سوريا الملونة بلُغاتها، ليست مُمكن فقط، بل واجبة (1)


10 أيار 2016

رستم محمود

كاتب وباحث سوري، ينشر في عدد من الصحف منها الحياة والمستقبل، وله عدد من الأبحاث، منها: "البنية المذهبية: الأحزاب السياسية الإقليمية والحدث السوري"، و "إدارة التنوع: المسألة الكردية السورية".

بالنسبة لي، فإن التساؤل عن مُستقبل التعددية الثقافية/اللُغوية في سوريا بصيغة " هل يمكن لسوريا أنا تكون مُتعددة اللغات؟ (عربية آشورية كردية أرمنية ...الخ). بالنسبة لي، يبدو وكأنه يستبطن بُعداً سُلطوياً. لأنه من جهة لا يضمر الإقرار الجوهري بطبيعة الكيان والمُجتمع السوري، كونه كياناُ مُركباً ومُجتمعاً بالغ التنوع، ومن جهة أخرى فأنه تساؤل يفترض وجود إجابة ما تنفي هذه الإمكانية لأسباب ما، وبذا إمكانية توفر عاملٍ ما، يُلغي هذا الحق الجوهري المُطلق في المواطنية.

بالنسبة لي أيضاً، فإن التساؤل الأكثر "عدالة" وجوهرية في هذا المقام، هو التساؤل المُركب من ثلاثة مستويات في هذا الاتجاه: لماذا لم تغدو سوريا دولة مُتعدة اللُغات حتى الآن؟؟، وكيف يُمكن تجاوز ذلك الإرث الثقيل من "الواحدية اللُغوية الثقافية"؟؟، وما هي الضمانات الدستورية والقانونية والسياسية لتمتين وحفظ التعددية الثقافية السورية مُستقبلاً.

إذا كانت الإجابة على السؤال الأول سهلة بشكلٍ نسبي، كالتعليل بالاستبداد السياسي ومركزية وهيمنة الجماعة الأهلية العربية والتيارات القومية العربية على السُلطة السياسية والرمزية في البِلاد مُنذ عقود. وكذلك الإجابة على السؤال الثاني، عبر افتراض تعامل الدولة مع هذه اللغات السورية غير العربية بسياسات لغوية تميزية إيجابياً، لتنميتها ونشرها وإعادة خلق التعامل المعرفي والإعلامي والتداولي بها، لتجاوز عقود التميز السلبي التي طالها.

على أن القسم الثالث من السؤال يتطلب من السوريين عموماً، وبالذات منهم السياسيين والتشريعيين وقادة الرأي، يتطلب منهم الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا الإطار، أقصد الدول الديمقراطية التي اتبعت سياسات من الديمقراطية الثقافية المُعتمدة على التعددية والقبول بثقافات ولُغات أكثر الجماعات الأهلية صغراً، حتى منها الجماعات المُهاجرة حديثاً، والتي شكلت تجمعاتٍ سُكانية في بعض أحياء المُدن. حيث الجوامع المُشتركة بينها تنقسم إلى أربعة توجهات متكاملة:

أولاً: الإقرار الدستوري الواضح بتعددية الكيان، من حيث الجهويات الجُغرافية والتنوع المُجتمعي، وتجاوز حالة "الفزع" من أن ذلك الاعتراف الدستور قد يجر تبعات غير حميدة على الانقسام المُجتمعي أو الوحدة الجغرافية للبِلاد. فالاعتراف وكشف الهويات الأهلية المحلية هو ما يضمن ضبطها في المجال الثقافي والمُجتمعي والسياسي النسبي، بينما نكرانها وقمعها يحولها إلى صيغة الهوية العقائدية، التي تُعمق بالتقادم الشرخ المُجتمعي وانقسامه إلى "شعوبٍ" داخلية، تعيش قطيعة وجدانية وثقافية فيما بينها، أو حسبما يُسميهم أحد المُفكرين الأتراك بـ"الشعوب السرية" التي تنتظر لحظة ضعف النِظام الحاكم، لتظهر بشكل عنيف.

ثانياً: وضع آليات دستورية تمنع أية أغلبية سياسية مُستندة على أغلبية أهلية، تمنعها من كسر هذه التعددية الثقافية اللغوية، عبر تشريع قوانين مُنافية لذلك الحق الدستوري المُطلق. ثمة تجارب لعديد الدول في ذلك المجال، حيث تشكل التجارب السويسرية والمقدونية والإيرلندية والكثير غيرها نماذج عن ذلك. وهي بعمومها تتبع آليات بسيطة في حفظ ذلك، كأن يُقر بند ما فوق دستوري يُجبر كُل القوانين والتشريعات التي تخص الثقافة واللغات وهوية المؤسسات الوطنية، يُجبرها على أن تحصل على موافقة مجلس الشيوخ، وأن تكون هذه الموافقة قائمة على الإجماع وليس الأغلبية، وحيث أن مجلس الشيوخ من المُفترض أن يُمثل كُل الحساسيات الأهلية الوطنية. أو مثلاً أن تكون التعددية الثقافية واللغوية جزء من مُقدمة الدستور ومن تعريف الكيان، وبذا لا يُمكن تغيرها دون تغيير الدستور نفسه بشكل كامل ...الخ من الآليات البسيطة لحفظ ذلك، فيما لو توفرت الإرادة السياسية لذلك.

ثالثاً: أن تلتزم المؤسسات العامة التابعة للدولة والقِطاع العام، أن تلتزم بذلك الإقرار الدستوري، وألا تستطيع كُل الحكومات والأحزاب الحاكمة من تجاوز ذلك الواجب الدستوري في هويات المؤسسات العامة. المقصود بالمؤسسات العامة هي تلك التي تسعى الدولة بوعي عبرها تشكيل الهوية الجمعية للمواطنية ورأيهم العام. بالذات منها المؤسسات الإعلامية والتربوية، وبالدرجة نفسها القضائية والبيروقراطية. فالتربوية مثلاً يجب أن تكون مناهجها بلُغات الأكثرية السُكانية في المناطق التي تُشكل فيها جماعة أهلية ما تلك الأغلبية، مع مُراعاة أن تكون العربية أيضاً مُدرّسة في جميع المؤسسات التربوية في البِلاد، باعتبارها لُغة الأغلبية السُكانية الواضحة. والمؤسسات الإعلامية يجب أن تؤسس وتُنتج برامج ثقافية تُغني هذه اللُغات، وأن يكون واجب عليها أن تكون مؤسسات خاصة بلُغات الطيف الثقافي السوري وأن تبث بتلك اللغات ... الخ. بنفس الدرجة أن تقبل المؤسسات البيروقراطية الأوراق الرسمية بكُل اللغات السورية الأهلية، وأن تخلق آليات ليتم إنجاز المُعاملات بكُل اللغات. طبعاً كُل ذلك لا يُستطاع أن يُنجز بدون خِطاب وقبولٍ عام من قِبل مؤسسات الدولة ونُخب الحُكم، يعتبر ذلك إغناء لسوريا وهويتها ومعناها الحضاري.

رابعاً: أن يكون هُناك تشريعات وأعراف تُجرم أي فعل أو كِتابة أو تحريض مُضاد لذلك، أن تعتبره تحريضاً وشكلاً من أشكال العنصرية. حيث أن تثبت ذلك في العالم العُرفي للمواطنية أبلغ أثراً من وجوده في الحيز القانوني التشريعي.

***

حين الأخذ بالمعايير والآليات السابقة تلك، فإنه لن يبقى عملياً أي معنى وتأثير سلطوي لما يُسمى بـ"اللغة الرسمية"، وهو إصلاح تتبناه بشكل قانوني وتشريعي غير عُرفي فقط الأنظمة شديدة الأدلجة، ففي الكثير من البُلدان الديمقراطية يغدو مفهوم "اللغة الرسمية" مُجرد عُرف يؤخذ به فحسب.

بلغة أكثر وضوحاً ومُباشرة، لنفكر بسورية على مستويين من علاقة المؤسسات العامة التابعة للدولة مع اللغات الوطنية كُلها، مستوى علاقة مؤسسات الدولة المركزية، ومستوى تعامل مؤسسات في الجهويات التي يُشكل فيها طيف اجتماعي/لغوي سوري أغلبية سُكانية واضحة.

في المستوى الأول، مثلاً أن يُقر بأن جميع أعضاء البرلمان والحكومة السورية يحق لهم التعبير بلُغاتهم الأهلية أيا كانت، وهي في الحيز السوري لا تتجاوز أربعة أو خمسة لُغات، وأن يكون ثمة على دوام آلية تُترجم تلك الأحاديث البرلمانية لباقي البرلمانيين وأعضاء الحكومة. بنفس المستوى أن يكون ثمة منشورات بكُل اللغات الوطنية لما يصدر عن البرلمان والحكومة من قرارات وتشريعات. وكذلك باقي الكتابات والرموز التي تخص الدولة السورية بحيزها المركزي. فمثلاً ما الذي يمنع أن يتضمن النشيد الوطني السوري مُستقبلاً بيتاً شعرياً باللُغة الكُردية وآخر بالسريانية ...الخ، وأن تُكتب لوحات واجهات المؤسسات بأكثر من لغة سوريا، فمثلاً في منطقة يبدو واضحاً بأن التُركمان يشكلون فيها حضوراً سُكانياً، فما المانع من أن تكون أسماء المؤسسات ولوحات الإرشادات باللغتين العربية والتُركمانية!!. وهكذا على الكثير من مستويات التعاطي المُركبة والسلِسة مع هذه القضية.

في المستوى الآخر، فإنه يتطلب من أجهزة الدولة، خصوصاً البيروقراطية والتربوية، أن تكون واعية لطبيعة التركيبة السُكانية في المنطقة التي تتواجد بها، وأن تكون ثمة آلية مرنة لتحديد المؤسسات التي تتعامل مع جميع اللغات المحلية وكأنها لغات رسمية، وأن يكون أمرُ تحديد ذلك عائدٍ لمجالس المُدن والمُحافظات، بشكلٍ يؤمن الإجماع والتوافق. مثلاً أن تكون جميع المدارس في المناطق ذات الأغلبية السُكانية الكُردية باللغة الكردية، مع تدريس ساعات أسبوعية للغة العربية كلغة وطنية ثانية وإجبارية، وكذلك في المناطق السريانية والأرمنية والتُركمانية، أن يحدث ذلك وأن تبقى المناهج التربوية الوطنية موحدة على مستوى المضمون الذي يسعى لتأمين أكبر قدرٍ من "الألفة الوطنية"، حيث تكون مضامينها غنية بآلية تعارف السوريين على باقي الثقافات الوطنية.

ليس بعيداً عن تلك الرؤية، ما المُشكلة بأن تكون جميع الأوراق الرسمية في المناطق التي يُشكل فيها طيف اجتماعي سوري أغلبية واضحة، أن تكون مطبوعة بوجهين، واحد عربي وآخر بلُغة السُكان المحليين في تلك المنطقة، وأن تكون المؤسسات قابلة لاستقبال الأوراق بكُل تلك اللُغات، وأن يكون ثمة موظفين حكوميين من جميع أبناء الطيف هُناك، يستطيعون التعامل مع هؤلاء السُكان بطريقة مرنة، تؤمن خدمتهم بشكلٍ حيوي.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد