين إليها، حيث " استمرت هذه الفترة حتى الشهر السادس 2011. بعدها بدأنا ندرب صبايا ونساء على الإسعاف الأولي عبر دورات نجريها في البيوت الآمنة".

في هذه المرحلة بدأ عدد الأطباء المنخرطين بالنشاط الميداني يتزايد فقام الشباب بتوسيع العمل الذي كان يتزامن مع توسّع رقعات التظاهر في كل من الزبداني وريف دمشق ودمشق ليبدأ العمل يتوسع بالتعاون مع مستودعات الأدوية والفنيين والخبراء ومهندسي الأجهزة الطبية، في سعي من قبل الناشطين الطبيين لتأمين كل حاجات الانتفاضة طبيا بما يساهم في تعزيز صمود الانتفاضة بوجه القتل والموت، حيث ولد هنا "اتحاد الأطباء الأحرار" الذي سعى لمأسسة هذا العمل وتنظيمه عبر إجراء الدورات للمزيد من الناشطين في المناطق الريفية البعيدة وفي المدينة، " وقد دربت العديدين في هذه الدورات بصفة شخصية ولست بوصفي عضوا في الاتحاد".

ملصق يطالب السلطات بإطلاق سراح الأطباء المعتقلين. المصدر: اتحاد أطباء سوريا الأحرار
ملصق يطالب السلطات بإطلاق سراح الأطباء المعتقلين. المصدر: اتحاد أطباء سوريا الأحرار

مسيرة الأطباء في الثورة لم تكن خالية من المشاكل والصعوبات التي تجلى أبرزها بالاعتقال والقتل و "المتسلقين على الثورة الذين سرقوا الكثير على حساب المشافي الميدانية، إضافة للأجندة التي تفرض على الكادر الطبي مثل العمل لجهة ما أو وضع ميزانيات وهمية، و استحداث نقاط طبية في أماكن لا حاجة لها في حين ثمة نقص في الأماكن الأساسية، وتجيير العمل لصالح الترويج الإعلامي، والاختراق الأمني. عدا عن فصل الأطباء من العمل وعدم احتوائهم في كوادر المعارضة الطبية بسبب انتماءات طائفية وسياسية".

"أبو عبدو" الذي غادر اليوم العمل الميداني بسبب هذه الأمراض لازال ينشط في العمل الإغاثي ومساعدة الناس ما أمكن، دون أن ينسى انتماءه للناس والمشاهد المؤلمة التي لا تزال تستوطن ذاكرته، فلا " يمكن أن أنسى يوم كان الضابط يقف فوق رأسي حيث كلفت بفرز المرضى بين من يحوّل للإسعاف ومن يحوّل للعناية المشددة، وحين كنت أقرر أن مصابا ما يذهب للعناية كان الضابط يأمرني بإرساله إلى البراد، علما أنه لا زال على قيد الحياة، وللمفارقة أن المصاب هو من جنود النظام وليس المعارضة، وتكرر الأمر مرتين لأعترض بعدها ويتم إبعادي بشكل نهائي عن المكان ولكن بقيت في المشفى ولا أزال... إذ كيف أنسى وجوههم أو كيف أنسى يوم شاركت في تشييع أحد الأطفال القتلى في الميدان حيث كانت المظاهرة ضخمة جدا ... كان حدثا لا ينسى بحق".

يحلم اليوم "أبو عبدو" بأن تعود الثورة سلمية كما كانت، لأن العسكرة أثبتت فشلها والسلمية تعيد النفس المدني للثورة". وعما إذا كان هذا ممكنا بعد كل شيء يقول:"نعم ممكن لأن الثورة مستمرة وحين تتوقف الحرب والمعارك لن يقف الناس مكتوفي الأيدي بل سيستمرون في المطالبة بحقوقهم. بعد هذا الثمن الكبير لن يرضى الناس بأقل من الحد الأدنى من الحقوق: الحرية، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، لأن الشعب السوري عارف طريقو".

حكاية أبو عبدو تسلط الضوء على حكاية المشافي الميدانية و نضال الأطباء في الانتفاضة. هذا النضال الذي لولاه "لكانت تأثرت الانتفاضة سلبا حيث ساهم هذا الكادر بدعم صمود الناس وإصرارهم على التظاهر، إضافة إلى قدرته كون أغلبه يحمل وعي مدني ومستوى تعليمي ما على التأثير إلى حد ما في قرارات التنسيقيات ومنعها من الانحراف الطائفي في كثير من الحوادث من خلال الضغط عليهم، بالإضافة إلى الجانب التوثيقي الهام".

مقالات متعلقة

الميلانكوليا السورية

25 نيسان 2019
تغيّرت في السنوات الأخيرة بشكل كبير علاقة السوريين مع الطبيب النفسي، فبعد أن كان من الصعب المجاهرة بالأمراض النفسية في مجتمع لم يكن يملك أدنى درجات الوعي حول الموضوع، ويصنّف...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد