(ريف إدلب)، يحمل مصطفى اليحيى معدات الحفر والتنقيب عن الآثار بشكل يومي، وذلك بهدف البحث عن القطع الأثرية أو قطع ذهبية مدفونة في باطن الأرض من أجل بيعها، حيث أصبحت هذه المهنة توّفر عملاً للمئات من المدنيين الذي يعانون من البطالة في الشمال السوري.
مصطفى اليحيى (34 عاماً) من بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي يعمل في التنقيب عن الآثار منذ عدة سنوات كعمل ثانوي رديف لعمله في البناء. لكنه اليوم لم يعد يستطع من الذهاب إلى المنطقة الأثرية في منطقة شنشراح الأثرية القريبة، بسبب سيطرة هيئة تحرير الشام عليها ومنع المدنيين من الذهاب إليها واحتكار التنقيب على الآثار.
ويقول المنقب عن الآثار مصطفى اليحيى، أثناء حديث شخصي، بأنه: "أثناء تجريف الفصائل لبعض الأماكن في المنطقة الأثرية من أجل إقامة معسكرات تدريبية أو مقرات جديدة، حصلوا على قطع أثرية وعملة بيزنطية ذهبية، حيث تم السيطرة على ما يقارب 100 قطعة ذهبية من منطقة شنشراح، بالإضافة إلى أنّ المنطقة مليئة بالقبور الرومانية التي تحمل كنوز مدفونة".
ويضيف اليحيى "بالنسبة للعملات البيزنطية إذا لم تكن محروفة (أي أنها لا يوجد عليها رسومات) فيتراوح سعر القطعة الواحدة ما يقارب 300 دولار، أما إذا كانت القطع محروفة، فيصبح سعر القطعة في السوق ما يقارب 30 ألف دولار حسب الامبراطور أو الملكة المحفورين، على القطع حيث أنّ جميع القطع الأثرية في منطقة شنشراح يمكن بيعها".
القرى الأثرية كملاجئ للسكان
مع اشتداد عمليات القصف من قبل قوات النظام على القرى المجاورة للخربة الأثرية في 2012، شكّلت البيوت الأثرية ملجأ آمناً للسكان الذين هربوا من بيوتهم المدمرة، حيث قاموا بإعادة تأهيل الأبنية والمدافن الأرضية الأثرية على عجل وحوّلوها إلى ملاجئ، وبشكل بدائي للاحتماء من عمليات القصف ومن برد الشتاء وحرارة الصيف.
يقول حسن المنصور(36عاماً) وهو من بلدة كفرومة، وهو أحد الأشخاص الذين قطنوا المنطقة الأثرية، وتمّ التواصل معه بشكل شخصي أن "القصف كان يتركز على المدن ومراكز القرى والبيوت السكنية بشكل مكثف، وخصوصاً المناطق المأهولة من أجل قتل أكبر عدد من الناس، الأمر الذي دفع مئات العائلات إلى الهروب إلى المناطق التي لا يوجد فيها كثافة سكانية من أجل تجنب القصف".
ويضيف المنصور أنّ "وجود مغارات أثرية في الخربة الأثرية جعلت الناس يقومون باتخاذها ملاجئ لهم من أجل الاحتماء فيها رغم خطورة وجود الأفاعي والعقارب كونها لم تسكن من آلاف السنين، ولكن مع مرور الوقت أصبحت صالحة للعيش نوعاً ما".
وبالتالي، أصبحت معظم معالم القرى الأثرية في المنطقة وتلك القصور والمعابد، والتي يعود تاريخها إلى العهود البيزنطية والرومانية، تعج بالحياة من جديد، لكنها كانت تعاني من سوء الوضع الصحي والخدمي، بالإضافة إلى تعرّض الموقع والمباني الأثرية لعدد من التعديات تختزل المعاناة التي يعيشها الشعب السوري منذ اندلاع الثورة.
وكانت القرية الأثرية تفتقر إلى جميع الخدمات الصحية والخدمية، حيث قام الأهالي بحفر بئر ارتوازي من أجل تأمين المياه إلى البيوت والملاجئ في حين تم إنشاء حفر صحية بشكل بدائي مما تسبّب في انتشار بعض الأمراض بين الناس.
الصراع على الموقع
وقامت حركة أحرار الشام الإسلامية في عام 2015 بدفع مبالغ مالية للأهالي الذي يقطنون في قرية شنشراح الأثرية مقابل التخلي عن المنازل التي كانوا يمتلكوها، وذلك لأنها تعتبر منطقة جبلية واسعة بعيدة عن السكان، ويوجد فيها كهوف تحت الأرض، وتتميز بصخرها القاسي حيث يصعب على الطيران تحقيق أهداف فيها، فقامت بالسيطرة على المنطقة وبناء معسكرات تدريبية وأنفاق تحت الأرض، بالإضافة إلى مخابئ ضخمة، تحت الأرض أيضا، من أجل حماية السلاح والتخفي عن الطائرات الحربية.
ويقول عمار السلمو (40 عاماً) وهو من بلدة الحامدية القريبة من المنطقة الأثرية، وهو أحد قاطني القرية الأثرية سابقاً، وقد تواصلنا معه شخصياً: "بعد سيطرة حركة أحرار الشام على معسكر الحامدية طلبت منا العودة إلى منازلنا وتسليمهم مناطق الخربة الأثرية مقابل تسليمنا أجور التكلفة على المواقع التي تم تأهليها".
ويضيف أنّ "بعض الناس رفض الخروج لأنّ منزله قد تدّمر بسبب القصف ولا يوجد مكان يذهب إليه، ولكن الحركة رفضت بقاء الأهالي وهدّدت بإخراجهم حيث اضطر الناس إلى استلام مبالغ مقابل خروجهم ونزح قسم منهم إلى الحدود التركية والقسم الآخر عاد إلى منزله".
تحت مرمى القصف والنهب وصراعات الفصائل
وقامت الطائرات الحربية بقصف المنطقة بعد السيطرة عليها من قبل أحرار الشام بعشرات الغارات الجوية، مما أدى إلى تضرّر بالغ في بنية القرية الأثرية، حيث تم تهديم قسم من القصور الأثرية، وتخريب بعض المعالم الرومانية ومقتل عدد من المقاتلين والمدنيين نتيجة تلك الغارات الجوية.
وفي 10 آب 2017 سيطرت هيئة تحرير الشام على منطقة شنشراح الأثرية بعد سيطرتها على معاقل حركة أحرار الشام الإسلامية في ريف إدلب الجنوبي، حيث قامت بتحصين مواقعها وأقامت مقرات جديدة ومعسكرات تدريبية، بالإضافة إلى سجن ومراكز قيادة للعمليات الحربية.
ويقول الخبير الأثري الذي يحمل شهادة جامعية في علم الآثار، حمزة اليحيى (29 عاماً) الذي يقيم في مدينة الريحانية التركية، وتم التواصل معه عن طريق الهاتف أن: "شنشراح تضم العديد من المباني الأثرية الدينية والسكنية والعديد من معاصر الزيتون والعنب، ويوجد فيها كنيسة بنيت في القرن الرابع ميلادي، ووجد فيها لوحات نصف بشريه وحيوانية مكتوب عليها باللغة اليونانية، ويوجد سوق تجاري ودير كبير ومساكن للرهبان ومسجد صغير تم بناؤه في العصور الوسطى، ومدافن وتوابيت بسقوف على شكل هرم وبرج دفاعي، ويوجد قبر يعود إلى أحد الفلاسفة اليونانيين، تميّز بنسق معماري مميز، وقد بنيت جميعها بأحجار كلسيه كبيرة الحجم وبمستوى عمراني رفيع".
ويضيف اليحيى أن "شنشراح أصبحت عرضة لضعفاء النفوس من أهالي المنطقة الذين عاثوا فيها بحثاً عن بعض القطع الأثرية في وقت سابق، فيما أكملت الفصائل التي سيطرت على المنطقة نهب القرية الأثرية واستخراج الكنوز المدفونة وبيعها للتجار فيما أن الطائرات الحربية كان لها الدور الأبرز في القضاء على أهم المعالم التاريخية في المنطقة".
وقد حاولت حركة أحرار الشام الإسلامية السيطرة من جديد على مواقعها التي انتزعتها منها هيئة تحرير الشام في 22 من الشهر الثاني من عام 2018 حيث كانت هناك عمليات قصف متبادل بين الطرفين، إذ فشلت الحركة بالسيطرة على مواقع تحرير الشام في منطقة شنشراح في حين دفعت تحرير الشام بتعزيزات كبيرة إلى المنطقة.
ويقول أبو مجاهد اسم مستعار (31 عاماً) ويعمل في أحد معامل البناء ويقيم في ريف إدلب الجنوبي، وهو أحد عناصر هيئة تحرير الشام سابقاً، وقد تواصلنا معه بشكل شخصي أنه: "خلال المعارك بين هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام، لم يكن هناك أي مراعاة لموقع القرية الأثرية الحساس، حيث كان استخدام الأسلحة يتم بشكل عشوائي على المواقع الأثرية حيث تضرّر قسم من المواقع الأثرية نتيجة القصف العشوائي".
مضيفاً أنه "في حال استمرار وبقاء هيئة تحرير الشام في القرية الأثرية واستمرار عمليات التجريف من أجل القيام بأبنية ومقرات جديدة، سيتم تغيير ملامح شكل القرية الأثرية بشكل كامل، حيث أنه من المتوقع أن يتم تهديم جميع القصور الأثرية الموجودة في المنطقة واستخراج جزء كبير من القطع الأثرية المدفونة".
النازحون أرحم من الفصائل
وفي عام 2012 كان يقطن ما يقارب 400 عائلة من بلدة كفرومة بريف إدلب الجنوبي في مناطق شنشراح الأثرية حيث قاموا باتخاذها ملاجئ لهم، كونها تتمتع بصخورها القاسية التي تتحمّل نوعاً ما قصف النظام ووجود مغارات كبيرة تحت الأرض حيث تم سقفها وتجهيزها من الداخل والعيش فيها لأكثر من عامين.
ويقول محمد الجبانة (38 عاماً) وهو أحمد المدنيين الذي كانوا يقطنون المنطقة الأثرية، وقد تحدثنا إليه بشكل شخصي أنه : "حين كان الأهالي يقطنون القرية الأثرية، كانوا حريصين على حماية القرية الأثرية من التخريب، حيث لم يتم تغيير أي من المعالم الأثرية في حين أن القصور الأثرية يتم سقفها بعوازل نايلون من أجل تأمين الدفء في فصل الشتاء".
ويضيف الجبانة أن "حركة أحرار الشام أجبرت الناس على الخروج من القرية الأثرية، وذلك بعد تخييرهم بين إخراجهم بالقوة أو دفع التكاليف التي وضعوها في القرية الأثرية والذهاب إلى مناطق أخرى، حيث أنه بعد سيطرتهم على المنطقة بدأت تتحول إلى منطقة عسكرية مغلقة ومن ثم بدأت الطائرات الروسية بشن الغارات عليها".
أيام النظام.. قبل الثورة
وقبل بداية الثورة السورية كانت حكومة نظام الأسد تهتم بهذه المنطقة نوعا ما، وتمنع عنها التعديات مثل قطع الأشجار الحراجية المجاورة أو نهب القصور الأثرية، خصوصاً أنها كانت تشكل عامل جذب للسياح من كافة دول العالم، وخصوصاً السياح الأوروبيين، بسبب تمتعها بمنظر خلاب وامتلاكها تحفاً أثرية ضربت في أعماق التاريخ. كما كان يتم الاهتمام بالتشجير وبزرع أشجار السرو والصنوبر واللوز مما يعطيها شكلاً متجانساً وبديعاً.
ويقول يوسف الدربي (30 عاماً) وهو أحد المدنيين من بلدة حاس، وقد تحدثنا إليه بشكل شخصي أنه "قبل بداية الثورة كانت منطقة شنشراح الأثرية هي الملاذ الوحيد لأهالي المنطقة من أجل النزهة حيث تتمتع بمنظرها الخلاب، لذلك كان الأهالي يلجؤون إليها يوم الجمعة بشكل خاص، من أجل قضاء يوم كامل حيث أن مساحتها الواسعة تستوعب عدد كبيراً من الناس".
ويضيف بأنه "على الفعاليات المدنية أن تقف بوجه الفصائل في تدمير الحضارة الإنسانية، وذلك من خلال التفاوض معهم على تسليم هذه القرة الأثرية إلى إدارة مدنية، تستطيع الحفاظ على هذه المقدرات حيث أنّ استمرار سيطرة تحرير الشام على هذه القرى الأثرية سيؤدي إلى تحويلها لمعسكرات ضخمة تغير ملامح القرى الأثرية".
وتعد المنطقة الأثرية في شنشراح نقطة انطلاق لهيئة تحرير الشام في معاركها ضد الفصائل في مناطق كفرومة ومعرة النعمان وجبل الزاوية، حيث تقوم الأرتال بالتجمع في المنطقة الأثرية، ومن ثم تقوم بالانطلاق نحو معاقل الجبهة الوطنية للتحرير في المناطق المناوئة لها حيث تعتبر المنطقة الأثرية غرفة عمليات للهيئة.
ويقول إبراهيم أبو زيدان (40 عاماً) وهو صاحب محل للأجبان والألبان من مدينة معرة النعمان، وقد تحدثنا إليه عن طريق الهاتف أن: "المعركة التي يتم التجهيز إليها، ستكون الفاصلة بين تحرير الشام وبين أهالي المعرة وبلدة كفرومة، وخصوصاً أن المنطقتين ملاصقتين للقرية الأثرية حيث أن المعركة ستكون على مساحة واسعة وسط حشودات من قبل الطرفين".
ويضيف أبو زيدان أن "اتخاذ تحرير الشام للقرية الأثرية منطلقاً لعملياتها العسكرية، سيؤدي بشكل وبآخر إلى مزيد من تضرّر الأثار، لأن الطرف الأخر سيقوم بالدفاع عن نفسه وبمهاجمة مواقع تحرير الشام التي تود السيطرة على هذه المناطق، لذا فإن المنطقة الأثرية ستكون ساحة للمعركة المرتقبة التي ستبدأ قريباً بين هذه الأطراف العسكرية".
أخيراً يطالب عدد كبير من الأهالي في البلدات المجاورة للقرى الأثرية في ريف إدلب الجنوبي بتحييد هذه المناطق عن صراعات الفصائل، وتجنيبها التدمير والخراب نتيجة القصف الجوي عليها، وذلك منعاً لتدمير حضارتها. ولكن أحرار الشام وهيئة تحرير الشام لم تستجب لمطالب الأهالي والفعاليات المدنية.
ويذكر بأن القرية السكنية لا زالت تقبع تحت سيطرة هيئة تحرير الشام حتى تاريخ كتابة المادة، ويتم توسيع المقرات المتواجدة فيها وإقامة معسكرات تدريبية بشكل دوري، حيث أن من المتوقع أن تصبح في القريب من أكبر الثكنات العسكرية لهيئة تحرير الشام نظراً لموقعها وأهميتها الاستراتيجية.