يذكّرنا ماركس بأنّ الصراعات الأساسية في المجتمع تتعلّق بالأملاك، إذ يعتبر أنّ الأملاك لا تقتصر على مجرّد تملّك الأمور، ولكنها علاقة اجتماعية بالاقتصاد السياسي لحقبة معينة. شكّلت طريقة إعادة تنظيم الدولة السورية لملكية الأراضي عنصراً أساسياً على الرغم من تجاهلها في الحرب. في الاتجاه نفسه الذي عناه ماركس، أعتقد أنّ إعادة الهيكلة المنظمة للأملاك محاولة من الدولة لإعادة ترتيب نظامها الاجتماعي. يستغنم النظام الفرصة السانحة بسبب فوضى الحرب ويتّبع "عامل الصدمة"، بحيث يصبح من الممكن إعادة التوزيع الجذري للأراضي والثروات التي تخفي إعادة توزيع للسلطة في البلاد.
تبعاً لهذا التسلسل في الحجج، نضطرّ إلى إعادة النظر في رأينا بعملية صنع السلام وإعادة الإعمار بعد الحرب. بات الأشخاص الذين تركوا منازلهم قسراً نازحين داخلياً ولاجئين وطالبي لجوء، وفق المصطلحات التقنية في مجال تقديم المساعدات وفي نقاشات السياسة الغربية.
بالنسبة للأشخاص المعنيين، يحدّد وضع أملاكهم الخاصة دائماً ظرفهم الراهن والمستقبلي. لا تتعلّق عودتهم إلى سوريا فقط بالاستقرار السياسي، فتماماً ككلّ شخص اضطُرّ إلى ترك منزله وشركته وعلاقاته خلفاً، يدركون أنّ العودة ستعتمد على إعادة ترتيب حالة أملاكهم. هل سيتمكّنون من استكمال أعمالهم؟ هل ستسمح الدولة بذلك؟ هل لا يزال منزلهم موجوداً؟ هل يعيش أحد آخر فيه؟ إذا لم يعُد موجوداً، هل يمكنهم بناء بيت جديد على قطعة الأرض؟
إلى حين نجاح إعادة دمجهم سياسياً واجتماعياً، يبقى ملايين النازحين السوريين، بحكم الأمر الواقع، محرومين من أملاكهم على مستوى يجب أخذه بعين الاعتبار إذا أردنا فهم ديناميكيات تسوية النزاع والنظام الاجتماعي الناشئ بعد الحرب. في هذا المقال، سأراجع بعض النقاط الجدلية حول قانون رقم 10 السيء السمعة الذي مررته الحكومة السورية في أبريل/ نيسان 2018، وسأركّز على ديناميكياته والتداعيات المحتملة التي على صانعي السياسة الغربية التفكير فيها حالاً واعتبارها أولوية على جدول أعمالهم المتعلق بمستقبل سوريا.
ملكية الأراضي في سوريا
بحسب أرقام ما قبل النزاع لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، إنّ 38 بالمئة من الأراضي السورية خاصة الملكية بينما 62 بالمئة منها ملك عام. قبل 2011، كان ثلث سكان المدن في سوريا يعيشون في منشآت شبه حضرية نطلق عليها أحياناً اسم عشوائيات. ظهرت هذه الأحياء إثر حركة النزوح من الأرياف على مرّ العقود. تضاعف عدد سكان سوريا على مدى السنوات الـ25 الماضية، مسجلاً تفاوتاً غالباً في مدنها الرئيسية.
إنها صفحة بيضاء يكتب عليها المنتصر نظاماً اجتماعياً جديداً، يشمل نظام ملكية جديد يملي إطار إعادة البناء والاندماج في الاقتصاد والحياة في سوريا بعد الحرب
وسّع هذا النمو البنية التحتية الحضّرية المحدودة لسوريا وأرغم المجتمعات التي كانت تعيش في الريف على الاستقرار في الضواحي مثل حمورية وحرستا وسقبا. باتت الكثير من هذه المناطق مراكز رمزية للثورة ودمّرها النظام وحلفاؤه لاحقاً في حملات القصف الجوي. في هذه المناطق، كانت ملكية المنازل والشركات منظمة إجمالاً بشكل غير رسمي. كذلك في الريف، كان وضع الملكية يعتمد على عادات تغني عن الحاجة إلى دليل ورقي ملحوظ. كان المزارعون ينظمون تأجير وشراء الأراضي من خلال العلاقات الأُسرية الممتدة.
في حال وقوع خلاف على الأراضي، يتدخّل مشايخ العشائر المحلية وأرباب العائلات، وتصدر المحاكم والبلديات حكمها الرسمي، لحلّ النزاع. فعلياً، في سوريا، حصر مالكو العقارات الخاصة والعامة إمكانية الوصول إلى الأراضي في عدّة وسائل، استناداً إلى أنظمة وممارسات قانونية متداخلة، رسمية حيناً وغير رسمية أحياناً. يصعب إعادة بناء مثل هذه الأنظمة المعقدة وغير الرسمية. في الواقع، إنّ إعادة البناء عملية تقوّي الاقتصاد السياسي الذي يمتّن أُسس النظام الموجود في معظم الأحيان، أي في هذه الحالة النظام السوري وأصدقاؤه.
في خضم الحرب، أدّت الحملات العسكرية العنيفة وموجات نقل السكان الواسعة النطاق إلى إعادة ترتيب نظام ملكية الأراضي المتزعزع أصلاً. قبل الحرب، سجّلت الدولة 20 بالمئة فقط من أراضيها التي ضمّت مزارع الدولة والأراضي الزراعية المؤجرة والمساحات العامة مثل الغابات والمراعي. استُعمل جزء كبير من هذه الأراضي لدواعٍ خاصة مثل الزراعة. مع محاصرة النزاع للريف، اضطُرّ الكثير من السكان والشراة والمستأجرين بشكل غير رسمي إلى التخلي عن مصدر رزقهم.
كانت الدولة السورية قد بدأت قبل الحرب بفترة وجيزة بحفظ سجلات رقمية للمعاملات، ما زاد الأمور تعقيداً. أُتلفت العديد من سجلات العقارات الورقية خلال النزاع. نتيجة لذلك، تبعثرت الكثير من سجلات العقارات للأراضي التي تملكها الدولة أو ضاعت كلياً أو باتت غير موثوقة. بالتالي، نجد تفاوتاً صارخاً بين مالكي العقارات من المناطق الحضرية وشبه الحضرية والريفية، ما يجعل الفئتين الأخيرتين أقلّ حظوة.
صفحة بيضاء لنظام اجتماعي جديد
مع الطرد الجماعي وتدمير أحياء كاملة، بالإضافة إلى الوضع غير المستقرّ للأملاك، عادت سوريا إلى ما يشبه نقطة الصفر. إنها صفحة بيضاء يكتب عليها المنتصر (أي الحكومة السورية على الأرجح) نظاماً اجتماعياً جديداً، يشمل نظام ملكية جديد يملي إطار إعادة البناء والاندماج في الاقتصاد والحياة في سوريا بعد الحرب. ستعتمد إعادة دمج السوريين في الخارج على إمكانية وصولهم إلى الموارد وشبكات التواصل. تدرك الدولة السورية ذلك وتبذل ما بوسعها لتكون الحَكم في أي عملية إعادة دمج. أعتقد أنّ هذا السياق المناسب لفهم قانون رقم 10.
تتسارع جهود إعادة صياغة النظام الاجتماعي منذ بداية الحرب. مرّرت حكومة بشار الأسد منذ 2011 مجموعة قوانين قوّضت وضع النازحين ومنعت الكثيرين منهم من المطالبة بملكية أراضٍ كانت لهم. استعملت الحكومة اتهامات إرهاب لمصادرة أملاك النازحين واستملكت مساحات شاسعة لمنحها لمناصريها السياسيين. لجأت الميليشيات المعارضة للنظام في الأراضي الخاضعة لسيطرتها إلى تكتيكات مشابهة.
بالإجمال، تعكس هذه الإجراءات ما يسميه بعض علماء الاجتماع بـ"حرب القانون"، أي استغلال الأنظمة القضائية لتحقيق غايات سياسية أو عسكرية إستراتيجية.
القانون رقم 10 امتداد لمرسوم تشريعي مُرّر عام 2012 (المرسوم 66) وكان ينطبق على دمشق، فبات يشمل كامل البلاد. شرّع المرسوم 66 هدم حي بساتين الرازي ومناطق أخرى في العاصمة، بعد أن استرجعتها الحكومة من المعارضة (استناداً إلى المرسوم 63 الذي سمح لوزارة المالية بمصادرة أملاك الناس الذين أُدينوا بموجب قانون مكافحة الإرهاب لعام 2012) وحددتها كمناطق تنظيمية.
في ديسمبر/ كانون الأول 2016، أعادت بلدية دمشق توزيع ملكية بساتين الرازي ضمن شركة دمشق الشام القابضة بقيمة 279 مليون دولار لإعادة الإعمار. يملك سكان سابقون أسهماً، ولكن خسر معظمهم حقوق الملكية. تضمّ المساكن الجديدة التي تُبنى حالياً شققاً كبيرة تستهدف المستأجرين من الطبقة الوسطى العليا. عاقب المرسوم 66 فعلياً المقيمين في الحي الذي استعاد النظام السيطرة عليه، ومعظمهم من المسلمين السنة، لارتباطهم بالثورة.
تفاصيل تطبيق قانون الحرب في القانون رقم 10
دمّرت الحرب حوالي ثلث المساكن والبنى التحتية في سوريا ما قبل الحرب، وستكلّف عملية إعادة إعمار ما هُدّم 226 مليار دولار، بحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2017. كما أنّ إعادة الإعمار شرط أساسي لعودة النازحين. قالت الحكومة إنّ القانون رقم 10 سيسهّل العملية عبر تنظيم الأحياء العشوائية وتطويرها وتمكين الحكومة من تولي الإجراءات اللازمة لنزع الملكية وتقديم تعويضات عادلة للمتضرّرين. لكن، كما أشار عدّة معلّقين على الشأن السوري في الأشهر الماضية، إنّ النظر عن كثب إلى تفاصيل تطبيق العملية ينذر بمشاكل محتملة.
حين تحدّد وزارة الإدارة المحلية منطقة تنظيمية، يخسر جميع المساهمين تلقائياً الملكية الحصرية ويفقدون القدرة على البيع أو البناء على تلك الأرض (على الرغم من أنهم يستطيعون استخدام المبنى إلى حين بدء الهدم). يمكنهم أن يصبحوا مالكين ضمن خطة ملكية جماعية. لتحقيق ذلك، عليهم تقديم طلب ملكية شخصياً، في غضون 30 يوماً من تصنيف المنطقة كمنطقة تنظيمية، على الرغم من أنّ وزير الخارجية وليد المعلم قال في 2 يونيو/ حزيران 2018 إنّ الحكومة مدّدت هذه المهلة إلى عام. لعلّ هذا التغيير نجم عن ضغط من المجموعات الحقوقية ومن الحكومة الألمانية، إذ اشتكى الطرفان من القانون.
ستعتمد إعادة دمج السوريين في الخارج على إمكانية وصولهم إلى الموارد وشبكات التواصل. تدرك الدولة السورية ذلك وتبذل ما بوسعها لتكون الحَكم في أي عملية إعادة دمج. هذا هو السياق المناسب لفهم قانون رقم 10
إذا لم يستطع المتقدّم بالطلب الحضور (كما هو حال اللاجئين)، يمكن لقريب لا حكم عليه أن يمثّله. قد تتمادى البلديات في تفسير هذا البند المبهم لاستثناء أي شخص مرتبط بالمعارضة. يستطيع المساهمون بيع حصتهم جزئياً أو بالكامل ضمن فترة عام واحد. بعدها، تحدّد لجنة سعر السهم استناداً إلى قيمة السوق. إذا اختار المساهمون لاحقاً عدم بيع سهمهم، يمكنهم التقدّم بطلب لمشروع مبنى مشترك على قطعة أرض معيّنة مع مساهمين آخرين. إذا لم يتمكّنوا من الحصول على رخصة للمبنى من البلدية في غضون أربعة أعوام، تبيع السلطات قطعة الأرض في المزاد العلني.
لكنّ الغريب، لا بل ما يثير الشك، هو مدى امتلاك السلطات المحلية المستنزفة للموارد البشرية والمادية لتنفيذ هذه الإجراءات التقنية والقانونية المعقدة. قد تختار السلطات أن تتجاوز العمليات القانونية، كما حصل في حماة مثلاً.
بحسب جريدة "سوريتنا" السورية الناشطة، ومقرها في لبنان وتركيا، استحوذت ميليشيات النظام على محاصيل زراعية في عدة قرى في شمال غرب حماة مثل الصفصافية والتريمسة عبر التذرع بالقانون رقم 10. بعد ذلك، أحضرت الميليشيات حصادين زراعيين اقتلعوا المحاصيل. قال الناشطون إنّ ميليشيات النظام أطلعت السكّان بنيتها أن تفرض القانون رقم 10، وأن تستملك من خلاله جميع الأراضي التي غاب عنها مالكوها لسبب أو لآخر، خصوصاً الذين هربوا من البلاد.
إذا تكرّر التذرّع بالقانون رقم 10 على نطاق أوسع، فأي شخص يفرط في الثقة بحكم القانون في سوريا سيشعر بالخداع أو سوء الاطلاع.
آليات الإقصاء البيروقراطية
إذا نظرنا عن كثب، نلاحظ أنّ في القانون عدة آليات إقصاء بيروقراطية يمكن أن تستخدمها السلطات لمصادرة الأملاك على نطاق واسع. أولاً، معظم سكان مناطق حماة وحمص وحلب ودمشق التي صنّفت لتكون تنظيمية بموجب القانون رقم 10 معارضون للحكومة واضطُروا إلى الهرب. بحسب تقارير حديثة، سيكون حي جوبر والقابون في دمشق أوّل منطقتين تخضعان للمخططات التنظيمية، علماً أنهما من معاقل الثورة.
يستعمل القانون طريقة أخرى أيضاً لإقصاء المالكين مثل شرطه بأن يحضر مقدّمو الطلب شخصياً. على الرغم من سماحه بتمثيلهم من أقاربهم، على الأرجح سيخاف الأقارب من أعمال انتقامية إذا تعاملوا مع الحكومة. يستوجب القانون رقم 10 من مقدّمي الطلب إبراز مستندات ملكية. كما ذكرنا، في كثير من المناطق شبه الحضرية، لا وجود لهذه المستندات أو أنها ضاعت في الخراب والفرار. أظهرت استفتاءات حديثة أنّ 17 بالمئة من اللاجئين السوريين في الخارج يملكون مستندات ملكية بحوزتهم، في حين 9 بالمئة من النازحين داخل سوريا فقط تمكّنوا من الاحتفاظ بسجلات أملاكهم.
في عام 2011، كانت الحكومة تنقل سندات الملكية من سجلاتها الورقية إلى النظام الإلكتروني، لكنّ الحرب أوقفت هذه العملية، فما كان من السلطات إلا أن اعتمدت على العقود الورقية وسجلات العقارات. الأرجح أنّ معظمها تدمّر، بالتالي، لا يحمل المالكون أي حق بالمطالبة.
يتخوّف سوريون كثيرون من أنّ القانون رقم 10 مجرّد أداة لمعاقبة مناصري المعارضة وتغيير الديموغرافيا السورية عبر إعادة إسكان داعمي الأسد من أنحاء مختلفة من البلاد في المناطق العربية السنية. يعتبر السوريون في الدنمارك وألمانيا والسويد الذين تناقشت معهم، أن القانون أداة جارحة تستعملها الدولة لمعاقبتهم. يقلقون على ممتلكات أهلهم وأصدقائهم، على الرغم من أنّ بعضهم ليس لديه أملاك في سوريا. عبّر الكثيرون عن تخوّفهم من هذه الهندسة الطائفية التي تضمّ أيضاً منح الميليشيات الشيعية الأجنبية مكافآت. تعكس هذه المخاوف تغيرات ديموغرافية على الأرض، بحيث أنّ بعض الأحياء والقرى مثل مضايا والزبداني في غرب دمشق شهدت دفقاً إيرانياً وسورياً شيعياً كبيراً.
حان الوقت للتحرّك
تبدو مخاوفهم في مكانها، إذ صنّفت الحكومة السورية مناطق في المدن الأربع الأكبر في البلاد كمناطق تنظيمية لإعادة إعمارها، بدءاً بجوبر والقابون، قد يشهد العام المقبل انطلاق حملة استيلاء على أملاك 6 ملايين سوري يعيشون في الخارج. ستكون العواقب وخيمة على احتمال عودة اللاجئين. في أسوأ الحالات، قد تؤدي إلى إقصائهم الدائم، فتصبح الدول المضيفة أمام خيار صعب بين ترك اللاجئين معلّقين بشكل دائم (كما الحال في تركيا ولبنان الأرجح) أو منحهم الجنسية، علماً أنّ هذا الاحتمال الأخير معقول في بلدان أوروبية ولكنه غير محبّذ سياسياً.
على الرغم من أنّ الأمم المتحدة ولاعبين دوليين آخرين يتفادون زيادة الطين بلّة، وسط تعقيدات المفاوضات الكثيرة أصلاً، قد تكون إضافة حقوق الملكية على محادثات السلام أساسية لتسهيل عودة اللاجئين. بما أنّ جميع تفاصيل القانون رقم 10 قد كُشفت، حان الوقت للمجتمع الدولي أن يتحرّك قبل تنفيذ نظام اجتماعي جديد يقصي مئات الآلاف، لا بل الملايين، من السوريين عن مكانهم الشرعي في بلادهم.