في مزرعة واسعة على طريق المطار تتوسطها فيلا حجرية مبتذلة الفخامة، جلس عشرات الأشخاص في انتظار موعدهم مع البصارة "أم تركي". كان تحصيل الموعد لأغلب القاصدين صعباً كتحصيل موعد من طبيب عصبية أو قلبية ذائع الصيت، وقلّة منهم من استطاعوا، محظوظين، تسجيل موعد بعد شهر من اتصالهم.
أم تركي، خمسينية مشعوذة ذائعة الصيت خاصة في الأوساط الريفية، حيث لا يزال الناس البسطاء يؤمنون بقصص الجن والوسطاء وضرب المندل لمعرفة الغيب. قد يكون الأمر متعلقاً بسرقة أو بخيانة زوجية أو بقتل أو بمعرفة نسب أو بهوية ضائعة، وكانت تنطلي عليهم حيل أم تركي التي تشبه حيل كل المشعوذين. كانت المزرعة مليئة بالتفاصيل الخبيثة والمرعبة.. ديوك مطلية بالقار، قطط سوداء، مجسمات من القش والأعواد في كل الزوايا، بعضها محترق وبعضها غرزت فيه دبابيس وأدوات حادة، أفاع وسحالي محنطة.
كل ذلك كان كفيلاً بأن تبتلع الأجواء أي شك أو محاكمة منطقية لدى الزائر وتتركه مع شعور عام بعدم الأمان. ثم كان هناك الشقّيعة، وهم أولاد صغار يسترقون السمع ونساء فضوليات يسألن عن سبب الزيارة ببراءة مصطنعة، لتصل المعلومات عن كل زائر إلى أم تركي، حتى تفاجئه بأنها تعرف سبب زيارته قبل أن يصرّح به، وبمجرد أن يصدّق قدراتها الخارقة ويؤمن بسرها الباتع، تتمكن أم تركي من التلاعب به كما تشاء، وتوجيه شكوكه في اتجاه وصرفها عن اتجاه آخر.
وهناك أيضاً سمات شخصية تتصف بها أم تركي، من قوام ضخم، وصوت أجش، وملامح جدية وقاسية، تجعل الواقف أمامها يتلعثم أمام ثقتها المصطنعة. كذلك كان الازدحام الكبير اليومي على باب بيتها يعطيها كثيراً من المصداقية ويجلب المزيد من الزبائن المشابهين. وكانت قصص النجاح التي حققتها أيضاً دافعاً للعديد من الناس الباحثين عن أجوبة. وفي حقيقة الأمر، في كثير من الأحيان لم يكن من الصعب على أم تركي معرفة الحقيقة. فقد كانت الحقيقة أحيانا تحت أنف السائل، لكنه لم يكن يجرؤ على الاعتراف بها، ولم يكن صعباً عليها أيضاً أن تكتشف أن الزائر أو من معه يكذبان، فهي تحترف الكذب منذ زمن طويل، ومن الصعب على الكاذب أن يخدع كاذباً محترفاً.
عندما اندلعت الأحداث في سوريا وقعت العرافة أم تركي في أزمة كبرى، فأغلب الزوار كانوا يسألون عن مفقود أو معتقل، وعلى الرغم من مهارات أم تركي في المناورة والخداع، إلا أنّ الأمر هنا مختلف تماماً، فعبارة أنّ الجن الأزرق لا يمكن أن يعلم أين يقبع المعتقل لم تأت من فراغ
كوّنت أم تركي ثروة طائلة من عملها، ثروة حمتها من السلطات وجنبتها السجن. بل كان لديها زبائن من الضباط والمسؤولين، الذين كانوا يتوجهون إليها من باب التسلية أحياناً ومن باب التصديق أحيانا أخرى. وكانت بين الفينة والأخرى طرفاً في مقلب أو مزحة سمجة، ففي إحدى المرات أتى إليها أحد الضباط وطلب منها أن تخبر ضابطاً صديقاً له بأنه سيموت من مرض عضال، وقد أدت هذه المزحة إلى صرف الضابط الآخر مبالغ طائلة على الفحوصات والتحاليل داخل وخارج البلاد، والتي أثبتت جميعها بأنه لا يشكو من شيء، إلا أن ذلك لم يقنعه حتى أخبره صديقه بأنّ كل ذلك كان مجرد ملقب. وفي اليوم التالي ذهب الضابط الضحية إلى منزل أم تركي وأطلق النار عليها في يدها ففقدت إصبعين. لكنها استثمرت هذا التشوه في قصة لفقتها حول أنّ جنياً قضم إصبعها، مقابل أن يدلها على قاتل طفل.
عندما اندلعت الأحداث في سوريا وقعت أم تركي في أزمة كبرى، فأغلب الزوار كانوا يسألون عن مفقود أو معتقل، وعلى الرغم من مهارات أم تركي في المناورة والخداع، إلا أنّ الأمر هنا مختلف تماماً، فعبارة أنّ الجن الأزرق لا يمكن أن يعلم أين يقبع المعتقل لم تأت من فراغ. تغيّر تكتيك أم تركي قليلاً، فأحياناً كانت تقول إن الجن متحالفون مع الأمن، ولا يتعاونون معها، وأحياناً كانت تقول للأم أو الأب أو الزوجة ما يريدون سماعه، وتعدهم بأخبار طيبة قريباً. وعندما اتضح بعد بعض الوقت أنّ الاخبار السيئة كانت مرجحة على الأخبار الطيبة في ما يخص المعتقلين، تغيّر مسلكها مرة أخرى وأصبحت تتنبأ بالأسوأ، في محاولة منها للمحافظة على سمعتها بين الزبائن. وفي الحقيقة لم يكن لمعرفتها أو عدم معرفتها للأجوبة أي تأثير على عملها، فقد استمر الزوار بالتوافد والانتظار والسؤال، وكانوا يدفعون ما كانت تطلبه، فالتعطش لأي خبر يعمي البصيرة. وأصبح لدى أم تركي زبائن من نوع جديد، أمهات وآباء مثقفون متعلمون لا يمكن أن تنطلي عليهم حيل الشعوذة، لكن اليأس والخوف على مصير من يحبون جعلهم مستعدين لدق كل الأبواب، حتى ولو كان في ذلك منافاة للعلم والمنطق.
كوّنت العرافة أم تركي ثروة طائلة من عملها، ثروة حمتها من السلطات وجنبتها السجن. بل كان لديها زبائن من الضباط والمسؤولين، الذين كانوا يتوجهون إليها من باب التسلية أحياناً ومن باب التصديق أحيانا أخرى
لم يكن تركي، ابن أم تركي، براغماتياً كأمه، كان وحيداً على خمسة بنات، معفياً من خدمة العلم الإلزامية، لكنه كان مندفعاً متسرّعاً سهل الاستثارة، عمره عشرون عاماً وقد خابت كل محاولاته ومحاولات أمه كي يحصل على شهادة الثانوية الصناعية. لم تستطع أم تركي أن تتنبأ لابنها بأسئلة الامتحان، كانت حالة فشل تركي الدراسي بحد ذاتها كافية لتكون دعاية سيئة لمقدرات أم تركي الغيبية لو كان في مقدور مريديها أن يشغّلوا عقولهم. تنقّل الشاب من تعلم مصلحة إلى أخرى. وعندما حمل أغلب أصدقائه في منطقة الكسوة في ريف دمشق السلاح ضد النظام عام 2013 انضم إليهم بلا تفكير، وكأنه ينضم إلى شلة تتشارك في لعبة قتالية على الكمبيوتر. أحرج ذلك أم تركي بشدّة مع معارفها وزبائنها من ذوي الارتباطات الأمنية، وأعلنت لهم ولمن حولها أنها تتبرأ من ابنها إلى يوم القيامة، وبأنها تطلب من الجن أن ينصروا الدولة على الخارجين عليها من المتمردين والارهابيين ولو كلف ذلك ابنها حياته.
لكنها سراً كانت تكتب التمائم وتطلق التعويذات وتطلب من الجن الذين تعرف تماماً أنهم محض أوهام أن يحموا ابنها المغفل الضال، لقد كانت هي أيضاً قلقة يائسة. وحاولت التواصل معه بشتى الوسائل، علّها تستطيع إقناعه بالانسحاب وأن تسافر وإياه إلى مكان ما بعيداً عن جن وإنس هذه البلاد. فما جمعته من مال كاف ليؤمن لها طريقاً وحياة رغيدة بعيداً عن هذا المكان.
لكن الجيش النظامي كان أسرع من الجن، فقد أسر تركي ومجموعة من أصدقائه في كمين كان وراءه أحد المخبرين في أواخر عام 2013، واختفى تركي من الوجود. لم تفد أم تركي، لا علاقاتها مع الأمن ولا مع وسطاء عالم الغيب في معرفة مصير ابنها. ولم يفدها المال الذي جمعته وأنقذها من الحبس مراراً وتكراراً في الكشف عن مكانه أو إخراجه من المعتقل، دفعت الملايين للسماسرة والمحتالين دون جدوى، وعلى الرغم من أنّها كانت شبه متأكدة من أنّهم كاذبون لم يمنعها ذلك من ملاحقة أي أمل في الوصول إلى تركي. نسيت أم تركي أنها كانت قد لعنت ابنها في العلن وتمنت له الموت أمام معارفها من الضباط والأمنيين، وباتت تترجى وتتوسل لكي يساعدها أحد منهم في معرفة أي شيء عنه. كانت أم تركي تتابع عملها بهدوء ودون أن يبدو عليها التأثر. كان لا بد لها أن تتماسك لكي تستمر في جمع المال الذي لا بد أنه سيلزمها لتحرير تركي عاجلا أم آجلا. وعندما كانت تتلقى سؤالاً عن تركي، كانت تقول إنها تعلم تماما أين هو، وإنه بخير وسيمضي الوقت اللازم له كي ينال عقابه ويتعلم الدرس.
وبعد سنة ونص (منتصف 2015)، اتصل أحدهم بأم تركي لتتسلم هوية ابنها الذي قضى في السجن. ذهبت أم تركي لاستلام الهوية. وعادت إلى مزرعتها، صرفت كل الزبائن، وأحرقت كل التمائم والسحالي والأفاعي المحنطة. رمت الديوك والقطط خارجاً، أقفلت باب الفيلا، تاركة بوابة المزرعة مفتوحة، وغادرت. ولم يرها أحد من أهل المنطقة بعد ذلك اليوم.