في عام 2016، وصلتُ إلى إيطاليا وحصلت على اللجوء السياسي فيها قادماً من لبنان، عبر إحدى المنظمات التابعة لاتحاد الكنائس الإنجيلية. كنتُ وزوجتي ضمن مجموعة من السوريين الذين تعددت أسباب أو عدم أسباب لجوئهم. ثمة لاجئون مطلوبون أمنياً لنظام الأسد، ولاجئون فقدوا بيوتهم ببراميله، ولاجئون معارضون وموالون اضطهدتهم الفصائل الإسلامية المعارضة وهجرتهم من أراضيهم، وآخرون يبحثون عن حياة أفضل، وآخرون هم "سيّاح" في زي لاجئين.
بَلَدان اسمهما "سوريا"
بعد وصولي بحوالي عام تقريباً، دعتني تلك المنظمة إلى أمسية للنقاش مع إيطاليين يُفترض أنهم مهتمون بالشأن السوري وبقضايا اللاجئين، ولكي أتحدث عن تجربتي السياسية والمهنية قبل وبعد الخروج من سوريا.
حدّثتهم عن قصتي بالتفصيل، كصحافي وناشط سياسي ضد النظام السوري قبل الثورة السورية وبعدها، وبما أوتيت آنئذٍ من لغة إيطالية (تطورت لغتي الإيطالية بشكل أكبر لاحقاً). تكلمت عن سوريا أمام جمهور يعرف بعضه طبيعة الصراع وتفاصيل عنه وعن ماذا أتكلم بالضبط، ولا يعرف بعضه الآخر عن سوريا إلا اسمها وآثار تدمر (وليس سجن تدمر)، وآخرون ربما يعرفون أن سوريا تشتهر بالفلافل والحمّص وبمأكولات شرقية أخرى أحبها إيطاليون وأوربيون، و...
كان انفرادي بالحديث مستفزاً، بطبيعة الحال، لسوريين موالين للأسد، يعرفونني ويعرفون موقفي. طلب أحد هؤلاء الإذن بالحديث ليقول: "اسمي ميشال، أنا مسيحي سوري، سوريا مهد الحضارات، والرئيس كتير منيح". احتاجَ ميشال إلى مترجِمة لبنانية كانت موجودة يومها بالصدفة لتترجم كلماته الأخيرة التي تعبر عن "مَلَاحة" و"جودة" رئيسه، قائلةً للحضور: " il presidente è molto bene".
إذا كان الصراع السوري قد تحول في جزء منه إلى صراع هويات ما قبل وطنية، فإن دوائر غربية وشرائح من المجتمعات الغربية تنظر إلى اللاجئ نظرة الآتي من الشرق السحري، المليء بالألغاز والعجائب
صفق البعض لميشال، ربما لأن كلامه كان يصب في خانة ما يريدون سماعه عن سوريا، خصوصاً أنّ كلامه تضمن إشارات ثلاث يحتفل بها أوربيون كثر كما يحتفل بها بشار الأسد الذي يسوّق نفسه ويسوق له حلفائه وداعموه ومؤيدوه باعتباره "حامي الأقليات". ميشال، ومسيحي شرقي! هذا كلام له وقعه في نفوس بعض الغربيين، وهم يغتبطون به كطفل عثر على هدية بابا نويل في المدخنة. كلام حاول قائله التمهيد من خلاله إلى الخلاصة الاستسهالية والنتيجة المرعبة: " il presidente è molto bene"، كما حاول أن يُظهر تميزاً مفترضاً عبر كلامه القصير والمفكك، مبرزاً مسيحيتَه التي يشهد عليها اسمه انطلاقاً من أنّ "الجمهور عاوز كده"، ومتحدثاً أمام عينة من إيطاليين وأوربيين يرتاح بعضهم، في تلك الأمسية وخارجها، إلى سردية "الإرهاب الذي يهدد النظام العلماني في سوريا"، وإلى اعتبار أن الصراع السوري هو "صراع هويات" و"نزاع يستهدف الأقليات" منذ بداياته. وهو ليس بالشخص الذي لا يعرف من أين تؤكل الكتف، خصوصاً أنه كان يفتخر ويتباهى، بعد وصوله إلى إيطاليا كلاجئ، أنه كان على علاقة صداقة مع عناصر في مخابرات النظام السوري.
تذكرت يومها أنني كنت أنا نفسي "مميزاً" عن غيري أيضاً ذات يوم لأنني انتميت، بالولادة، إلى أقلية في سوريا هي الطائفة الإسماعيلية، إلا أن ذلك "التميز" جاء في سياق مختلف تماماً.
ففي مساء 9 أيار 2011 وبعد بداية الثورة السورية بأقل من شهرين، وبعد انتقال التظاهرات إلى مدينتي، السلَمية، اقتادنا باص كبير تابع للمخابرات السورية إلى "فرع الأمن العسكري" في مدينة حماه للتحقيق معنا على اعتبار أننا كنا من منسقي المظاهرات ومن "المحرضين" عليها. أقام كل منا في زنزانة انفرادية مع معتقل من حماه أو ريفها. كنتُ في زنزانة واحدة مع شخص من قرية كفرنبودة في ريف حماه، وهو اعتُقل أيضاً بنفس التهمة التي اعتقلت أنا بسببها، أي: التظاهر والتحريض على التظاهر. مع ذلك، لم تكن الخرائط المرسومة على جسمه ووجهه جرّاء التعذيب توحي بأننا نحظى بتهمة واحدة، ذلك أنني لم أتعرض، وأي من أبناء مدينتي إلى الضرب والتعذيب أبداً يومها. كانت الثورة في بداياتها، وكانت رواية النظام عن "المؤامرة السلفية" و"الوهابية" و"الإرهابيين" تستدعي منه أن لا يضطهد ويسحق "أبناء الأقليات" في تلك الفترة ، كما كان يفعل بغيرهم.
بصراحة، لا أعرف ما كان سيكون عليه الحال مع المحققين لو عرفوا أنني ملحد وبأنني لا أعرّف نفسي بأي دين وطائفة ولا أعتبر نفسي "اسماعيلياً" تبعاً لـ "انتماء" اجتماعي وعائلي بالولادة، وأن لا مشكلة عندي مع أي مؤمن بسبب إيمانه، سواء كان مسيحياً أم مسلماً أم غير ذلك، وأنّ مشكلتنا ومواجهتنا كانت مع هؤلاء الجلادين ومع رئيسهم "الكتير منيح" بحسب اللاجئ السياسي في إيطاليا آنف الذكر: ميشال.
الرقصة اللولبية للهوية
مسألة الهوية في المنفى، أي في بلدان اللجوء، تبدو من أكثر المسائل والمعضلات السياسية والاجتماعية التي تواجه اللاجئ السوري. وإذا كان الصراع السوري قد تحول في جزء منه إلى صراع هويات ما قبل وطنية، سواءً أعلنت تلك الهويات عن نفسها عبر المجازر الطائفية التي ارتكبها النظام والإسلاميون، أو بشكل مقنّع وخلف ستار وبروباغندا "الوحدة الوطنية لسائر مكونات الشعب السوري"، فإن دوائر غربية وشرائح من المجتمعات الغربية تنظر إلى اللاجئ نظرة الآتي من الشرق السحري، المليء بالألغاز والعجائب. حتى موالو الأسد من اللاجئين السوريين يتم النظر إليهم نظرة هوياتية محضة، خاصة أنهم لا يتوانون عن تقديم أنفسهم من هذه الزاوية فقط.
لم يقدم لاجئون سوريون كثيرون منحازون إلى الثورة السورية خطاباً مقنعاً يخاطب دوائر وتيارات غربية مناهضة للاستبداد في سوريا، ولم يتضامنوا مع ناشطين غربيين دفعوا أثماناً لأجل سوريا ولأجل قضايا الحريات في العالم العربي.
لكن من قال هؤلاء هم فقط من يبتعثون الهوية الأولى؟ يمكنك أن تجد سورياً معارضاً للنظام يعيش في إيطاليا وتقدَّم له المساعدات والمعونات من منظمات كنسية، ويقول في أوساطه الضيقة: "إيطاليا جميلة، لكن كانت ستكون أجمل لو كان سكانها مسلمون". هذا الشخص ليس "الجميع" طبعاً، لكنه ليس الوحيد. هكذا، وفي مقابل نظرة إلى الشرق من زاوية الهوية الدينية أو الإثنية، ثمة نظرة أخرى تجاه الغرب من نفس الزاوية.
كنائس سورية ومشرقية كثيرة لعبت على هذا الوتر، وأعلنت اصطفافها مع بشار الأسد منذ اندلاع الثورة وحتى هذه اللحظة التي تعيش فيها البلاد في قعر الحرب الأهلية المدمرة. كانت الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى تستطيع أن تدعي الحقيقة المطلقة عبر نقض نظرية كوبرنيكوس القائلة بدوران الأرض حول الشمس، وتقوم بملاحقة ومحاكمة وقتل كل من لا يقول بأن الأرض مسطحة. تستمر الحكاية اليوم في سوريا بين الدوران والتسطيح وادعاء المعرفة. والتسطيح هنا هو تسطيح العقول والاستخفاف بكل منطق غير تعميمي، موضوعي، يتناول السياسة والثقافة والتاريخ، ويركن إلى علم الاجتماع السياسي الذي ندرسه في جامعات القارة العجوز اليوم.
في 14 نيسان 2018 وبعد مجزرة دوما التي ارتكبها النظام بالسلاح الكيماوي، صدر بيان باسم بطريركيات أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس والروم الملكيين الكاثوليك والسريان الأرثوذوكس، وهو بيان يثابر على الدفاع عن بشار الأسد وتلميع صورته وإنكار المجزرة التي وقعت. بعدها، حصل اجتماع بين بابا الفاتيكان ورجال دين مسيحيين موالين لبشار الأسد في مدينة باري في جنوب إيطاليا، وجاء هؤلاء البطاركة السوريون واللبنانيون صفاً واحداً للدفاع عن الأسد. رئيس أساقفة حلب للروم، كليمان جانبار، قال "النظام شيء، والأرض شيء آخر"، معتبراً أن نظام بشار الأسد "يتميز بتفضيله العلمانية والتعددية والمساواة بين كل المواطنين"، ومحذراً من أن "البديل الوحيد هو نظام إسلامي متطرف، فالبلاد غير جاهزة لتطبيق الديموقراطية على الطريقة الغربية".
بالمصادفة، تزامن الاجتماع بين هؤلاء البطاركة والبابا فرانشيسكو مع مرور الذكرى الخامسة لاختطاف الأب باولو دالوليو. مأساة الأب باولو يمكن لها، بالمناسبة، أن تقدم صورة عامة لكن صحيحة ما أمكن، عن سوريا التي مزقها إرهاب وإجرام النظام وإرهاب وإجرام الإسلام الجهادي بأشكاله الراديكالية القصوى، أي داعش، وأشكاله الــ "أقل راديكالية" مثل "جبهة النصرة" و"جيش الإسلام" وغيرهما مما يراه معارضون سوريون "فصائل ثورية".
يتحدث "غربيون" كثيرون عن القصة المجتزأة للأب باولو، وقد عرضت قناة RAI 1 الإيطالية فيلماً عنه تحدث عن اختطافه وتغييبه على يد تنظيم داعش دون المرور بما كابده على يد "حامي الأقليات". وداعش، بالطبع، هو الغول الذي يرعب السوريين بدءاً من كاتب هذه السطور المعارض للأسد وانتهاء بموالي النظام السوري. نتفق على هذه النقطة إذاً، ويبقى الخلاف حول الأسد، ليس من منطلق سياسي وأخلاقي فقط، بل انطلاقاً من الوقائع وتجربة الراهب اليسوعي الذي دخل إلى الرقة عبر الشمال السوري، هو الذي أمضى حوالي 30 عاماً في سوريا قبل أن يقوم نظام بشار الأسد بنفيه وطرده منها في حزيران 2012 على خلفية موقفه الداعم للثورة السورية. لقد قرر النظام إبعاد الأب الإيطالي بذريعة أنه "خرج عن نطاق مهمته الكنسية". غادر باولو سوريا قسراً نتيجة الاتفاق بين النظام وبين بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، الذي أنهى خدمات دالوليو في سوريا.
في المقلب الآخر، أي في الحيز الذي نحب من أوروبا، تأتي تصريحات البابا فرانسيس المتضامنة مع السوريين بعد مجزرة دوما، وهي التصريحات التي أثارت ردود فعل غاضبة في أوساط الفاتيكان وأوساط إيطالية شعبوية قريبة من الحكومة اليمينية في روما. البابا كان أثار أيضاً غضب جهات كنسية محافظة بسبب تصريحات سابقة له تتناول مسائل دينية حساسة، في محاولة منه ومن آخرين يقفون في صفه لإطلاق حركة تنويرية جديدة في المسيحية ترتكز إلى حوار الأديان. ويعمل صحفيون وكتّاب إيطاليون على نقل الصورة وما أمكن من الواقع داخل سوريا إلى الصحافة في إيطاليا، مثل الصحافي ألبرتو سافيولي والصحافية سارة لوكاروني، وكلاهما تعرضا إلى ردود واتهامات وشتائم وحملات تكذيب على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل من جهات إيطالية قريبة من الأسد. الصحافي الإيطالي أميديو ريكوتشي الذي اختطفته جبهة النصرة هو صحافي منعه النظام السوري أيضاً من دخول سوريا منذ عام 2012.
"الاستشراق" يعود
جاءت الثورات العربية حاملة معها احتمالات هدم النظام المعرفي الذي ساد لعقود طويلة، والذي يقسم العالم إلى برزخين: غرب وشرق، وفقاً لخطاب الخصوصية الذي يقول بقدَرية التخلف العربي وحتمية التقدم الغربي واحتكار الغرب لهذا التقدم. وجاء فشل هذه الثورات ومنها الثورة السورية ليصب زيت هذا النظام المعرفي مجدداً على نار الهويات الأولى التي اشتعلت في سوريا واليمن وقبلهما العراق وبلدان عربية أخرى. وصار الركون إلى المقولات الجوهرانية متاحاً أكثر. في المقابل، لم يقدم لاجئون سوريون كثيرون منحازون إلى الثورة السورية خطاباً مقنعاً يخاطب دوائر وتيارات غربية مناهضة للاستبداد في سوريا، ولم يتضامنوا مع ناشطين غربيين دفعوا أثماناً لأجل سوريا ولأجل قضايا الحريات في العالم العربي.
ما الحل؟
حل؟؟؟ ساذج هذا السؤال، ومن الحماقة أن يطرح بهذا الشكل بعد كل ما حصل ويحصل وسيحصل.
مع ذلك لا مانع من بعض التمارين ووضع بعض الاحتمالات. لا يبدو أن صراعاً ونزاعات وحروب مركّبة كالحروب التي يعيشها المشرق العربي وسوريا خصوصاً يمكن أن تقف عند حد معين، ما لم تتم معالجة السبب الرئيس وراء كل هذا الانفجار. "حامي الأقليات" و"ابن أبيه". الثقافة والموروث التاريخي يغذيان نزعات الهوية لدى شعوب مضطهَدة، لكن هذا لا يعفي السياسة من مسؤولياتها، والعكس بالعكس أيضاً. لا حلول سحرية بالطبع، لكن الكارثة ليست أبدية. الأبد يقيم في مخيلة الــ presidente فقط.
ثمة أخبار يتم تداولها اليوم عن احتمال إعادة فتح سفارة الأسد في إيطاليا، وهذا يشير إلى أن التطبيع الدولي مع الجريمة يسير قدماً. التطبيع الغربي مع النظام هو بوابة لحرب أهلية جديدة ستستمر لأعوام قادمة. مع ذلك قد يكون هناك فائدة واحدة لفتح هذه السفارة في روما. سيتواصل بعض السوريين الموالين للنظام مع سفارة بلادهم لتزودهم بالخدمات ويزودوها هم أيضاً بخدماتهم "الجليلة"، وبالمعلومات عن لاجئين يقيمون في إيطاليا. لن تكون الكتابة حكراً على أمثالنا. سيكتب ميشال وأمثاله نصوصهم أيضاً وسيرسلونها إلى الجهات المعنية. هؤلاء، مثلنا، يعرفون الكثير أيضاً عن ألوان وأنواع الكتابة الصحافية وخصوصاً كتابة "التقرير"، وعن المرحلة القادمة والأهم في عالم الاستقصاء السوري ما بعد المذبحة: التحقيق.