"أكره الرائحة، أقرف من العملية الجنسيّة بسبب الرائحة. رائحة تشبه رائحة السجاد المُبتل" هكذا يبدأ محمد سرد قصته1. (محمد هو اسم مستعار، مثل جميع أسماء الضحايا الواردة في هذا التحقيق)، ومحمد يبلغ من العمر الخامسة والعشرين وينحدر من واحدة من قرى ريف محافظة الرقة، مقيم حاليًا في مدينة برلين.
قبل أن يسرد تفاصيل حكاية اغتصاب ابن عمه له وهو في السابعة من عمره، برّر فعل ابن عمه الذي يكبره بتسع سنوات. قال إنّ الضغط النفسي والاجتماعي هو الذي دفع الفتى ليقوم بما قام به. شرح لي الضغط الاجتماعي الممارس على الأفراد في قريته من الحديث الدائم عن العيب والسمعة الحسنة وصولًا إلى الفقر والجهل والكبت الجنسي. قال: "لو بقيت في القرية لكنت أصبحت معتديًا، هي دورة كاملة، المُعتدى عليه يصبح معتديًا".
كان محمد مرتبكًا وهو يحكي لي قصته. التقينا في مقهى برليني خلال شهر تشرين الثاني من العام ٢٠١٨. التقينا لسبب آخر لأنّنا على معرفة سابقة ببعضنا. سألني بطريقة خجولة عن التحقيق الخاص بالتحرش الجنسي بالأطفال الذي أعمل عليه حاليًا، كان قد اطلع على استبيان نشرتُه على شبكة الانترنت عن الموضوع. قال لي أريد أن أحكي قصتي. وحكى محمد قصته للمرة الأولى على الإطلاق.
ابن عمه المراهق، وهو قاصر أيضًا، اعتدى عليه في الغرفة التي كان يدرس بها. حينها كان محمد في السابعة من عمره، طلب منه ابن العم الدخول إلى الغرفة وإحكام إغلاق الباب خلفه ومن ثم اعتدى عليه شرجيًا. يتذكر محمد البصاق ولزوجة المني داخله. ومثلما اعتدى عليه، كذلك فعل ابن العم الفعل نفسه مع أخيه الصغير، والذي يماثل محمد بالعمر، ومن ثم أصبح ينعتهم بنعوت جنسية في القرية حتى أصبح كل الأولاد يردّدون هذه الأسماء/ النعوت.
إحساس بالذل والضعف والدونيّة غمر محمد آنذاك. دفعت تلك الصفة الجنسية التي وُصِمَ بها آخرين إلى الاعتداء عليه مثلما فعل ابن عم أبيه، والذي اغتصبه مرتين في حظيرة الغنم.
إحساس بالذل والضعف والدونيّة غمر محمد آنذاك. دفعت تلك الصفة التي وُصِمَ بها آخرين إلى الاعتداء عليه مثلما فعل ابن عم أبيه، والذي اغتصبه مرتين في حظيرة الغنم.
قال محمد إن ثقافة اغتصاب الأطفال أو التحرش بهم كانت منتشرة جدًا في محيطه، فكل الذين يعرفهم حصل معهم أمر مشابه.
حادثة تذكر بحادثة
كنت أقرأ عن حوادث الاعتداء على الأطفال في الكنائس الأمريكيّة حين تذكرت حادثة اعتداء حصلت لي حين كنت في العاشرة من العمر. حينها كنتُ وحيدًا في دكان عائلتنا في شارع الثورة المزدحم في مدينة دمشق. حرّ خانق ولا زبائن في الظهيرة. كنتُ وحيدًا في مؤخرة الدكان حين دخل أحد الرجال وسألني عن البضاعة التي نبيعها. أجيبه بأدب. لا أتذكر شكله ولا أي شيء عنه الآن. كانت الحادثة قد امّحت من ذاكرتي بشكل ما، وعادت للظهور مرة أخرى وأنا أقرأ عن حوادث الاعتداء.
طلب مني كأسًا من الماء، ذهبت إلى مؤخرة الدكان لأجلب له ما أراد فلحق بي. طلب مني لمس عضوه الذكري المنتصب، ومن ثم تحسّس مؤخرتي بفجاجة. أراد أن يغتصبني لكن خوفه من جيراننا، عندما سمع أصواتًا من الدكاكين المجاورة، دعاه للمغادرة. ربما مضى كلّ شيء سريعًا خلال أقل من دقيقتين لكن هذه ليست حادثة التحرّش الوحيدة التي حصلت لي. أستطيع أن أتذكر الآن ستة حوادث منفصلة في أوقات مختلفة لبالغين، رجال ونساء، أقرباء وأغراب، تحرّشوا واعتدوا علي وأنا طفل لم أبلغ الثامنة عشر. تكرّرت حوادث الاعتداء والتحرش منذ عمر الثامنة وحتى عمر السادسة عشرة، حينها أصبحت قادرًا على الدفاع عن نفسي والوقوف في وجه المعتدين وهذا ما حصل أكثر من مرة. لم أحكي عن هذه الحوادث حتى وقت متأخر. كنت أخاف من الضغط الاجتماعي ومن ردة فعل العائلة، لا أعرف بالضبط ما هو مصدر هذا الخوف، وما هو مصدر هذا الضغط الذي أحسست به، لكنني خفت من أن أصارح أي شخص بما حدث.
في السنوات الأخيرة وخلال أحاديث مع أصدقاء سوريين ينحدرون من مدن مختلفة وخلفيات اجتماعيّة مختلفة ساد لدينا اعتقاد بأنّ كثيرًا من السوريين تعرضوا لتحرش جنسي أثناء فترات طفولتهم، وقد يكون هذا التحرّش صادرًا عن أقرباء أو عن أصدقاء الأهل أو عن جيران وأشخاص غرباء. وبسبب طبيعة المجتمع (أو المجتمعات) السوري، فإن الغالبيّة الساحقة ترفض الحديث عن الأمر، ويصل الأمر إلى خوف الطفل المُعتدى عليه من إخبار أهله بالواقعة.
هذه الحوادث تكون فرديّة وغالبًا ما يكون المعتدي أحد الأشخاص القريبين من الطفل: أب، عم، أم، رجل دين، جار، صديق العائلة، ابن عم، أخ… الخ، وفي بعض الأحيان يكون المعتدي هو شخص لا صلة له بالمعتدى عليه، مثل راكب سيارة أجرة أو سائق باص أو أحد زبائن دكان العائلة، مثلما حدث معي.
استبيان.. نتائج مرعبة
كل ما سبق دفعني إلى العمل على هذا التحقيق. لم أجد خلال بحثي أيّة إحصائيات رسميّة في سوريا، ما دفعني إلى نشر استبيان2 يستهدف عينة عشوائيّة من السوريين ومن شرائح عمريّة مختلفة. احتوى الاستبيان على أسئلة قصيرة ومحددة. وقد استجاب مئتين وثمانية وستين شخصًا بالغًا تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والستين سنة وينحدرون من مدن وقرى سوريّة مختلفة، حسب إجاباتهم، وكانت نسبة الذكور منهم 53,4% أي 143 ذكر، ونسبة الإناث 45,5% أي 122 أنثى، وفضل ثلاثة أشخاص عدم التصريح عن جنسهم.
السؤال الرئيسي في الاستبيان هو: هل تمّ التحرش بكم عندما كنتم أطفالًا؟
النتيجة كانت صاعقة ومفزعة بالنسبة لي، فقد أجاب 71,3% من أصل 265، أي 191 شخص بـ "نعم" لقد تمّ التحرش بهم حين كانوا أطفالًا، فضلًا عن 5,2% أي أربعة عشرة شخصًا من هذه العينة العشوائية أجابوا بأنّهم لا يعرفون إن كان ما حدث معهم هو تحرش جنسي أو لا.
وسؤال آخر في الاستبيان يقول: هل تحدثت عن الحادثة سابقًا؟ أجاب عليه 203 أشخاص، 47,3% منهم أجابوا "لا"، لم يتحدثوا عن الحادثة سابقًا.
أعتقد أن ما يؤخذ على هذا الاستبيان أن المستجيب عادة ما يكون ممن تعرّض لحوادث مشابهة ويحتاج إلى مكان آمن، هويته فيه مخفية، للحديث عن تجربته ومشاركتها مع آخرين.
رأي التحليل النفسي
في ورقة بحثية3 نُشرت سنة ٢٠٠٥ تحت عنوان "فهرس التحيزات في الاستبيانات"، جاء أنّ المستجيبين يميلون عادة إلى إعطاء إجابات تعبّر عن الرضا أو عدمه، أو منحازة حسب مشاعر المستجيب، وليس بالضرورة عن الحقيقة. ومن هنا ميلنا إلى أنّ الإجابات على هذا الاستبيان، رغم اختلاف المواضيع، قد لا تكون دقيقة بشكل كبير، لكنها تبقى مرجعًا مهمًا في معرفة مدى انتشار ظاهرة التحرش الجنسي بالأطفال في سوريا، وهذا ما يؤيده المختص النفسي المقيم في مدينة برلين، أغر جديد4.
يؤكد أغر جديد لحكاية ما انحكت على "أنّ الحادثة تبقى في ذاكرة الشخص، وإن لم يتذكرها وإنّها حادثة اعتداء لأنّها مبنيّة على العنف، فأساس العملية كلّها هو عنف، ويقوم المعتدي باستعمال العنف لتنفيذ رغباته الشخصيّة". ويزيد بأنّ الحادثة ستخرج يومًا ما إلى العلن وسيحكي عنها المعتدى عليه، رغم الخوف الذي يصاحب المعتدى عليه عادة، وقد يمتد هذا الخوف إلى ثلاثين سنة، "وإنّ ما حدث هو حادثة رضّ نفسي تحتاج إلى علاج نفسي لأنّه في الغالب تشكّل ما يسمى بالتراوما، والتراوما لا تزول من تلقاء نفسها".
يقول جديد "إنّ الجهل والكبت وعدم الحديث عن الأمور الجنسيّة وعدم الوضوح في العائلة يؤدي إلى أن يكون الأشخاص غير قادرين على الاختيار ولا يملكون الوعي الكافي للرفض"، ويؤكد على أنّ المعتدي حين يكون فتى/ مراهقًا، أو بكلمات أخرى قاصرًا تحت الثامنة عشرة من عمره فهو أيضًا ضحية الأهل وعدم تحملهم للمسؤولية إضافة إلى الكبت المجتمعي، "ولا يمكن بكل حال من الأحوال مقارنة الضحايا، من منهم هو ضحيّة أكبر، هذا يحسب فقط بالأثر الذي تتركه الحادثة عند كلّ منهما".
ويؤكد أغر، على أنّ العائلة يجب عليها أن تؤمن البيئة الآمنة للطفل قبل أن يُعتدى عليه وبعد الاعتداء إن حدث، هنا تبرز مشكلة أخرى حين يكون الأب أو الأم أو أحد الإخوة هم المعتدين. فـ "في هذه الحالة يجب أن يكون هناك إجراء حكومي مثلما يحدث في بعض الدول الأوروبيّة وأن يؤخذ الطفل من العائلة وأن يتم وضعه في بيئة مناسبة وآمنة للعيش" وفق ما يقول أغر لحكاية ما انحكت.
حكاية رشا
رشا، من الأشخاص الذين تحدثت معهم خلال بحثي عن موضوع التحرش الجنسي بالأطفال في سوريا وهي تبلغ السادسة والعشرين من العمر وتنحدر من واحدة من الأقليات المسيحيّة5 التي تتجمع بشكل رئيسي في واحدة من الأرياف السوريّة. حكت لي6 قصتها وحاولت مساعدتي قدر الإمكان بالوصول إلى قصص لاعتداءات أخرى حصلت في مناطق سوريّة مختلفة.
حدثتني بقصتها دون أن أسألها أي شيء. قالت إنّها ستحكي قصتها لي، وسأكون أول شخص خارج دائرتها المقربة، زوجها وبعض الأصدقاء، الذي سيعرف بما حدث. طلبت مني حجب أسماء الأشخاص والأماكن خوفًا مما سيحدث داخل طائفتها وعائلتها والضغط الذي سيشكله ذلك على حياتها وعلى حياة عائلتها، لذلك اسمها رشا هو اسم مستعار، ولن أذكر أي من الأسماء أو الأماكن حرصًا على خصوصيتها.
في البيت كان هناك حاجز غير مرئي يمنع رشا عن الحديث في الأمر، فضلًا عن الخوف الذي كان يرافقه وعن شعورها الدائم بأنّها صاحبة الذنب. بعد ذلك التاريخ بخمس سنوات اندلعت الثورة السوريّة وكانت رشا آنذاك طالبة جامعيّة. قررت أن تواجه راعي الكنيسة المحليّة وهددته بالفضيحة إن فعل الشيء نفسه مع أطفال آخرين، كانت وبسبب طبيعة البيئة المحلية ونشاطات الكنيسة على اتصال دائم به.
1- مقابلة شخصية في برلين بتاريخ 28 تشرين الثاني 2018
A Catalog of Biases in Questionnaires
Bernard C.K. Choi, PhD, Anita W.P. Pak, PhD
4- مقابلة شخصية في برلين بتاريخ 4 كانون الثاني 2018
6- مقابلة عن طريق مكالمة صوتية عبر تطبيق ماسنجر بتاريخ 29 تشرين الثاني 2018